الفصل الرابع عشر

الشركات المتعددة الجنسيات تطلب ود سويسرا

إنَّ معظم فصول هذا الكتاب قد تناولت إنجازات التُّجَّار والعلماء والفنانين السويسريين، وكذلك الشركات التي تركَتْ أعمالُها ومنتجاتها أثرًا ملموسًا في جميع أنحاء العالم، ولعلَّ بعض الأسماء التي وردت فيها مثل: بوفيري وإيشَر ونستله وشميدهايني وويلسدورف وتسومثور قد أصبحت مألوفة لدى القارئ. البعض من هؤلاء وُلِدُوا ونشئوا في سويسرا، غير أن عددًا مفاجئًا منهم كانوا من الأجانب، إلا أنهم — في كل مرة — نجحوا في بناء إمبراطوريات صناعية يُحسَدون عليها كانت رائدةً أو مهيمنةً في مجال اختصاصاتها، وفي كل مرة نشأت أعمالهم في بيئة اقتصادية واجتماعية سويسرية مؤاتية وفريدة من نوعها.

***

ولكن سويسرا استقبلت أيضًا شركات كاملة النمو الاقتصادي على أراضيها، فشركة داو كيميكال التي يقع مقرُّها الأوروبي الرئيسي في سويسيرا، تُقدَّر عائداتها السنوية العالمية ﺑ ٥٤ مليار دولار أمريكي، وهذا مبلغ يفوق الناتج المحلِّي الإجمالي لأي بلد من بلدان العالم باستثناء ٣٠ منها، ويُعادل تقريبًا الميزانية الوطنية السنوية لسويسرا، كما أن شركة جوجل — التي قرَّرت مؤخرًا إقامة أكبر مركز هندسي تابع لها خارج الولايات المتحدة في مدينة زيورخ — تُقدَّر قيمتها حاليًّا ﺑ ١٨٤ مليار دولار أمريكي (في بداية عام ٢٠١٢) أيْ أكثر بقليلٍ من شركة نستله التي تُعَدُّ أكبرَ شركةٍ سويسرية. ولا تُتَّخَذ القرارات الحاسمة بخصوص إدارة هذه الشركات — ومن ذلك العمالة ورأس المال والتكنولوجيا — من طرف رجال أعمال تقودُهم احتياجات أو نزوات خاصة بهم، بل من طرف مجالس إدارة تقع مقرَّاتها الرئيسية في مينيابولس أو ساو باولو أو أوساكا، وتتحكَّم بهذه القرارات اعتبارات مدروسة بعنايةٍ لعوامل جوهرية مثل: الاستقرار السياسي، والحاجة إلى الوجود في مواقع قريبة من المستهلِك، وتوافُر قوانين ضرائبية ذات كفاءة وملاءمة، وما إذا كان الموقع يُساعد على استقطاب ذوي المواهب والمهارات العالية والمحافظة عليها. ويمكن أن تكون نتائج هذه الاعتبارات مذهِلة، فقد أظهرت دراسة حديثة أن «الأيفون» — الذي يُمكن القول إنه أحد أكثر المنتجات نجاحًا في عصرنا الحالي — يُؤثِّر سلبًا على التوازن التجاري في الولايات المتحدة؛ بسبب الاستعانة بالمواهب والمهارات الأجنبية على نطاقٍ واسع في إنتاجه، أمَّا في شركة جوجل، فالمهندسون يعملون ضمن فِرَق عمل تتكوَّن من ثلاثة أو أربعة أشخاص يُعيَّنون لأداء مهامَّ تعتمِد على الكفاءات وليس على الموقع الجغرافي؛ وذلك بسبب طبيعة أعمال الشركة العالمية النطاق التي لا تعرف أيَّ حدود.

استقطاب العقول النيِّرة

لطالما تنافسَت الحكومات منذ عقود فيما بينها على استقطاب الشركات الأجنبية للعمل على أراضيها، لكن — حتى وقت قريب — كانت المنافَسة أساسًا تدور حول استقطاب الشركات الكبرى مثل مصانع إنتاج مكوِّنات السيارات ومرافق تجميعها التي تُوفِّر عددًا كبيرًا من فرص العمل. وفي العادة، تُوفِّر الحكوماتُ حوافزَ ضريبيةً للشركات، وربما تقدِّم لها أرضًا دون مقابل، أو محفِّزات تشجيعية أخرى، غير أن سويسرا — بشكل عام — لم تكن قادرةً على تقديم مثل هذه الحوافز، فهي ليست لديها المساحة اللازمة، ولا الحاجة إلى الدخول في هذا النوع من المنافسة، لكنها نجحت بامتيازٍ في استقطاب المقرَّات الإقليمية للشركات والمرافق التابعة لها أو الملحقة بها، إلى جانب ما يمكن تسميته بمكاتب الأنشطة الفكرية والإبداعية ذات الصلة.

figure

وفي الواقع، بقدر ما يُمكن أن يكون الوجود المكثَّف للشركات السويسرية في جميع أنحاء العالم غريبًا، بقدر ما هو غريب أيضًا وجود الشركات الأجنبية على التراب السويسري. وبالإضافة إلى الشركات التي ذُكِرت أعلاه، هناك شركاتٌ أخرى معروفة جِدًّا ولها أعمال هامة في سويسرا من أمثال آي بي إم وتيتراباك وميرك وكانون وميدترونيك وسيسكو، وتُقدَّر عائدات سويسرا من الشركات المتعدِّدة الجنسيات بما يُقارب ١٠ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهذه الحصة تعادل حصتها من عائدات القطاع المصرفي، إلا أن هذه الشركات تُحقِّق نموًّا أسرع من نمو قطاع المصارف، وهذا ما حَدَا العديد إلى الاستنتاج أن هذا القطاع يتميَّز بقدرةِ نموٍّ مُستقبلي يفوق نموَّ قطاع الصيرفة. وإذا أُضِيفت عوائد الشركات السويسرية المتعدِّدة الجنسيات التي تُحقِّق نموًّا كمثيلاتها من الشركات الأجنبية، ترتفع نسبة العائدات إلى ما يُعادل ثلثَ الناتج المحلي الإجمالي السويسري، هذا مع العلم أن سويسرا تُعَدُّ الموقع المفضَّل لدى أكبر الشركات العالمية.

يستعرض هذا الفصل عددًا من الشركات الأجنبية التي اختارت سويسرا مقرًّا رئيسيًّا لبعض نشاطاتها، ويُحاول تقصِّي الأسباب التي دفعتها إلى هذا الخيار، ويُحلِّل الآثار التي تركها هذا الخيار في الماضي والآثار التي يَتركها في الوقت الحاضر.

لماذا أتت هذه الشركات إلى سويسرا وقرَّرت البقاء فيها؟ لا يمكن أن يكون سبب ذلك هو المستوى المرتفع لتكاليف المعيشة أو القوانين الصارمة التي تحكم جوانبَ عديدةً من الحياة اليومية. من المؤكَّد أن معدَّلات الضرائب السويسرية تُعَدُّ معقولةً ومناسبةً بشكل عام، إلا أن المنافسة الضريبية نادرًا ما تكون حافزًا لاستقطابِ استثماراتٍ طويلةِ الأمد لشركات مثل تلك التي تتَّخذ من سويسرا مقرًّا لها، فحكاية الشركات الأجنبية في سويسرا ترتكز على أكثرَ بكثيرٍ من مجرد قانونِ ضرائبَ مناسب.

