الفصل الثامن عشر

وكذلك اتصلت أيام الصبي بين البيت والكتَّاب والمحكمة والمسجد وبيت المفتش ومجالس العلماء وحلقات الذكر، لا هي بالحلوة ولا هي بالمرَّة، ولكنها تحلو حينًا وتَمَرُّ حينًا آخر، وتمضي فيما بين ذلك فاترة سخيفة. حتى كان يومٌ من الأيام ذاق الصبيُّ فيه الألم حقًّا، وعرف منذ ذلك أن تلك الآلام التي كان يشقى بها ويكره من أجلها الحياة لم تكن شيئًا، وأن الدهر قادر على أن يؤلم الناس ويؤذيهم، ويحبِّب إليهم الحياة ويهوِّن من أمرها على نفوسهم في وقتٍ واحدٍ. كانت للصبي أختٌ هي صغرى أبناء الأسرة، كانت في الرابعة من عمرها، كانت خفيفة الروح طلْقة الوجه فصيحة اللسان عذبة الحديث قوية الخيال. كانت لهو الأسرة كلها، كانت تخلو إلى نفسها ساعاتٍ طوالًا في لهوٍ وعبثٍ؛ تجلس إلى الحائط فتتحدث إليه كما تتحدث أمها إلى زائرتها، وتبعَث في كل اللعب التي كانت بين يديها رُوحًا قويًّا وتُسبغ عليها شخصية؛ فهذه اللعبة امرأة، وهذه اللعبة رجل، وهذه اللعبة فتًى، وهذه اللعبة فتاة، والطفلة بين هؤلاء الأشخاص جميعًا تذهب وتجيء، وتصل بينها الأحاديثَ مرَّةً في لهوٍ وعبث، وأخرى في غيظ وغضب، ومرةً ثالثةً في هدوءٍ واطمئنانٍ، وكانت الأسرة كلَّها تجد لذةً قويَّةً في الاستماع إلى هذه الأحاديث والنظر إلى هذه الألوان من اللعب دون أن ترى الطفلةُ، أو تستمعَ، أو تُحِسَّ أن أحدًا يرْقُبها.

فما هي إلا أن أقبلت بوادر عيد الأضحى في سنةٍ من السنين، وأخذت أمُّ الصبي تستعد لهذا العيد؛ تهيئ له الدار وتعد له الخبز وألوان الفطير. وأخذ إخوة الصبيِّ يستعدون لهذا العيد؛ يختلف كبارهم إلى الخياط حينًا، وإلى الحَذَّاء حينًا آخر، ويلهو صغارهم بهذه الحركة الطارئة على الدار، فينظر صبينا إلى أولئك وهؤلاء في شيء من الفلسفة كان قد تعوَّده؛ فلم يكن في حاجة إلى أن يختلف إلى خيَّاط أو حذَّاء، وما كان ميالًا إلى اللهو بمثل هذه الحركات الطارئة، وإنما كان يخلو إلى نفسه ويعيش في عالم من الخيال يستمده من هذه القصص والكتب المختلفة التي كان يقرؤها فيُسرفُ في قراءتها.

