مقومات الحضارة الجديدة

يحتل النقد السلبي الجانب الأكبر من تفكير ماركيوز ويشغل العدد الأكبر من صفحات كتبه. وليس هذا بالأمر المستغرب؛ إذ إنه لا يقتصر على نقد نظام بعينه، بل إنه ينقد كل النماذج الموجودة، سواء منها الرأسمالية أو الاشتراكية كما هي قائمة بالفعل. وهو يرى أن «أحادية البعد» هي مرض العصر، أو هي المظهر الرئيسي لضحالة الإنسان وغفلته، وللانحراف والتشويه الذي طرأ على حياته، فالإنسان «ذو بعد واحد» في المجتمع الرأسمالي المتقدم، وفي التطبيقات الاشتراكية الكبرى في العالم المعاصر. إن البعد الواحد باختصار، هو سمة الحضارة الحديثة في أشد صورها تقدمًا واكتمالًا.

على أن ماركيوز لا يقف عند حد تشخيص أمراض الحضارة الحديثة، وإنما يعرض تصوره الإيجابي لحضارة أخرى تحقق للإنسان أبعاده المتعددة، وتكتمل فيها مقومات الحياة الحقة. وبطبيعة الحال فلا بد لبلوغ هدف كهذا من مراجعة شاملة للطريق الذي ظل الإنسان يسلكه حتى اليوم، وللأهداف التي ظل يبذل الجهد ويتحمل العناء من أجل تحقيقها؛ ذلك لأن الإنسان الحديث كان يُسلِّم بأمور معينة يظنها بدهية مع أنها قابلة للمناقشة، بل إنها ربما كانت أصل البلاء الذي يعيش فيه. ومعنى ذلك أن الحضارة الحديثة بأسرها تظن أن المبادئ التي تقوم عليها مطلقة، مع أنها في واقع الأمر مبادئ نسبية يمكن الخروج عليها، وربما كان خلاص الإنسان الحديث يكمن في قدرته على تجاوزها.

«إن الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الحديثة هي زيادة الإنتاجية والتقدم التكنولوجي.» وهذه أسس تُفرض مقدَّمًا دون مناقشة. وهي تتخطى الانقسامات الأيديولوجية، إذ إنها هي الغاية القصوى في كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي كما يعيشان بيننا اليوم، ويعتقد ماركيوز أن التشخيص الحقيقي لمرض العصر الحديث هو أن الإنسان يعيش فيه متلهفًا على الإنتاجية الزائدة، لاهثًا وراء الكشوف والاختراعات التكنولوجية المتجددة أبدًا، وبذلك يضع الوسائل موضع الغايات؛ ذلك لأن على الإنسان أن يدرك أن الإنتاج والتكنولوجيا مجرد وسائل. وعليه أن يتساءل: لأي غرض ينبغي أن أزيد من إنتاجي؟ وما هي الغاية التي سأستخدم من أجلها التجديدات التكنولوجية؟ ومع ذلك فإن هذه الأسئلة، على بساطتها، لا تُطرح في العصر الحديث، بل ينقاد الإنسان لرغبته العمياء في التفوق في سباق الإنتاج والاختراع وكأنه مسوق بقوة قدرية غامضة قد تؤدي به في النهاية إلى حتفه.

على أن من الضروري أن ننبه، بادئ ذي بدء، إلى أن ماركيوز لا يستهدف دعوة الإنسان الحديث إلى التنازل عن تقدمه الاقتصادي والتكنولوجي؛ فهو لا ينتمي إلى ذلك النمط من المفكرين الذين ينادون بالعودة إلى عصور ما قبل الصناعة وما قبل التكنولوجيا، ويتصورون أن سعادة الإنسان الحقيقية إنما تكون في العودة إلى الارتباط المباشر بالطبيعة البريئة، بل إن المجتمع الإنساني الذي يحلم ببلوغه يفترض وجود مستوى عالٍ إلى أبعد حد من القدرة الإنتاجية ومن التقدم التكنولوجي. ولكن المهم في الأمر أنه يدعو إلى وضع هذه الاعتبارات الاقتصادية والفنية حيث ينبغي أن تكون؛ أعني بوصفها وسائل تخدم غايات تعلو عليها — غايات لم تصل إليها، ولا يمكن أن تصل إليها، الإنسانية الحالية المكتفية بعالم الوسائل. فهدفه هو أن يتجاوز الإنتاج والتكنولوجيا مع احتفاظه بهما؛ أعني البحث عن حضارة جديدة تستوعب الحضارة القديمة في داخلها، دون أن تلغيها، بحيث تكون العلاقة بين القديم والجديد علاقة جدلية بالمعنى الهيجلي؛ فالجديد يُلغي القديم لأنه يتجاوزه ولكنه في الوقت ذاته يحتفظ به لأنه يشتمل عليه بوصفه جانبًا من جوانبه. أو لنقل، من زاوية أخرى، إن العلاقة بين المجتمع القائم على الإنتاجية والمجتمع الذي ينشده ماركيوز — والذي سنوضح تفاصيله بعد قليل — أشبه بالعلاقة بين هندسة إقليدس والهندسة اللاإقليدية؛ فالأخيرة لا تلغي الأولى، ولكنها تدرك نسبيتها، وتجعلها مجرد حالة خاصة منطبقة على مجال معين، وتضيف إليها إمكانات جديدة لم تكن تخطر على بال أنصار النسق القديم.

(أ) من ماركس إلى فرويد

كانت وسيلة ماركيوز لرسم معالم المجتمع الجديد هي أن يعيد تفسير أفكار فرويد على نحوٍ يتيح تعويض ما يفتقر إليه الفكر الماركسي، أو التوفيق بين تعاليم فرويد، وبين آراء ماركس الشاب مع مزجهما معًا بعناصر من نيتشه، بحيث يصبح المركَّب الناتج ملائمًا لروح العصر الحاضر.

