الفصل التاسع

الفلسفة المفسدة!

ولم تمضِ أيام بعد فوز صاحبنا في الامتحان، حتى دعته الجامعة، وأنبأته بأنه سيشرف بالمثول بين يدي الحضرة العلية الخديوية من غد، إذا كانت الساعة الخامسة بعد الظهر، وأن عليه أن يتهيَّأ للسفر إلى الإسكندرية ظهر الغد، وسيقدِّمه إلى الجناب العالي، حضرة صاحب السعادة أحمد شفيق باشا الذي سيسافر إلى الإسكندرية في نفس الموعد وفي نفس القطار.

وَجَم الفتى لهذا النبأ وجومًا معقدًا حقًّا، كان فيه السرور والغرور، وكان فيه الخوف والفَرَق، وكانت فيه حيرة أي حيرة … فليس قليلًا على ذلك الفتى الأزهري الفقير الضرير أن يرقى في هذه السرعة إلى حيث يلقى صاحب العرش، وأين هو من صاحب العرش؟ … وأين صاحب العرش منه؟!

وكيف السبيل إلى الإسكندرية ومع من يسافر؟! وغلامه ذاك الأسود لا يُحسن أن يصاحبه في شوارع القاهرة إلا في كثير من الجهد والعناء، فكيف بمصاحبته إلى هذه المدينة البعيدة الغريبة التي تقوم على ساحل البحر في أقصى الأرض؟ وكيف يصاحبه إلى القصر، وكيف يكون دخوله على الأمير؟

ثم في أيِّ هيئة يدخل على الأمير؟! أفي ثيابه تلك الرَّثة التي لم يكن يرضى عنها ولا يطمئن إليها ولا يظهر فيها لنظرائه إلا في شيء من الكره والحياء! أم في ثياب أخرى تليق بلقاء الأمير، ومَن له بهذه الثياب؟ وماذا يصنع بعد أن يخرج من القصر؟ وأين يقضي ليلته في هذه المدينة الغريبة؟ ومن له بما تحتاج إليه هذه الرحلة من النفقات؟ وهو لا يملك إلا قروشًا لا تتجاوز العشرة، ولا سبيل له إلى أن يطلب من أخيه شيئًا، فلم يعرف أخوه قط كيف يكون عنده أكثر من جنيه ينفق منه حتى إذا أتى عليه تكلف الاقتراض من صديقه هذا أو ذاك، حتى يكون أول الشهر.

ازدحمت هذه الخواطر على الفتى فشغلته عن أن يُرجع الجواب على سكرتير الجامعة، حين ألقى إليه هذا النبأ السعيد وكأن السكرتير قد أحسَّ شيئًا من حيرته فقال له متلطفًا: وسيكون سفرك إلى الإسكندرية ورجوعك منها على نفقة الجامعة.

فابتسم الفتى في مرارة، ولم يزد على أن شكر ثم انصرف.

ورآه مساء ذلك اليوم راضيًا مغتبطًا في الكلوب المصري، يضحك ملء شدقيه، فقد لقَى صديقه ذلك الموسر الذي كان يحمل في أصبعه أربعين إردبًّا من القمح، لقيَه ولم يطلب إليه شيئًا، وإنما أنبأه بأنه مسافر من الغد في صحبة شفيق باشا للتشرف بلقاء الأمير، قال الصديق مبتهجًا: فسأكون رفيقك في هذه الرحلة، وستريح غلامك هذا الذي أثقلت عليه في هذه الأيام.

ثم سكت لحظة كأنه كان يفكر في شيء، وأحسَّ الفتى — وإن لم يرَ — أن صديقه كان ينظر إليه نظرة فاحصة … ثم انقطع الصمت، وقال الصديق: ألم يعلن علوي باشا أنه قد أجازك بعشرين جنيهًا؟

قال الفتى: بلى.

قال الصديق: فهلُمَّ معي، فليس لك بدٌّ من ثوبٍ تلقى فيه الأمير.

قال الفتى: وأيُّ ثوب؟

قال الصديق: اصحبني، ولا عليك.

ثم مضى معه إلى حيث اشترى له معطفًا من هذه المعاطف التي كان الأزهريون يسمونها الكاكولا، ولم يكد الفتى يدخل فيها ويجمع طرفيها على صدره بأزراره تلك حتى أحس كأن شخصه قد تغير، وكأنه قد خرج من طور من أطوار حياته، ودخل في طور جديد.

