هذه التطبيقات

١

في الألفية الثالثة، يُثير الدين من الأسئلة أكثر مما يقدِّم من الإجابات. كان هكذا دائمًا، وسيظل.

في «بيان ضد الكهنوت الإسلامي» (٢٠١٦م) عالجت بعض القضايا المتصلة بالدين، كنت جادًّا وحانقًا آنذاك، تلك كانت مناقشة أُحاديَّة محدَّدة الهدف تسعى إلى أنسنة الحاجة إلى الإيمان بالدين، كما حاجتنا إلى الشِّعر والرجاء وسرد الأساطير، وتتساءل عما إذا كان بالإمكان تخليص الإيمان من شبكة العنكبوت الذي حُشر فيها. هنا لن أقصر حديثي على ديانة واحدة، سأركِّز دائمًا على معطاة رئيسة تتلخَّص في أن الديانات «الإبراهيمية» الثلاث تتشابه وتتكامل، بغض النظر عن صراعها. تبقى الرموز والآليات والوظائف كما هي وإن تغيَّرَت أسماؤها وأساليب تقديمها، وطالما أن منشأها واحد — كما تقول التقاليد الدينية — منذ أن اضطلع إبراهيم بمهمة تعريف البشر على خليله المعبود، فإن ما يقع بينها هو مجرَّد صراع بين إخوة أعداء. لا أعتقد أن الأمر تغيَّر كثيرًا منذ أن كتب روسو «عقيدة قسٍّ من جبال السافوا» سنة ١٧٦١م: «تتقاسم أوروبا ثلاث ديانات رئيسية، إحداها تؤمن برسالة واحدة، الثانية برسالتين، الثالثة بثلاث رسائل. كل واحدة تمقت الأخريَين وتلعنهما، ترميهما بالتعامي والعناد والتعنُّت والكذب … الديانة التي لا تقبل سوى رسالة واحدة هي الأقدَم، وتبدو الأوثق، الديانة التي تقبل ثلاث رسالات هي الخاتمة وتبدو الأكثر اعتدالًا واتِّساقًا، والتي تقول برسالتَين، رافضةً الثالثة، قد تكون الأفضل لكنها تصدم البديهةَ، والتناقضُ في معتقدها واضح لكل ناظر»١ وإلى تلك الآصرة النسابيَّة الأبويَّة أضيف في هذا الكتاب ديانات أخرى أعتبرها مشابهة أيضًا للعائلة الإبراهيمية المقدَّسة، وإن اختلفت بهذا القدر أو ذاك في آليات الهيمنة وعدد الأتباع وتصورات الجزاء والعقاب. وفي الحقيقة فإن أيَّ دين آخَر في العالَم يشبهها مع أخذنا بعين الاعتبار أصالة خصوصياته.

الأديان باختصار كما أحبُّ أن أقول هي تجليات قومية. كل كيان (قومية، جنس، بلد، إقليم، قارَّة) يُلبَس وجهه الإنساني عبر التاريخ هالة مضيئة مُشرقة، ويستمد حضوره من نور قديم، هذا ما يمنح البشر الذين يعيشون في نطاقه معنى ترنسندانتاليًّا لوجودهم، أليست هذه سمة عالَمية تعبِّر عن حق قومي لا يمكن نفيه أو إجهاضه مهما كانت أدواتنا العقلية صارمة ومحايدة؟

على هذه القاعدة عاش في مربع قاري مشترك اسمه الشرق الأدنى القديم أتباع ثلاثة كتب مقدَّسة من أصل واحد دون أن يألفوا الاشتراك في فضيلة «الروح»، أو رغبة «الخير المشترك» (هم بالطبع لا يتوقفون عن الكلام عن وحدة ذرية بين بعضهم بعضًا، كما لا يتورَّعون في الوقت نفسه عن إعلان نوع من العداء الكارامازوفي بينهم، ويمور في صدورهم حقد مُقدَّس). هذه الفرضية تسكن عمق نقاشي في هذا الكتاب، ولكنني لست متمسكًا بها دائمًا، ويستطيع القارئ أن يختار بين هذا وذاك.