ذلك لأن ماركس — في ظروف عصره الخاصة — قد ربط بين تقدم الإنسانية وبين العمل، بحيث أصبح من الأمور المسلَّم بها فيما بعد أن حضارة الإنسان المعاصر في صميمها حضارة عمل، وأن الإنسان — في أحسن الظروف — لا يستطيع أن يحيا حياة أفضل إلا بقدر ما يبذل في عمله من جهد. ولقد كانت نتيجة ذلك أن تركز الاهتمام على القيم العقلية التي تتيح ترشيد العمل في سبيل الوصول إلى إنتاج أوفر، وعلى القيم الأخلاقية التي تسمح بتحقيق توزيع عادل لثروة المجتمع. وخلال ذلك كله نسيت قيمة «السعادة» التي ترتبط أساسًا بحياة الإنسان البيولوجية، وأغفلت مشاعر الإنسان الحسية وحاجاته الحيوية، وتركز الاهتمام على الحاجات العقلية والاقتصادية فحسب. وعلى الرغم من أن ماركس قد أشار إلى عناصر أساسية يستحيل بدونها أن تحقق الإنسانية تقدمًا حقيقيًّا، فإن عنصر «الغريزة» وتحقيق الرغبات الحيوية كان مفتقدًا تمامًا في كتاباته، إذا استثنينا بعض الإشارات غير الواضحة في كتابات الشباب.

«إن الإنسان عند ماركس يظل دائمًا الإنسان العامل، المنتج، وعلى قدر جهده يمكنه أن يحرز تقدمًا. أما الإنسان الحي بغرائزه وإرادته ونزوعه إلى الحب، فلا مكان له في فكر ماركس.» على أن ماركيوز يؤمن بأن القوى الإنتاجية قد وصلت في مجتمعنا المعاصر، بفضل التقدم التكنولوجي الهائل، وتطبيق مبدأ التسيير الذاتي (الأتمتة) على نطاق واسع، إلى مستوًى يسمح للإنسان بأن يعود مرة أخرى إلى الاستمتاع بحيويته، ويتيح له أن ينهل من منابع غريزته المتدفقة، ليستعيد تلك «السعادة» أو «اللذة» التي حرمه إياها مجتمع الإنتاج والعمل. لقد أصبح الإنسان قادرًا على أن يُشيِّد عالمًا مزدهرًا يتخلص فيه من العمل القاهر، ويكتفي بعمل أشبه باللهو أو اللعب، لكي يتفرغ للاستمتاع بغرائزه الطبيعية، لا على مستوًى بدائي، بل على أرفع مستوًى تتيحه له الحياة الحديثة. ولنقل، بلغة ماركيوز، إن في استطاعة الإنسان اليوم أن يستعيض عن حضارة العمل الشاق والصناعة بحضارة «الإيروس» Eros مفهومًا بهذا المعنى الواسع؛ أي بمعنى العودة إلى المنابع الحيوية للإنسان، والاستمتاع بالغريزة إلى جانب العقل، واستعادة الحب الذي تجاهله المجتمع الصناعي أو ابتذله شر ابتذال.

«إن الإنسان بحاجة إلى ثورة جديدة تتجاوز نطاق الثورة الاجتماعية، ثورة تعيد إليه قيمة السعادة الحيوية وترد إليه وعيه بالغريزة وإحساسه بالجمال. مثل هذه الثورة لا نستطيع أن نسترشد فيها بتعاليم ماركس (وإن كانت هذه التعاليم تقدِّم في الواقع الأساس الذي لا يمكن تحقيقها بدونه)، بل ينبغي علينا أن نلجأ، من أجل استيضاح معالمها، إلى فرويد.»

ومن واجبنا أن ننبِّه القارئ إلى أن ماركيوز لا يبحث آراء فرويد وفي ذهنه أن يتعمق في أساليب التحليل أو العلاج النفسي، بل إن كتاباته عن فرويد، وخاصة كتابه الهام «الإيروس والحضارة Eros et Civilisation» تتخذ على الدوام وجهة نظر الفيلسوف، وفيلسوف الحضارة على وجه التخصيص. ومن هنا فإنه لم يهتم كثيرًا بمؤلفات فرويد التي تعرض نظرياته العلاجية، بل كان اهتمامه مركزًا على كتابات فرويد ذات الطابع الحضاري والفلسفي.

في هذه الكتابات عرض فرويد فكرة «الإيروس» بوصفه الطاقة التي تكمن في أصل كل حضارة. وذلك لأن نمو الفرد؛ أي انتقاله من الأنانية إلى الغيرية، وكذلك نمو الإنسانية، يفترض مقدمًا عامل الحب، سواء في صورته الجنسية المباشرة، أو صورته المتسامية المحوَّرة. فنمو الفرد يتحقق حين يعمل الطفل حسابًا للواقع وينظم سلوكه على أساسه، بعد أن كان يبحث عن إشباعه المباشر ثم إدراك ما يضعه العالم أمام هذا الإشباع المباشر من عقبات. ونمو المجتمع يتم بإعلاء مماثل للطاقة التي لا تستطيع التعبير عن نفسها مباشرة، بل تتخذ لنفسها تعبيرات غير مباشرة، تتمثل في المبادئ الأخلاقية والدينية، وفي التعبير الفني والأدبي.

ومعنى ذلك أن الحضارة تفرض على الإنسان ألوانًا من القهر، وأنواعًا من التحريمات؛ أي أن التحضُّر هو في أساسه تغيير لطبيعة الإنسان الأصلية، وطرح لمبدأ اللذة المباشرة في سبيل الخضوع للأمر الواقع. وكلما ازدادت الحضارة نموًّا، انتصر «مبدأ الواقع» على «مبدأ اللذة» وازداد التحكم في الغرائز الطبيعية عن طريق النُّظم والقوانين، ومع ذلك فإن مبدأ اللذة لا يختفي تمامًا، وإنما يظل يُفصح عن نفسه في صور غير مباشرة يحاول فيها التخلص من سيطرة مبدأ الواقع؛ كالحلم والخَلق الفني والخيال، وهي صور ينبثق فيها المكبوت ويفصح عن نفسه. والمهم في الأمر أن الكبت هو الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء تقدُّمه الحضاري. وهكذا يظل الإنسان يعمل وينتج، بدلًا من أن يستجيب لدوافعه الطبيعية، ولا سيما الجنس، ما دامت الموارد لا تكفي لإعاشة أفراد المجتمع بلا عمل؛ فالإيروس إذا تُرك وحده يمنع الإنسان من العمل، ويحرم المجتمع من وسائل العيش، ومن هنا كان لا بدَّ من طرحه جانبًا، والتركيز على الإنتاج والعمل. أي أن الإيروس عاجز عن إقامة الحضارة؛ ولذلك كان من الواجب إنكاره إذا أراد المجتمع أن يقيم لنفسه حضارة مرتكزة على الجهد والعمل.

