مقدمة

بقلم  محمود محمود

الروح الإغريقية

إنه لمما يُثير الدهشة ويَبعث على الإعجاب حقًّا أن يستطيع الشعب الإغريقي — وهو قليل العدد — أن ينتج في القرن الخامس قبل الميلاد هذا الأدب الرائع الذي تحدَّر إلينا من ذلك العهد الزاهر في تلك الأزمنة السحيقة. إنه أدب ما زلنا نقرؤه ونفهمُه ونَستمتِع به، وهو يَكاد يداني في جلاله وعظمتِه أدب أيَّة أمة في أي عهد من العهود.

وقد خلَّف لنا اليونان فوق هذا الأدب كثيرًا من آيات النحت والبناء، مما يدلُّ على ذوق رفيع ومدنية زاهرة.

والعقل الإغريقي هو الذي وضع أساس الفلسفة والرياضة والعلوم الطبيعية، ولا نكون مبالغين إذا قُلنا إنهم منشئو أكثر ما نفخر به في حياتنا الحديثة من علم وثقافة.

بَيْدَ أن الإغريق — برغم علوِّ كعبهم في مختلف الفنون والمعارف — كانت تنقصهم بعض نَواحي الثقافة الهامة التي لا بُدَّ منها لكمال المعرفة والتهذيب؛ فمعرفتهم بالتاريخ القديم وبتقويم البلدان ضيقة محدودة، وصِلاتهم بالشعوب الأخرى واهنة يسيرة.

ولكنهم من ناحية أخرى كانت لهم لغة جميلة مَرِنة تقوى على التعبير الأدبي عن أدق الأفكار.

ولم يَعتقد الإغريق — كما كان يعتقد اليهود — في إله واحد يحب الخير للناس وهو على كل شيء قدير، بل كانت لديهم آلهة متعدِّدة تضطرم في نفوسهم العواطف الإنسانية من حب وبغض وغيرة وحسد، وهم في قتال دائم، يتدخَّلون في شئون البشر من حين إلى حين. ومن وراء هؤلاء الآلهة «القدَر» الذي يُسَيطِر على مصائر الآلهة والناس على السواء. ومن العبث أن يقف الإنسان في وجه «القدر» أو يُعارضه، وعلى كل امرئ أن يتقبَّل حكمه عن رضًا وطواعية.

ولعلَّ هذا السلطان المتسلِّط على البشر والآلهة والذي لا مفر منه هو سر المأساة اليونانية.

والإغريقي رجل واقعي؛ فالمحيط عند هومر «ماء ملح»، والموت «موت» لا يُحاط بتلك العقائد المعقَّدة التي كان يعتنقها قدماء المصريين وغيرهم من الأمم القديمة. يشغل نفسه بالحياة دون الموت، ويعتقد أنه في هذه الدنيا وحده بدون معين، وهم يُقدرون مقدرة الإنسان؛ لأن المرء يستطيع أن يتغلَّب على كثير من الصعاب في هذه الدار الفانية؛ ومِن ثَمَّ فهم يقدسون الإنسانية. وقد استتبع هذا التقديس حبَّ كل شيء يجعل الحياة بهيجة سارة. وأول هذه الأشياء الجمال، فلم تُعجبهم الأصنام الهندية والمصرية؛ لأنها منفِّرة تنمُّ عن الرعب والقوة، بل كانوا يَعبدون آلهة أهم صفاتها الجمال، الجمال أحب شيء إلى نفوسهم. ثُمَّ هم يُقدِّرون بعد الجمال الحق والعدل والحرية؛ فهي ضرورية لسعادة الإنسان.

كان الإغريق إذن قومًا واقعيين، لا تكاد تَجيش صدورهم بالعَواطف. وربما يَرجع ذلك إلى أنهم لم يَرِثوا عن تاريخهم القديم ما يُكبِّل نفوسهم بمختلف المواضعات والتقاليد التي يتحتَّم عليهم احترامها ورعايتها.

ولما كانوا قومًا واقعيِّين فقد كانوا يَميلون إلى البساطة والسذاجة التي لا كُلفة فيها. فلم يكن الشعر اليوناني منمَّق اللفظ معقَّد العبارة، إنما كان يتميز بالسهولة بل وبشيء من الجفاف، وهم في أدبهم ونَحتِهم يتوخَّون الصدق والبساطة.