٢

أليس صوتُ الأبولوجيا الإلهية واحدًا بالرغم من تنويعاته؟ علينا أن نقول أيضًا إن صوت نفي اللاهوت واحدٌ في تنويعاته هو الآخَر. إن أصواتهم تتشابه، ودفاعهم متشابه، ولا يبدو رابح أو خاسر في هذا الجدل؛ لعبة صفريَّة النتيجة. البشر لا يكفُّون عن توهم جدل ميتافيزيقي دائم ينشأ بين الله الذي يعتقدون أنه صنعهم، وبين الله الذي يعتقدون أنهم صنعوه. الجدل والحِجاج الذي صنع تاريخًا بين الطرفين لا يكاد يختلف، إنه تاريخهم المشترك؛ أسئلتهم لا تكاد تختلف:

– تزعمون وجود إله! اثبتوا هذا. نحن على يقين.

– ترفضون وجود إله! انفوا ذلك. نحن على يقين.

حلِّل هذا، حلِّل ذاك! ثمَّة شيء من المرح هنا. ما يميِّز المرح أنه بسيطٌ، وساذجٌ في معظم الأحيان، أما إذا تعلَّق الأمر بالدين فإنه معقَّد بعض الشيء. نضحك كثيرًا دون أن نبتهج بالحياة. إننا لا نتخلَّص من ثنائية الإعجاب والارتياب، بل نؤكِّدها، متشبثين بأن الحياة أسهل ممَّا نعتقد، بالرغم من أن قليلين، كما يقول جون لوك، سوف لا يشعرون بالإهانة إذا سألتهم عن معنى هذه الكلمة. ما يستأثر باهتمامي هو أن الإعجاب والارتياب أصبحا بديلًا إنسانيًّا مرِحًا عن أصل عميق هو الإثبات والنفي، فأي تفسير يتطلَّب تفسيرًا آخَر؛ إنه مسارٌ لا نهائي يتكرَّر في صيغة متواليات رياضية ينتهي كل مرة بالعودة إلى المعطاة الأولى موضوع الجدل. التحليل يؤدي إلى المزيد من الفوضى ما لم نجد موقعًا مناسبًا. سأبحث، وأعرف أنني سأعود لُغويًّا بين ثنايا هذه التطبيقات وفي خاتمتها.

٣

عندما تدور وحدة الأنا Solipsism على محور الإله، يتحول الإيمان إلى كيفيات محسوسة Qualia، ويخرج الإيمان من ممكنات التفكير إلى أرشيف الشواهد الحيَّة. مع الممكنات تكون الاختيارات محدودة، ومع الشواهد نُحيل الواقع إلى «العالم بوصفه إرادةً وتمثلًا».٢ مَن يُقنع واحدًا مصابًا بذلك أن الأمر ليس كما يعتقد؟ أليس هذا «الشيء» الكانطي في ذاته خارج عملية التماثل؟ لن أنخرط في التحليل النفسي الممسوس فلسفيًّا، لكنني في حاجة إلى الحديث عن المؤلِّهين والملحدين، على السواء، كما هم، على مسرح الصراع، ربما ليس بكلماتهم، ولكن بلغتي التي تميل إلى أن تأخذ شكلها بينما تتكوَّن هنا. إنهم جاهزون ويتسلَّحون بعتادٍ قويٍّ من النظريات والأفكار، وهم أيضًا يُجاهرون بالعداء على نحو متأصل وحقود.
يمكننا العثور على قاسم مشترك يرسم صورة الله التي تفخر الأمم بتجسيدها في أدبياتها التاريخية. قد تعجبكم هذه العبارات التي كتبها فتغنشتاين بطريقة صوفية ربما تذكركم بلاو تسو وبعض الحِكم العربية: «عندما يغلي الماء في الطَّاجن، يخرج البخار من الطَّاجن وتخرج كذلك صورة البخار من صورة الطاجن، لكن ماذا لو أراد أحدهم أن يقول إن شيئًا ما يغلي في صورة الطاجن؟»٣ هل يمكن أن نستدعي بذلك مثال توما الأكويني: «النار تحرق الخشب، فتنطبع فيه صورة الاحتراق بعد أن لم يكُن، وبالتالي فإن النار لا يمكن أن تكون محرِّكة ومتحرِّكة، محرقة ومبردة، في نفس الوقت.» حسنًا، فليكن أننا أردنا أن نؤمن بصورةٍ ما يوجد فيها الله، ماذا لو قادنا اعتقادنا هذا إلى التساؤل عن صورة أخرى تنشأ عن صورة الله التي خرجت من الطاجن؟ أم إن الله ذاته هو الطاجن الذي يغلي؟ هل الله هو الماء؟ أهو البخار؟ أهو صورة البخار التي خرجت؟ أم هو صورة تغلي في صورة البخار التي خرجت؟ ربما هو حركة الغليان! وبالنسبة إلى توما أهو صورة الخشب؟ أم هو النار؟ أم هو الاحتراق؟ أم هو حركة الاحتراق؟ أم هو حركة الانطفاء؟ أم هو قابلية الحرق؟ أم إن هذه الأخيرة صفة الإيمان؟ أم هو العملية برمَّتها كاملة كما يمكن أن تحدث؟ في المنطق اللاهوتي وعلم الكلام هناك إجابات (دقيقة بالطبع)، لكن لنسأل بدورنا: لماذا نحوِّل اللغة إلى منطق مُحكَم لا ينتج سوى لعبة صفريَّة؟ إن الله وفقًا للاهوت اليهودي – المسيحي – الإسلامي هو كلُّ ذلك مجتمعًا، أنت تراه حيث يكون وحيث لا يكون، فوجود الله ليس فكرة عن الوجود، بل هو الوجود بحدِّ ذاته. ها أن لعب اللغة الذي يدعي الفلسفة لا ينتهي!