ما مدى أهمية الضرائب؟

عند النظر في مجالات الأنشطة التي تُمارسها الشركات المملوكة من الأجانب في سويسرا، يُمكِن تحديد عددٍ من النماذج المُختلفة منها، فبعضها مقراتٌ إقليمية، وبعضها مؤسساتُ بحوث، وبعضها الآخر مؤسَّساتُ تصنيعٍ وتسويقٍ إقليمية، إلى جانبِ عددٍ قليل من المقرات الرئيسية لمجموعات شركات عالمية، وغالبًا ما يُدمَج بين عدد من هذه النماذج، فمثلًا يُمكِن أن يُفتتَح مكتب في البداية بصفته مكتبًا للتسويق، ومن ثَمَّ يجري توسيع نشاطه ليَشمل مجالات عمل أخرى.

وبصرف النظر عن طبيعة العمل أو نوعه، فلا محالةَ أن الاعتبارات الضريبية تلعب دورًا حاسمًا في تقريرِ ما إذا كانت الشركة ستأتي إلى سويسرا أم لا. ولكن بالرغم من أهمية هذا العامل، فمن المُمكِن أن يكون مُعقَّدًا ومُثيرًا للجدل، فالشركات لديها مسئوليات تجاه المساهمين فيها، بما يَشمل مسئولية التقليل من الضرائب، وفي العديد من الشركات يكون قسم إدارة الضرائب مُطالَبًا بتحقيق الربح من خلال ضمان دفع أدنى معدلات ضرائب مُمكِنة ضمن حدود القانون، أمَّا بالنسبة إلى النماذج الأخرى من الشركات — خاصةً الشركات المالية منها وشركات تجارة السلع الأساسية — فتُعَدُّ السريةُ عاملًا حاسمًا في مجال قدرتها التنافُسية. ولا شك أن موقف سويسرا المتساهِل تجاه السرية، والمُقِرِّين بمعدَّلات ضرائب منخفِضة نسبيًّا، هما من العوامل المهمة والقوية لجذب شركات تجارة السِّلَع الأساسية مثل: جلينكور وإكستراتا وفيتول وليتاسكو، وكذلك لصناديق التحوُّط مثل بريفان هَوارد.

ضرورة البقاء خارج القائمة السوداء

ومع ذلك، هناك حدود للمنافسة بين الحكومات حول تخفيض معدَّلات الضرائب، إذ وضعت منظمة التعاون والتنمية مجموعةً من المعايير الأساسية الخاصة بالضرائب التي يَنبغي على الدول احترامها والالتزام بها، ومنها أن فرض الضرائب أمرٌ محتوم لا يجوز تجاهُله، والدول التي تفشل في احترام معايير منظمة التعاون والتنمية تُدرَج علنًا في القائمة السوداء التي تضمُّ أسماءَ الدول التي تُوفِّر ملاذًا للمتهرِّبين من دفع الضرائب. وبصرف النظر عن جدارة برنامج معايير منظمة التعاون والتنمية وفعاليته، فإن الدول المُحترَمة — ومنها كل الكانتونات السويسرية — لا ترغب في أن يكون اسمها مُدرَجًا في القائمة السوداء المذكورة إلى جانب أسماء دول، مثل: كوستاريكا وأوروجواي.

صحيح أن العديد من الكانتونات السويسرية تَفرض معدَّلات ضرائب منخفِضة نسبيًّا على الشركات والأفراد، فمعدل الضرائب على الشركات يتراوَح حاليًّا بين ١٢٫٥ و٢٤ بالمائة مُقارَنةً ﺑ ٢٨ في المائة في المملكة المتَّحدة، و١٥ حتى ٣٥ بالمائة في الولايات المتحدة، في حين تتعادَل المعدلات الضريبية على الدخل الشخصي، ومنها الضريبة الفيدرالية وضريبة الكانتونات، إلى حدٍّ كبيرٍ مع المعدَّلات السائدة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة، أمَّا الضريبة على القيمة المُضافة في سويسرا فتبلغ ٨ بالمائة مُقارَنةً بحوالي ٢٠ في المائة في أغلب دول غرب أوروبا، ويرى بعض الخبراء أن نظام اللامركزية الحكومية في سويسرا يَسمح بتمرير معدلات الضرائب والإنفاق إلى أدنى قاسم مشترَك بين الكانتونات (أيِ البلديات)؛ مما يحفِّز المنافسة الإقليمية ويؤدِّي إلى خفض معدَّلات الضرائب؛ ويرى النُّقَّاد أن ذلك هو بمثابة سياسة «إفقار الجار»؛ حيث يُحقَّق الربح ولكن على حساب الكانتونات والبلدان التي تتكبَّد خسائرَ في عائداتها من الضرائب.

هناك دومًا مكانٌ آخَر أسعاره أكثر جاذبيةً

غالبًا ما تكون معدَّلات الضرائب على الأرباح مُضلِّلة ومُحاطة بقدر من الغموض، وهناك دومًا مكانٌ ما على استعدادٍ لاعتماد معدلات ضريبية أكثر تدنِّيًا؛ فالعديد من الدول الأوروبية المحيطة يَفرض معدَّلاتِ ضرائبَ على الشركات تُوازي ١٠ في المائة أو أقل، كما أن معدَّلات الضريبة الشخصية التي تُعَدُّ هامةً بالنسبة إلى الشركات في قرار اختيار موقعها، يُمكن أن تكون مختلفة جِدًّا عن معدَّلات الضرائب على الأرباح، وهذا يعني أن سويسرا تتميَّز بموقع تنافُسي جيد ولكن غير مُبالَغ فيه في مجال الضرائب.

figure

كما أن الشركات المتعدِّدة الجنسية — التي تتمتَّع بالمرونة في اختيار موقعها — لديها أيضًا إمكانية أخرى لاستغلال قانون الضرائب من خلال ما يُسَمَّى بعمليات التحويلات المالية ما بين الشركات الفرعية المُنضوية تحت راية المجموعة، وهذه عملية ترمي إلى مُمارسةِ ضبطٍ وتعديلٍ للتسعيرة الداخلية للبضائع والخدمات التي يجري تبادُلها بين الشركات الفرعية في البلدان المختلِفة بهدف تخفيض مستوى الضرائب، ومن الممكن هنا التساؤل ما إذا كان ذلك في الواقع هو السبب الذي يجعل من الكانتونات السويسرية وجهةً ترغب الشركاتُ المتعدِّدة الجنسية في الانتقال إليها، هذا مع العلم أنه ربما يكون هناك تفاوُت كبير في هذا المجال بناءً على طبيعة القطاع الصناعي المَعْنِي.