أقبلت بوادر هذا العيد، وأصبحت الطفلة ذات يوم في شيء من الفتور والهمود لم يكد يلتفت إليه أحد. والأطفال في القرى ومدن الأقاليم معرَّضون لهذا النوع من الإهمال، ولا سيما إذا كانت الأسرة كثيرة العدد، وربَّة البيت كثيرة العمل. ولنساء القرى ومدن الأقاليم فلسفة آثمة وعلم ليس أقل منها إثمًا، يشكو الطفل، وقلما تعني به أمه … وأيُّ طفل لا يشكو! إنما هو يوم وليلة ثم يُفيق وَيُبِلُّ،١ فإن عنيت به أمه فهي تزدري الطبيب أو تجهله، وهي تعتمد على هذا العلم الآثم؛ علم النساء وأشباه النساء. وعلى هذا النحو فقد صبيُّنا عينيه؛ أصابه الرمد فأُهمل أيامًا، ثم دُعي الحلاقُ فعالجه علاجًا ذهب بعينيْه. وعلى هذا النحو فقدت هذه الطفلة الحياة؛ ظلت فاترةً هامدةً محمومة يومًا ويومًا ويومًا، وهي ملقاة على فراشها في ناحية من نواحي الدار، تُعنى بها أمُّها أو أختُها من حينٍ إلى حينٍ، تدفع إليها شيئًا من الغذاء، الله يعلم أكان جيدًا أم رديئًا؟ والحركة متصلة في البيت؛ يُهيَّأ الخبز والفطير في ناحية، وتنظف المنظرة وحجرة الاستقبال في ناحية أخرى، والصبيان في لهوهم وعبثهم، والشبان في ثيابهم وأحذيتهم، والشيخ يغدو ويروح ويجلس إلى أصحابه آخر النهار وأول الليل.
حتى إذا كان عصر اليوم الرابع وقف هذا كله فجأة، وقف وعرفت أم الصبيِّ أن شبحًا مخيفًا يحلِّق على هذه الدار، ولم يكن الموت قد دخل هذه الدارَ من قبل، ولم تكن هذه الأمُّ الحنون قد ذاقت لَذْعَ الألم الصحيح، نعم! كانت في عملها وإذا الطفلة تصيح صياحًا منكرًا، فتدَع أمُّها كلَّ شيء وتسرع إليها، والصياح يتصل ويزداد، فتدع أخوات الطفلة كلَّ شيء ويسرعن إليها، والصياح يتصل ويشتدُّ، والطفلة تتلوَّى وتضطرب بين ذراعي أمِّها، فيدع الشيخ أصحابه ويسرع إليها، والصياح يتصل ويشتد، والطفلة ترتعد ارتعادًا منكرًا ويتقبَّض وجهها ويتصبب العرق عليه، فينصرف الصبيان والشبان عما هم فيه من لهو وحديث ويسرعون إليها، ولكن الصياح لا يزداد إلا شدة، وإذا هذه الأسرة كلها واجمة مبهوتة٢ محيطة بالطفلة لا تدري ماذا تصنع! ويتَّصل ذلك ساعة وساعة، فأمَّا الشيخ فقد أخذه الضعف الذي يأخذ الرجال في مثل هذه الحال، فينصرف مُهَمْهِمًا٣ بصلوات وآيات من القرآن يتوسل بها إلى الله، وأمَّا الشبان والصبيان فيتسللون في شيء من الوجوم لا يكادون ينسون ما كانوا فيه من لهو وحديث ولا يكادون يستأنفونه، هم كذلك حَيارَى في الدار! وأمهم جالسة واجمة تحدِّق في ابنتها وتسقيها ألوانًا من الدواء لا أعرف ما هى، والصياح متَّصل مشتد، والاضطراب مستمر متزايد.
ما كنت أحسب أنَّ في الأطفال — ولمَّا يتجاوزوا الرابعة — قوةً تعدل هذه القوة. وتأتي ساعة العَشاء وقد مدَّت المائدة، مدَّتها كبرى أخوات الصبي، وأقبل الشيخ وبنوه فجلسوا إليها، ولكنَّ صياح الطفلة متصل، فلا تُمَدُّ يد إلى طعام، وإنما يتفرقون جميعًا، وترفع المائدة كما مدَّت، والطفلة تصيح وتضطرب، وأمها تحدق إليها حينًا وتبسط يدها إلى السماء حينًا آخر، وقد كشفت عن رأسها وما كان من عادتها أن تفعل! ولكن أبواب السماء كانت قد أغلقت في ذلك اليوم، فقد سبق القضاء بما لا بُدَّ منه، فيستطيع الشيخ أن يتلو القرآن، وتستطيع هذه الأم أن تتضرع، ومن غريب الأمر أن أحدًا من هؤلاء الناس جميعًا لم يفكر في الطبيب، وتقدم الليل وأخذ صياح الفتاة يهدأ، وأخذ صوتها يخفت،٤ وأخذ اضطرابها يخفُّ، وخُيِّل إلى هذه الأمِّ التعسة أن قد سمع الله لها ولزوجها، وأن قد أخذت الأزمة٥ تنحلُّ. وفي الحق أنَّ الأزمة كانت قد أخذت تنحلُّ، وأن الله كان قد رأف بهذه الطفلة، وأن خُفوتَ الصوت وهدوء هذا الاضطراب كانا آيتي هذه الرأفة. تنظر الأم إلى ابنتها فيخيل إليها أنها ستنام، ثم تنظر فإذا هدوء متصل لا صوت ولا حركة، وإنما هو نفس خفيف شديد الخفة يتردَّد بين شفتين مفتَّحتين قليلًا، ثم ينقطع هذا النفس وإذا الطفلة قد فارقت الحياة.