٤

ما زالت فكرة وجود الإله في حاجة إلى إثبات، ونفيها كذلك. وجود الإنسان بالمقابل لا يحتاج إلى ذلك، ولكن فكرة إنسانوية الأديان يعوزها الإثبات كذلك. نيتشه وحده رأى جثة الإله، ولكنه لم يقدِّم دليلًا ملموسًا.

مات الله ليحيا ثانيةً، هذه ليست المرة الأولى؛ فالإيمان يعتمد على تقنية مُحكَمة تدعمه وتحميه من السقوط بنوع من التغذية المستمرة التي تعود قوة أصولها القديمة لتظهر في فروعها الجديدة، حيث لا شيء يقع خارج الحسبان في النظام الإلهي.

عندما أعلن نيتشه عن موت الله لم يصدِّقه الكثيرون، لسبب بسيط: الله هو سبب الوجود، فأين هو البديل يا صاحب المطرقة؟ أم إن الإنسان ليس أكثر من حمار نيتشوي تراجيدي؟ «فإن لم تكن حمارًا، فلمَ تتشبه به؟ وإن كنته فلمَ تدَّعي فضلًا عليه؟ وإذا لم تكن حمارًا بظاهر خلقتِك وصيغتك، فلا تكنه أيضًا بباطن بنيتك وحيلتك.»٤ قال أبو حيان. إن البشر لا يكتفون بمجرد إعلانٍ غير محايد عندما يتعلَّق الأمر بوجودهم. لقد صدَّقه فلاسفة وشعراء أيضًا، ولكن هذه الثيمة الراديكالية لم تستقر في ثقافات الناس. إذا لم يكن بالإمكان إثبات موت الله فإن ذلك يعني عدم القدرة على منع الله من العودة بقوة دون أن يعترضه أحد، أو ينتقد الشكل الذي يتجلَّى به ليعود. ربما كان الأصوب، بدلًا من ذلك الإعلان الصادم عن موته، أن يُكتفَى بالإعلان عن تقليص صلاحياته. هكذا لا نلغي اختصاصاته الأزلية (طالما تعلَّق الأمر بوجود الإنسان) في حين ننزع عنه قدرته على تحويل العدم إلى مادة خام قام بتأمينها مع بدء الخليقة. بعبارة أخرى: ربما لا ندقِّق أكثر في حكايات البدء، ولكننا بالمقابل نستطيع أن نحتجَّ على ما يتَّصل بالحاضر والمستقبل دون أن نسمح بتمرير القضاء والقدر القديمين.

