ماركيوز بين واقع الثورة وأحلام الفلسفة

هناك حقيقة أساسية في فكر ماركيوز، أشرنا إليها من قبل إشارات عابرة، ولكن ينبغي أن نضعها نصب أعيننا على الدوام إذا شئنا أن نصدر عليه حكمًا منصفًا، ونضعه في موضعه الصحيح بين مفكري القرن العشرين؛ تلك هي أن ماركيوز كان، في جزء كبير من حياته العملية، أستاذًا للفلسفة، وأنه بلْوَر الجزء الأكبر والأهم من أفكاره في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن. ولا يمكن القول إن تحولًا أساسيًّا قد طرأ على تفكير ماركيوز وانتقل به من أقوال تُلقى في قاعات المحاضرات إلى تعاليم يهتدي بها الشباب الثوريون في أنحاء واسعة من العالم. فالأمر الذي يلفت النظر بحق في التطور الفكري لهذا الفيلسوف، هو أنه لم يضطر إلا إلى إدخال تعديلات طفيفة على أفكاره الأساسية التي عرضها قبل فترة الحرب العالمية الثانية، واقتصر على تطبيقها على الظروف المتجددة التي أعقبت هذه الحرب، دون تغيير جذري لها. ومع هذا فإن التفكير، الذي وضعت أسسه قبل فترة تطبيقه الفعلي بما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، قد أثبت حيويته ومرونته الفائقة، واستطاع أن يلهم ملايين الشباب كما لو كان صاحبه واحدًا من جيلهم، يحس بأحاسيسهم وينطق لغتهم.

على أن هذه الحقيقة الأساسية كان لها تأثير لا يمكن إنكاره في تحديد الطابع العام لتفكير ماركيوز؛ ففي رأينا أن هذا التفكير بالرغم من نجاحه العملي الهائل خلال فترة ثورة الشباب في الستينيات من هذا القرن، وبالرغم من انتشاره الواسع في مختلف بلدان القارة الأوروبية والأمريكية، ظل على الدوام تفكير أستاذ فلسفة ألماني الأصل. وفي استطاعة المرء أن يتنبأ بأن الشباب الثوريين لن يمكنهم أن يتمسكوا طويلًا بتعاليم ماركيوز، لسبب بسيط هو أن هذه التعاليم أقرب بكثير إلى أحلام الفلاسفة منها إلى واقعية الثوَّار. إنها في صميمها تعاليم نظرية، لها بريق خلاب، ولكنها تخفق إخفاقًا صارخًا عندما يُراد تحويلها إلى مجال الممارسة والتطبيق.

وسيكون الجزء التالي من هذا البحث إثباتًا مفصلًا لهذا الحكم العام.

(أ) قيم المجتمع الجديد في ميزان النقد

إذا كنا قد اختبرنا من قبل آراء ماركيوز في الفن اختبارًا مستقلًّا؛ فهذا يرجع إلى المكانة الخاصة التي تحتلها القيم الجمالية في تصوره العام للمجتمع الجديد، على أن هذه القيم الجمالية لا تقتصر على الفن وحده، بل هي ترتبط عنده بنمط كامل للحياة يتصور ماركيوز أنه هو النمط الذي ينبغي أن يسود مجتمع المستقبل. فهل كان تفكير ماركيوز متسقًا مع ذاته عندما حدد معالم هذا النمط الجديد من أنماط الحياة؟

لقد تحدثنا من قبل عن أهم القيم التي يدعو إليها ماركيوز في مقابل القيم التجارية والاستهلاكية والعدوانية التي تسود المجتمع الراهن، هذه القيم الجديدة تسود عندما تظهر حاجات جديدة في مجتمع المستقبل الذي تحمل فيه الآلة عن الإنسان عبء العمل الشاق وتصرفه عن الاهتمام المفرط بالإنتاج والربح. وأهم هذه الحاجات، الحاجة إلى الهدوء والسلام، وإلى «الحياة المسالمة أو الراضية L’existence pacifiée».
ولكن، هل صحيح أن روح المسالمة، التي تكون فيها النفس مطمئنة راضية مرضية، هي الحالة المُثلى لإنسان المستقبل؟ إن قليلًا من التفكير يقنعنا بأن هذا المثل الأعلى لا يستحق السعي إليه إلا حين يكون الإنسان قد جعل من الأرض جنة حقيقية. ولكن حتى مجتمع المستقبل لن يكون هو ذاته الجنة الموعودة. فهو سيظل مجتمعًا يحتاج إلى الكفاح، والعمل الإيجابي، والابتكار، وتلك كلها أهداف لا يمكن تحقيقها في مجتمع مثله الأعلى هو «الحياة المسالمة».١ بل إن وجود قدر، ولو قليل، من النزعة العدوانية يساعد الإنسان على الارتقاء بذاته وتجاوزها، وذلك إذا استطاع الإنسان أن يتسامى بعدوانيته الغريزية ويوجهها في اتجاهات إيجابية بناءة.

والواقع أن كل صور الحياة المكافحة، سواء أكان ذلك كفاحًا ضد الطبيعة أم كان كفاحًا في سبيل بلوغ مستويات أعلى للحياة، لا تتمشَّى مع مبدأ ماركيوز في تهدئة النزوع العدواني وسيادة الحياة الراضية؛ ولذلك فإن دعوته لا تشكل أي إغراء للإنسان المتطلع إلى الكفاح في سبيل حياة أفضل، وخاصة في تلك المناطق من العالم، التي لا يزال فيها أمام الإنسان شوط طويل حتى يتحرر من عجزه أمام قوى الطبيعة، ومن استغلال الآخرين. فهل يريد ماركيوز من إنسان المستقبل أن يقف هادئًا مطمئنًا مسالمًا، ويركز حياته في الاستمتاع بالحب والفن؟ هل يعد هذا نمطًا راقيًا من الحياة بحق؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى خنق كل طموح لدى الإنسان؟ أليست المهام الكبرى في الحياة في حاجة إلى سعي وجهد، وإلى نوع من عدم الرضا وعدم الاكتفاء بما هو موجود؟ إن تصور ماركيوز لن يكون له معنًى إلا حين تبلغ الحياة نهايتها، وينتهي كل طموح لدى الإنسان. ولو أتى على الإنسان يوم تصور أن حياته بلغت غايتها وأنه لم يعد يحتاج إلا إلى الاستمتاع بما أنجزه من قبل، لكان معنى ذلك أن انهيار هذه الحياة أصبح وشيكًا.

ومثل هذا يُقال عن دعوة ماركيوز إلى تفتيت الكتل الجماهيرية الكبيرة Masses إلى مجموعات صغيرة من الأفراد الأحرار؛ ذلك لأن المسئوليات الضخمة التي تنتظر الإنسان في المستقبل تحتاج إلى جهود جماعية، وإلى تكاتف متزايد بين البشر. بل إن هذا التكاتف ذاته يعد علاجًا شافيًا للأفراد من الأنانية والتفكير الضيق المنحصر في حدود الذات، أو الجماعة القريبة، وحدها. لذلك فإن الرأي الأقرب إلى الصواب، والذي ينادي به عدد أكبر من المفكرين، هو أن الإنسانية تتجه إلى التجمع، وإلى تكوين مجتمع عالمي واحد، لا إلى الانقسام والتفتت إلى جماعات صغيرة. ولنذكر، في هذا الصدد، أن تفكير ماركيوز في هذا الموضوع أقرب إلى النزعة التعددية والتجزيئية التي تسود فلسفات المجتمع الرأسمالي، على حين أن الفلسفات الاشتراكية أميل إلى تأكيد فكرة العالمية في مختلف المجالات.