ويجب أن نذكر ونحن نتحدَّث عن الإغريق أنهم كانوا يسكنون في مدائن منفصلة، كل مدينة حكومة قائمة بذاتها. وأكبر هذه المدن وأشهرها أثينا، وأكثر ما تحدر إلينا من الأدب اليوناني من إنتاج أدبائها. ولكن لم يصل إلينا غير القليل من هذا الأدب، ونحن مدينون بالإبقاء عليه لمدينة الإسكندرية التي حفظته أجيالًا طوالًا.

ويجب أن نَذكر كذلك ونحن نتحدث عن الإغريق أن الحرب التي دارت رحاها بينهم وبين الفرس كانت الحافز الأول للوطنية الأوروبية. ولم يبعث خوف البرابرة — كما كانوا يسمونهم — في صدور الإغريق حب الوطن فحسب، بل دفعهم كذلك إلى أن يعتبروا أنفسهم حماة الثقافة من تخريب البرابرة المتوحشين.

الروح الإغريقية معناها حب الجمال الساذج، والبساطة، والصدق، والحرية، والعدالة، وحب الواقع، وبُغْض التكلُّف، وتَحاشي المبالغة. وأكثر أدبهم مُستمَدٌّ من أساطيرهم الدينية. وقد نشأ أدبهم أول ما نشأ شعرًا حماسيًّا يُنشِده شعراء متجوِّلون. حتى ظهر من بينهم هزيود وهومر الذي جمع هذا الشعر في ملحمة خالدة. وفي الأساطير الدينية كان كُتَّاب المسرحية يتلمسون موضوعاتهم. ونمو المسرحية اليونانية وتطوُّرها في عدد قليل جِدًّا من السنين أمر يدعو حقًّا إلى الدهشة والإعجاب؛ ففي نحو خمسين عامًا بلغت المسرحية حدًّا بعيدًا من الكمال، وفي هذه الفترة الوجيزة تألَّق في سماء الأدب المسرحي أسماء باقية على الدهر خالدة على وجه الزمان؛ من هؤلاء إيسكلس الذي نال جائزته الأولى على إحدى رواياته عام ٤٨٤ق.م، ومنهم سوفوكلين، ويوربديز الذي اخترنا في هذا الكتاب أربعًا من مآسيه نقلناها إلى اللغة العربية، وقد ظهر بجائزة الحكومة على «ميديا» (إحدى رواياته المترجَمة) عام ٤٣١ق.م، ومن هؤلاء كذلك أرستوفان الذي كتب عددًا كبيرًا من الملاهي. ويُشبه هذا التطورُ السريع للمسرحية اليونانية ورُقيُّها إلى هذا الحد في فترة وجيزة من الزمان ما حدث في إنجلترا في إبان عهد الملكة إليزبث في أوائل القرن السابع عشر، حينما ظهر عدد كبير من كُتَّاب المسرحية النابغين، وعلى رأسهم شيكسبير.

نشأة الأدب المسرحي اليوناني

صوِّر لنفسك جماعة من الراقصات لا يعدو عددهنَّ العشرين، احتشدن حول مذبح من مذابح الآلهة يتراقَصْن ويُغنِّين الأناشيد. ثُمَّ تصور بعد ذلك قَصَّاصًا ينضم إلى هؤلاء الفتَيات، ويقف فوق منضدة مرتفعة يقصُّ على المستمعين قصص الأبطال والبطولة. ثُمَّ يرتبط غناء المغنيات بقصة القَصاص في صورة جدل وحوار. هكذا نشأت المسرحية اليونانية نشأةً دينية، كما نشأت في إنجلترا في العصور الوسطى حينما كان القُسُس أول الأمر يمثلون قصص الإنجيل في الكنيسة.