ومنِ ثمَّ، فعلى الرغم من أن الضرائب يُمكن أن تكون أحد الاعتبارات الهامة، وبالنسبة إلى الكثيرين شرطًا لا غنى عنه، إلا أن هناك عواملَ أخرى ساهمَتْ في تعزيزِ شعبيةِ سويسرا بوصفِها موقعًا جيدًا لإقامة الأعمال، وفي محاولةٍ لاستخلاص بعض هذه العوامل، يتناول هذا الفصل بضعَ حالات معينة.

في وسط أوروبا تمامًا

إن الاتزان الذي تتحلَّى به سويسرا، والمعدَّلات الضريبية المنخفِضة، والجامعات من الدرجة الأولى، هي بلا شك بضعة من العوامل التي تَدفع الشركات إلى إقامةِ مواقعَ لها في سويسرا، سواء لممارَسة أعمال الأبحاث أو للقيام بعملياتها التجارية. ولكن هناك عوامل أخرى أيضًا، وكمثال على ذلك، هناك شركة داو للكيماويات التي اختارت مدينة زيورخ في بداية الخمسينيات موقعًا لافتتاح أول مكتَب مبيعات لها في أوروبا.

figure
مقرُّ شركة داو للمواد الكيميائية في ميدلاند في ميشيجان بالولايات المتَّحدة. أقامت الشركة مقرَّها الأوروبي في هورجن بالقرب من زيورخ في عام ١٩٧٤، مُستهلةً بذلك عهدًا جديدًا تقوم فيه الشركات المتعدِّدة الجنسيات بتخصيص الوظائف والتكنولوجيا ورءوس الأموال للبلدان التي تُقدِّم أفضلَ نظامٍ ضريبي.

في غضون سنوات قليلة توسَّعت أعمال المكتب كثيرًا، وفي عام ١٩٦٦ استُكمِلت أنشطة المبيعات والإدارة بإضافةِ مركزٍ للخدمات التقنية والتطوير الذي نُقِل في العام التالي إلى بلدة هورجن في سويسرا، ثم في عام ١٩٦٨، قرَّرت الشركة اختيارَ مدينة زيورخ لإقامةِ مقرِّها الأوروبي. وفي هذا الصدد، صرَّح لوتشيانو ريسبيني الذي كان مديرًا سابقًا لشركة داو في أوروبا قائلًا: «كان السبب بكل بساطة هو الموقع الجغرافي المركزي للمدينة، فسويسرا كانت منذ القِدَم ولا تَزال قابعةً في وسط أوروبا التي تَمتدُّ من إسكندينافيا إلى إيطاليا، ومن شبه الجزيرة الأيبيرية إلى الستار الحديدي، وحيازة مكتب رئيسي في الوسط أتاح للشركة أن تُمارس أعمالًا تجاريةً فعَّالة جِدًّا في إقليم فيه العديد من الشركات المتعدِّدة الجنسية.» ويُضيف جيفري مرزاي نائب الرئيس التنفيذي للمجموعة ورئيس شركة داو في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا: «إن أكثر العوامل الأخرى تأثيرًا في اختيار سويسرا هي بِنْيتها التحتية المُمتازة، واستقرار الأنظمة القانونية والضرائبية فيها، وتوافُر الموظَّفين ذوي المؤهِّلات العالية، وجودة ونوعية الحياة، فهي مكان رائع يستطيع أن يعيش فيه المواطنون الأكثر تطورًا في العالم، وكذلك العائلات التي لديها أطفال.»

بحلول عام ١٩٧٠، أصبحت مساحة المكتب في زيورخ مُزدحِمة جِدًّا وغير كافية، واتُّخِذ القرار لنقل المقرِّ الأوروبي إلى بلدة هورجن القريبة من زيورخ؛ حيث أنفقَت الشركة مبلغ ٤٨ مليون فرنك سويسري لبناء المقرِّ الجديد لاحتواء مكاتب الإدارة ومختبَرات البحوث أيضًا. كان المقر الجديد مملوكًا من شركة داو كليًّا، مما شكَّل استثناءً بين الشركات المتعدِّدة الجنسيات في تلك الفترة، وتأكيدًا من الشركة على عزمها على الاستقرار بصفةٍ فعلية هناك بصفتها منظَّمة أوروبية، كما أن الجمع بين مكاتب المبيعات والإدارة ومَرافِق الخدمات التقنية تحت سقف واحد حقَّقَ للشركة قدرًا من التكافُل والتكامل، ولكنه أظهَرَ أيضًا أن مدينةً صغيرة كمدينة زيورخ يُمكن أن تُصبحَ بدَورها مكتظَّة أيضًا.

عقدان من الزمن في بناء وتطوير البنية التحتية

على عكس مختبَرات شركة آي بي إم — التي تَبعُد بضعة كيلومترات فقط — لم تكن مَرافق شركة داو مخصَّصة للبحوث الأساسية، ففي بلدة هورجن طوَّرت الشركة حلولًا تقنية ومنتجات صُمِّمت خصيصًا للعملاء في جميع أنحاء أوروبا، وقد صرَّحَ مرزاي بما يلي: «لقد ازدهرت أعمال شركتنا بسرعةٍ عالية بحيث إنها في غضون ٢٠ عامًا بدأت تُضاهي أكبر الشركات الأوروبية العملاقة في مجال الكيماويات مثل بي آي إس آف وهوخست وباير، وما ساهَمَ أيضًا في تسهيل ذلك وجعله مُمكنًا هو موقع سويسرا الجغرافي والبِنية التحتية الممتازة فيها.»

واليومَ تُدير شركة داو من مقرِّها في بلدة هورجن حوالي ٦٠ مرفقَ إنتاجٍ أوروبيًّا و٣٠ مكتبَ مبيعاتٍ موزَّعة على ٢٠ بلدًا، وفي عام ٢٠١٠ بلغ عدد العاملين لدى شركة داو وفروعها في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا ١٣٤٠٠ شخص، كما حقَّقت مبيعات قيمتها ١٨٫٥ مليار دولار أمريكي (مُقارَنةً بشركة سواتش التي يبلغ عدد موظَّفيها ٢٥ ألف شخص وتُحقِّق أرباحًا لا تتعدَّى ٧ مليارات دولار أمريكي).

تأثير شركة جوجل

هناك فرقٌ شاسع بين شركة داو العالمية، التي تحتل مكانةً مرموقة في مجال صناعات المواد الكيميائية والصناعات البلاستيكية، وشركة جوجل التي لم تكن موجودةً أصلًا عندما استقرَّت شركة داو في سويسرا، والتي بدأت مسيرتها من الصفر تقريبًا ولكنها في غضون ١٥ عامًا أصبحت واحدةً من الشركات الأعلى قيمةً في العالم.