والواقع أن صورة الحياة الجديدة التي يدعو إليها ماركيوز قد تكون، في حقيقتها، أسوأ بكثير مما تبدو عليه لأول وهلة. فهو أولًا يتصور أن انقياد الإنسان لرغباته يؤدي إلى تحقيق سعادته في كل الأحوال. وهذا تصور ساذج؛ لأنه على الأقل لا يتضمن تحليلًا متعمقًا للرغبة، وكشفًا للتناقض الكامن فيها، على النحو الذي قام به عدد كبير من الفلاسفة منذ أفلاطون حتى عصرنا الحاضر. وأبسط ما يمكن أن يُقال هو إن الرغبة تنطوي، في جانب من جوانبها، على اتجاه إلى استبعاد الآخر بحيث يغدو مجرد وسيلة لتحقيق رغبات الذات. ومثل هذا الاتجاه لا يساعد مطلقًا على قيام مجتمع متحرر إذا استسلم له أفراد هذا المجتمع. ومن هنا لا مفر من فرض نوع من الكبت — في حدود معينة — على الرغبات، حتى في أشد المجتمعات انطلاقًا.

وفضلًا عن ذلك فإن مبدأ سيادة الحب في المجتمع الجديد هو مبدأ خداع إلى حد بعيد؛ ذلك لأن المجتمع الذي لا يعود فيه أي عائق يقف في وجه نزعات الإيروس ورغباته لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع سعيد. وحتى لو فرضنا أن التعليم والقيم الاجتماعية أصبحت كلها تشجع على الاستمتاع التام بالقوى الحيوية للإنسان متمثلة أساسًا في الجنس، فلا يمكن أن يترتب على ذلك تحقيق سعادة مؤكدة لأفراد مثل هذا المجتمع. ذلك لأن طغيان الجنس يمكن أن يؤدي إلى التعاسة والقبح مثلما يؤدي إلى الرضا والجمال. ولا بد لضمان تحقيق نتيجة إيجابية في انطلاقة الحب هذه، من أن يفرض نوع من الضوابط أو من التنظيم في علاقات الحب بين الأفراد؛ أي مما يسميه ماركيوز بالكبت، وهو ما يريد ماركيوز استئصاله من المجتمع الجديد (متجاوزًا في ذلك فرويد بكثير).

ومن ناحية أخرى، فهل يمكن أن يكون الحب والجنس حقًّا غاية عُليا في المجتمع الإنساني المتحرر؟ أخشى أن أقول إن هذا الاهتمام المفرط بالجنس يحمل في طياته آثار القيود التي يُعانيها الإنسان في المجتمع الحالي، وأن الاعتقاد بأن جنة الإنسان في المستقبل هي جنة يستمتع فيها الإنسان بمشاعره الجنسية استمتاعًا حرًّا، لا يطرأ إلا على ذهن ينتمي صاحبه إلى حضارة تحرم الجنس وتضع دونه شتى العقبات. ولو تخيَّلنا مجتمعًا أزيلت فيه القيود والتحريمات على الجنس، لكان الإنسان في هذا المجتمع — على الأرجح — غير مكترث بالجنس إلى الحد الذي يتصوره فيلسوفنا الذي يستمد آفاق تفكيره من مجتمع متمسك بالتحريمات. ولكي نكون واقعيين ينبغي أن نتذكر أن مجالات الاستمتاع بالجنس محدودة، مهما بدت لنا في منظورنا الحالي واسعة. ولقد تساءل أحد الكُتاب — وكان على حق تمامًا في تساؤله: ما الذي يستطيع إنسان المستقبل أن يفعله في مجال الجنس، مما لا يستطيع الإنسان الحالي أن يفعله؟ أهناك حقًّا، في هذا المجال، عالم جديد كل الجدة، لم نجربه في عالمنا بعد؟ أم أن إزالة القيود لن يترتب عليها أي تغيير «كيفي» في طريقه استمتاع الناس بالجنس؟ أغلب الظن أن التحرُّر من الكبت سيترتب عليه، في المدى الطويل، تضاؤل أهمية الجنس في حياة الإنسان، لا زيادتها. أما أولئك الشبان الذين نراهم اليوم، في مستعمرات الهيبيز وغيرها، مغرقين في مظاهر الحب بمختلف أنواعها، فإنهم، مهما كانوا متحررين، يخضعون في تصرفاتهم لمبدأ رد الفعل، ويتعمدون مخالفة قواعد المجتمع الموجود. ولو كانوا يعيشون في مجتمع يسير على نفس مبادئهم، لكان دور الجنس في حياتهم المتحررة أضيق نطاقًا بكثير. ويكفي في هذا الصدد، أن يتذكر المرء أن الاستمتاع بشتى مظاهر الحب لا يمكن أن يكون عملًا يتفرغ له الإنسان، أو يشغل الجانب الأكبر من وقته، وذلك بحكم الضرورة البيولوجية والنفسية ذاتها بغض النظر عن أية تحريمات أو تعقيدات اجتماعية.

وأخيرًا، فقد رسم لنا ماركيوز معالم هذه الحياة الجديدة دون أن يحدد لنا بوضوح، الوسائل العملية الكفيلة بتحقيقها. وهناك على الأقل، عقبة واحدة رئيسية تجعل قدرة الإنسان على تحقيق هذه الحياة أمرًا مشكوكًا فيه هي أن الأساس المادي للمجتمع الجديد سيكون هو ذاته التقدم التكنولوجي وسيادة الآلية الذاتية في العالم؛ أي أن نفس الأسلوب السائد في المجتمعات الصناعية المتقدمة حاليًّا، هو الذي سيسود المجتمع الجديد (مع اختلاف في الغايات بطبيعة الحال) ولكن كيف نستطيع أن نتخلص، بهذا الأسلوب نفسه، من التنظيم القهري الذي يفرضه المجتمع الراهن؟ ألا يحتمل أن يؤدي استمرار التكنولوجيا الحالية إلى استمرار نفس وسائل القهر الراهن؟ إن الآلية الشاملة التي ستحقق للمجتمع الجديد الوفرة وتعفي الإنسان من العمل المغترب، تقتضي بطبيعتها نوعًا من التنظيم الدقيق الذي يجلب معه، حتمًا، ألوانًا من القهر والضبط والتحكم في سلوك الأفراد، والتضحية بالفرد في سبيل المجموع. ومن المستحيل أن تستمر آلات هذا العصر المرتقب في الدوران بدون نوع من الترشيد؛ أي من سيادة العقل، في التنظيم الاجتماعي. أي أننا سنضطر حتمًا إلى الاعتراف بأهمية العقل إلى جانب الغريزة، وربما قبلها، وسنعيد للوجوس مكانته التي أراد ماركيوز أن ينحيه منها جانبًا لكى يحل محله الإيروس.

(ب) ماركيوز والشباب

تصلح النقطة الأخيرة التي أشرنا إليها في ختام القسم السابق، وأعني بها عجز ماركيوز على أن يحدد بوضوح الوسائل العلمية التي تُعين على تحقيق المجتمع الجديد، لكي تكون نقطة انطلاق لتحليل نقدي لموقفه من الشباب؛ ذلك لأنه، كما رأينا، لا يقدم نظرية ثورية يمكن أن تُتخذ أساسًا لممارسة عملية، بل يقدم إلينا تحررًا رمزيًّا، على مستوى الفكر وحده، في المجال الحسي والجمالي فحسب. وربما بدا للمرء أن اختياره لهذا المجال بالذات دليل على يأسه من تغيير المجتمع القائم في علاقاته العينية؛ لأن العالم الجمالي، على أية حال، مجرد حلم، ولأن هناك هوة لا تعبر بين المجال الإستطيقي والمجال السياسي.