ولم يُردِ الفتى أن يبرح القاهرة دون أن يلقى أستاذه لطفي السيد، فسعى إليه حين ارتفع الضحى من الغد، وتلقَّاه الأستاذ حفيًّا به، فضمَّه إليه وقبله، وقال: امضِ مصاحبًا، واذكر أنك في أول الطريق.

ورأى الفتى نفسه في قطار الإسكندرية، وفي الدرجة الأولى التي لم يعرفها قبل ذلك اليوم. ورأى نفسه بين صديقه ذاك وبين شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي، وهم يأخذون في أطراف من الحديث، والباشا يقصُّ عليهما فنونًا من حياته حين كان طالبًا يختلف إلى دروس العلوم السياسية في باريس أو في لوزان. والفتى يسمع ويرى نفسه مختلفًا بعد وقتٍ يقصر أو يطول إلى دروسه في السوربون، وتعرض له في باريس خطوب لا تشبه الخطوب التي عرضت له حين كان يختلف إلى دروسه في الأزهر أو في الجامعة.

فإذا بلغ القطار مدينة الإسكندرية ذهب الفتى وصاحباه، إلى القصر في عربة فخمة كانت تنتظر الباشا في المحطة، والفتى ينكر نفسه، وينكر هذا الترف الذي لا عهد له به، وهو في الوقت نفسه حائر ذاهل يفكِّر فيما سيسمع من الأمير وفيما سيقول له.

وقد أدخل على الأمير، فإذا هو يلقى رجلًا كغيره من الرجال الممتازين الذين كان يلقاهم في الجامعة من أعضاء مجلسها، وإذا هذا الرجل يلقاه في سماحة سمحة بريئة من التكلف، وإذا هو يأخذ بيده فيجلسه على أريكة ويجلس عليها إلى جانبه، مهنئًا له بفوزه، متمنيًا له الخير والنجح فيما يستقبل من الأيام، سائلًا إياه بعد ذلك عما يريد أن يصنع بعد أن ظفر بدرجته تلك.

قال الفتى: سأحاول السفر إلى فرنسا لأدرس الفلسفة أو التاريخ.

قال الأمير: إياك والفلسفة! فإنها تفسد العقول!

وكان الإنكار قد ظهر على وجه الفتى، فمضى الأمير قائلًا: بل هي لا تفسد العقول وحدَها، ولكنها تفسد الذوق أيضًا؛ لقد ذهبت إلى باريس منذ سنتين، واستقبلني الطلاب المصريون هناك، وكانوا جميعًا حاسري الرءوس في أيديهم قلانسهم إلا واحدًا منهم كان حاسر الرأس كزملائه، ولكنه لم يكن يمسك قلنسوة وإنما كان يمسك طربوشًا في يده … فلما سألت عن هذا الفتى أنبئت بأنه منصور فهمي، وبأنه يدرس الفلسفة، فعلمت أن الفلسفة قد أفسدت عليه عقله وذوقه جميعًا، فصاحب الطربوش لا يرفعه عن رأسه ولا يأخذه بيده حين يلقى الخديو، وصاحب القلنسوة لا يتركها على رأسه وإنما يأخذها بيده في مثل هذا المقام، ولكن صاحبنا كان يدرس الفلسفة!

ثم أغرق في ضحك متصل، والفتى مغرق في الوجوم.

فلما سكت عنه الضحك، قال وهو يضع يده على ركبة الفتى: ستسافر إلى فرنسا، ولكن لا تدرس الفلسفة وعليك بالتاريخ فإنه علم عظيم.

ثم أعرض عن الفتى وأخذ يتحدث إلى شفيق باشا في رطانة تركية لم يفهم منها الفتى قليلًا ولا كثيرًا، ووقف بعد دقائق، فوقف الفتى وصحبه شفيق باشا إلى خارج الغرفة حيث كان ينتظره صديقه ذاك.

فودَّعه شفيق باشا وأسلمه إلى صاحبه وعاد هو إلى الأمير.

وانسل الصديقان من القصر، لا يحفل بهما أحد ولا يلتفت إليهما أحد، وخرجا من القصر فلم يجدا عربة تنتظرهما، وإنما مضيا أمامهما يقصُّ الفتى على صديقه حديث الأمير إليه، والصديق يضحك، ثم يقول: هلُمَّ إلى مكتب التلغراف لننبئ الجامعة بانتهاء المقابلة، ثم نخلص لأنفسنا.