وكانت هذه الحفلات الدينية اليونانية تُقام فوق التلال، وبخاصة في فصل الربيع حينما كان الناس يحتفلون بإله الزهر والبساتين دَيُونَيْسِيَس. ثُمَّ أنشئت المسارح في مختلف البلدان، وكان أكبر هذه المسارح مسرح أثينا؛ إذ كان يتسع لنحو ثلاثين ألف مقعد لمتفرج. ومن حق كل أثيني أن يشهد حفلات التمثيل. وفي عهد بركليز الزاهر كانت الدولة تدفع أجور المَقاعد لكل أثيني. وفي أمثال هذه الحفلات كان التمثيل يستمر طيلة النهار. ومن واجب الأغنياء بل ومما يلذُّ لهم ويَتظاهرن به أن يُعينوا الممثلين والمغنيات بكل ما يحتاجون إليه من ضرورات الحياة.

وكانت الدولة تَعقد بين المؤلفين مسابقات سنوية، ثُمَّ تختار خير ما يُقدَّم لها وتُخرجه على المسرح كي يشهده الناس أجمعون، ولا تقبل الدولة أكثر من ثلاثة متنافسين في العام الواحد. وكان على المتنافس أن يبحث له عن رجل غني يَدفع الأجر للفرقة التي تقوم بتمثيل مسرحياته. ولما كان التمثيل حفلة دينية، كان الرأي الشائع أنه شُؤم على المؤلف ألا يفوز بجائزة، ولذا فقد كانت الجوائز تُمنح لكل مُتنافِس تظهر روايته على المسرح. وكان لظهور أيسكلس وسونوكليز ويوربديز خاصة أثر كبير في تقدم الفن المسرحي، ولكثرة النظارة كان الممثِّل يُضطَر إلى أن يلبس حذاءً عاليًا كي يظهر للجميع، ويُضطر إلى أن يتكلم من خلال بوق يُخفيه حول قناع يتقنَّع به.

وتبدأ المسرحية عادةً بحديث ضافٍ يشرح الموقف ويُقدِّم للحوار ويأخذ النقاد على هذه الطريقة أنَّ المقدمة كثيرًا ما كانت تشتمل على أكثر حوادث الرواية، ولذا فهي تقتل لذة المتفرج. ولكن لذة المسرحية في الواقع تَنحصِر في الحوار أكثر مما تنحصر في أي شيء آخر. ويتخلَّل الحوار رقص الجوقة وغناؤها، وكثيرًا ما يكون هذا الغناء قليل الصلة بمجرى الحوادث. وهو في الكثير الغالب تعليق شِعري على حوادث الرواية لا علاقة له بتطوُّر الموضوع، وسيجد القارئ اليوم، والقارئ العربي خاصة، أنَّ حديث الجوقة ممثِّل سَخيف؛ وذلك لكثرة ما يَحتويه من إشارات إلى الأساطير اليونانية القديمة التي انقطَعَت بيننا وبينها الأسباب. ولكن لهذا الرَّقص والغناء فائدته في بعض المواقف؛ فهو لون مِن ألوان التَّرفيه عن المستمع حين تَبلُغ المأساة موقفًا يدعو إلى الحزن ويُثير الألم. والجوقة ساكتة لا تتحرَّك، تُنشِد غناءها غالبًا على دفعتَين؛ لأنها مقسَّمة إلى فرقتَين، وقد تَشترِك الفرقتان في نشيد واحد.

ويُلاحَظ على المسرحية اليونانية أنها قليلة الأشخاص، وأن هؤلاء الأشخاص قليلو الحركة على المسرح؛ لأنَّ المسرحية أكثرها حوار، وهي قليلة الحوادث. ولما تبلغ العقدة أشدها، وتصل المسرحية إلى أزمتها تقع الكارثة بعيدًا عن المسرح لا يَراها المتفرِّجون، وإنما يَرويها لهم رسولٌ حديثه عادةً هو قمة المسرحية وبدء انحلال عقدتها. وكثيرًا ما تنتهي المسرحية عند يوربديز بظهور إله يَختَتِم الرواية في كلمات موجزة فيها عزاء وسلوى عن الكارثة التي ألمَّت ببعض أفراد المسرحية، فيُغادِر المتفرِّجون المسرح وهم على شيء من راحة النفس والطمأنينة. وآخر ما يَسمعه المُتفرِّج نشيد يُرتِّله أفراد الجوقة تعليقًا على المأساة.