ولكن ماركيوز يعتقد أنه قد اهتدى إلى قوًى معينة، في قلب المجتمع الحاضر، تستطيع أن تكون أداة عملية لإحداث عملية التغيير التي يدعو إليها. وعلى الرغم من أنه لم يقدم أي برنامج عملي مفصل للطريقة التي تستطيع بها هذه القوى أن تقلب المجتمع الراهن (وهو في ذلك يختلف عن الثوريين الأصليين، ويظل — كما قلنا — مجرد أستاذ ألماني للفلسفة)، فإنه قد أورد إشارات غير واضحة، ساعدت الأحداث على ترسيخها في الأذهان، عن الدور الذي تستطيع قوى الشباب، ممثلة في الطلبة بوجه خاص، أن تقوم به من أجل تغيير المجتمع. ولقد كان هذا الاهتمام بالطلبة، الذين ظهروا على المسرح بوصفهم قوة ثورية جديدة، هو الذي جلب لماركيوز القدر الأكبر من شهرته في السنوات الأخيرة من عمره. وكان الطلبة أنفسهم من أهم عوامل إذاعة هذه الشهرة؛ إذ إنهم أبدوا ترحيبًا كبيرًا بذلك المفكر الذي استطاع أن يجعل لهم دورًا بارزًا في تحريك أحداث العالم، في الوقت الذي كان فيه غيره من المفكرين يستبعدونهم أو يجعلون لهم دورًا هامشيًّا فحسب. ومن جهة أخرى فإن ماركيوز ذاته وجد في ثورات الشباب تأييدًا قويًّا لأفكاره التي نادى بها من قبل، والتي أعلن فيها أن القوى الثورية التقليدية، وهي البروليتاريا، قد فقدت ثوريتها باندماجها في المجتمع الصناعي المتقدم إلى حد أصبحت فيه تحرص على بقاء هذا المجتمع وتحافظ على طابعه الاستغلالي.

ولقد أشار ماركيوز في ختام كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» — بوجه خاص — إلى أن خلاص المجتمع لن يتم على يد أية جماعة من الجماعات المندمجة فيه، بل سيتم على أيدي «الهامشيين» والمرفوضين والمضطهدين والخارجين عن نطاق عملية الإنتاج. وعلى الرغم من أن هذه الإشارة كانت، في نظر كثير من الكتاب، تعبيرًا عن اليأس والشعور بالعجز عن إحداث تغيير حقيقي في المجتمع القائم، فإن الشباب أنفسهم قد رحبوا بها ووجدوا فيها دليلًا على أنهم أصبحوا الورثة الحقيقيين لروح الثورة في العالم. ولقد كان من الطبيعي أن تجد هذه الفكرة رواجًا بين شباب العالم، ولا سيما في البلاد الصناعية المتقدمة بأمريكا وأوروبا؛ إذ إن الشباب في هذه البلاد مهيأ نفسيًّا للفكرة القائلة إنه مرفوض ومنبوذ، وأن الكبار لا ينصتون إليه ولا يتركون له دورًا في تحديد مجرى الأحداث. وتكاد المشكلة الرئيسية للمراهقين في هذه البلاد أن تكون عدم إصغاء الكبار إليهم، وعدم تجاوبهم معهم؛ لأن هؤلاء الكبار منصرفون بكل قواهم إلى أعمالهم الإنتاجية، التي لا تترك لهم وقتًا للتفاهم مع أبنائهم. ومن هنا فإنه حين يأتي مفكر مثل ماركيوز لكي يؤكد أن هؤلاء المرفوضين هم مخلِّصو البشرية الجدد فلن يكون من المستغرب أن يتعلق به الشباب ويروا فيه المفكر الناطق بلسانهم.

ومن ناحية أخرى فقد كان من الطبيعي أن يرحب الشباب بفيلسوف ينادي بانتهاء عهد الكبت والقهر، وبسيادة الإيروس على اللوجوس، أو الغريزة الحيوية على العقل، ويدعو إلى إحياء قدرات الإنسان الخيالية في مقابل قدراته المنطقية، ويجعل من الاستمتاع بالحب والجمال هدفًا أسمى لحياة الإنسان في المجتمع الجديد. كل هذه تشكِّل في واقع الأمر أحلامًا تراود الشباب في كل عصر، ويزداد إلحاحها عليهم في عصرنا الذي تسوده الروح التجارية، وفي المجتمعات التي تسير في كل أمورها وراء دافع الربح. ومن المؤكد أن دعوة ماركيوز إلى تقييد النزوع الاستهلاكي، وتأكيده لأضرار هذا النزوع على الشخصية الإنسانية، تتجاوب مع مثالية الشباب ونزوعه إلى الزهد في المطالب المادية، وهو ذلك الزهد الذي لا يتعارض على الإطلاق مع انطلاق الشباب وراء قيم الحب والجمال.

ولكننا نلاحظ، من جهة أخرى، أن ماركيوز حين يؤكد الحاجة إلى الأمان والحياة الراضية المسالمة، وإلى استمتاع الفرد «بمجال خصوصي» ينفرد به يبتعد دون أن يشعر عن جو الشباب، ويعبِّر بالتالي عن نفسه تعبيرًا أصدق؛ ذلك لأن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم العجائز الذين لا يريدون من الدنيا إلا «الستر». ومن المحال أن يستجيب الشباب، في توثبهم وانطلاقهم وسعيهم إلى المغامرة وارتياد آفاق جديدة مجهولة، لهذه الدعوة إلى المسالمة والأمان والهدوء والتهدئة. إن ماركيوز يريد أن يُحيل الناس — بعد أن يصبح الإنتاج آليًّا يسيرًا لا يقتضي منهم إلا أقل جهد — إلى «التقاعد»، ويجعلهم أشبه بمن ينشدون الهدوء والسلام و«الخصوصية» في مأوًى منعزل بعد بلوغهم مرحلة الشيخوخة. وهذا، في رأيي، هو الذي يعبِّر عن موقف ماركيوز الحقيقي؛ إذ إنه مما يتمشى تمامًا مع تفكير شيخ مسنٍّ أن يدافع عن قيم العجائز. أما الدفاع الحار عن «الإيروس» — وهو دفاع يتناقض مع هذا الموقف تناقضًا واضحًا — فيبدو لي أقرب إلى الرغبة في تملق الشباب منه أي شيء آخر. إنه في حقيقة الأمر تدليل، بل تضليل للشباب؛ لأن المجتمعات لا تُبنى على أساس من قيم الحب العاشق وحده. وهو يكاد يصل إلى مرتبة النفاق الصريح إذ يجعل من المبدأ الذي يدور حوله اهتمام الشباب أساسًا لحياة كاملة من نوع جديد. وليس الدليل على ذلك هو تناقضه مع قيم الهدوء والمسالمة والانعزال فحسب، بل ربما كان الدليل الأقوى عليه هو تطرف ماركيوز — وهو شيخ عجوز ناهز السبعين — في تأكيد أهمية الجنس والحب إلى حد جعله مهمة رئيسية يتفرغ لها الإنسان في المجتمع الجديد.

على أن عيوب ماركيوز هذه كانت فضائل في نظر الشباب. وكذلك كان الحال في تأكيده فكرة الرفض السلبي، دون أية إشارة إلى الطريقة الإيجابية لبناء المجتمع الجديد؛ ذلك لأن مرحلة الشباب بأسرها تتميز من الوجهتين النفسية والعقلية بالاتجاه إلى رفض القديم والتقليدي والشائع، دون قدرة على الاستبصار لما يحل محله. والمفروض أن هذا الاستبصار سيأتي في مرحلة النضج، وإن كان من المحتمل ألا يأتي على الإطلاق. ولقد توقف ماركيوز عند حدود التعبير السلبي؛ فهو «يكره» هذا المجتمع، ولا «يريده»، ولكنه لا يتغلغل في تياراته واتجاهاته بطريقة علمية حتى يستطيع أن يغيرها على أساس سليم. ومن المؤكد أن هذا الطابع العاطفي، الانطباعي السريع، هو الذي جعله مقربًا إلى كل من يمر بمرحلة العمر التي يصدر فيها المرء أحكامه على أسس عاطفية، ويكون فيها قبوله لأي شيء أو رفضه له مبنيًّا على حبه أو كراهيته له، لا على تحليل موضوعي هادئ للأمور.