ماذا كانت علتها؟ كيف ذهبت بحياتها هذه العلة؟ الله وحده يعلم هذا.

وهنا يرتفع صياح آخر ويتصل ويشتد، وهنا يظهر اضطراب آخر ويتصل ويشتد، ولكنه ليس صياح الطفلة ولا اضطرابها، وإنما هو صياح هذه الأم وقد رأت الموت، واضطرابها وقد أحسَّت الثُّكْلَ.٦ وإذا الشبان والصبيان قد فزعوا إلى أمِّهم وسبقهم إليها الشيخ، وإذا هي في جزع وهلع ينطق لسانها بألفاظ لا صلة بينها، ويقطع الدمع صوتها تقطيعًا، وإذا هي تلطم خديها في عنف متصل، وزوجها ماثل أمامها لا ينطق لسانه بحرف، وإنما تنهمر دموعه انهمارًا، وإذا الجارات والجيران قد سمعوا هذا الصياح فأقبلوا مسرعين. فأما الشيخ فينصرف إلى الرجال يتقبل عزاءهم في قوة وجلد. وأما الشبان والصبيان فيتفرقون في الدار، قد قست قلوب بعضهم فنام، ورقَّت قلوب بعضهم فسهر، وأما الأم ففيما هي فيه من جزع وهلع، أمامها ابنتها هامدة جامدة، تولْول٧ وتخمش وجهها وتصك صدرها، ومن حولها بناتها وجاراتها يصنعن صنيعها؛ يولولن ويخمشن الوجوه ويَصْكُكْنَ الصدور حتى ينقضي الليل كله.

وما أشد نُكْر هذه الساعة التي أقبل فيها بعض الناس واحتملوا الطفلة ومضَوا بها إلى حيث لا تعود! كان ذلك اليوم يوم الأضحى، وكانت الدار قد هيئت للعيد، وكانت الضحايا قد أعدت، فيا له من يوم! ويا لها من ضحايا! ويا نكرها من ساعة حين عاد الشيخ إلى داره مع الظهر وقد وارى ابنته في التراب!