٥

كثير من الأسئلة العالقة بين طرفَي هذا الجدل الخلافي هي مجرَّد ألعاب لغوية صفريَّة يسندها منطق قوي. إنها ببساطة: بدون معنًى متواضَع عليه. ربما نحتاج فقط إلى إضفاء بعض المرح على هذا الموضوع اللانهائي، فالجدل بين المؤلِّهين والملحدين لا يبدو أنه سينتهي قريبًا. لقد بدأ منذ ظهور الدعوات الدينية الأولى مع استقرار المجتمعات الإنسانية على ضفاف الأنهار المداريَّة وبدء الحضارة. المؤلِّهون سواء آمنوا بإله واحد أو آلهة شتَّى لديهم حُجَج كثيرة، والملحدون بدورهم لديهم حجج مضادَّة. إنه جدل لا يعوزه منطق صوري، ولا تعوزه المغالطات، وهو يستفيد من كلِّ حقل علمي وفلسفي ممكن، ويسعى إلى توظيفه بشكل انتقائي. جدل الطرفين معادلة تطبيقية لنظرية اللعب. ولكن ألا نقف على جانب آخَر من هذا الجدل؟! سأعيد التذكير بحركة منهجية استخدمها سارتر في مقدمة «الوجود والعدم»، وهي تنسحب على تعاملاته الدءوب: «جلد سطحي يحجب عن الأنظار طبيعةَ الشيء الحقيقية. هذه الطبيعة الحقيقية بدورها (إذا كان ينبغي أن تكون حقيقةً مستترةً لشيء ما يمكن حرزها أو افتراضها دون بلوغها أبدًا لأنها «باطنة» في الشيء موضوع النظر)، نقول إن هذه الحقيقة المستترة لا توجد هي الأخرى.»٥ سوف نقتدي به، لا لتقديم رؤية متماسكة عن العالَم ومتسقة، نستطيع الدفاع عنها بشرف وشجاعة، تلك «الشجاعة من أجل الوجود»،٦ دون أي التزام أيديولوجي، بل لكي نرى، لكي نستطيع أن نرى.

إن الملحدين ينفون السِّمة العقلانية لإثبات وجود الإله، ويحيلونه إلى النزعة الإيمانية. المؤلِّهون يؤكدون النزعة الإيمانية، ولكنهم يؤسسونها كما يقولون على شروط عقلانية. جدل طريف برغم الشراسة التي يبدو بها.

٦

الآلهةُ عبر التاريخ الإنساني لم تكُن تقف وحدها، فعلى هذا الجانب العلوي نجد: شياطين وجنيات وغيلانًا وعفاريت وأفاتار وأميشا سبينتا وأنصاف آلهة وأشباه آلهة وكائنات علويَّة أخرى. الأنبياء استمرَّ دورهم بالنسبة إلى الأديان ذات الأصول البعليَّة الثلاث (نسبة إلى الإله بعل)؛ أي اليهودية والمسيحية والإسلام، حتى منتصف القرن الخامس الميلادي، ولكن خارج فضاء الشرق الأدنى استمر وجودهم في أفريقيا مثلًا حتى القرن العشرين، وبعضهم أحياءٌ. الأمر يختلف بحسب التعريف الذي نعطيه لكلمة نبي، وبحسب قابلية الاعتراف بدوره في مجتمع ما. إن نصوص وصلوات سومر ومصر، زندافستا فارس، بهاغافاد غيتا الهند، طاو تي تشينغ الصين، توراة العبرانيين، إنجيل الآراميين، قرآن العرب … إلخ، مصادر قومية تتيح لنا تصور الفضاءات الدينية والمعتقدية في الشرق القديم، أما بعد ذلك فإن المقدَّسين يواصلون حضورهم؛ هناك أولياء وقدِّيسون ومُبارَكون، وهم خطُّ دفاع حقيقي يستعين به المؤلِّهون، هؤلاء لهم أثرهم الفاعل، ولكن لا بد للجدل من حيثيات منطقيَّة مقنعة.