وليس معنى ذلك أن ماركيوز لم يحاول أن يقدم صورة إيجابية للعالم الجديد، وإنما معناه أن أقوى العناصر في تفكيره هو العنصر السلبي، وأن إعجاب الشباب به يرجع أساسًا إلى دعوته إلى «الرفض الأعظم» الذي يتمشى تمامًا مع سخطهم على الأوضاع ورغبتهم في تغييرها. أما إلى أي شيء يكون هذا التغيير، فهذا ما لم يفصِّل ماركيوز الكلام فيه، وما لم يبحثه إلا بطريقة سريعة لا تقدم تحليلًا علميًّا لطريقة الانتقال إلى المجتمع الجديد، ولمراحل هذا الانتقال ووسائله، ولا تزودنا بأي برنامج مفصل لما سيحدث بعد ثورة السلب.

(ﺟ) من الطلاب إلى العالم الثالث

على الرغم من أهمية الدور الذي نسبه ماركيوز إلى الشباب، وإلى الطلاب بوجه خاص، في تحريك دفة الأحداث في عالمنا المعاصر، فإنه لم يكن يؤمن بأنهم هم وحدهم القوة القادرة على تحقيق التحول إلى المجتمع الجديد. فإذا كان الطلاب يعيشون على هامش المجتمع الصناعي «في داخله» فإن هناك فئة أخرى تعيش على هامش هذا المجتمع «خارجه»، هي الثوَّار في العالم الثالث. إنهم بدورهم مضطهدون، هامشيون، لم تلوثهم حياة المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولم يلتزموا بعد بقيمها التجارية الانتهازية؛ فالطلبة، بكل ما يقومون به من حركات متمردة، ليسوا هم القوى الثورية ذاتها، كما أن الشباب الثائر على التقاليد، من أمثال الهيبز وغيرهم ليسوا خلفاء البروليتاريا وورثتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما هم يكتشفون بسلوكهم عن رفض المجتمع القائم ورفض التمتع بمزايا الوفرة التي يقدمها هذا المجتمع، وكذلك رفض قيمه التجارية وإحلال قيم الحب والجمال محلها. ولذلك فهم بدورهم مظهر مبكر من مظاهر نفي هذا المجتمع، ولكنهم ليسوا هم أنفسهم الثوَّار. وإنما الثوار هم الجماعات المضطهدة والمطحونة من الأقليات في قلب المجتمع الرأسمالي، وهم قبل هؤلاء وأولئك، جبهات التحرير في بلاد العالم الثالث المتخلفة.٢

ومن السهل أن يدرك المرء سبب اهتمام ماركيوز بالعالم الثالث. ذلك لأن الواقع قد أثبت، مما لا يدع مجالًا للشك، أن الهزة الحقيقية التي زعزعت أركان المجتمع الرأسمالي كانت ثورات التحرير التي نشبت في بلاد متخلفة؛ فالتغيير الذي أحدثته ثورة الجزائر في فرنسا، والذي أحدثته ثورة فيتنام في فرنسا أولًا ثم في قلب الولايات المتحدة، قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، كان تغييرًا هائلًا لا تزال آثاره تتكشف يومًا بعد يوم، حتى في المجالات التي تبدو بعيدة الصلة عن المجال العسكري المباشر. ولم يكن في استطاعة ماركيوز أن يتجاهل هذه الحقيقة الواضحة لكي يتعلق بالحركات الطلابية التي هي، على أحسن الفروض، حركات ذات أثر محدود. وعلى أية حال فلم يكن هناك أدنى تعارض بين الاهتمام بالشباب والاهتمام بالثورات التحررية في العالم الثالث؛ إذ إن الشباب أنفسهم، في البلاد الصناعية المتقدمة، قد تبنوا قضية التحرر وثاروا على نُظم الحكم في بلادهم من أجلها؛ أي أن ماركيوز لم يخرج عن نطاق رغبات الشباب حين جعل أمل الإنسانية في التحرر معلقًا بثورات المجتمعات المتخلفة.

وهكذا ربط ماركيوز بين حركات الطلاب وثورات العالم الثالث فقال: «ينبغي أن تنجح معارضة الطلاب في أن تجعل من العالم الثالث ومن ممارسته الثورية قاعدتها الجماهيرية الخاصة.» وعبَّر عن أمله في البلاد المتخلفة بقوله: «إن البلاد المتخلفة هي النفي الإنساني الحي للنظام القائم.» ومن هنا كان أمله يتجه إلى قيام تعاون وتنسيق بين حركات الطلاب والمعارضة في البلاد الرأسمالية من جهة، وبين جماهير الثوار في العالم الثالث من جهة أخرى.

هذا الاهتمام المفاجئ بالعالم الثالث، في كتابات ماركيوز الأخيرة، يدل في نظرنا على أمرين: أولهما أن ماركيوز لم يكن في هذه الناحية من المفكرين الذين يسبقون الأحداث، بل كان يدع الأحداث تسبقه ثم يسير في تيارها. وهو يدل ثانيًا على أن احتمال التملُّق قائم على الدوام في المواقف التي يتخذها، أو ينتقل إليها؛ إذ إن ثوار العالم الثالث، مثل جيفارا وهوشي منه، أصبحوا المعبودين الحقيقيين للشباب في البلاد الرأسمالية، ومن هنا كان على كل من يريد التقرب إلى الشباب أن يمجِّدهم.

وربما وجد القارئ في هذا الحكم شيئًا من الإسراف في إساءة الظن، ولكن واقع الأمر هو أن ماركيوز قد تذكر «العالم الثالث» فجأة بعد طول نسيان، بل بعد تجاهل تام. فتحليلاته كلها كانت تنصب على المجتمع الصناعي المتقدم، الذي يدرج فيه النظام الرأسمالي الغربي والنظام السوفيتي على السواء. وانتقاداته كانت موجَّهة إلى الإنسان في هذا المجتمع، الذي تهدده أساليب الإدارة والقمع وتطبيق التكنولوجيا الحديثة في التسلط على عقول الناس وأذواقهم. هذا الإنسان هو الذي تتعرض حياته للتسطيح ونفسيته للتزييف نتيجة للتصنيع الشامل.

وعلى الرغم من أن ماركيوز يؤكد أن هذه الأخطار تهدد الإنسان بما هو إنسان، ولا تهدد طبقة بعينها، فإن المعنى الحقيقي لما يقول هو أن الإنسان في مجتمعات متقدمة معينة معرض لأخطار لا يعرفها الإنسان في المجتمعات المتخلفة. ولقد أراد ماركيوز — عمدًا — أن يتجاهل هذه المجتمعات المتخلفة تجاهلًا شبه تام، مثلما تجاهل أفلاطون الطبقة الثالثة (طبقة الصناع والمشتغلين بالمهن اليدوية والمادية) ولم يجعل لها أي دور في مشروعه، مع أن كلًّا من ماركيوز وأفلاطون كان يعلم أن الفئة التي تجاهلها هي التي تشكل أغلبية المجتمع.

لقد ظل ماركيوز يفكر في مشكلات المجتمعات الصناعية المتقدمة وحدها، وعندما أدرك أن جميع طرق الإصلاح مسدودة أمام هذه المجتمعات إذا اقتصرت على قواها الخاصة، تذكَّر العالم الثالث في اللحظة الأخيرة (عندما كان العالم الثالث، ممثَّلًا في فيتنام، قد أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه يستطيع أن يصمد في وجه العالم الصناعي المتقدم، بل أن يزعزع أركانه من داخله) ولكن هذا الاستدراك الذي أتى على عجل، بدافع الرغبة في ملاحقة تيار الأحداث، إنما يزيد من حدة التناقض في تفكير ماركيوز السياسي؛ ذلك لأن الثورة التي يدعو إليها، والتي يريدها أن تكون ثورة «شاملة»، لا تُفهم ولا تُقدر إلا في المجتمع الرأسمالي على وجه التخصيص ولا مكان فيها لإنسان العالم الثالث.