قال الفتى: فسننبئ الجامعة غدًا حين نعود.

قال الصديق: اسكت يا أحمق، فإن هذه البرقية ستكون أعظم خطرًا وأبعد أثرًا من المقابلة نفسها، سيقرؤها أعضاء مجلس الإدارة، وستقضي على تردُّدهم في إرسالك إلى فرنسا.

وذهبا إلى مكتب التلغراف، وكتب الصديق إلى الجامعة هذه البرقية، لم يؤامر فيها الفتى، وإنما قرأها عليه بعد أن انصرفا من المكتب:

حضرة سكرتير الجامعة المصرية بالقاهرة

لبثنا في حضرة الجناب العالي ربع ساعة لقينا فيه من لطف الملك وعطفه على الجامعة وعلينا ما أطلق ألسنتنا بالحمد له والثناء عليه.

طه حسين

وأنفق الصديقان ساعات حلوة في الإسكندرية، يهيمان على ساحل البحر، ويأخذان في ألوان من الحديث فيها قليل من جِدٍّ وكثير من العبث، واستكشف الفتى في صديقه خصلة لم يكن يعرفها منه، وهي الإسراف على نفسه في الأكل، فلم يكن يلقى شيئًا يؤكل مما يحمله الباعة المتجولون إلا اشترى منه وأقبل عليه يزدرده ازدرادًا، والغريب أنه أقبل على عشائه كأنه لم يأكل قبله شيئًا. ثم قضيا ليلتهما في فندق تيمَّن الصديق باسمه، وقال لصاحبه: فألٌ حسن! ستسافر إلى فرنسا لأن الفندق يتسمى باسمها، وينسب إليها.

ولم يبلغ الفتَيَان مدينة القاهرة، حتى قال الصديق لصاحبه: إذا أدَّى إليك علوي باشا جائزته فاذكر أنك مدين لي بستة جنيهات، واحذر أن تُبطئ في أدائها إليَّ!

وكان قبض هذه الجائزة أثقل على الفتى من لقائه للأمير، فقد دُعي إلى العشاء على مائدة علوي باشا، مع أساتذته الذين امتحنوه، فجلس إلى المائدة، ولكنه لم يصب من الألوان التي قدمت إليه شيئًا، كان شديد الحياء بطبعه، وكانت المهابة تملك نفسه وتفسد عليه أمره كله. وكان لا يدري ماذا يصنع بشخصه كله وقد وضعت أمامه أدوات المائدة فلم يكد يمسَّها حتى أدركه منها ذعرٌ شديد … ماذا يصنع بالملعقة؟ وماذا يصنع بالشوكة والسكين؟! وكيف يتصرف بها؟ أليس الخير كل الخير في أن يلبث في مكانه هادئًا ساكنًا لا يعرض نفسه لسخرية أو إشفاق؟

وظل في مكانه هادئًا ساكنًا أيضًا لا يُحرك يدًا ولا لسانًا.

وأقبل الأساتذة على طعامهم غير هيابين ولا وجلين ولا مترددين ولا حافلين بهذا الفتى الجالس بينهم كأنه التمثال! قد انعطف أعلاه على أسفله، وهو مغرق في السكون والصمت لا يصنع شيئًا ولا يقول شيئًا. كان يستحي أن يحرَّك يدَه أو لسانَه، وكان يستخذي من سكونه وصمته، وكان يتعجَّل مرَّ الساعات ويتمنى أن تعود إليه حريته حين يُردُّ إلى غلامه ذاك الأسود الذي كان ينتظره غير بعيد. وكان علوي باشا وحده يلحُّ عليه في أن يصيب من هذا اللون أو ذاك، فلما استيأس منه، قال في صوت حزين: أرجو أن يكون خادمك قد أعدَّ لك ما يعشِّيك.

وقد فرغ القوم من طعامهم، وأخذوا في أطرافٍ من الحديث، وشاركهم الفتى في بعضها، ثم قام الباشا فأدار مفتاحًا في خزانة وجذب إليها درجًا من أدراجها ثم أعاد إغلاقها، ثم أقبل على الفتى فدسَّ في يده ورقة تصبب جبينه لها عرقًا، فلما أصبح عرف أنها كانت الشيك الذي دُعِيَ إلى العشاء ليتسلَّمه.

وأدَّى الفتى دينه، وأجاز خدم الجامعة كما أجازه علوي باشا، وبقيَ له جنيهات تسعة سطا عليها أخوه فلم يُبقِ له منها شيئًا!