إن المجتمع، في رأي فرويد، يحتاج إلى الكبت لكي يبني حضارته، وهذا رأي لا يملك ماركيوز إلا أن يوافق عليه، وما أظن أن أحدًا يستطيع أن يجادل في الفكرة القائلة إن مجرد تكوين مجتمع يعني تنازل الأفراد عن قدر من حاجاتهم ورغباتهم المباشرة في سبيل مبدأ أعم منهم. ولو أمعنا الفكر قليلًا لتبيَّن لنا أن نظرية العقد الاجتماعي، بل نظريات الفلاسفة القدماء — وعلى رأسهم أفلاطون — في تكوين المجتمع، تنطوي على رأي موازٍ لرأى فرويد هذا، ولكن على المستوى الاجتماعي بدلًا من المستوى النفسي. ولكن فرويد لا يكتفي بذلك، بل يؤمن بأن عكس القضية السابقة صحيح أيضًا؛ أي بأنه لا حضارة بدون كبت أو قمع، وبأن من المستحيل قيام حضارة بلا كبت. وهذا ما يعترض عليه ماركيوز.

ذلك لأن قضية فرويد تظل صحيحةً صحة نسبية؛ أي أنها تسري على المجتمعات التي كان ضيق الإنتاج فيها يحتِّم تعبئة كل الموارد من أجل العمل، ويحتم بالتالي تجاهل الإيروس. ولكن مجتمعنا الحالي تظهر فيه، لأول مرة، بوادر تدل على إمكان الاستغناء عن القمع، وإقامة حضارة لا ترتكز على الكبت، تكون هي الحضارة «المطلقة» الوحيدة التي يمكن تصورها؛ ذلك لأن المجتمع الصناعي الحالي أصبح قادرًا على تحقيق قدر هائل من الوفرة، وأصبح من الممكن، عن طريق التقدم التكنولوجي الهائل، وانتشار الآلية الذاتية (الأوتومية)، أن يتوافر الأساس المادي الذي يُتيح انتقال المجتمع إلى شكل جديد للحضارة لا يعود فيه العمل الشاق ضروريًّا، بل يتفرغ فيه الإنسان لتحقيق طبيعته الحيوية، فالآلات أصبحت قادرة على أن تسير بذاتها، مع حد أدنى من التدخل الإنساني، وأن تنتج في الوقت ذاته بوفرة لم يكن يحلم بها الإنسان في أي عهد مضى. وعن طريق هذا التحوُّل التكنولوجي الحاسم، يستطيع الإنسان أن يتحرر من الاغتراب الذي يعانيه في العمل المادي الشاق، وأن يُكرِّس إنتاجه الوفير لصالح قواه الإنسانية، ويحقق ذاته لأول مرة في تاريخه الطويل.

ولكن الذي حدث بالفعل، في تاريخنا المعاصر، هو أن الإنتاج الوفير لم يستغل للقضاء على القمع، بل لزيادته، ولا لإشباع حاجات الإنسان الحقيقية، بل لإشباع نهم المنتجين إلى الربح وإلى المزيد من الإنتاج. ويترتب على ذلك فائض من العمل المغترب غير الضروري، كما يترتب عليه كبت زائد sur-représsion للغرائز. والواقع أن هذا القهر يزداد كلما ازدادت بشائر التحرُّر ظهورًا، ولكنه في الوقت ذاته يكشف بوضوح عن التناقض الصارخ الذي يمزق حضارتنا الحديثة؛ ففي هذه الحضارة توجد، كما قلنا، جميع الإمكانات التي تتيح قيام مجتمع لا يلجأ إلى الكبت والقهر، ولكن الواقع الفعلي الذي نلمسه فيها هو ازدياد القمع وإحكامه وتحوله إلى الصبغة العقلانية التي تزيد من فعاليته. هذا التناقض بين الإمكانات والواقع هو مظهر ديالكتيكي للصراع بين السيطرة والتحرر، وهو يدل بوضوح على أن الظروف أصبحت مهيأة لإدخال تغيير جذري على حضارة الإنسان.

ولعل العامل الحاسم الذي يساعد على إحداث هذا التغيير، هو أن القمع قد أصبح في عصرنا الحاضر، قمعًا إراديًّا من صنع الإنسان. فعلى حين أن الضرورة الطبيعية، التي تتمثل في ندرة الموارد وعدم كفايتها لتلبية الحاجات، كانت فيما مضى تحتِّم القمع وتجعله أمرًا لا مفرَّ منه لتنظيم المجتمع؛ فإن الوفرة التي حققها المجتمع الحديث جعلته غير مدفوع إلى ممارسة القمع بحكم الضرورة الطبيعية، بل إن أصل القمع الحالي إنساني بحت، وبعبارة أخرى فإن العوامل الاجتماعية والسياسية — لا العوامل الطبيعية — هي التي تؤدي إلى القمع السائد الآن، وهي تدفع المجتمع إلى تطبيق أساليب معينة في توزيع ثروته، تحتم سيطرة البعض على البعض الآخر.

وإذا كنا نعلم، من تجاربنا الراهنة، أن القمع الذي يمارسه الإنسان شر من القمع الذي تحتمه الضرورة الطبيعية، فينبغي أن ندرك، مع ذلك، أن هذا التغيير يعطينا على الأقل أملًا في المستقبل. ذلك لأن ما يمارسه الإنسان بإرادته، يستطيع الإنسان أيضًا أن يتخلص منه بإرادته. فنحن اليوم في مرحلة تاريخية لم تعد توجد فيها أية عقبات طبيعية في وجه القضاء على الكبت، وكل ما نعانيه عقبات من صنع الإنسان، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، وأن ينتقل إلى المرحلة العليا للتطور الاجتماعي، أعني المجتمع القائم على تحقيق الرغبات الحقيقية للإنسان، وإشباع حاجته إلى الحب والسلام، وإحلال «الإيروس» محل حضارة العمل الشاق والصناعة والإنتاجية العمياء.