في عام ٢٠٠٤ فتحت شركة جوجل أولَ مركزٍ هندسي تابع لها خارج الولايات المتَّحدة، وكان ذلك في سويسرا، وتحديدًا في مدينة زيورخ. كان واضحًا منذ البداية أن الشركة مختلفة عن الكثير من شركات «الاقتصاد الجديد» الأخرى، مثل الشركات الناشئة التي ظهرت فجأةً في أواخر التسعينيات، وكانت مثل البرق لا تكاد تظهر حتى تَختفي بالسرعة نفسها، فبعدَ تأسيسها بستِّ سنوات فقط في يناير ١٩٩٨، أصبحَتْ جوجل شركةً عملاقة في مجال التكنولوجيا؛ حيث بلغَت مبيعاتها مليارات الدولارات، وكذلك الأرباح التي حقَّقتها بفضل فكرة بسيطة تَرتكِز على بيع مساحات إعلانية وفقًا لمبدأ المزاد العلني تظهر فوق نتائج البحث أو إلى جانبها على صفحات الإنترنت، وكانت خطة الشركة تَرمي إلى الاستفادة من مختبر زيورخ لضمان استمرار قصة نجاح الشركة.

ومن السهل فَهْم السبب الذي جعَلَ شركة جوجل غيرَ راغبةٍ في إدارة عملياتها الهندسية من الولايات المتَّحدة فقط، فالزمن الذي كان فيه المهندسون الموهوبون يُغادِرون بلدانهم للاستقرار في كاليفورنيا أو في نيويورك قد فات وولَّى، وربما جاء الآن دورُ عددٍ من العواصم الأوروبية لتنعم بهذا الامتياز، ولكن لماذا وقع الاختيار على زيورخ وليس دبلين أو أمستردام أو هامبورج أو لندن حيث كانت الشركة تَملِك مكاتبَ مبيعات هناك؟

جاذبية مدينة زيورخ

من المؤكَّد أن اختيار زيورخ لم يكن بسبب نظام الضرائب؛ فزيورخ لديها أعلى معدلات ضرائب على الدخول الفردية وأرباح الشركات في سويسرا (هذا مع العلم أن الموظَّفين يُمكن أن يقطنوا في كانتونات مجاوِرة تَفرض معدلات ضرائب أقل، ويتنقَّلوا يوميًّا إلى مكان عملهم)، ولعلَّ أول الشروط الأساسية اقتضى أن تكون المدينة المختارة ملائِمةً لاستقطاب الموظَّفين المؤهَّلين المحتمَلين، فالمتخصِّصون في مجال تكنولوجيا المعلومات معروفون بشغفهم بالتنقُّل والترحال، وميلهم إلى الدمج بين نمط عملهم المهني وحياتهم اليومية، وهناك العديد من التصنيفات المستقلة حول المدن الأكثر جاذبيةً في العالَم التي يحتلُّ فيها عددٌ من المدن السويسرية المراتبَ الأولى باستمرار (في عام ٢٠١٠ أظهرَتْ دراسةٌ سنوية، قامت بها مؤسسة مدينة لندن، عن جاذبيةِ مدنِ العالَم بالنسبة إلى الشركات المالية؛ أن زيورخ وجنيف تحتلَّان المرتبتَيْن الثانية والثالثة فيها مُباشَرةً بعد لندن).

من المعروف أن مثل هذه التصنيفات الرسمية هي للدلالة فقط؛ إذ غالبًا ما تغيب عنها عواملُ يصعب دونَها الحصولُ على تصنيفٍ دقيق، وقد صرَّحَ جيفري مرزاي، الذي شَغَلَ منصبَ الرئيس التنفيذي لشركة داو في أوروبا لمدة طويلة، في كلمة له: «إن إحدى المزايا الرائعة التي تتحلَّى بها سويسرا هي أن الزوجات يروقُهنَّ العيشُ فيها!»

هناك أيضًا معيار حاسم جِدًّا يتمثَّل في وجودِ جامعتين شهيرتين هما: المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيورخ ومدرسة الفنون التطبيقية في لوزان؛ لأن مناهجهما العلمية في علوم الحاسوب تضمن توفيرَ موردٍ لا يَنضب من المواهب المحلية، وخلالَ فترةٍ وجيزة نشأت علاقةٌ تكافلية وطيدة معهما؛ فشركةُ جوجل تستقطب بانتظامٍ المتدرِّبين من الجامعتَين المذكورتين، وفي المقابل تقوم برعاية دورات دراسية للطلاب ما قبل وما بعد الحصول على درجة الدكتوراه. ويقول راندي كنافليك المسئول عن التوظيف: «إن المتدربين لدينا ليسوا مجرد عناصر اختبار نستغلُّهم لانخفاض تكلفة تدريبهم. فإلى جانب المهندسين الثابتين العاملين لدينا، هم أيضًا يُطوِّرون بانتظامٍ مشاريعَ هامة ويتلقَّوْن راتبًا جيِّدًا في المقابل.» وليس من المستغرَب أن المتدرِّب في الشركة غالبًا ما يُعيَّن موظفًا بعقدِ عملٍ دائم.

شركة سويسرية خارجة عن المألوف

لعلَّ العاملين في شركة جوجل هم — كما يُقال — من سلالة خاصة خارجة عن المألوف؛ إذ لم يكن من الواضح مَن الذي يتوجَّب عليه التكيُّف مع الطريقة السويسرية الكلاسيكية للعمل، هم أم الشركة؟ ففي الأساس أوَّلًا: تتمُّ أعمال شركة جوجل عبر الفضاء الإلكتروني بدلًا من التعامل مع المنتجات المادية الملموسة. ثانيًا: يعتمد نجاح الشركة على «الرضا الفوري» للعملاء، فكلما وجَد المستخدمُ المعلومةَ بسرعةٍ وكانت ذات قيمة، عاد ذلك بالفائدة على الشركة، هذا بالرغم من أن أحد المبادئ الرئيسية لسويسرا التي وضَعَها المُصلِحان تسفينجلي وكالفين تكمن في أهمية تأجيل إشباع الرغبة. ثالثًا: يُعَدُّ أسلوب عمل الشركة «مجازَفةً كبيرة» خصوصًا لدى اعتماد الرأي القائل بأن معظم الشركات تركِّز على تحقيقِ عوائد صغيرة يُمكن توقُّعها مُسبقًا، وتتخلَّى عن السعي وراء عوائدَ أكبرَ يصعب التنبؤ بها، فالسويسريون معروفون باعتماد الحيطة والحذر، ويُعلِّقون أهمية كبيرة على القدرة على توقُّع النتائج مُسبقًا، وهناك مقولة لنجار سويسري مشهور تقول: «قم بقياس قطعة الخشب مرتَيْن، ثُمَّ اقطعها مرةً واحدة.»