إن العلل التي يشكو منها ماركيوز، والأهداف التي يريد أن تقوم الثورة من أجلها، لا تعني شيئًا بالنسبة إلى إنسان العالم الثالث، على الرغم من ادِّعاء ماركيوز أن الثورة ينبغي أن تجتاح العالم كله، وأنها ثورة «إنسانية» لا ثورة محلية أو طبقية. فكل حديث ماركيوز عن الروح الاستهلاكية المفرطة في المجتمع الصناعي المتقدم، وعن الحاجات الزائفة التي يخلقها هذا المجتمع في نفوس أفراده لكي يستطيع تصريف منتجاته، لا بد أن يثير العجب والتساؤل في ذهن إنسان العالم الثالث الذي لا يعرف مجتمعه مشكلة تصريف الإنتاج الفائض، ولا مشكلة تزييف رغبات الناس باستخدام أحدث أساليب الإعلان وفنون الحض والتأثير والإغراء. بل إن مشكلة المجتمع المتخلف هي أنه لا يفي بالحد الأدنى من الحاجات الضرورية، ولا مجال لديه للمفاضلة بين حاجات حقيقية وحاجات زائفة.

أما الهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه الإنسانية، وهو السعي إلى الأمن وطمأنينة النفس، ونشدان قيم الحب والجمال؛ فهو هدف لا يشكل أي إغراء لمجتمعات الفقر والجوع. إن البحث عن الحب والجمال أمر مفهوم في مجتمع غني ابتعد الإنسان فيه عن جذوره الطبيعية في زحمة الإنتاج العقلاني المنظم الصارم. أما المجتمع الذي ينشد الحد الأدنى من وسائل العيش، والذي تُعد الوفرة الإنتاجية بالنسبة إليه حلمًا بعيدًا، فمن العبث أن نغريه بالدعوة إلى «تجاوز» حياة الوفرة، والكف عن الاهتمام بزيادة الإنتاج.

والإنسان الذي لم يزل — بحكم الجهل المستحكم — يفكر تفكيرًا أقرب إلى الأسطورة اللاعقلية، والذي لم يستطع أن يتباعد عن حياة الطبيعة ليخلق لنفسه مجتمعًا صناعيًّا كاملًا، لن يفهمنا لو دعوناه إلى الحد من سيطرة العقل والعودة إلى منابع الحياة الطبيعية. والإنسان الذي لا يزال في أول طريق السيطرة على مقدراته، والذي يحتاج إلى خوض معارك ضارية (بالمعنى المادي والمعنوي) لكي يتخلص من الاستغلال ومن آثار الاستعمار والقوى الغاضبة، لن يسير وراءنا لو قلنا إن هدفنا النهائي هو الوصول إلى عالم يسوده الهدوء والأمان والحياة والمسالمة.

إن ما يبحث عنه ماركيوز هو مجتمع ما بعد الوفرة وما بعد التقدم التكنولوجي، وهذا هدف لا يغري سوى مجتمعات محدودة، هي المجتمعات التي تنشد استعادة إنسانيتها التي فقدتها في غمرة الانشغال بالإنتاج والاهتمام بالتوسع الاقتصادي. ومن هنا كانت صورة العالم الجديد التي يقدمها إلينا ماركيوز لا تعني شيئًا، ولا تشكل إغراء، بالنسبة إلى مجتمع يريد أن ينقذ نفسه من الفقر والجوع، وينتشل نفسه من الجهل والمرض، أما الحب والجمال ففي استطاعتهما الانتظار!

وربما بدا للقارئ أن كل هذا النقد الذي نوجهه إلى ماركيوز لا محل له؛ لأنه اعترف صراحة بأنه إنما يتحدث عن المجتمع الصناعي المتقدم، ولم يزعم أنه يصف أحوال البلاد المتخلفة. ولكن هذا الرد، مع صحته، لا يعفي ماركيوز من النقد؛ ذلك لأنه عندما دعا إلى الثورة كان يردد على الدوام أن تلك ثورة إنسانية شاملة تسري على جميع الشعوب، بينما هي، في مفهومها ذاته لا معنى لها إلا بالنسبة إلى مجتمعات بشرية محدودة. ومع ذلك فحتى لو تصورنا أن هذه الثورة قامت في المجتمعات الصناعية المتقدمة وحدها، فإن الصورة ستصبح عندئذٍ أشد غرابة؛ إذ إن هذه المجتمعات ستكون عندئذٍ قد انتقلت إلى تحقيق أقصى غاياتها، وعاشت في جنة الحب والجمال والسلام، على حين أن الجزء الأكبر من البشرية لا يزال يكافح من أجل لقمة العيش. ومما يزيد الموقف سوءًا، أن نفس القيم التي يدعو ماركيوز إلى سيادتها في مجتمعه السعيد، تساعد على زيادة حدة التناقض، بل وتحبط نفسها بنفسها؛ ذلك لأن «الحياة الراضية» لن تعود راضية على الإطلاق إذا شعر المرء بأن أقرانه يتضورون جوعًا ويعانون شتى ألوان الحرمان وحتى لو اكتفى من يعيش في مثل هذا المجتمع بتنمية مواهبه وقدراته الخاصة، دون اكتراث بغيره (وهو أمر غير مستبعد ما دام المثل الأعلى للمرء هو أن يعيش في هدوء ويستمتع بالحب والجمال)، فإن دلالة القيم التي يعيش وفقًا لها ستتحول عندئذٍ إلى عكس المقصود منها، وستصبح قيمًا للأنانية واللامبالاة.

ومجمل القول إن ماركيوز تجاهل العالم الثالث ولم يترك له مكانًا في مشروعه الذي لا يخاطب به إلا مجتمعًا يعاني من مشكلات التقدم الزائد، لا من مشكلات التخلف؛ ولذلك فإن الثورة التي يدعو إليها لا يمكن أن توصف بأنها إنسانية، بل هي ثورة محدودة ببيئة معينة لا يكون لها خارجها أي معنى. فإذا نادى بعد ذلك بأن حركات التحرير في العالم المتخلف هي التي ستنقذ العالم المترف ذاته من عيوبه، كان نداؤه هذا منطويًا على قدر غير قليل من المغالطة، بل من النفاق. ذلك لأنه يطالب البلاد المتخلفة بأن تواصل استنزاف دمها ببطء — كما تفعل فيتنام — لا من أجل تحررها الخاص فحسب، بل من أجل إصلاح الفساد داخل المجتمعات المتقدمة ذاتها. إنه يطالبها بأن تكون المسيح الذي يفتدي خطايا الآخرين وهو يقطر دمًا على صليبه. وبدلًا من أن يدعو إلى الكفاح داخل هذه المجتمعات المتقدمة، من أجل تخليصها من عيوبها، نراه يؤكد أن حركات السخط في داخلها ليست فعالة إلا بقدر ما تتحالف مع حركات التحرير في البلاد المتخلفة، وكأنه بذلك يعلن أن إصلاح أحوال المتقدم من داخله أمر ميئوس منه. والحق أن المرء لو وصف موقفه هذا من البلاد المتخلفة بأنه رومانتيكية فكرية تطالب هذه البلاد بأن تكون هي الشهيدة التي تفتدي المترفين الفاسدين، لكان في هذا الوصف قدر غير قليل من حسن الظن، وربما كان الوصف الأدق هو أن هذا الموقف ينطوي على تواطؤ موضوعي (بغض النظر عن النوايا المعلنة) مع النظم القائمة في البلاد المتقدمة صناعيًّا، ما دام المعنى الضمني فيه هو أنه لا توجد داخل هذه البلاد قوى ثورية تستطيع تغيير الأوضاع فيها.