(ب) حضارة الإيروس

على الرغم من أن ماركيوز يبدو كما لو كان يتجاوز ماركس، الذي ظل تفكيره محصورًا في نطاق مبدأ العمل والعدالة، ليستمد مقومات حضارة المستقبل من فرويد، الذي استطاع أن يجعل لمبدأ اللذة والسعادة مكانة رئيسية في تفكيره، فإنه في واقع الأمر يتخطاهما معًا؛ لأنه يضيف إليهما عناصر تنتمي إلى صميم عصرنا الذي يتميز بتطورات لم يستطع كل من المفكرَين الكبيرَين أن يتنبأ بها تنبؤًا دقيقًا.

لقد أصبح في استطاعة الإنسان، لأول مرة، أن يحيا حياة خلت من الكبت، ويقف عن غرائز الحياة موقف الإيجاب المطلق. وعلى حين أن الإيروس والحضارة كانا منفصلَين، بل متضادَين عند فرويد، فإن ظروف المجتمع الحالي تتيح، في رأي ماركيوز، الجمع بينهما من أجل إقامة حياة إنسانية مكتملة العناصر، يتحقق فيها التوافق التام بين مختلف جوانب الطبيعة البشرية.

في حضارة «الإيروس» هذه تصبح للخيال الغلبة على العقل؛ ذلك لأن العقل كان الأداة الرئيسية في يد حضارة الكبت والقهر، وهو الذي أتاح للمجتمع الصناعي أن يحقق أعظم انتصاراته في ميدان الإنتاج، وأن يتسلط على كل جوانب الإنسان ويوجهها في خدمة أغراض الربح والتوسع الاقتصادي. لذلك كان من الضروري استعادة التوازن بين «الإيروس» و«اللوجوس» لحساب الأول، ولكن دون إنكار تام للثاني. وعلى هذا النحو وحده يصبح الإنسان «كلي الجوانب Omnilatéral» بعد أن كان من قبل «أحادي الجانب unilatéral».
وعلى الرغم من أن تفكير ماركيوز يتسم بقدر ملحوظ من الوحدة، فإن تأكيده هذا إمكان قيام حضارة متكاملة الأبعاد تحل محل الحضارة الحالية ذات البعد الواحد — هذا التأكيد لم يكن من السمات المميزة لتفكيره على الدوام. فهو قد اختتم كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) بلهجة متشائمة تعبِّر عن يأسه من إمكان تغيير المجتمع الحالي إلى مجتمع أفضل. ولكنه في كتاب «نهاية اليوتوبيا La Fin de l’Utopie» ينتقل إلى موقف أكثر إيجابية، فيؤكد إمكان الانتقال إلى المجتمع الجديد باستخدام التكنولوجيا المتقدمة في القضاء على اقتصاد الملكية الخاصة والإنتاج لأجل الإنتاج، وينتقل في كتاب (نحو التحرر) Vers la Liberation (١٩٦٩م) إلى حديث أكثر تفصيلًا عن القوى التي تستطيع القيام بهذا التحول إلى المجتمع الجديد، والتي تساعد الإنسان على أن يرتد إلى ماهيته الحقة، بوصفه كائنًا إيروطيقيًّا (نسبة إلى الإيروس) يتخذ من القيم الجمالية هدفًا رئيسيًّا لحياته ولعلاقاته مع الآخرين.

وأهم ما يتصف به تفكيره في هذه المرحلة هو تأكيده أن الحديث عن الحضارة الجديدة لم يعد من قبيل التفكير اليوتوبي، الذي يتعلق بمشروعات اجتماعية يستحيل تحقيقها موضوعيًّا. بل إن ظروف عالم اليوم، التي تجعل الانتقال أمرًا ممكنًا من الوجهة العملية، تضع حدًّا لليوتوبيا، وتجعل التفكير في عالم الغد خارجًا عن نطاق الأحلام، بل تجعله أكثر واقعية من أي تفكير يقتصر على حدود المجتمع القائم بالفعل.

فما هي إذن خصائص حضارة الإيروس هذه؟

أول ما يطرأ على الذهن، حين تصادفه كلمة «إيروس» هو الجنس. فمثل هذه الحضارة لا بد أن تكون لها نظرة مختلفة كل الاختلاف إلى الجنس، نابعة من تخلصها من الكبت بصورة نهائية؛ فهي تعطي الجنس أبعاده الكاملة في إطار من انعدام الكبت. وربما توهم المرء مما قلناه أن الحضارة الحالية تتجاهل الجنس نتيجة لإصرارها على القمع والكبت، ولكن حقيقة الأمر عكس ذلك. ففي هذا المجتمع الذي يستهدف الربح من كل شيء، ويبتذل كل شيء — حتى أقوى عواطف الإنسان وألصقها به — يتخذ الجنس صبغة السلعة التي تنتج بالجملة، وتُباع وتُشترى في السوق. وتقوم وسائل الدعاية بدور كبير في تضخيم صور نمطية للجنس والتهليل لها وفرضها على أذواق الناس فرضًا. وتتسع أبعاد الجنس إلى حد مخيف، ويتدخل في كل جوانب حياة الإنسان ولكنه يظل مع ذلك مقيدًا محصورًا في إطار يحدده المجتمع منذ البداية، حتى لا يصبح حرًّا طليقًا.