يوربديز وعصره

عاش يوربديز في عصر البطولة في تاريخ أثينا في الوقت الذي استولى فيه الهلينيون على الإمبراطورية الفارسية الشاسِعة، وهزَموا جيشها الجرار وأسطولها الضخم في معركة سلامس. وهو يُعاصِر اثنين من أشهر كُتاب المسرحية اليونانية، وهما إيسكلس وسوفوكليز. ولكنه أصغر منهما سنًّا. وكان سقراط لعهده يُسَيطِر على ميدان الفلسفة ويَبعثها بعثًا جديدًا.

وقد كان إيسكلس جنديًّا في الجيش، وسوفوكليز رجلًا يَشترِك في سياسة المدينة. أمَّا يوربديز فقد كان يعيش في عزلة من الناس قليلَ الانسجام مع العصر الذي نشأ فيه، يكره عادات الشعب الأثيني، ويُؤثِر حياة الريف على حياة المدينة. وكان مبتدعًا في فنه مبتكرًا. ولعل هذا الابتداع هو الذي جعل أرستوفان يتهكَّم عليه ويسخر منه في إحدى رواياته؛ وذلك لأن أرستوفان كان محافظًا على القديم يمقت كل تجديد. وكان يوربديز رجلًا حاقدًا على الناس ناقمًا عليهم، يكره أن يسخر منه أحد. وربما دفعه إلى هذا الحقد أنه تزوج من امرأتين أثبتَت كلتاهما الخيانة له. وفي أخريات حياته هجر أثينا نافرًا من الحياة فيها، وهبط في مَقدونيا؛ حيث كتَب مسرحيَّته الأخيرة «باكي»، وقد قربه الملك إليه، فأثار ذلك غيرة رجال البلاط الذين دبَّروا له ميتة شنيعة؛ وذلك بأن يُهاجمه عدد من الكلاب المتوحشة، وقد أطلقت بالفعل عليه الكلاب وأخذت تَنهَش لحمه حتى مات.

ولما بدأ يوربديز الكتابة المسرحية كان إيمان الأثينيين بالآلهة قد تزعزع. وقد كانت قدرة الآلهة وسلطانها أساس مسرحيات أيسكلس. ولكن عهد الإيمان قد انقَضى وتولى، فلا عجب أن نجد يوربديز يغضُّ من شأنهم أحيانًا من خلال مسرحياته. واختار يوربديز أشخاص رواياته من الرجال والنساء مخالفًا في ذلك من سبقه من كتاب المسرحية؛ إذ كانوا يُجرون كثيرًا من حوار المسرحية على ألسنة الآلهة، ولهذا يُعتبر يوربديز بحقٍّ أبًا للمسرحية.

وبرغم اختلافه مع أبناء عصره في الرأي في كثيرٍ من الأمور، كان يُشارِكهم الشك في الآلهة، وقد دفعه إلى هذا الشك ما كان يُروى من أعمال الآلهة الوضيعة التي لا تتَّفق وقواعد الأخلاق. فإن صحَّ ما يُروى فالآلهة لا يَستحقُّون التقديس والعبادة، وإن لم يصح انهارَت أركان العقيدة فيهم؛ لأن هذه الأساطير المروية هي لُحمة العقائد وسُداها، ولا نعرف إن كان يوربديز يؤمن بالخلود أو لا يؤمن. ومهما يكن من شيء، فقد كان أرستوفان يَعتقِد أنه كافر مُلحِد، وقد يكون مصيبًا في عقيدته؛ لأن الشكَّ كان يَلتهم قلب الرجل التهامًا. بَيْدَ أن يوربديز كان يَعتقد أن عدم الإيمان بالآلهة لا يُنافي الأخلاق الكريمة وكمال الشخصية. ولنذكر أنه كان يونانيًّا؛ فهو يحبُّ الفضيلة لجَمالها لا لما يعقبها من مثوبة أو جزاء أو سعادة باقية.

وأكثر مَسرحيات يوربديز يدور حول العلاقة بين الرجل والمرأة. وقد برع في تحليل الشخصية، وبخاصة شخصية المرأة. وهذا الفهم الدقيق لعقلية النساء هو الذي جعَل المستر جلبرت مري الذي نقَل أكثر رواياته إلى الإنجليزية يُطلق عليه «أبسن الإغريق»؛ وذلك لما بينه وبين أبسن الكاتب المسرحي النرويجي الحديث من مشابهة في فهم النفوس وما يجيش في صدور الناس من عواطف.

