مقدمة الرواية

لما كانت ديار مصر مستويةً على عرش التقدم بين الأمصار، كأنها ملكة تتقاطر لخدمتها الأقطار، جارَّة ذيول الفخر في العلم والتفنُّن، وصاحبة مطارف النجاح في التمدُّن، تخذتُ مع الملتجئين إلى بابها نعم سبيل، وأمَّلت من نداها إرواء العليل، واهتديت بسنا الإفضال والإجلال، إلى بابٍ يخفق فوقه لواء المجد والإقبال، وهو الباب المشيَّد الأركان، المقصود من كل قاصٍ ودانٍ، باب من لا يخيب طالبه، ولا تُحصى مكارمه ومناقبه، وليِّ النعمة والإحسان، مَن لا يحصر فضله إنسان، ويكلُّ في مدحه كل لسان، من ساد السود والبيض، بالسُّمر والبيض، وقصرت عن شهرته شهرة قيصر، وخفي لظهور مجده ذكر الإسكندر، وانتصرت طلائع طوالع شأنه وفضله، فكُسرت جيوش ذكر كسرى بعدله، وأمعن فيه الدهر فقال إنه فاق معنًا بالحلم والإحسان، وفاضت عليه سُحب البلاغة فأزرى بسَحْبان، فلا تقسْه بقسٍّ وحدِّث عن إنعامه لا عن النعمان، صاحب القدر والشان الجليل، أفندينا الخديو المعظم وليَّ النعم «إسماعيل».

مليكٌ له في كل مَكرمةٍ يدٌ
تجود فأين النيل والبحر والسحبُ
جرى حكمه في البيض والسود مثلما
أقرَّ لسامي فضله العجم والعربُ
فأنخت هنالك مطايا الآمال بأن أخدم عظمته بإدخال فن الروايات في اللغة العربية، إلى الأقطار المصرية، وهو الفن الذي أصبح في أوروبا مدرسة الهيئة الاجتماعية، فأنعم عليَّ بالقبول، وجاد بالسؤل وهو خير مجيب ومسئول، فبادرت بطبع هذه الرواية التي هي من النوع المعروف بالتراجيدية، ودعوتها برواية مي. وقد كنت ألَّفتها في بيروت من ثماني سنوات، وهي روايةٌ لحادثة تاريخية شهيرة، أخذت بعض معانيها عن الفرنجية، بيد أني خالفت أصلها بأشياء جمَّة مما زادها حُسنًا، ووضعت لها أنغامًا ونمَّقتها بأشعارٍ، موافقًا بذلك الذوق العربي، وأودعت فيها ذكر بعض عوائد الرومانيين بأسلوبٍ غير مخل بالتخبير مع ذكر أسماء بعض معبوداتهم مثل مارس إله الحرب عندهم وبلوتون إله الجحيم وغيرهما؛ رغبةً بزيادة الإفادة، وأبقيت الأسماء المحفوظة في تاريخ واقعة هذه الرواية على ما كانت عليه، كاسم هوراس الروماني وكورياس الألبي وتول ملك رومية المعروف ﺑتولوس هوستيليوس Tullus Hostilius وهو الثالث من ملوكها الذي تولَّى المُلك سنة ٦٧٢ق.م. وأخضع الألبيين إلى حكمه، وتُوفي سنة ٦٤٢ق.م. أمَّا بقية الأسماء فقد وضعتها عن غير أصلٍ نظرًا لعدم وجودها في التاريخ المذكور، وأمَّا واقعة هذه الرواية فقد حدثت في عهد الملك تول المذكور آنفًا، الذي شبَّ نار الحرب بينه وبين الألبيين طمعًا في الاستيلاء عليهم، وذلك بعد تأسيس مملكة رومية بأربع وثمانين سنة؛ أي سنة ٦٦٩ق.م. أو سنة ٣٣٣٥ للخلقة الآدمية، وهي من أغرب الوقائع وأنسبها للروايات، غير أن الرواية مهما كانت غايةً في حسن الموضوع والتأليف لا تروق لمطالعها كما تروق لمن يطالعها ويحضر تشخيصها؛ ولهذا تعوَّد الفرنج جمع الأمرين في وقتٍ واحدٍ، فتراهم يأخذون نسخةً من الرواية فيقرءونها بتمعُّنٍ ثمَّ يحضرون تشخيصها فيتمتعون بمشاهدة مناظرها البهجة، وناهيك ما بذلك من الملذة والفائدة، هذا وإني لأحفظ حقوقي في طبع هذه الرواية وتشخيصها حسب النظام، راجيًا من الواقف عليها أن يُحسن الظن بما لم يوافق ذوقه ويجتني ما طاب ويترك ما لم يستحسنه؛ فرُبَّ حجر ازدراه البناءون فكان رأسًا للزاوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