هذا الجو أبعد ما يكون عن التسامي، الذي يفترض فرويد أنه ملازم للكبت. فالجنس ينحط ويُبتذل، وينتشر على أوسع نطاق، ولكن في إطار من الكبت الشديد ودون أن يصحبه إشباع حقيقي أو متعة حقيقية. إنه أبعد ما يكون عن طبيعته الأصلية التلقائية، فكل شيء فيه مخطط مدروس، يستهدف إغراق الإنسان بالصور والتعبيرات والإيماءات الجنسية التي تحفل بها الصحف وأفلام السينما، ولكن دون إشباع مطالبه منه. ولو شئنا الدقة لقلنا إن ما يُقدَّم إلى الإنسان ليس هو الجنس ذاته، بل هو بديل عنه، هو خيالات وأوهام تحل محله وتزيد من طابع الكبت المسيطر على نظرة المجتمع إلى الجنس. هذا النفاق ذو الوجه المزدوج الذي لا يمكن أن يعد حرمانًا ولا إشباعًا، لا بد أن ينتهي في حضارة الإيروس، لكي يحل محله انطلاق وتحرر لقوى الإنسان الطبيعية، وعلى رأسها الجنس.

على أن الجنس ليس هو العنصر الوحيد في حضارة الإيروس، بل إن هناك مجموعة كاملة من القيم، ومن الحاجات الجديدة، تظهر في المجتمع الجديد، وترتبط على نحو مباشر أو غير مباشر بفكرة الإيروس، وإن لم تكن منتمية إلى مجال الجنس؛ ذلك لأن الحاجات الإنسانية ليست شيئًا ساكنًا جامدًا، بل هي تتطور ديناميًّا مع تطور حياة الإنسان. ولقد كانت ظروف الحياة الراهنة التي يعيشها الإنسان تحتم ظهور حاجات وقيم تدعم النظام القائم، كالصراع من أجل العيش، والبحث عن الربح، والكبت الزائف للغرائز، والاتجاه إلى الهدم والدمار. أما المجتمع الذي يصبح فيه العمل (بفضل التقدم التكنولوجي الهائل) نوعًا من اللهو،١ فتسوده حاجات من نوع مختلف تمامًا، كالحاجة إلى السلام والهدوء والجمال والسعادة.
ويلخص ماركيوز نمط الحياة الذي تسوده هذه القيم الجديدة في عبارة «الحياة المسالمة أو الراضية L’existence pacifiée»، وهي حياة تتسم بالبساطة ومراعاة مطالب الإنسان الحقيقية في كل شيء. وأهم هذه المطالب جميعًا، الحاجة إلى السلام، التي تعني أساسًا القضاء على روح الهدم والتخريب السائدة في المجتمع الراهن، وهي الروح التي تتمثل في الاستعداد الدائم للعدوان وشن الحروب، وفي الاستخفاف بالحياة البشرية، وإيثار خدمة الموت على خدمة الحياة، والتفنن في التنكيل بالخصوم وإذلالهم.

ويؤكد ماركيوز أهمية الاستمتاع بالوقت الحر؛ أي بما نسميه الآن وقت الفراغ، في المجتمع الجديد. فعلى حين أن المجتمع الحالي يسيء استغلال هذا الوقت لخدمة أغراضه الاستهلاكية الخاصة، ولنشر القيم التي تدعم النظام القائم، فإن مجتمع المستقبل يجعل لهذا الوقت أهمية قصوى، نظرًا إلى ضآلة الوقت الذي سيقضيه الإنسان في عمله، وإلى أن هذا العمل ذاته يتخذ طابعًا أشبه باللعب. ففي الوقت الحر تتاح للإنسان فرصة حقيقية لكي يستعيد ذاته، ويحقق التوافق مع نفسه ومع الآخرين، بل إن النشاط الذي يمارسه الإنسان في هذا الوقت سيصبح هو الغاية، على حين أن نشاطه في العمل سيصبح مجرد وسيلة. وأهم عناصر شغل هذا الوقت الحر هي الاستمتاع بالقيم الجمالية، التي هي — في نظر ماركيوز — الشرط الأساسي لاكتمال شخصية الإنسان.

ويُبدي ماركيوز اهتمامًا كبيرًا بالحاجة إلى الهدوء، وإلى انفراد المرء بنفسه étre seul والاقتصار على الاختلاط بمن يختارهم هو ذاته، وحاجة كل إنسان إلى الاستمتاع بخصوصية الحياة؛ أي بمجال خاص به sphére privée ولذلك كان يتصور المجتمع الجديد، لا على أنه مجتمع جماهيري société de masse بل مجتمع مؤلف من مجموعات صغيرة من الأشخاص الأحرار، يعيشون في مدن خلت من قبح التصنيع الرأسمالي، يستعان فيها بالتكنولوجيا، وبالقدرات الجمالية لدى الإنسان، من أجل تغيير وجه العالم بحيث يغدو ملائمًا لحياة قائمة على السعادة الحقة، السعادة التي لا تُشترى ولا تُمنح لقاء ربح.

هذه القيم الجديدة تدور كلها حول محور واحد، هو المحور الجمالي. فالحب والسلام والهدوء والتوافق، كل هذه وسائل لتحقيق أعظم قدر من المتعة الجمالية للإنسان. وتصوُّر الإيروس ذاته؛ أي القوة الحيوية لدى الإنسان، يرتبط أوثق الارتباط بالنظرة الجمالية إلى الحياة. وفي هذا الجانب الحاسم من تفكير ماركيوز كان تأثره واضحًا كل الوضوح بماركس الشاب (إلى جانب العنصر الفرويدي بطبيعة الحال)؛ فالسعي إلى مجتمع تصبح فيه الحاجات المادية للإنسان ميسرة، وتقل فيه مشقة العمل إلى أدنى حد، هو خطوة لا بد أن يتبعها غاية عُليا، هي اهتداء الإنسان إلى ذاته من خلال القيم الجمالية؛ أي أن النشاط الجمالي سيصبح في هذه الحالة هو التعبير الحقيقي، الحر، عن ماهية الإنسان.