(د) هل كان ماركيوز عدوًّا للرأسمالية؟

لا جدال في أن هذا النقد الأخير يثير، من الجذور، مسألة موقف ماركيوز من الرأسمالية. ذلك أن ماركيوز قد اكتسب شهرته، في السنوات الأخيرة من حياته، بوصفه ناقدًا جادًّا للرأسمالية، التي عاش في أعظم بلادها وأقواها، وهي الولايات المتحدة، فترة طويلة من عمره استطاع خلالها أن يراقب الأمور فيها عن كثب، ويقدم تحليلًا دقيقًا وعميقًا لكثير من الظواهر السائدة فيها، وهو تحليل يزداد المرء إيمانًا بدقته إذا مر بتجربة معايشة هذا المجتمع.

ولعل أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو السؤال عن المنهج الذي اتبعه ماركيوز في تحليل المجتمع الرأسمالي. ولا شك أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر اليسير؛ لأن ماركيوز لم يعلن عن رأيه في منهج البحث الاجتماعي، بل لم يقدم آراءه أصلًا بوصفه عالم اجتماع، وإنما قدمها بوصفه فيلسوفًا متأملًا للمجتمع، وكانت نظرته العامة إلى المجتمع، كما عرضناها من قبل، مزيجًا من الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نهتدي إلى إجابة معقولة عن هذا السؤال بالرجوع إلى موقفه من علم الاجتماع في نشأته الأولى؛ ذلك لأن النشأة الأولى ارتبطت بالفلسفة الوضعية التي كان أوجست كونت رائدًا لها. والوضعية في رأي ماركيوز مذهب فلسفي يقف من النظم القائمة موقف القبول والدفاع والتبرير. ومن هنا كان البحث الاجتماعي التقليدي متجهًا في معظم الأحيان إلى تأييد الأوضاع القائمة أو السكوت عليها على الأقل، وكان من المستحيل أن يتخذ العلماء الاجتماعيون التقليديون موقف الرفض من المجتمع السائد؛ لذلك كان ماركيوز حريصًا كل الحرص على تجنب كل منهج وضعي رغبة منه في إفساح مجال لفكرته في السلب والرفض وفي ترك المجال مفتوحًا للتجاوز والتمرد والخيال الثوري الذي يسهم في تغيير الواقع.

ولقد رفض ماركيوز أساليب البحث المتبعة في المجتمع الأمريكي، على التخصيص؛ لأنها تُبنى على نظرة «ذرية» أو تفتيتية إلى المجتمع، وتغوص في تحليل التفاصيل، وفي الجداول والإحصائيات والأرقام دون أن تبذل أي جهد لإدراك الصورة العامة، ولمناقشة الأسس الأولى للمجتمع. هذه العملية الزائفة، التي يتعلل بها الباحث كيما يتجنب إصدار أي حكم عام، تقف حائلًا بين العقل وبين فهم المجتمع. ومما يزيد هذا الفهم صعوبة، تلك اللغة الاصطلاحية الشديدة التعقيد، التي يصطنعها باحثو المجتمع ويتوارثونها، بعد إضافة المزيد من التعقيدات عليها، جيلًا بعد جيل، وهي لغة تُشكِّل حاجزًا يربك العقول ويخفي الصورة الحقيقية القبيحة للمجتمع. إن الروح السائدة في مثل هذا البحث الاجتماعي هي روح الرضوخ والامتثال والمسايرة Conformisme؛ إذ إن البحث لا يزيد عن أن يكون معرفة بالوقائع على ما هي عليه، وبدور كل فرد ووظائفه، لا بأهداف المجتمع ككل. والواقع أن هذا النوع من المعرفة يخدم أهداف الترشيد الوظيفي لكل العمليات الفردية في الجهاز المعقد الذي يضعه المجتمع الرأسمالي، ولكنه لا يفيد في معرفة المسار الكلى للجهاز الكامل، ويتستر على اللامعقولية الكامنة في حياة المجتمع؛ إذ يخفيها في خضم التفصيلات الجزئية. ومن هنا كان ماركيوز على حق حين سمى الوضعية والإجرائية Operationalisme والوظيفية Fonctionalisme بأنها «الشكل النظري العقلاني لنظام لا عقلي».

لهذه الأسباب كلها، ولأن ماركيوز كان على الدوام فيلسوفًا؛ فقد اصطنع لنفسه منهجًا هو أقرب إلى الانطباعات الخاصة منه إلى البحث الموضوعي المنظم. وصحيح أن هذه الانطباعات الخاصة كانت عميقة في كثير من الأحيان، ولكن الخطر الذي يهدد هذا المنهج الانطباعي هو أنه قد يكون مرتكزًا على أحكام نمطية مستمدة من نفس المجتمع «ذي البعد الواحد» الذي يريد أن ينقده. وسوف نرى بعد قليل أمثلة لهذه الأحكام النمطية التي أخذ بها ماركيوز دون مناقشة، وكانت لها في فكره نتائج خطيرة. ولعل أخطر هذه النتائج هي توقفه عند حد الرفض بطريقة انفعالية، وعجزه عن تحليل العلاقات الموضوعية في المجتمع الذي ينقده بطريقة علمية مدروسة.

فهل استطاع ماركيوز بمنهجه هذا، أن يقدم نقدًا حقيقيًّا للمجتمع الرأسمالي؟ أو لنتساءل بتعبير أدق: هل كانت الحصيلة النهائية لنقد ماركيوز في صالح المجتمع الرأسمالي أم في غير صالحه؟

من المؤكد أن ماركيوز قد وجَّه إلى النظام الرأسمالي انتقادات تمس هذا النظام في صميمه، ومن المؤكد أيضًا أن أفكاره كانت عاملًا من عوامل تنبه الأذهان — ولا سيما بين الأجيال الشابة — إلى عيوب نظام يجيد إخفاء نقائصه ويعرف كيف يكسوها رداءً برَّاقًا شديد الإغراء. ولا بد للمرء أن يعترف بأن بعضًا من أفكار ماركيوز الأساسية مثل «أُحادية البُعد» في المجتمع الرأسمالي، وفكرة اندماج القوى المضادة للمصالح السائدة داخل النظام نفسه بطريقة تؤدي إلى كبت التغير الاجتماعي وتحوِّل الطبقات العاملة إلى قوى مؤيدة للنظام، واستخدام مستوى المعيشة المرتفع وسيلة لتقييد حرية الإنسان والقضاء على ثوريته، والعيوب التي تتولد عن «الوعي الاستهلاكي السعيد»، وضحالة الثقافة التي تسود هذا المجتمع وسطحيتها ونزوعها إلى المسايرة — هذه الأفكار أصبحت تكون جزءًا لا يتجزأ من نظرة المثقفين المستنيرين إلى المجتمع الرأسمالي. وعلى الرغم من أن ماركيوز لم يكن أول من قال بها، فلا جدال في أنه أسهم بدور كبير في نشرها.

ومع ذلك فإن التحليل الدقيق لآراء ماركيوز يكشف عن نقاط التقاء خفية كثيرة بينه وبين النظام الرأسمالي. وليس يعنينا هنا أن تكون هذه النقاط متعمدة أو غير متعمدة. فمن الممكن، مثلًا، أن يستنتج المرء أمورًا كثيرة من حقيقة اشتغاله لمدة طويلة في أعمال لها علاقة بأبحاث المخابرات التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، وفي مراكز البحوث الخاصة بأوروبا الشرقية في جامعتين أمريكيتين كبيرتين، وهي عادة مراكز بحوث يستفيد «النظام القائم» من حصيلة أبحاثها في رسم سياسته. ولكن من الممكن، في مقابل ذلك، أن يستبعد المرء وجود أي اتجاه متعمد لديه إلى خدمة الرأسمالية؛ لأن الضربات التي وجَّهها إلى هذا النظام، والتي ارتبطت بمظاهرات الطلاب اليساريين في بلاد مختلفة، أقوى من أن يمكن إدخالها تحت نمط الخداع المتعمد أو التمويه والتضليل من جانب عميل يريد في حقيقة الأمر خدمة النظام القائم.