وقد كتَب يوربديز ما ينيف على خمس وسبعين مسرحية، بقي لنا منها ثماني عشرة. وقد أثنى أرسطو على عبقرية الرجل، وحزنَ عليه سوفوكليز بعد مماته، وبموته انقضى عهد الدراما اليونانية الزاهر العظيم.

ويَجدُر بالقارئ أن يعلم أن أرستقراط أثينا لعهد يوربديز كانوا يقضون العمر في خدمة الدولة وفي الرياضة البدنية والذهنية، أمَّا التجار والمزارعون والعمال فكانوا كقرنائهم في أي عهد من العهود وأي قُطر من الأقطار. وكان الرق منتشرًا، غير أن أكثر الرقيق كانوا يَعيشون عيشة رضية ميسَّرة. وكانت النساء لعهد هومر — وذلك قبل يوربديز بنحو سبعة قرون — أحرارًا في ذهابهن وإيابهنَّ، يقفن مع الرجال على قدم المساواة في كل شيء ما خلا الحرب؛ فهي من شأن الرجال وحدهم. وقد تبدَّلت الحال في أثينا لعهد يوربديز وتدهور مركز المرأة بالنسبة إلى الرجل، وتكبَّلت بكثيرٍ من القيود، ولعلَّ هذا هو السبب أن إكليز يكاد يصعق حينما تُكلمه كيلتمنسترا، ولهذا أيضًا لا تدافع أفجنيا عن نفسها أمام البطل في المسرحية. ولكن الكاهنات والقيان كنَّ في حلٍّ من هذه القيود. وكان البنات يتزوجن في سن مبكِّرة، فلا غرابة في أن تَقتَرِن أفجنيا وهي بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة.

وكان مِن واجب كل فرد أن يُضحِّي في سبيل الدولة؛ ومِنْ ثَمَّ نرى أفجنيا تُقبل على التضحية بنَفسِها وهي راضية مُطمئنَّة. وكان الرجل في ذلك العهد أكثر أهميةً من المرأة، ومن الطفل؛ لأنه أنفَعُ للدَّولة والمُجتمَع.

المسرحيات المترجمة

اشتغل العرب بترجمة كثيرٍ من الكتُب اليونانية، ولكنهم أهمَلُوا ترجمة الأدب والمسرحيات، ولعلَّ السبب يَرجِع إلى انبثاث الأساطير الدينية والعقائد الفاسدة في أكثر الآداب اليونانية، وهي أساطير وعَقائد تُنافي العقيدة الإسلامية ويُخشى أن تتسرَّب إلى الدين فيَعلق به شيء من خرافتها. ولكن هذه الأساطير مع الزمن ثبَت بُطلانها، ولم يَعُدْ يُخشى تعلق النفوس بها، فترجم لنا الدكتور طه حسين بك زعيم الأدب العربي في العصر الحديث بعض روايات سوفوكليز، وشقَّ بذلك طريقًا للعاملين يسلكونه إن أرادوا ويخدمون بذلك الأدب العربي. فرأيتُ أن أُترجِم ليوربديز أربعًا من أهم مسرحياته، وأمَلي أن أسُدَّ بذلك نقصًا يشعر به كل مُشتَغِل بالأدب. ومهَّدت لكل مسرحية بتمهيد قصير يُعين القارئ على فَهم حَوادث الرِّواية. وبالمسرحيات التي نقَلتُها بعضُ الإشارات إلى الأساطير اليونانية القديمة، وبخاصة في حديث الجوقة، وأنا أُقرُّ أن كثيرًا من هذه الإشارات مملول غير مُستساغ، ولكنه لا يؤثر في تتبع حوادث المسرحية وفهمها فهمًا جَيِّدًا.