لقد دأبت البشرية، منذ عهد «أرسطو»، على أن تعرِّف الإنسان بأنه حيوان عاقل أو ناطق، وبلغ هذا الاتجاه قمته، من جهة، في عصر التصنيع الرأسمالي، بما يفترضه من ترشيد عقلاني تام لكافة جوانب نشاط المجتمع، ومن جهة أخرى في تأكيد الماركسية الناضجة لدور العقل كأساس لبناء المجتمع الجديد. ولكن ماركيوز يؤمن إيمانًا عميقًا بأن الإنسان إلى جانب كونه عاقلًا، هو أيضًا كائن خيالي، بل إن حساسية الإنسان تتجه إلى تأكيد دور الخيال في حياته، والتمرد على القمع والطغيان الذي يمارسه العقل. وفي الإنسان الجديد يقترن التحرر دائمًا بإعلاء دور الخيال الذي يقوم بالتوسط بين الملكات العقلية والحاجات الحسية.٢ إن الإنسان باختصار، كائن جمالي، بشرط أن تفهم هذه الصفة بمعنى يقترب من اشتقاقها الأصلي في اللغة اليونانية؛ أي بمعنى اتجاه الإنسان إلى الوعي الحسي بنفسه وبالعالم في توافق.

وهكذا يظهر ماركيوز هنا على أنه مفكر آخر من دعاة «العودة إلى الطبيعة»، ومن أنصار رد اعتبار الحب والخيال والعاطفة إزاء طغيان العقل. والفارق الوحيد بين دعوته إلى اتخاذ القيم الجمالية هدفًا أسمى للحياة الخالية من الكبت، وبين دعوة أنصار العودة إلى الطبيعة التقليديين، هو أن هؤلاء الأخيرين يحلمون بالطبيعة البسيطة الساذجة، والبدائية في بعض الأحيان، على حين أن نزعة ماركيوز الطبيعية ملائمة لعصر التكنولوجيا الرفيعة. والواقع أن نزعات العودة إلى الطبيعة كانت، في كل العصور، رد فعل ساخطًا على المجتمع القائم، وكانت تتشكل وفقًا لطبيعة هذا المجتمع. ومن هنا فإن هذه النزعة قد اتخذت عند ماركيوز شكلًا جماليًّا حسيًّا، يقوم على أساس الوفرة التي يحققها مجتمع شيوعي (بالمعنى العام)، يسوده شعار «من كل حسب قدراته، ولكل حسب حاجته». ووسيلة استعادة الوحدة الأصلية المفقودة بين الطبيعة والإنسان، هي سيادة مبدأ اللذة، وسيطرة القيم الجمالية.

ومن الواضح أن ماركيوز يجعل للفن، في نظرته العامة إلى الجديد، دورًا أساسيًّا، بل إن الثورة التي يدعو إليها قد لا تكون في صميمها إلا ثورة جمالية. مثل هذه المكانة الخاصة التي يحتلها الفن في تفكيره، تجعله جديرًا بوقفة نعرض فيها، بإيجاز، لتصوره العام للفن.

(ﺟ) الفن والثورة

الفن في صميمه احتجاج على الواقع القائم، تلك هي ماهية الفن عند ماركيوز. ومعنى ذلك أن معارضة الاضطهاد هي المقياس الذي نميز به الفن الصحيح من الفن الزائف. وإذا كان تاريخ البشرية حتى الآن، هو تاريخ الاضطهاد، فإن الفن قد أخذ على عاتقه أن يقاوم هذا التاريخ؛ ذلك لأن الفن يوحي بحقيقة خاضعة لقوانين مخالفة للقوانين القائمة؛ مثال ذلك أن قوانين الصور أو الشكل تخلق حقيقة مختلفة، هي في الواقع نفي للحقيقة التي نعرفها، حتى عندما يكون هدف الفن هو تصوير هذه الحقيقة ذاتها.٣

ولو طبقنا ذلك الحكم على الفنون الخاصة لظهرت لنا طبيعتها النافية أو الرافضة بوضوح. ففي الفن المسرحي يتحطم التوحيد بين المشاهد وبين العالم، وتقوم مسافة تسمح باستعادة الحقيقة الأصلية للعالم، ويهتز مركز الأشياء اليومية من حيث هي أشياء مسلِّم بها، ويتهيأ الجو لتصور العالم من خلال روح السلب التي يتعين بعد ذلك تجاوزها. وفي الشعر يتحدث الشاعر، في كثير من الأحيان، عن تلك الأشياء الغائبة التي تجوس مع ذلك العالم وتسري فيه. وهكذا فإن الشاعر، إذ يجعل الغائب حاضرًا، يمارس نوعًا من نفي النفي، شأنه شأن الفكر في مساره، ويهيئ الطريق بدوره «للرفض الأعظم». هذه الاتجاهات تتجلى بوجه خاص عند رامبو، وفي الدادية والسيريالية، وهي اتجاهات أصبح الأدب فيها يرفض ذلك التركيب اللغوي الذي ظل طوال التاريخ يربط بين اللغة الفنية واللغة العادية. وبذلك يعمل الشعر على تقويض العالم وخلق تجربة جديدة، غير مألوفة، تؤدي إلى إقامة علاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة.