في المقابل، توطين الآلهة، أنسنتها وحصرها ضمن حدود الطبيعة، باللجوء إلى أرشيف الميثولوجيا، يوفِّر للملحدين دعمًا قويًّا يؤسسون عليه حجاجهم، ويمنحهم بقوة المقارنة سلطةَ تفعيل الفكرة الأساسية في جدلهم، وهي تقديم إجابة واضحة عن كيفيَّة خلق الإله عبر التاريخ ومراحل تطوره بتطور الحاضنة البشرية. ولكن — مرَّة أخرى — لا بد للجدل من حيثيَّات منطقية مقنعة.

يستند حِجاج المؤلِّهين والملحدين على حيثيات كثيرة. جميعهم مقتنعون، وهم قادرون على الإقناع المنطقي تقريبًا. التفكير في الحيثيات قد يضعنا في موقف ثالث، فالحيثيات التي يستخدمونها ليست حكرًا على مَن أراد أن يؤلِّه ومَن أراد أن ينفي رغبة الآخَر في التأليه … (لا أعني التوسط، أو ادِّعاء العثور على توليفة الزئبق الأحمر مثل الفلاسفة اللاهوتيين: لا تصدِّق فيلسوفًا لاهوتيًّا، إنه «يعاينك» كما يفعل الطبيب، وأقصى ما يستطيع أن يفعله هو تزويدك بجرعات من ترياق وهمي Placebo، هو يتلقى الثناء فوق أجرته، وأنت لا تتعافى)، أعني بالموقف الثالث أولئك الذين يجيدون حدودهم الإنسانية دون أن يحتاجوا إلى إله أو لا-إله.

لا تحاولوا العثور على الإجابة فيما يُسمَّى ﺑ «الفلسفة الدينية». أنصحكم ألا تفعلوا، هناك الكثير من «الهذاء الفلسفي» عن الوجود ومسألة التأليه، والأمر يتصل ببعض الفلاسفة غير الدينيين أيضًا، وقد أوردت هنا بعض النماذج الرئيسية، وتوقفت عند بعضها بشكل تفصيلي، لكي أثبت صورة هذا العبث الذي استغرق زمنًا طويلًا من الحِجاج وإعادة الحِجاج في شكل ألعاب لغوية صفريَّة ليست آخر الأمر سوى ضرب من الهذاء الذي لن تعثروا فيه على أكثر من إضاعة المزيد من الوقت والانشغال بالفراغ، لا شيء سوى الانسلاخ أكثر فأكثر عن الواقع وخداع النفس بتمثلات وتصورات وآراء لا تقول شيئًا … أنصحكم إذَن ألَّا تحاولوا بتر أسئلتكم بأن تركنوا إلى إجابات «اللاهوت الفلسفي». وما لم يكن أحدكم معنيًّا بدراسة تاريخ الأفكار في تواصل أنظمتها وانقطاعها، فلن يضيره ألَّا يرى فرقًا بين جميع أطياف «الفلسفة الدينية»، منذ ترك أوغسطين وثنيته الطبيعية إلى مسيحية أفلاطونية، أو منذ أن حاول توما الأكويني أن يصطنع أرسطو مسيحيًّا تقبله المدرسانية (السكولائية) القروسطية، مرورًا بعلماء الكلام وفلاسفة الإسلام، ومحاولتهم تهجين فلسفة لاهوتية تعتمد التوفيق بين العقل والإيمان، أو الاتصال بين الحكمة والشريعة بكلمات ابن رشد، وانتهاءً بجميع المحاولات التي تعمد إلى تطويع الفلسفة كلمَّا شذَّت عن العقيدة.