رابعًا: تقوم سياسة عمل شركة جوجل على توفير طريقة إعلان جديدة وعالية الفعالية؛ إذ إنها تُمكِّن المُعلنين من الوصول إلى المُستهلِكين، ولكن لا يُدفَع مقابل عن الإعلان إلا في حال أظهَرَ المستهلك اهتمامَه بالمُنتَج أو بالخدمة الواردة في الإعلان، أمَّا الإعلانات التقليدية فهي مثل التلقيح؛ حيث تُعرَض الإعلانات على عموم الناس على أملِ أن يهتمَّ البعض منهم بالمُنتَج أو الخدمة، ولكن العيب في ذلك هو أن على أصحاب الإعلانات دفْعَ تكاليف عالية مقابل إعلانات تُعرَض على كل الجماهير وليس فقط على المستهلكين الذين أظهروا اهتمامًا بها، مثل عرض لوحة إعلانات على الطريق السريعة أو بثِّ الإعلان في التلفاز خلال حدَثٍ رياضي كبير، أمَّا عند استخدام محركات البحث على الإنترنت، يقوم المستهلكون بتحديدِ موضوعِ اهتمامهم كلما أرادوا البحث عن شيءٍ ما، وتقوم جوجل بإظهار الإعلانات ذات الصلة على تلك الصفحات، وإذا ضغط المستهلك على وصلة الإعلان، تفرض جوجل عندئذٍ رسمًا على المُعلن.

كل هذا يحدث دون أن يكون المستهلك بالضرورة على درايةٍ به، ويقول باتريك وارنكينج — رئيس شركة جوجل في سويسرا — حول هذا الشأن: «منهجنا هو ترك الأمور تَسير على سجيتها، وإذا أعجبَتِ الخدماتُ أو المنتَجات المستهلكين فسوف يَستخدمونها.» وقد استغلت شركة جوجل ما كتبه كريس أندرسون — رئيس تحرير مجلة «وايَرد» — في كتابه المنشور بعنوان «الذيل الطويل»، فبفضلِ انتشارها العالمي الواسع النطاق، استطاعت الإنترنت ومحركات البحث عن المعلومات خلْقَ أسواق صغيرة متخصِّصة، مثل سوق الأحذية بأحجام تفوق قياس ٤٦ (أيْ ما يُعادل ١٢٫٥ في الولايات المتحدة) التي لا يوجد طلبٌ كبير عليها، ولا تستطيع تخزينها وترويجها إلا متاجرُ الأحذية الموجودة في المدن الكبيرة، وبهذا أصبحت الإنترنت أكبرَ المدن في العالَم إطلاقًا.١

ما وراء الغرابة

أيُّ شخص تُتاح له الفرصة لزيارة مركز شركة جوجل للهندسة في مجمع هورليمان في زيورخ، سيُفاجَأ بنمط الأثاث الغريب فيه الذي يَتضمَّن من بين أشياء أخرى: بيوت إسكيمو، وكابينات تلفريك، وفسحة مُشجرة تُشبه الغابة، وطاولات بلياردو، وزلاقة معدنية ملتوية تمكِّن الموظفين ذوي اللياقة البدنية من اتخاذِ أقصر الطرق إلى الطابق الأدنى من خلال ثقب في الأرض، إضافةً إلى مطعمَيْن وعددٍ من الكافيتريات حيث يُمكِن للموظفين أن يأكلوا كما يشاءون مجانًا، وهدف ذلك هو تأمين التواصُل والتفاعل بين الموظفين.

figure
مركز شركة جوجل للهندسة في زيورخ الذي يُغطِّي مساحة ١٢ ألف متر مربع، ويُعَدُّ أكبرَ مكتب للشركة خارج الولايات المتَّحدة، صُمِّم لإلهام الموظفين وتحفيز قدرتهم على الإبداع والابتكار حتى أعلى مستوًى، صمَّمَ المركزَ مكتبُ الهندسة السويسري كامنزيند إفولوشن.

ولا يتوقَّف الأمر على التصميم الداخلي غير المألوف، بل يتعداه إلى ما يُسمَّى «فترة دوام اﻟ ٢٠ في المائة»، وهي النسبة من وقت العمل التي قد يُخصِّصها موظفو الشركة لمشاريع ابتكار شخصية بحتة على أمل أن يُؤدِّي ذلك إلى الاستمرار في إنتاج خدمات ذات صلة بأعمال الشركة مثل: جي ميل وجوجل إيرث.

موظفون مُتنوِّعون من بينهم ساحر

التنوع أيضًا يُمكن أن يؤدِّي إلى التألق، فالخليط الموجود بين صفوف موظفي شركة جوجل يشابه الخليط الموجود في منظمة الأمم المتحدة؛ إذ تضم ٦٢ جنسية تشمل بنجلاديش وبيلا روسيا ونيجيريا. وفضلًا عن كون الشركة رائدةً في مجال الهندسة البرمجية، هناك مزيج كبير من المواهب غير العادية بين موظفيها بما يشمل بطلًا عالميًّا في لعبة البريدج، وثلاثة فِرَق روك موسيقية ناشطة، وشخصًا يحترف مهنة الساحر ويُعطي دروسًا مسائيةً لزملائه في هذه المهنة.

وقد ساهَمَ موظفو شركة جوجل الفريدون من نوعهم في النمو الهائل الذي عرفته الشركة، التي كان عدد موظفيها لا يَتجاوز الاثنين في عام ٢٠٠٤ ليَرتفِع حاليًّا إلى ٧٥٠ موظفًا يعملون في مقر الشركة الذي كان سابقًا مجمع هورليمان لإنتاج الجعة، ولقد بقِيَ الالتزام تجاه سويسرا قائمًا لا يتغيَّر، ويقول كنافليك في هذا الصدد: «ما دُمنا استطعنا إيجاد مواهب كافية، سنَبقى في هذا الموقع، لا بل نَنوي مُواصَلة الاستثمار فيه.»

لقد حقَّقت شركة جوجل في سويسرا اكتفاءً ذاتيًّا، ولعلَّ أهم الإنجازات في جدول أعمالهم قد طُوِّرت ولا تزال تُطوَّر في زيورخ؛ ففي عام ٢٠٠٦ استحوَذَت جوجل على أقسام الإنترنت ورسم الخرائط ومعالجة البيانات في شركة إندوكسون، التي يقع مقرُّها في مدينة لوتسِرن، والتي طوَّرت تكنولوجيات جديدة حسَّنَتِ استعمال خدمات جوجل لخارطة الأرض وخرائط جوجل عبر أوروبا، وساعدت جوجل على زيادة قدرتها ودقَّتها في تحليل البيانات.

بنك المواهب

لا شكَّ في أن شركة جوجل قد اختارت سويسرا؛ لأنها كانت تبحث عن المواهب، ولأن المعهدَ الفيدرالي للتكنولوجيا في زيورخ ومدرسةَ الفنون التطبيقية في لوزان القريبَيْن يُعَدَّان من بين أفضل معاهد هندسة الكمبيوتر في العالم. وطالَما كانا منذ وقت طويل مكسبًا هامًّا عندما يتعلَّق الأمر باستقطاب الشركات الأجنبية.