على أن الفن المرتبط بالأيديولوجيات المتصارعة حاليًّا هو أقرب إلى الزيف منه إلى الفن الصحيح؛ ففي النظام السوفيتي يقوم الفن بتصوير الواقع محاكيًا للطبيعة naturaliste متجاهلًا تمامًا وظيفته الأصلية بوصفه رفضًا للواقع وتباعدًا عنه. وفي المجتمعات الرأسمالية يفقد الفن وظيفته الثورية إذ يندمج في المجتمع، ويتمسك بمبدأ الواقع، ويدعم النظام القائم بدلًا من أن يحارب من أجل تجاوزه ولقد كانت الروح التجارية التي يعامل بها الفن في المجتمع الصناعي الرأسمالي هي الوسيلة الكبرى التي يتبعها هذا المجتمع لابتذال الفن والقضاء على ثوريته؛ فالفن والأدب ينتشران على أوسع نطاق، ويدخلان كل بيت، ويبدو ظاهريًّا أنهما حققا رسالتهما على الوجه الأكمل، مع أن هذا الانتشار الواسع ذاته هو الذي يؤدي إلى تسطيحهما وربطهما بمجرى الحياة اليومية الرتيبة، وإدماجهما — بالتالي — في النظام القائم.
فهل يعني ذلك أن ماركيوز يدعو إلى عودة الفن إلى قصور النبلاء وصالونات الأرستقراطيين، وإلى تضييق نطاقه وقصره على صفوة مختارة؟ وإذا كان بيع الأعمال الأدبية الكبرى، والتسجيلات الكلاسيكية الرائعة، في الصيدليات وأسواق البقالة (كما يحدث فعلًا في الولايات المتحدة) قد أدى إلى تسطيحها وضياع قدرتها على الرفض والاحتجاج، فهل يعني ذلك أن نتنازل عن المزايا الهائلة التي أتاحها التقدم التكنولوجي، ونحمل على الاتجاه الديمقراطي في الاستمتاع بثمار الفن والأدب؟ يرد «نيكولاس» على هذا التساؤل بقوله: «كثيرًا ما أُسيء فهم أفكار ماركيوز في هذه المسألة. فمن السخف الادعاء بأن ماركيوز يهاجم انتشار الطابع الديمقراطي في الفن والأدب. بل إنه، على خلاف ذلك، يهاجم ما له بعد واحد، يهاجم ظاهرة التمثل والاندماج الثقافي بقدر ما يتم هذا التطبيع الثقافي في إطار من استمرار الاستغلال والربح. فلنسلم بمبدأ بيع مؤلفات بودلير (في الصيدليات). ولكن ماذا عسى أن يجد فيها القارئ؟ لا شيء مما كانت هذه الأعمال تنطوي عليه في عصرها، أعني قوتها المعارضة. وعلى ذلك فإذا كان التمثُّل والاندماج الثقافي الحالي يخلق «مساواة ثقافية» فإنه في الآن نفسه يحمي السيطرة والتسلط، وإذا كان هذا الانتشار يلغي الامتيازات الأرستقراطية القديمة، بوصفها امتيازات ظالمة مستبدة، فإنه يدعم المجتمع ذا البُعد الواحد الذي يخلقه الترشيد التكنولوجي، ذلك الترشيد الذي يستحيل التباعد عنه أو الدخول في نزاع معه.»٤

ومع ذلك فإن آراء ماركيوز عن الفن بوصفه قوة ثورية رافضة للنظام القائم، تنطوي على قدر مفرط من التعميم، وتتعرض لكل ما يتعرض له التعميم السريع من انتقادات. ذلك لأن ما يسمى بخروج الفن عن القوانين القائمة، هو نوع من المغالطة التي تستغل الخلط، في استخدام لفظ «القوانين»، بين القوانين السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية من جانب، وقوانين الإدراك أو رؤية العالم من جانب آخر، فالأولى قوانين متغيرة يمكن التمرد عليها عندما تكون ظالمة، أما الثانية فهي مشتركة بين البشر، لها قدر كبير من الثبات الذي تتسم به قوانين علم النفس عامة، وتظل صحيحة في ظل أي نظام، وأي وضع اجتماعي. فإذا كان الفن يخرج عن القوانين بمعناها الثاني؛ لأنه يمنحنا رؤية غير عادية، وإدراكًا غير مألوف، للعالم، فإن هذا لا يجعل منه على الإطلاق قوة تثور ضد القوانين بمعناها السياسي أو الاجتماعي.

ولو صحَّ رأى ماركيوز هذا، لكان الفن التجريدي أشد الفنون ثورية؛ لأنه أكثرها خروجًا عن الواقع القائم وتمردًا عليه. ويبدو أن ماركيوز يميل ضمنًا إلى الأخذ بهذا الرأي، بدليل أنه يعيب على الفن السوفيتي نزعته الطبيعية Naturalisme التي يرى فيها خروجًا عن الفن الحقيقي بما فيه من رفض للواقع وابتعاد عنه. ولكن رأيه هذا هو، على أحسن الفروض، رأي قابل للمناقشة؛ فقد أثبت تاريخ الفن أن النزعة الطبيعية اتجاه أساسي ظل يتردد منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر، ولم تكن فترات ظهوره فترات تدهور للفن على الإِطلاق، كما أنها لم تكن فترات تتسم بالطابع المحافظ من الوجهة السياسية. هذا فضلًا عن أن أي اتجاه فني يستطيع أن يزعم أنه يلتزم الواقع بمعنى، ويرفض الواقع بمعنى آخر. فحتى لو كان يرفض الواقع «السائد»، فمن الممكن القول إنه واقعي بمعنى أنه يبحث عن الاتجاهات المتطلعة إلى المستقبل، والموجودة في الواقع الراهن بصورة كامنة، ويعمل على تصويرها. وهكذا فإن كل قبول للواقع ينطوي ضمنًا على رفض لواقع آخر، والعكس بالعكس. ومن هنا فإن من غير الممكن الكلام عن فن رافض أو فن قابل بالمعنى المطلق.
ومن جهة أخرى فإن كثيرًا من اتجاهات الفن التجريدي — وهو فن لا يمكن وصفه إلا بأنه رافض للواقع — يمكن أن توصف، من زاوية معينة، بأنها اتجاهات تدعو إلى الرضوخ أو الامتثال من الناحية السياسية أو الاجتماعية؛ ذلك لأن مبدأ التجريد نفسه يمكن تفسيره بأنه هروب من الواقع وتباعد عنه. وحين يغرق الفنان في التجريد فمعنى ذلك أنه يترك الواقع العيني الملموس على ما هو عليه، ولا يقول «لا» أو «نعم» لمن يعبثون به وينشرون فيه الفساد، وإنما يخلق لنفسه عالمًا خاصًّا يمارس فيه فاعليته. وحتى لو كان هذا الهروب ناشئًا عن السخط، فإنه ينطوي من الوجهة الموضوعية على مساعدة ضمنية للأوضاع الجائرة القائمة، تتمثل في السكوت عليها.٥