وأُولى الروايات التي ترجمتُها «أفجنيا في أولس»، ثُمَّ أعقبتها «بأفجنيا في تورس»، وقد اعتمدتُ في نقلهما إلى العربية على ترجمة C. B. Bonner الإنجليزية. والمسرحية الأولى موضوعها التضحية؛ فقد ضحى الملك أجاممنن بأفجنيا كَي تُقلع السفن إلى طروادة لاسترداد هلن زوجة أخيه التي اختطفها بارس. وليس عجيبًا في العصر القديم أن يُضحي الأب بابنتِه. بل لقد روت لنا الأديان السماوية أن إبراهيم عليه السلام قد همَّ بذبح ولده إسحق، لولا أن أرسل الله كبشًا يُضحِّي به إبراهيم لإنقاذ ولده. وكما أرسل الله كبشًا لإبراهيم، أرسلت الآلهة ظبيًا لأجاممنن قتَله بدلًا من أفجنيا، وأنقَذَت الآلهة الفتاة وحمَلَتْها إلى جزيرة نائية. والتضحية موضوع يَستحِق البسط والتحليل، وهي ما تزال تُسيطر على كثير من أعمالنا، وما زِلنا نَتساءل هل من الخير أن يُضحِّي الفرد لمصلحة الجماعة أو لا يُضحِّي؟

وفي المسرحية الثانية (أفجنيا في تورس) يلتقي أرستيز بأخته أفجنيا في تلك الجزيرة النائية، ويُنقِذها من منفاها ويعود بها إلى الوطن. وكما أن في هذا العمل إنقاذًا لحياة أفجنيا، ففيه كذلك راحة لنَفس أرستيز ولضميره المعذَّب؛ لأنه كان قد قتَل أمه انتقامًا لأبيه؛ لأنها خانته في غيبتِه في حرب طروادة وتزوَّجت من غيره وقتلتْه بعد عودته. وفي هذه الرواية عرض رائع جميل للصَّداقة بين أرستيز ويلديز، وهي الصَّداقة التي يُضرَب بها المثل في الآداب الأوروبية جميعًا.

وفي هاتَين الرِّوايتَين حلَّل المترجم الإنجليزي نشيد الجوقة المتصل إلى حوار على ألسنة أفراد الجوقة، وقد برَّر عمله هذا بأن ذلك أيسر لنا عند الإخراج والتمثيل، وقد تبعتُه في الترجمة العربية، ولعلَّ في هذا منفعة للمَسرح.

ثُمَّ ترجمتُ كذلك روايتَي «ميديا» و«هبوليتس»، وقد نقلتهما إلى العربية عن ترجمة R. Potter الإنجليزية. وفي المسرحية الأولى يشرح الكاتب انتقام الزوجة إذا أساء إليها زوجها وأنكر جميلها. وقد بلغ الانتقام بميديا أن قتلَت ولدَيها كي تُؤجِّج نارًا حاميةً في صدر زوجها الذي أنكر عليها فضلها؛ إذ كانت قد أنقذت حياته في كثيرٍ من المخاطر. ومغزى القصة أن الشر يَعقبه الألم، وأن الحياة الخُلقية حياة جميلة، والحياة التي تَحيد عن الخُلُق القويم محفوفة بالأشواك والأخطار.

وفي مسرحية هبوليتس يُبيِّن لنا الكاتب أن هذا الشاب أراد أن ينفي عاطفة الحب الجنسي من قلبه، فعرَّضتْه فينس ربة الحب لأشد الأخطار، انتقمَت منه لاعتدائه على نفوذها، ودبَّرت مقتله على يدي أبيه؛ وذلك أنها أوقعَت زوج أبيه في حبِّه، فقتَلَت الزوجة نفسها كي لا يتلوث شرفها بهذا الحب الدنيء، أو يَلحقها العار لهذه الصلة التي لا يُبرِّرها عرف ولا قانون. وبرغم إعراض هبوليتس عنها ظنَّ أبوه به الظنون، فاستنزلَ عليه لعنة السماء ودعا عليه بالموت، واستجابَت الآلهة دعاءه، فقضَت على حياته. ولا يُدرك الأب نزاهة ابنه إلا وهو (هبوليتس) في النزع الأخير، فيتمُّ بينهما التوفيق والتراضي في نهاية الأمر.

والآن أنتقل بالقارئ إلى المسرحيات، وأرجو أن يجد فيها لذة تُعوِّضه الوقت الذي ينفقه في قراءتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