منذ ذلك اليوم اتَّصلت الأواصر٨ بين الحزن وبين هذه الأسرة؛ فما هي إلا أشهر حتى فقد الشيخ أباه الهرم، وما هي إلا أشهر أخرى حتى فقدت أمُّ الصبيِّ أمَّها الفانية.٩ وإنما هو حِدَادٌ١٠ متصل وألمٌ يقفو١١ بعضه بعضًا، منه اللاذع ومنه الهادئ، حتى كان هذا اليوم المنكر الذي لم تعرف الأسرة يومًا مثله، والذي طبع حياتها بطابع من الحزن لم يفارقها، والذي ابيضَّ له شعر الأبوين جميعًا، والذي قضى على هذه الأم أن تلبس السواد إلى آخر أيامها، وألَّا تذوق للفرح طعمًا، ولا تضحك إلَّا بكت إثْرَ ضَحِكها، ولا تنام حتى تريق بعض الدموع، ولا تُفيق من نومها حتى تريق دموعًا أخرى،١٢ ولا تَطْعَمَ فاكهة حتى تُطْعِمَ منها الفقراء والصبيان، ولا تبتسم لعيد، ولا تستقبل يوم سرور إلا وهي كارهة راغمة.
كان هذا اليومُ يومَ ٢١ أغسطس من سنة ١٩٠٢، وكان الصيف منكرًا في هذه السنة، وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكًا ذريعًا،١٣ ودمَّر مدنًا وقرًى، ومحا أُسَرًا كاملة. وكان «سيِّدنا» قد أكثر من الحُجُب وكتابة المُخلَّفات، وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت، وكان الأطباء ورُسُل مصلحة الصحة قَدِ انْبَثُّوا١٤ في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة. وكانت أمُّ الصبيِّ في هلع مستمرٍّ، وكانت تسأل نفسها ألف مرة في كل يوم بمن تنزل النازلة من أبنائها وبناتها! وكان لها ابن في الثامنةَ عَشْرةَ جميلُ المنظر رائع الطلعة، نجيب ذكيُّ القلب، وكان أنجب الأسرة وأذكاها وأرقَّها قلبًا، وأصفاها طبعًا، وأبرَّها بأمِّه، وأرأفها بأبيه، وأرفقها بصِغار إخوته وأخواته، وكان مبتهجًا دائمًا، وكان قد ظفر بشهادة «البكالوريا» وانتسب إلى مدرسة الطب، وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة، فلما كان هذا الوباء، اتصل بطبيب المدينة وأخذ يرافقه، ويقول: إنه يتمرن على صناعته، حتى كان يوم ٢١ أغسطس.
أقبل الشاب آخر هذا اليوم كعادته باسمًا، فلاطف أمه وداعبها وهدَّأ من رَوْعها، وقال: لم تُصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة، وقد أخذت وطأة الوباء تخفُّ. ولكنه مع ذلك شكا من بعض الغَثَيان،١٥ وخرج إلى أبيه فجلس إليه وحدثه كعادته، ثم ذهب إلى أصحابه فرافقهم إلى حيث كان يذهب معهم في كل يوم عند شاطئ الإبراهيمية. فلما كان أوَّل الليل عاد وقضى ساعة في ضحك وعبث مع إخوته، وفي هذه الليلة زعم لأهل البيت جميعًا أن في أكل الثُّوم وقايةً من الكوليرا، وأكل الثُّوم وأخذ كبارَ إخوتِه وصغارَهم بالأكل منه، وحاول أن يُقنع أبويه بذلك فلم يُوَفَّق.
وكانت الدار هادئةً مُغْرِقةً في النوم كبارُها وصغارُها وحيوانُها عندما انتصف الليل، ولكنَّ صيحة غريبة ملأت هذا الجوَّ الهادئ، فَهَبَّ١٦ لها القوم جميعًا. فأمَّا الشيخ وزوجته فكانا في هذا الدهليز المنبسط الذي تظله السماء يدعوان ابنهما باسمه. وأما الشبان من أهل الدار فكانوا يَثِبُون من فراشهم مسرعين إلى حيث الصوتُ. وأما الصبيان فكانوا يجلسون يَحُكُّون أعينهم بأيديهم يحاولون أن يتبينوا في شيء من الهلع من أين يأتي الصوت وماذا كانت الحركة الغريبة؟!

وكان مصدر هذا كلِّه صوت هذا الفتى وهو يعالج القيء. وكان الفتى قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه ويمضي إلى الخلاء ليقيء مجتهدًا ألا يوقظ أحدًا، حتى إذا بلغت العلَّة منه أقصاها لم يملك نفسه ولم يستطع أن يقيء في لطفٍ، فسمع أبواه هذه الحشرجة ففزعا لها، وفزع معهما أهل الدار جميعًا.