على أن هذا كله لم يُنسِ الفتى حقه عند الجامعة، فهي قد علقت سفره على أن يفوز بالدرجة، وقد فاز بها، فيجب أن تبرَّ الجامعة بوعدها، والفتى يكتب إليها هذا الكتاب:

صاحب العطوفة رئيس الجامعة المصرية

قد عرضتُ منذ حين على الجامعة المصرية أن توفدني إلى أوروبا لأدرس فيها التاريخ والفلسفة، فكلفتني تعلَّم الفرنسية، ثم قبلت الطلب وعلَّقت تنفيذه بنيلي شهادة العالمية، وإذ كنت قد فرغت من هذا كله بحمد الله فلم يبقَ إلا أن يحدِّد مجلس الإدارة موعد السفر وتكتب الجامعة بذلك لأعدَّ له عدَّته.

لذلك رفعت إلى عطوفتكم هذا الطلب راجيًا أن تتفضلوا بقبوله ولكم الشكر أفندم.

١٨ مايو ١٩١٤
طه حسين
وبدأت الجامعة البرَّ بوعدها، فقررت ضمَّ الفتى إلى بعثتها بباريس وأرسلت إليه هذا الكتاب:

حضرة المحترم الدكتور

اطلع مجلس الإدارة على العريضة المقدمة من حضرتكم بتاريخ ١٨ مايو سنة ١٩١٤ فقرر انضمامكم إلى إرسالية الجامعة بباريس لدراسة التاريخ، وأن يكون سفركم في الأسبوع الأول من شهر أغسطس القادم.

وهذا إخطار لحضرتكم بذلك، واقبلوا وافر تحياتي.

رئيس الجامعة المصرية

وكذلك تحقق هذا الحلم السعيد الذي داعب نفس الفتى وداعبته نفسه أعوامًا، وأصبح صاحبنا عضوًا في بعثة الجامعة. وتقرر أن يعبر البحر على الباخرة لوكس في الثامن من شهر أغسطس، وسافر الفتى إلى أقصى الصعيد حيث كانت تقيم أسرته ليودع أبويه، فأقام في أسرته أسابيع كانت تثير في نفسه كثيرًا من الشجون، فقد كان يرى أباه مبتهجًا أشدَّ الابتهاج بسفر ابنه إلى أوروبا بعد أن ابتهج أشدَّ الابتهاج كذلك بفوز ابنه بدرجته الجامعية.

كان يتحدث بذلك إلى أهله، وكان يتحدث به إلى الناس، وكان كثيرًا ما يقول لأولئك وهؤلاء: لله في خلقه شئون! هذا أضعف بَنِيَّ وأخفُّهم عليَّ حملًا وأقلهم نفقة، قد أتيح له ما لم يُتَح لإخوته الأقوياء المبصرين الذين كلفوني من النفقة ما أطيق وما لا أطيق، لم تتحدث الصحف عن واحد منهم، ولم يقابل الخديو واحدًا منهم، ولم يخطر لي ولا لواحد منهم أنه قد يسافر إلى أوروبا كما سافر إليها أبناء الأغنياء. وكان قصارى ما تمنيت لابني هذا أن يجلس إلى عمود في الأزهر ليلقي الدروس على بعض طلابه، فإذا هو مسافرٌ إلى باريس تلك التي نسمع من أحاديثها الأعاجيب!

وكانت أم الفتى راضية عما أتيح لابنها من النجاح، ولكن رضاها كان مُرًّا ثقيلًا. كانت تفكر في حال ابنها وفيما سيعرض له من الخطوب في بلاد الغربة، وفيما سيتكلف من الجهد ويحتمل من المشقة، وكانت كلما رأت ابتهاجه وابتهاج أبيه ثقل عليها هذا التفكير، وربما استخفت بدموعها حتى لا تنغص على الأسرة هذا الابتهاج.

وأقبل الفتى ذات يوم إلى القاهرة يتهيأ للسفر البعيد، ولكنه لا يكاد يأخذ في ذلك حتى ينقلب فرحه حزنًا وسروره ألمًا ولوعة؛ فقد أُعلِنت الحرب، واستردَّتِ الجامعة طلابها من أوروبا، ووقفت إرسال البعثة الجديدة واضطر الفتى إلى أن ينتظر … ماذا ينتظر؟ وإلى متى يكون هذا الانتظار: أيقصر أم يطول؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