لذلك لا نود أن نقحم أنفسنا في بحث عن النوايا والمقاصد الداخلية، وإنما يكفينا أن نبحث في الحقائق الموضوعية ذاتها. فما هي إذن الوقائع الفعلية التي يمكن أن يستند إليها المرء في قوله إن ماركيوز كان، في بعض جوانب تفكيره، يخدم النظام الرأسمالي من الوجهة الموضوعية؟

  • (١)

    كان نقد ماركيوز ينصبُّ أساسًا على «المجتمع الصناعي المتقدم» — يستوي في ذلك الرأسمالي منه والاشتراكي؛ فهو لا يُقيم وزنًا كبيرًا لموقف المجتمع من وسائل الإنتاج ومشكلة الملكية، بوصفها عوامل رئيسية في استعباد الإنسان الحديث أو تحريره، وإنما المشكلة في نظره هي أن الجهاز المعقد الشامل، الذي يسود المجتمعات الحديثة المتقدمة، أيًّا كان النظام الاجتماعي السائد فيها، هو الذي يؤدي إلى تسطيح الإنسان الحديث وجعله ذا بُعد واحد. هذا النوع من التعميم الشديد يؤدي إلى تمييع المواقف، وعدم تحديد المسئوليات، بل إن ربط الاستبداد «بالجهاز الشامل» الذي يضم الجميع، معناه التستر على الدور الخاص الذي تلعبه أقلية مستبدة تتحكم في هذا الجهاز وتكسبه اتجاهه الاستبدادي المميز حرصًا منها على مصالحها الخاصة.

    فموقف ماركيوز هذا يؤدي إلى نتيجتين: الأولى أنه لا يميز، داخل النظام الرأسمالي، بين الأقلية ذات المصالح الجشعة والأغلبية التي تستبد بها تلك الأقلية دون أن تكون واعية بأنها منقادة لخدمة مصالح غيرها. والثانية أنه لا يفرق بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي من حيث مسئوليتهما عن الاستبداد بالإنسان الحديث. فهو يأخذ، بطريقة ضمنية، بفكرة «تقارب النظامين» التي نادى بها مفكرون مثل «ريمون آرون» والتي تؤكد أن التكنولوجيا الحديثة تتجه تدريجيًّا إلى تقريب الشقة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي وإلغاء ما بينهما من فوارق. وهذا أمر واضح كل الوضوح في كل ما يقوله عن تحكم نظم الإدارة الحديثة، وأساليب الترشيد الدقيقة، في الإنسان الحديث، سواء أكان ذلك في المجتمع الرأسمالي أم الاشتراكي. ومع ذلك، فإذا كان حكم ماركيوز هذا صحيحًا بالنسبة إلى تطبيقات معينة للنظم الاشتراكية، فقد كان من واجبه أن يفرق بين «المبدأ» و«التطبيق»، وأن يدرك أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي، من حيث المبدأ، لا يمكن أن يكونا مسئولين بدرجة متساوية عن اغتراب الإنسان الحديث وفقدانه لأبعاده المتعددة. ولكنه، باتخاذه موقف الناقد للطرفين معًا، لجأ إلى أسلوب يتبعه الكثيرون في عالمنا المعاصر من أجل محاربة «مبدأ» الاشتراكية في إطار مزعوم من النزاهة والموضوعية والحياد، وهو موقف يرحب به الرأسماليون كثيرًا دون شك.

  • (٢)

    ولقد كان ماركيوز في حديثه عن المجتمع الرأسمالي على التخصيص، يفترض دائمًا وجود الرخاء فيه، حتى بالنسبة إلى الطبقات العاملة. إنه حين يدعو إلى محاربة النزوع المفرط إلى الاستهلاك، يفترض أن الوفرة — التي تخدر حواس الإنسان — جزء لا يتجزأ من تركيب هذا المجتمع، وأن أدنى الطبقات في السلم الاجتماعي متمتعة بنصيب من هذه الوفرة، ومن ثم فإنها تفقد ثوريتها وتصبح جزءًا من دعائم بقاء النظام القائم. هذا يعني، بصورة ضمنية ولكنها واضحة كل الوضوح أن الفقر والشقاء منعدمان في ذلك المجتمع، حتى بين الطبقات الدنيا. وتلك في الواقع فكرة تُسدي إلى المجتمع الرأسمالي خدمة لا تقدر، وإن تكن خدمة مستترة وراء ستار من النقد الشديد اللهجة. وأحسب أن إنسان العالم الثالث، الذي تقف بلاده حائرة بين اختيار هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، حين يستمع إلى رأي ماركيوز القائل إن النظام الرأسمالي يقضي على ثورية الطبقات التي هي بطبيعتها قادرة على الثورة، ويسلبها القدرة على معارضة النظام المستبد القائم؛ لأنه يمنحها الوفرة ويغرقها في نعم الحياة الاستهلاكية السعيدة، سيقول لنفسه، دون تردد: وما حاجتي إلى الثورية إن كنت سأعيش منعَّمًا؟ وما خوفي من أن أكون «ذا بعد واحد» ما دمت في حياتي الراهنة بلا أبعاد على الإطلاق؟ وفيمَ يعنيني أن يكون النظام مستبدًا إن كان يوفر لي ضروراتي وكمالياتي؟

    إن ماركيوز يُسدي إلى النظام الرأسمالي، في هذا الصدد، خدمة كبرى؛ إذ يتجاهل ما يعترف به الرأسماليون أنفسهم من حقيقة وجود الفقر في بلادهم (بنسب ليست كبيرة جدًّا، ولكن لا يمكن تجاهلها). وهو في الوقت ذاته يتجاهل أن الفقر شيء نسبي، ويتناسى أن الإنسان يمكن أن يكون فقيرًا، حتى لو كان يتقاضى مرتبًا مرتفعًا نسبيًّا؛ فمثلًا، حين تكون أبسط الخدمات الصحية باهظة التكاليف، وحين يكون التعليم العالي خياليًّا في أسعاره، يمكن أن يكون العامل فقيرًا على الرغم من أنه يتقاضى مرتبًا يبدو — بمقاييس البلاد الأخرى — مرتفعًا، ويتيح له أن يشتري قدرًا غير قليل من السلع الاستهلاكية. وأخطر ما في الأمر أن ماركيوز يفترض انعدام الفقر بين الطبقات العاملة بطريقة ضمنية دون أن يجد في ذلك ما يستحق حتى مجرد المناقشة، وكأنه بديهية لا سبيل إلى الشك فيها. فهو يعرض الفكرة في سياق نقده للمجتمع الرأسمالي؛ إذ إن هذا المجتمع أخطأ لأنه ربط العمال بعجلة الوفرة الاستهلاكية وانتزع منهم بذلك مخالبهم الثورية. وليس هناك ما هو أخطر — من الوجهة النفسية — من هذا الأسلوب الذي يلقي بالفكرة في ذهن القارئ عرضًا، بوصفها مقدمة لا تناقش. وبوصفها عنصرًا من عناصر نقد نظام تؤدي هذه الفكرة ذاتها، في واقع الأمر، إلى الدفاع عنه، وذلك على الأقل في نظر الفقراء والمحرومين.

  • (٣)

    كان جهد ماركيوز الأكبر، في مجال النظرية الاجتماعية، متجهًا إلى تفنيد الفكرة الرئيسية في النظرية الماركسية، وهي فكرة التناقض بين الطبقتين البورجوازية والعمالية. فالمجتمع الصناعي المتقدم أصبح في نظره، ذا بعد واحد، وأصبحت الطبقات القادرة على المعارضة جزءًا من النظام القائم. ففي مثل هذا المجتمع إذن يسود نوع من «التجانس»، مضاد تمامًا «للتناقض» الذي قال به ماركس، وهذا هو الواقع الجديد الذي طرأ على المجتمع الرأسمالي، والذي يحمي نفسه به من كل ثورة. إن كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» هو، في واقع الأمر، تفنيد مفصَّل لنظرية التناقض الطبقي بالنسبة إلى ظروف المجتمع الصناعي الحديث. وعلى حين أن هذا التناقض، عند ماركس، لا يزول إلا إذا أقيمت علاقات اجتماعية جديدة على أسس إنسانية، فإن ماركيوز يقول بنوع آخر من اختفاء المتناقضات، يتم في إطار النظام الرأسمالي، ويحتفظ فيه بكل عناصر الكبت والقمع.