إذن فقد أصيب الشاب، ووجد الوباء طريقه إلى الدار، وعرفت أمُّ الفتى بأيِّ أبنائها تنزل النازلة. لقد كان الشيخ في تلك الليلة خليقًا بالإعجاب حقًّا، كان هادئًا رزينًا مروعًا مع ذلك، ولكنه يملك نفسه، وكان في صوته شيء يدل على أن قلبه مفطور، وعلى أنه مع ذلك جَلْدٌ مستعدٌّ لاحتمال النازلة. آوى ابنه إلى حجرته، وأمر بالفصل بينه وبين بقية إخوته، وخرج مسرعًا فدعا جارين من جيرانه، وما هي إلا ساعة حتى عاد ومعه الطبيب.

وفي أثناء ذلك كانت أمُّ الفتى مروعةً جَلْدةً مؤمنة تُعنَى بابنها، حتى إذا أمهله القيء خرجتْ إلى الدهليز فرفعت يدها ووجهها إلى السماء، وفنيتْ في الدعاء والصلاة، حتى تسمع حشرجة القيء فتسرع إلى ابنها تُسنده إلى صدرها وتأخذ رأسه بين يديها، ولسانُها مع ذلك لا يكف عن الدعاء والابتهال.

ولم تستطع أن تحول بين الصبيان والشبان وبين المريض، فملئوا عليه الحجرة وأحاطوا به واجمين، وهو يداعب أمَّه كلما أمهله القيء، ويعبث مع صغار إخوته، حتى إذا جاء الطبيب فوصف ما وصف وأمر بما أمر وانصرف على أن يعود مع الصبح. لَزِمت أمُّ الفتى حجرةَ ابنها، وجلس الشيخ قريبًا من هذه الحجرة واجمًا لا يدعو ولا يصلِّي ولا يجيب أحدًا من الذين كانوا يتحدثون إليه.

وأقبل الصبح بعد لأْيٍ، وأخذ الفتى يشكو ألمًا في ساقيه، وأقبلت إليه أخواته يَدْلُكْنَ له ساقيه، وهو يشكو صائحًا مرَّة كاتمًا ألمه، ومرة أخرى القيءُ يُجهده ويخلع في الوقت نفسه قلب أبويه. وقضتِ الأسرة كلُّها صباحًا لم تقضِ مثله قط؛ صباحًا واجمًا مظلمًا فيه شيءٌ مُفْزِعٌ مُرَوِّعٌ. فأمَّا خارج الدار فكان يزدحم بالناس، أقبلوا إلى الشيخ يواسونه. وأما داخل الدار فكان يزدحم بالنساء أقبلن يواسين أمَّ الفتى. وكان الشيخ وزوجُه عن أولئك وهؤلاء في شغل، وكان الطبيب يتردد بين ساعة وساعة، وكان الفتى قد طلب أن يُبْرَق إلى أخيه الأزهريِّ في القاهرة وإلى عمه في أعلى الإقليم، وكان يطلب الساعة من حين إلى حين ينظر فيها كأنه يتعجَّل الوقت، وكأنه يشفق أن يموت دون أن يرى أخاه الشابَّ وعمَّه الشيخ، يا لها من ساعة مُنكَرة، هذه الساعة الثالثة من الخميس ٢١ أغسطس سنة ١٩٠٢!