في عام ١٩٥٦ أسَّست شركة آي بي إم أولَ مختبَرِ أبحاثٍ لها في أوروبا بالقرب من مدينة زيورخ، واستطاعت إقناع عالِم الرياضيات القدير أمبروس شبايسر بترْكِ العمل في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا ليكون مديرها التأسيسي، بعد ذلك نُقِل المختبَر في عام ١٩٦٢ إلى بناية شُيِّدت خصوصًا له في بلدة روليكون؛ حيث تُشغِّل شركة آي بي إم اليومَ ٣٠٠ موظَّف، منهم حوالي ٣٠ عالِمًا زائرًا تستضيفهم الشركة، فضلًا عن العديد من المتدربين والمؤهَّلين لنَيْلِ شهادة الدكتوراه أو الحائزين عليها، والعديد منهم يعملون في مجال البحوث المتقدِّمة المعترَف بها عالميًّا. على سبيل المثال، في عام ١٩٨٦ حصل كلٌّ من جيرد بينيج وهاينريخ روهرر على جائزة نوبل للفيزياء لاختراعهما مِجهَر المسح النفقي، وفي السنوات التالية حاز جورج بيدنورز وأليكس مولَّر على نفس الجائزة لاكتشافهما الموصلية الفائقة بدرجات الحرارة العالية.

figure
جيرد بينيج (على اليسار) وهاينريخ روهرر (على اليمين)، من مركز بحوث شركة آي بي إم في روشليكون، حازَا على جائزةِ نوبل في عام ١٩٨٦.

لا شكَّ أن نجْمَ معهدِ الفنون التطبيقية في لوزان بدأ يَسطع بسرعةٍ فائقة، فمديرُها الحالي الرجلُ البشوش باتريك أيبيشر كان قد تخلَّى عن منصبِه في جامعة براون في ولاية رود آيلاند في عام ١٩٩٢ ليعود إلى مسقط رأسه ويُصبح رئيسَ المعهد في عام ١٩٩٩. كانت فكرته الرائدة في ذلك الوقت أن يُضفيَ على التعليم في المدرسة طابعًا يُشبه طابعَ معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا أو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وذلك في جامعةٍ سويسرية تُدار وفقًا لقواعد صارمة، وكان ذلك يحتاج إلى ثلاثة إجراءات جديدة؛ أوَّلًا: عزَّزَ أعضاءَ هيئة التدريس بوجوهٍ شابَّة وأكاديميِّين مميَّزين صنعوا مجدهم في جامعات أمريكية مرموقة، إلا أن الحنين إلى وطنهم قد غلب عليهم، وفي هذا الصدد قال أيبيشر: «كنتُ أبحث عن المواهب المتميِّزة التي ترغب في العودة إلى مسقط رأسها.» ثانيًا: أعادَ هيكلةَ الجامعة وقسَّمها إلى خمس كليات تُدِير كلٌّ منها ميزانيتها الخاصة، مستخدِمًا ذلك ذريعةً لطرْدِ العديد من الأساتذة المتكاسِلين، ولكن هذا الإجراء لم يُسهِم في زيادة شعبيته، وفي العامَيْن الأولَيْن أقرَّ قائلًا: «كنتُ على وشك أن أخسر وظيفتي.» ثالثًا: ركَّزَ على ما كان مُجدِيًا تجاريًّا بدلًا من الاهتمام بما هو مُدهِش أكاديميًّا، فسويسرا لديها سجلٌّ طويل ومميز في مجال التحصيل العلمي، لكن سجلُّها سيِّئ في مجال تحويل الملكية الفكرية إلى منتجات تجارية؛ ومن ثَمَّ أسَّسَ أيبشير ما يُسَمَّى «حيز التجديد والابتكار» في الكلية لتشجيع إقامة علاقات شراكة مع الشركات الصناعية. واليومَ، لدى كلٍّ من شركة لوجيتيك ونستله وسيسكو مرافقُ بحوثٍ في معهد الفنون التطبيقية في لوزان، ويَختلِط موظَّفوها مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب على حدٍّ سواء، لاحقًا نجح إيبيشر في إقناع شركة رولكس بتمويل وبناءِ مركزِ تعليمٍ تابعٍ لها في الكلية صُمِّم خصوصًا لكسر الحواجز بين الاختصاصات المختلفة وتعزيز تعاونها، وبعد مرور خمسة أسابيع على افتتاح المركز، مُنِح المهندسان المعماريان كازيو سيجيما وريوي نيشيزاوا اللذان صمَّماه جائزةَ بريتزكر لعام ٢٠١٠، وهي أفضل جائزة على الإطلاق في مجال الهندسة المعمارية.

ولكن رولكس ليست الشركة الوحيدة التي تُساهم في التمويل، فقد نجح أيبيشر في الاستفادة من أموال أكبر وأهم الشركات المرموقة العاملة في المنطقة القائمة ما بين جنيف ومونترو، ومنها شركة دانيال بوريل وأرنستو بيرتاريلي وأندريه هوفمان ونستله، وقد تطلَّبَ ذلك من إيبيشر جهدًا كبيرًا وقدرةً على الترويج والتعاقُد، وهذا أمر يثير الازدراء في صفوف المؤسسات الأكاديمية الأوروبية، ويُشكِّل سببًا للنقد وربما سببًا للغيرة أيضًا.

صراع لجذب مصادر التمويل والحفاظ عليها

تُدير شركة سيسكو المتخصِّصة في شبكات التواصُل منذ عام ٢٠٠٧ مركزَ بحوثٍ في بلدة رول القريبة من لوزان، وفي عام ٢٠٠٨ دخلت نوكيا — الشركة الفنلندية العملاقة في قطاع الاتصالات — في شراكة في المجال التكنولوجي مع الجامعتَين التقنيتَين في زيورخ ولوزان، كما قامت بإنشاء مركز للأبحاث في حرم جامعة لوزان تَركَّزَ جدول أبحاثه على توسيع إمكانيات شبكة الإنترنت المحمولة. وفي هذا الخصوص قال بوب لانوتشي، الرئيس التنفيذي لقسم التكنولوجيا آنذاك: «إن الخبرة المهنية التي اكتسبتها الجامعتان التقنيتان في هذا المجال كانت حاسمةً في اختيار سويسرا لإقامة مركز أبحاث الشركة فيها.»

القرب من المستهلك

لا تقتصر الرغبة في إنشاء التكتلات المؤسسية على قطاعات التكنولوجيا المتقدمة فحسب، فشركة تيتراباك السويدية كانت قد أحدثت ثورةً في مجال توزيع منتَجات الألبان في بداية الخمسينيات بتقنيتها المُبتكَرة لكرتون علب التعبئة، وبمجرد أن اتضح للشركة أنَّ في إمكانها أنْ تُصبح شركةً عالميةَ النطاق، قرَّرت إقامةَ فروعٍ تابعة لها في الدول التي لديها قطاع ألبان كبير الحجم، وأُدرِجت شركة تيتراباك في السجل التجاري لمدينة بيرن في أواخر عام ١٩٥٠، حتى قبل إطلاق نظام التعبئة والتوضيب الجديد في السويد، وبمجرد أن أنجزت الشركة تشييدَ أولى محطات التعبئة في لوزان في عام ١٩٥٧، بدأت الأمور تتحرَّك قُدُمًا بسرعة. ويَعتمد نموذج عمل شركة تيتراباك على تشييدِ مُعَدَّاتها الخاصة للتعبئة مباشَرةً في مرافق إنتاج عملائها، ومن ثَمَّ تقوم بتزويدهم بعلب الكرتون اللازمة. وكانت شركة نستله أول وأهم عميل لتيتراباك التي يقع مقرها في بولي؛ أيْ على بُعْد أقل من ٢٠ كيلومترًا فقط من مقر شركة نستله في مدينة فيفيه.