ومثل هذا يصدق على الربط بين استخدام لغة غير اللغة العادية في الشعر، وبين الثورة على الوضع القائم. فليس ثمة علاقة على الإطلاق، في رأينا، بين «اللغة العادية» وبين الأوضاع الراهنة، ومن المستحيل أن يوصف الأديب الذي يقبل التعبير بهذه اللغة العادية بأنه يؤيد النظام القائم لهذا السبب. والواقع أن رفض اللغة العادية هو أمر لا يتيسَّر إلا لفئة محدودة جدًّا من الأدباء أو الشعراء ومن القرَّاء الذين يمكنهم فهم لغتهم الجديدة؛ فهو في أساسه ظاهرة أرستقراطية، بينما الثورة بطبيعتها ظاهرة جماهيرية تحتاج إلى وسيلة للتفاهم مع الجموع الغفيرة من البشر. ومن هنا ففي وسعنا أن نقول إن الشاعر عندما يبتدع لنفسه لغة جديدة (قد تكون لها قيمتها الكبرى من الوجهة الجمالية الخالصة) يتخذ موقفًا انعزاليًّا يتنافى، موضوعيًّا، مع الروح الثورية. وفي استطاعته، لو شاء أن يكون ثوريًّا بالمعنى الاجتماعي، أن يتخذ موقف الرفض في إطار اللغة اليومية ذاتها، وفي هذه الحالة سيكون رفضه ديالكتيكيًّا يكتشف عناصر السلب الكامنة في هذا العالم من داخله، على حين أن الرفض القائم على التباعد، وعلى خلق لغة مستقلة، هو رفض غير ديالتيكي.

إن آراء ماركيوز الجمالية ليست مجرد نظرية في الفن تُضاف إلى غيرها من النظريات، بل هي تحتل في إطار فلسفته موقعًا أهم من ذلك بكثير. إنها في حقيقة الأمر تعبير عن الغاية القصوى التي يتصورها للعالم في عصر ما بعد التكنولوجيا والآلية الذاتية. فالحياة الجمالية الإيروطيقية هي المثل الأعلى للحياة كما يتصوره في مجتمع المستقبل. وإنسان الغد، الذي ستخلصه الإنتاجية اليسيرة والآلية العالية من مشقة العمل المجهد، سيكون في الأساس إنسانًا يستمتع بالحب والجمال، ومن أجل هذا الهدف ينبغي أن يثور إنسان اليوم على عالمه الذي لا يقدم إليه الحب ولا الجمال إلا في إطار مبتذل، يخدم أغراض الربح ويحقق للنظام هدف المحافظة على نفسه. ومن هنا فإن فلسفة ماركيوز بأسرها يمكن أن توصف بأنها نزعة جمالية مبالغ فيها est hétisme وكل نزعة من هذا النوع لا تستطيع أن تصل، في آخر المدى، إلا إلى تحقيق رمزي للحرية. أما التغيير الفعلي لأوضاع الإنسان فلا يمكن أن يتم على أيدي الرومانتيكيين من أصحاب النزعات الجمالية، وإنما هو، ببساطة، مهمة الثوريين العمليين. فأقصى ما يستطيع الفن أن يفعله هو أن يكون وسيلة للتعبير عن السخط على وضع قائم، والحلم بوضع مرتقب، ولكنه عاجز عن توجيهنا في مجال الواقع الفعلي، وفي ميدان الممارسة السياسية.

والواقع أن الصورة التي يقدمها ماركيوز لعالم المستقبل المرتكز على قيم الحب والجمال متناقضة في أكثر من جانب؛ ذلك لأن اتخاذ قيم الحب والجمال غايات قصوى لكل نشاط إنساني في هذا العالم سيجعل بعض الناس على الأقل، ممن ليست لديهم ميول جمالية، أو ممن لا يكترثون كثيرًا بالحب، يعيشون في المجتمع الجديد بلا هدف. وإذا كان من الصعب تصور أشخاص لا يهتمون بالحب (من أن أمثال هؤلاء الأشخاص موجودون بالفعل)، فإن من المشاهد فعلًا أن هناك فئة غير قليلة من الناس لا يعني الفن بالنسبة إليها شيئًا مذكورًا، والأرجح أنه سيكون هناك أشخاص كهؤلاء حتى في المجتمع الذي يوفر لأفراده أعظم قدر من الثقافة الجمالية. ومعنى ذلك أن الهدف الذي يضعه ماركيوز للحياة في المجتمع الجديد لا يمكن أن يكون هدفًا شاملًا.

ومن جهة أخرى فإن المجتمع الجديد مبني، باعتراف ماركيوز نفسه، على أساس استمرار الاتجاهات الحالية في التقدم التكنولوجي والآلية الذاتية (الأتمتة)، وازدياد هذه الاتجاهات تقدمًا. على أن في استطاعتنا منذ الآن أن نرى النتائج التي أفضت إليها هذه الاتجاهات في مجال الفن المعاصر، الذي أصبح مغرقًا في التجريد، وفي الابتعاد عن إرضاء الحاجات الوجدانية للإنسان؛ لذلك فإن من المتوقع أن تستمر هذه التيارات الفنية في مجتمع المستقبل، وفي هذه الحالة يصعب جدًّا أن نتصور كيف يمكن أن يكون مثل هذا الفن التجريدي البحت هدفًا أسمى لنشاط الإنسان. فهل الموسيقى الإلكترونية مثلًا (وهي وليدة العصر الإلكتروني) فن يمكنه أن يسهم في استعادة إنسانية الإنسان؟ وهل هي التي ستلبي حاجاته الجمالية؟ لا جدال في أنه سيظل هناك تناقض حاد بين الأساس المادي لحياة المجتمع، وهو أساس يفترض فيه زيادة التصنيع والتكنولوجيا تقدمًا، وبين مطلب إرضاء الحاجات الوجدانية والانفعالية الحقيقية للإنسان، وهو المطلب الذي يراد من الفن تحقيقه في مثل هذا المجتمع.

١  Marcuse, La Fin de L’Utopie, Editions du Seuil, Paris 1968. P. 15.
٢  Marcuse, Vers jla liberation, p. 46.
٣  Marcuse (et al.), Critique de la tolérance.
٤  A. Nicolas, Op cit., P. 95.
٥  ينبغي أن نلاحظ أن هذا بعينه ما قاله ماركيوز ذاته عن المنطق الصوري الأرسطي، الذي يرى فيه تعبيرًا عن أيديولوجية محافظة تكتفي بالشكل وتترك المضمون الواقعي على ما هو عليه. ولو كان قد طبق هذا المعيار ذاته على الفن التجريدي — وهو في صميمه فن شكلي — لوصل إلى عكس الحكم الذي حكم به على هذا الفن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