انصرف الطبيب من الحجرة يائسًا، وكأنه قد أسرَّ إلى رجلين من أقرب أصحاب الشيخ إليه بأنَّ الفتى يُحْتَضَر،١٧ فأقبل الرجلان حتى دخلا الحجرة على الفتى ومعه أمه، ظهرت في هذا اليوم لأول مرة في حياتها أمام الرجال.
والفتى في سريره يتضوَّر؛١٨ يقف ثم يُلقي بنفْسِه، ثم يجلس ثم يطلب الساعة، ثم يعالج القيء، وأمه واجمة، والرجلان يواسيانه وهو يجيبهما: لستُ خيرًا من النبي، أليس النبيُّ قد مات! ويدعو أباه يريد أن يواسيه فلا يجيبه الشيخ، وهو يقوم ويقعد ويُلقي نفسَه في السرير مرة ومن دون السرير مرة أخرى، وصبينا منزوٍ في ناحية من هذه الحجرة، واجم ٌكئيبٌ دَهِشٌ يمزِّق الحزن قلبه تمزيقًا.
ثم ألقى الفتى نفسه على السرير وعجز عن الحركة، وأخذ يئن أنينًا يَخْفُتُ من حين إلى حين، وكان صوت هذا الأنين يبعد شيئًا فشيئًا، وإنَّ الصبيَّ لَيَنْسَى كلَّ شيء قبل أن ينسى هذه الأنَّة الأخيرة التي أرسلها الفتى نحيلةً ضئيلةً طويلة ثم سكت. في هذه اللحظة نهضت أمُّ الفتى وقد انتهى صبرها وَوَهَى١٩ جَلَدُهَا، فلم تكد تقف حتى هَوَتْ٢٠ أو كادت، وأسندها الرجلان، فتمالكت نفسها وخرجت من الحجرة مطرقةً ساعية في هدوء، حتى إذا جاوزتها انبعثت من صدرها شَكَاةٌ، لا يذكرها الصبيُّ إلا انخلع لها قلبه انخلاعًا. واضطرب الفتى قليلًا، ومرَّت في جسمه رعدة تبعها سكوت الموت. وأقبل الرجلان إليه فهيَّآه وعَصَباه وألقيا على وجهه لِثامًا، وخرجا إلى الشيخ، ثم ذُكِرَ أنَّ الصبيَّ مُنْزوٍ في ناحية من نواحي الحجرة، فعاد أحدهما إليه فَجَذَبه جذبًا وهو ذاهل، حتى انتهى به إلى مكان بين الناس فوضعه فيه كما يُوضعُ الشيء.
figure

وما هي إلَّا ساعة أو بعضُ ساعةٍ حتَّى هُيِّئ الفتى للدفن وخرج الرجال به على أعناقهم.

فيا للقضاء! ما كادوا يبلغون به باب الدار حتى كان أوَّل من لَقِيَ النعشَ هذا العمُّ الشيخ الذي كان الفتى يتمهَّل الموت دقائق ليراه.

من ذلك اليوم استقرَّ الحزن العميق في هذا الدار، وأصبح إظهار الابتهاج أو السرور بأيِّ حادث من الحوادث شيئًا ينبغي أن يتجنَّبه الشبان والأطفال جميعًا.

من ذلك اليوم تَعَوَّدَ الشيخ ألَّا يجلس إلى غَدائه ولا إلى عشائه حتى يذكر ابنه ويبكيه ساعة أو بعض ساعة، وأمامه امرأته تُعينه على البكاء، ومن حوله أبناؤه وبناته يحاولون تعزية هذين الأبوين فلا يبلغون منهما شيئًا، فيُجْهِشُون جميعًا بالبكاء.٢١

من ذلك اليوم تعودت هذه الأسرة أن تعبر النيل إلى مقر الموتى من حين إلى حين، وكانت من قبلِ ذلك تعيب الذين يزورون الموتى.

ومن ذلك اليوم تغيَّرت نفسية صبينا تغيُّرًا تامًّا … عرف الله حقًّا، وحَرَص على أن يتقرَّب إليه بكل ألوان التقرُّب؛ بالصدقة حينًا، وبالصلاة حينًا آخر، وبتلاوة القرآن مرة ثالثة، ولقد شهد الله ما كان يدفعه إلى ذلك خوف ولا إشفاق ولا إيثار للحياة، ولكنه كان يعلم أن أخاه الشاب كان من أبناء المدارس، وكان يُقصِّر في أداء واجباته الدينية؛ فكان الصبي يأتي ما يأتي من ضروب العبادة يريد أن يَحُطَّ عن أخيه بعض السيئات. كان أخوه في الثامنةَ عَشْرةَ من عمره، وكان الصبي قد سمع من الشيوخ أن الصلاة والصوم فرض على الإنسان متى بلغ الخامسةَ عشْرةَ، فقدَّر الصبيُّ في نفسه أن أخاه مدين لله بالصوم والصلاة ثلاثة أعوام كاملة، وفرض الصبيُّ على نفسه ليصلين الخَمسَ في كل يوم مرتين: مرةً لنفسه ومرةً لأخيه، وليصومنَّ من السنة شهرين: شهرًا لنفسه وشهرًا لأخيه، وليكتُمنَّ ذلك عن أهله جميعًا، وليجعلنَّ ذلك عهدًا بينه وبين الله خاصة، وليطعمنَّ فقيرًا أو يتيمًا مما تصل إليه يده من طعام أو فاكهة قبل أن يأخذ بحظه منه. وشهد الله لقد وَفَى الصبيُّ بهذا العهد أشهرًا، وما غيَّر سيرته هذه إلا حين ذهب إلى الأزهر.