وبناءً على حصة شركة تيتراباك العالية من السوق في سويسرا، والتي يعود الفضل فيها بدرجةٍ كبيرة إلى علاقاتها الوثيقة مع شركة نستله، أصبحت سويسرا سوقًا معياريةً نموذيجة للشركة، وفي عام ١٩٨١، انتقل المقر الرئيسي للشركة بالكامل إلى سويسرا. وفي هذا المجال، صرَّحَ لارس ليندر — المسئول عن كافة عمليات التسويق الدولية آنذاك — قائلًا: «كان من المهم جِدًّا بالنسبة إلينا أن نكون موجودِين في مواقع الإنتاج وفي قلب أوروبا.»

الهند تأتي إلى بازل

إنَّ قطاع صناعة الساعات أيضًا اجتذب شركاتٍ أجنبيةً إليه، ولعل أحد الأمثلة الصغيرة — ولكن المدهشة — على ذلك هي شركة بيلانيا، التي تُشكِّل فرعًا تابعًا لمجموعة كيه دي دي إل الهندية، والتي تُشغِّل ٢٥ عاملًا في سويسرا لإنتاج الأقراص المدرجة لأوجه الساعات في مبنى صناعي قديم بالقرب من مدينة بازل. ومن المُذهل أيضًا أن شركة بيلانيا تعمل بنمط معاكس كليًّا للقاعدة المعهودة؛ إذ إنها تستورد المواد الأولية من الهند بأسعار منخفضة لتصنيعها بتكلفة مُرتفِعة في سويسرا، وفي اعتقاد هانس كوهلر — الذي أسَّسَ مرفقَ الإنتاج لشركة كاي دي دي إل في عام ٢٠٠٧ — أن هذا النمط يُمثِّل بكل بساطةٍ اعترافًا بالمستويات العالية من الحرفية المهنية والانضباطية في الإنتاج التي تتميَّز بها صناعةُ الساعات في سويسرا، والتي تتجسَّد من خلال إيفاء المنتجات بالمواصفات المطلوبة، ومن خلال تسليمها في المواعيد المحدَّدة.

أحيانًا تكون حيادية سويسرا المعهودة سمة حاسمة في اختيارها مكانًا للاستقرار، فاختيارُ سويسرا مقرًّا لبنك التسويات الدولية كان حلًّا وسطًا للبلدان التي أنشأت البنك، وهي: بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتَّحدة والولايات المتحدة، وعندما لم يتمَّ التوافق في الآراء بشأنِ تحديدِ مكان إنشاء البنك، في لندن أو في بروكسل أو في أمستردام، وقع الاختيار على سويسرا التي تُعَدُّ بلدًا مستقلًّا ومحايدًا بإمكانه أن يجعل البنكَ أقلَّ عرضةً لتأثيراتٍ لا مبرِّرَ لها من قِبَل أيٍّ من هذه القوى الكبرى.

سويسرا تخسر شركة ليجو

سيكون من الخطأ القول بأن سويسرا قد نجَحت في كل مرة في مواجهة الجو التنافسي جِدًّا في مجال استقطاب الاستثمارات، فهناك العديد من القطاعات والأنشطة الصناعية التي لا تكون سويسرا مكانًا جذَّابًا أو مناسبًا لها على الإطلاق، كما أن الظروف يُمكن أن تتغيَّر مع مرور الزمن، فالعوامل التي رجَّحت كفةَ الميزان لصالح سويسرا منذ خمسين عامًا، يمكن أن تكون قد تراجعَتْ أو انقضت؛ مما يُجبِر الشركات على اتخاذِ قراراتٍ صعبة.

كانت شركة ليجو الدنماركية لألعاب الأطفال قد افتتحت ثاني فرع خارجي لها في مدينة زيورخ في عام ١٩٥٧، ومنذ عام ١٩٧٤ أدارت مصنعًا في وسط سويسرا كان يُنتج سنويًّا أكثر من مليار قطعة بلاستيكية مصغَّرة لألعاب البناء، لكن بحلول عام ٢٠٠٥ قرَّرت المجموعة تحويل عمليات التصنيع التابعة لها إلى أوروبا الشرقية لأسباب تتعلَّق بالتكاليف؛ ومن ثَمَّ كان لا بد في نهاية المطاف أن يتأثر المقرُّ الرئيسي الأوروبي في سويسرا بعملية خفْض النفقات، وبعد مرور عامَيْن نُقِل إلى مدينة ميونيخ.

وهناك تحدٍّ أكثرُ أهميةً أمام قدرة سويسرا على استقطاب الاستثمارات، وهو نظام العولمة الدائم التوسُّع لأنشطة الشركات، سواء أكانت سويسرية أم أجنبية. فالمعايير المُطبَّقة على إنشاء أعمال تجارية أصبحت متشابهةً في جميع أنحاء العالم، سواء كانت الشركة المعْنِيَّة هي نوفارتِس أو ميرك، وفي الواقع أقامت شركة نوفارتِس مؤخرًا مراكزَ بحوثٍ في كلٍّ من بوسطن وشانغهاي، في حين كان من المُحتَّم سابقًا أن تكون مدينة بازل هي الخيار الطبيعي. يُعَدُّ وضْعُ سويسرا حسَّاسًا في هذا الميدان؛ لأن الشركات المتعدِّدة الجنسيات تلعب دورًا كبيرًا في اقتصادها يفوق الدور الذي تلعبه في العديد من البلدان الأخرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا؛ حيث تحوز الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم على قدرٍ أكبرَ من الأهمية، ولقد أظهرت دراسة أُجرِيت في عام ٢٠٠٨ من طرف الغرفة السويسرية الأمريكية للتجارة ومجموعة بوسطون للاستشارات تحت عنوان «سويسرا الخلَّاقة»؛ أن الشركات المتعدِّدة الجنسيات، سواء أكانت سويسرية أم أجنبية، تُساهم بنحوِ ثلث مجموع الناتج المحلي الإجمالي السويسري، ومنه نسبة ٢٤ في المائة للشركات السويسرية، في حين تتقاسَم الشركات الأجنبية الأخرى الباقي.