    ولا يملك المرء، إذا نظر إلى هذه الفكرة في ضوء قدرة النظام الرأسمالي على المحافظة على وجوده (وهي قدرة أثبت تاريخ القرن العشرين كله أنها أعظم بكثير مما كان يتوقع خصومه)، إلا أن يعترف بأن فيها قدرًا غير قليل من الصواب. ولكن ما نهدف إليه الآن ليس بيان وجه الصحة أو الخطأ، بقدر ما هو التساؤل عما إذا كانت آراء ماركيوز قد أسدت خدمات إلى النظام الرأسمالي. وفي هذه الحالة لن يتردد المرء في الإجابة عن هذا التساؤل بالإيجاب؛ ذلك لأنه عمل على تفنيد أشد النظريات تهديدًا لهذا النظام، وأثبت في الوقت ذاته — ضمنيًّا — أن الثورة على هذا المجتمع مستحيلة، وأن الموقف فيه ميئوس منه، وأنه نجح أخيرًا في اصطناع الأسلوب أو «الميكانيزم» الذي يحمي به نفسه من كل خطر يهدده. أما كلام ماركيوز عن ثورية المضطهدين والهامشيين وجماعات الأقليات والملوَّنين … إلخ، فهو في واقع الأمر يزيد من تأكيد يأسه من التغيير؛ إذ إنه يعلم جيدًا — وكذلك يعلم قراؤه جميعًا — أن هذه الجماعات لا تستطيع أن تقوم إلا بحركات انتحارية مؤقتة، وأنها لا تملك شيئًا حيال الجهاز الجبار للنظام الحاكم، وليس هناك ما هو أحب إلى النظام الرأسمالي من تأكيد قدرته على مقاومة أية تغييرات يمكن أن تؤدي إلى هدمه، وعلى امتصاص كل القوى القادرة على تغييره. إن هذا — باختصار — حكم عليه بأنه سيظل باقيًا إلى الأبد.

  • (٤)

    وفي مقابل ذلك فإن نقد ماركيوز للنظام السوفيتي كان بدوره — من الوجهة الموضوعية — هجومًا على التجربة الكبرى التي تحدت العالم الرأسمالي وما زالت تتحداه إلى اليوم. وينبغي أن نلاحظ في هذا الصدد أن نقد مفكرين من أمثال ماركيوز للنظام السوفيتي يمكن أن يكون له أعظم التأثير في العالم الغربي على وجه التخصيص؛ ذلك لأن النقد الذي يأتي من أنصار الرأسمالية الصرحاء لا يُحدث صدًى كبيرًا، فهم على أية حال خصوم للنظام السوفيتي وللاشتراكية بوجه عام، ومن ثم لا يُتوقَّع منهم سوى هذ الموقف النقدي، الذي يمكن الشك دائمًا في أنه صادر بدافع مصلحة خاصة. أما نقد ماركيوز فالمفروض أنه يصدر عن «خصم» للرأسمالية، وعن مفكر «ثوري» و«تقدمي» يصف نفسه بأنه ماركسي. وكلما ازداد ماركيوز إمعانًا في اتخاذ موقف التطرف والثورية، كانت الخدمة التي يؤديها للنظام القائم أعظم حين ينقد النظام المعادي له؛ ذلك لأن من ينقد في هذه الحالة ليس عاطفًا على الرأسمالية، بل هو عدوها اللدود، وهو المفكر الذي استقطب الشباب الأوروبي والأمريكي واكتسب وسطه شعبية هائلة بدعوته إلى الثورة. ومن هنا كان من السهل أن يحدث ارتباط بين عبادة الشباب لثورية ماركيوز وبين نقده للنظام السوفيتي ووضعه إياه على قدم المساواة مع النظام الأمريكي في كبته للإنسان المعاصر. بل إنه ليبدو أن إصرار ماركيوز على أن يعتبر نفسه ماركسيًّا، على حين كانت آراؤه في نظر الكثيرين مزيجًا غير متآلف من أفكار هيجل وفرويد ونيتشه وهيدجر، بالإضافة إلى ماركس الشاب؛ هذا الإصرار يخدم غرضًا هامًّا، هو أن يجعل نقده للماركسية السوفيتية أشد فعالية وأقوى تأثيرًا.

    ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي تتيح لنا أن نرد على تساؤل لا بد أنه جال بذهن القارئ مرات كثيرة خلال قراءته لهذا البحث، وأعني به: «كيف استطاع النظام الأمريكي أن يحتمل وجود مفكر نقده بهذه القسوة، ودعا إلى الثورة عليه بهذه الصراحة؟ أهو من قبيل «التسامح الخالص» الذي أشار إليه مركيوز في مقاله المعروف، والذي يسوي بين من ينقد المجتمع ومن يسايره ويرضخ له، وبذلك يجعل من الأول جزءًا من النظام القائم؟» قد يكون الأمر كذلك بالفعل، بل قد يكون وجود المعارضين شيئًا مرغوبًا فيه؛ لأن نقدهم الحاد يؤدي إلى رد فعل يخدم النظام آليًّا؛ إذ يشعر الناس بأن النظام يكفل الحرية للجميع، وبأن لديه الشجاعة على النقد الذاتي، وهو شعور يؤدي في نهاية الأمر إلى دعم هذا النظام. وقد يكون في هذا النقد الحاد ما يمتص غضب الغاضبين وسخط الساخطين، ويحوِّل اتجاه الثورة إلى مسارات «ثقافية» مأمونة، ويشكل صمام أمن يقلل من الضغط ويمنع بذلك الانفجار. ولكن ربما كان الأهم من هذا وذاك أن هجوم أمثال هؤلاء النقاد على النظام المضاد لا بد أن يكون هو الهجوم الأشد إقناعًا، والأقوى تأثيرًا في النفوس.

    وربما كانت هذه العوامل جميعًا هي التي تفسر انتشار كتابات مفكرين معارضين للنظامين معًا، مثل ماركيوز ورايت ميلز وإريك فروم وكثيرين غيرهم، وهو الانتشار الذي وصل إلى حد أن أصبحت هذه الكتابات تحتل مكان الصدارة بين جميع الكتب الرائجة في الولايات المتحدة مثلًا. ومع ذلك فإن هؤلاء الكتاب لا يمكن أن يوصفوا بأنهم يشتركون في تدبير واعٍ لدعم النظام القائم بطريقة ذكية. ولعل الدليل القاطع على ذلك هو أن كتاباتهم تُسهم، برغم كل شيء، في زيادة الوعي بعيوب هذا النظام، وتساعد بالتالي على هدمه، وإن لم تكن تساعد على تصور بديل له. ولو كان لنا أن نحكم — في جملة واحدة — على التأثير الذي تركه ماركيوز على وجه التخصيص، لقلنا إنه ساعد على دعم النظام الرأسمالي وعلى هدمه في آن واحد، وليس هذا التأثير المتناقض بمستغرب في عالمنا المعاصر المعقد.

    «لقد حاول ماركيوز أن يشعل نار ثورة من نوع جديد، ولكنه أخفق لأنه ظل على الدوام فيلسوفًا حالمًا، لا ثوريًّا واقعيًّا، ولم تكن المتناقضات التي ينطوي عليها مجتمعه الجديد أقل حدة من متناقضات المجتمع الراهن التي كرَّس حياته لتبصير العقول بها في الشرق والغرب.»

١  François Perroux, interroge Herbert Marcuse … qui répond, Aubier-Montaigne, paris 1969, P. 107.
٢  Marcuse, La Fin L’Utopie, P. 53.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