من ذلك اليوم عرف الصبيُّ أرقَ الليل؛ فكم أنفق سواد الليل كاملًا يفكر في أخيه أو يقرأ سورة الإخلاص آلاف المرات، ثم يهب ذلك كله لأخيه، أو يَنظم شعرًا على نحو هذا الشعر الذي كان يقرؤه في كتب القصص يذكر فيه حزنه وألمه لفقد أخيه، معنيًّا بألَّا يفرُغ من قصيدة حتى يصلي في آخرها على النبيِّ، واهبًا ثواب هذه الصلاة لأخيه.

نعم! ومن ذلك اليوم عرف الصبي الأحلام المُروِّعة؛ فقد كانت علَّة أخيه تتمثل له في كل ليلة. واستمرَّت الحال كذلك أعوامًا، ثم تقدمت به السن، وعمل فيه الأزهر عمله، فأخذت عِلَّة أخيه تتمثَّل له من حين إلى حين. وأصبح فتًى ورجلًا، وتقلَّبت به أطوار الحياة، وإنه لعلى ما هو عليه من وفاءٍ لهذا الأخ، يذكره ويراه فيما يرى النائم مرَّة في الأسبوع على أقلِّ تقدير.

ولقد تعزَّى عن هذا الفتى إخوتُه وأخواتُه، ونسيَه مَن نسيه من أصحابه وأترابه، وأخذت ذكراه لا تزور أباه الشيخ إلا لمامًا، ولكنَّ اثنين يذكرانه دائمًا، وسيذكرانه أبدًا أوَّلَ الليل من كلِّ يوم، هما: أمُّه وهذا الصبيُّ.

١  أَبلَّ من مرضه: شُفيَ منه.
٢  واجمة: عابسة مطرقة لشدة الحزن. ومبهوتة: مُتحيرة.
٣  الهمهمة: الكلام الخفي.
٤  يخفت: يضعُف ويسكن.
٥  الأزمة: الشدة.
٦  الثكل: الموت والهلاك، وفقدان الحبيب أو الولد.
٧  الولولة: الإعوال والبكاء. الخمش: اللطم والضرب. والصك هنا: الضرب الشديد.
٨  الأواصر هنا: العلائق والصلات.
٩  الفانية: التي بلغت أرذل العمر.
١٠  حَدَّت المرأة، تَحدَّت المرأة تَحدُّ — كضرب ونصر — حدًّا وحدادًا: تركت الزينة لموت زوج أو حبيب، والمراد بالحِداد هنا: الحزن.
١١  يقفو: يتبع.
١٢  الإراقة: الصبُّ، يُريد حينها تذرف دموعًا غزيرة.
١٣  ذريعًا: سريعًا فاشيًا.
١٤  انبثوا: انتشروا.
١٥  غثت النفس غثيًا وغثيانًا: خبثت واضطربت حتى تكاد تتقيأ.
١٦  هبَّ القوم: انتبهوا من النوم.
١٧  يحتضر: يحضره الموت.
١٨  يتضور: يتلوَّى.
١٩  وهى: ضعف.
٢٠  هَوَى: سقط.
٢١  أَجْهَشَ بالبكاء: همَّ به وتهيَّأ له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