الأسعار في سويسرا لن تنخفض

تُواصِل سويسرا تحقيقَ نتائجَ جيدةٍ جدًّا على جميع الأصعدة تقريبًا، وفي مؤشِّر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالَمي، الذي يُراجَع سنويًّا، استطاعَتْ سويسرا تحسينَ مركزها بشكلٍ مُتواصِل سواء من حيث التصنيف المطلَق أم النسبي، وفي عام ٢٠٠٦ حازت على مركز الطليعة للمرة الأولى ولا تزال تحتفظ به حتى اليوم. ولكن في حين أن أداءها هذا مُثيرٌ للإعجاب، فإنها لم تستطع تحقيقَ مُستوياتٍ مماثِلةٍ من الأداء في بعض المجالات الفرعية ذات الأهمية الكبرى في استقطاب الشركات المتعدِّدة الجنسيات، مثل سهولة تشغيل الموظَّفين الأجانب، والقيود التجارية، و«تسهيل القيام بالأعمال التجارية» بشكل عام. وبالنسبة إلى الشركات التي تُقدِّم منتجاتٍ أو خدماتٍ شديدةَ التأثُّر بمستوى الأسعار، يُمكن أن تكون قوة الفرنك السويسري عائقًا أمامها لتحقيق الأرباح، فسكرتير ذو خبرة يعمل في جنيف يُمكِن أن يتقاضى راتبًا يساوي راتبَ أحدِ كبار المديرين في ألمانيا، كما أن أسعار العقارات في مواقع مفضَّلة — مثل جنيف أو تسوج أو زيورخ — قد ارتفعت بوتيرة عالية خلال الأعوام العشرين الماضية.

ولكن بصرفِ النظر عن الحسابات الدقيقة التي تَنطوي عليها هذه العوامل، فمن الواضح أن المهمة الحاسمة أمام سويسرا هي الاستمرار في تطوير واستقطاب والحفاظ على أكبر حصة ممكنة من ذوي أفضل وأذكى الكفاءات العالمية بالنسبة إلى حجمها. من عادات الطبيعة البشرية أن يَستسيغ الأشخاص الموهوبون التواصُلَ والاختلاط مع أمثالهم، وحقيقةُ أن سويسرا لديها أعلى نسبة من الأجانب مُقارَنةً بالدول المتقدمة الأخرى تجعل من السهل على القادمين الجدد من الأجانب التأقلم والاندماج في مجتمعها، على الرغم من أن الوقت الحالي ليس مناسبًا لأن يكون الشخص أجنبيًّا، تمامًا كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى؛ إذ هناك العديد من المبادرات الجارية حاليًّا للحد من الهجرة، إضافةً إلى ذلك، فإن محدودية العرض وتفاقُم الطلب في جنيف وزيورخ قد أدَّيا إلى ارتفاعٍ حادٍّ في الأجور وتكاليف السكن، كما أن عدد الأماكن المتوافِرة في أفضل المدارس الدولية الخاصة السويسرية لم يُواكب نسبةَ تزايُدِ الطلب عليها.

الشركات تتآلف فيما بينها

الشركات أيضًا تسعى إلى التجمُّع بعضها مع بعض بشكلٍ يُعرَف ﺑ «التكتلات»، حتى ولو كانت شركات متنافسة؛ فسويسرا تسيطر على تجارة السلع الأساسية مثل النفط الخام والنحاس والحبوب، وشركة جلينكور ليست المثال الوحيد على ذلك؛ فشركتا كارجيل ولويس داريفوس الرائدتان في تجارة الحبوب تمارسان أهم أنشطتهما في سويسرا، وفي قطاع النفط الخام، تقوم شركتا فيتول وجينفور بأغلب عملياتهما التجارية من جنيف، وشركة ميدترونيك تدير أهم أعمالها خارج الولايات المتحدة في سويسرا؛ لأن هناك مجموعة من الشركات المختصَّة في إنتاج أدوات تقويم العظام مثل سينثير وآي أوه (مؤسسة الأبحاث الشهيرة في مجال تقويم العظام ومقرُّها دافوس). وبما أن التكنولوجيا المتطوِّرة تزداد أهميةً باستمرار، تسعى الشركات إلى استقطاب أفضل الأكاديميِّين في مجالات اختصاصها.

وهذا يُفضِي إلى موضوع مُثير للجدل يتمثَّل بالدور الذي تلعبه الحكومة، ويقترح مؤلفو دراسة «سويسرا الخلَّاقة» بعض الطرق التي تحدو إلى إعادة النظر في السياسات العامة التي من شأنها أن تُعزِّز مكانة سويسرا بصفتها مركزًا للموهبة والإبداع، وهذا يشمل تعزيز مهارات القوى العاملة الناشئة داخل البلد، وخاصةً في مجالات العلوم والهندسة والتكنولوجيا، وتسهيل فرص العمل في سويسرا للمؤهلين الوافدين من الخارج، وتشجيع ريادة الأعمال، وبذل المزيد من الجهد للمساهمة في تحويل الأفكار والاختراعات إلى براءاتِ اختراعٍ تؤدِّي إلى تحقيق الأرباح، وخلق بيئة تنظيمية للابتكارات، وأخيرًا تكريس المزيد من الوقت والمال والجهد للترويج لسويسرا بصفته موطنًا للابتكار.

كانت هذه قائمة أمنيات طويلة، غير أن العديد من السويسريِّين لا يستسيغون فكرةَ تدخُّل الحكومة لتحويل هذه الأمنيات إلى حقيقةٍ قائمة ويُفضِّلون الاستمرارَ باعتماد الطريقة السويسرية العريقة القائمة على الاعتقاد بأن الاستقرار والجودة هما أهمُّ ما في الأمر، غير أن تجربة شركة جوجل المختلفة والناجحة تفتح آفاقًا واتجاهات جديدة مثيرة للاهتمام.

النمط السويسري الجديد

تُوفِّر شركة جوجل محيطَ عملٍ يختلف في ظاهره عمَّا يُفترَض أن يكون أسلوب العمل الطبيعي في سويسرا، فبدلًا من الاهتمام البالغ بالالتزام بالمواعيد واحترام التسلسل الهرمي، نجحت شركة جوجل في خلق عقلية عمل تجعل الموظفين يتَّخذون قراراتهم بأنفسهم بخصوص عملهم، ومتى يقومون بالعمل، وكيف يُوفِّقون بين ما هو مهني وما هو شخصي.

قد يبدو هذا الأسلوب بعيدًا كلَّ البعد عن النمط السويسري المعهود، لكنه لا يشكِّل عائقًا أمامَ قدرةِ العقلية السويسرية على التأقلُم، وتَرْتَئي شركة جوجل أن زيورخ الآن تُعَدُّ واحدةً من أماكن العمل المفضَّلة لدى موظَّفي الشركة المتنقِّلين في جميع أنحاء العالم، كما أن طريقة العمل في سويسرا لا بدَّ أن تتطوَّر لكي تستطيع الاستمرار في استقطاب أفضل الشركات في العالم في السنوات القادمة، فهل ستكون جوجل بوصلةَ الاتجاهِ الجديد في المستقبل؟

وبنفحة صغيرة من الخيال، ربما تُصبح زيورخ مركزًا لتجمع الشركات الناشئة التي ستتخذ من موظفي جوجل مثالًا يُحتذَى به للإقدام على ريادة الأعمال في عصر التكنولوجيا الحديثة ومواصَلة التفكير في أن سويسرا هي أفضل مكان للعيش والعمل، وبناءً على المثال القائل: «التفاحة لا تسقط بعيدًا عن الشجرة.» ربما تكون الشركة العالمية القادمة والمشابِهة لشركة جوجل من صنع سويسرا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