ربما علينا العودة إلى شكل ما من الصلاحية المانهايمية (نسبة إلى مانهايم)، وأن نفكِّر تفكيرًا مرِنًا متغيرًا من حين إلى آخَر بما يحفِّز الفعل ويعزِّز انفتاح الممكنات، أي أنْ نقبل في تداولنا بما يحدث من «تمدد مفهومي» أثناء معاينة التناقضات الكثيرة التي لا تزال من غير حل، كما يقول مانهايم: «لقد طال أمد انشغال الفلاسفة بتفكيرهم الخاص، فحين كانوا يكتبون عن الفكر كان أهم ما في ذهنهم هو تاريخهم الخاص، تاريخ الفلسفة أو تاريخ حقل معرفي خاص … وحين يكون هذا النموذج من التفكير ممكن التطبيق، فإنه لا يشير إلا إلى بُعدٍ واحد من أبعاد الوجود، خاص ومحدد، وهذا أمر لا يكفي الناس الأحياء الذين يسعون إلى فهم عالمهم وتشكيله.»٧ إن البشر يملكون الخاصية الأهم في الوجود: الفعل غير الثابت الذي يمكن أن يتغير استجابةً لحاجاتهم، ولا يتأتى لهم ذلك إذا كانوا مصرِّين على الإيمان بتاريخ مثالي، ومفاهيم صلبة، ومعارف يقينية، متوارثة ومقدسة، يعتقدون أنها غير قابلة للدحض.

٧

لا أحقِّر المؤلِّهين، ولا يعنيني كثيرًا أن أزكِّي الملحدين. يفصلني عنهم زجاج شبه سبينوزي سميك.٨ أرى تلك البقعة الرمادية التي يلتقون فيها دون أن يصطدم أحدهم بالآخَر؛ هنا يصيرون انعكاسات متتالية لبعضهم بعضًا، مثل مرايا متقابلة، هنا كان عليَّ أن أتعلَّم أن إصابتي بعمى الألوان أصبحت ضرورية، وهي ليست أمرًا مسيئًا على أي حال، ﻓ «بعبارة تنقصها الدِّقة: الأشياء لا لون لها.»٩ إني أرى الجميع ينخرطون في ألعاب لغوية صفرية تدعم ثقتهم بأنفسهم ولا يهتم بها سواهم. هم يواصلون تأجيج الخصام للدفاع عن حقوقهم، ومن أجل ذلك يجيدون تخييل العالم واختراع العلل والمبادئ الضرورية لإثبات الأهليَّة بالحقيقة، ولنزع الفضيلة عن خصومهم. إنهم يعانون من مختلف درجات الاستلاب، والمتطرِّفون منهم تنبعث فيهم قوة إرادة روحية تجعلهم بؤساء من الناحية الذهنيَّة. بقَدْر ما يكون حِجاجهم قويًّا بقَدْر ما يصبح ساذجًا. بألعاب اللغة يوجِّهون خطاب الأصول المفترضة إلى مسارات محسوبة ويواصلون رمي الخصوم بشبهات الانغلاق والتحجُّر. يقولون: «الجمل لا يرى عَوَجَ رقبته» (مثلٌ بدوي سمعته مرارًا)، ولتأييد مواقفهم تتيح لهم اللغة اجتراح أدوات محكمة ليست آخر الأمر سوى إعادة إنتاج جديدة لأوليَّات قروسطية قديمة هدفها الدفاع عن النفس.
لن أتحدث عن يهوه Jehovah أو الرب Lord أو الله … إلخ. ماذا عن «فكرة في حدِّ ذاتها»، أن نضع الجميع في سلة واحدة، وأن ننسى — لوهلة — أنهم يختلفون؟ ماذا يعني أصلًا أنهم يختلفون؟ لا شيء، تلك هي السمة الأساسية للكهنوت وحق احتكار المعرفة الغامضة، وهي أيضًا سمة رئيسة للمُتدينين من غير رجال الدين. وفي كل الأحوال فإن رفضي للتدين ينطبق على جميع الديانات، مع تركيزي أحيانًا على الديانة الأقرب وهي الإسلام، بعد أن عشت خمسين سنة مسلمًا اعتياديًّا، قبل أن أبدأ ممارسة ما استقررت على تسميته ﺑ «تجريد العقيدة».١٠

٨

سوف يستمر الجدل البيزنطي، سوف يتأصَّل عقم الدوغمائيات أكثر فأكثر، سوف تظهر مع ذلك عروض كثيرة بتقنيات مسرحيَّة بارعة، سوف تُنشر نصوص لا تعوزها التورية، سوف تتراكم أدبيات اللاهوت ونفي اللاهوت، سوف نصحو بين حين وآخَر على صوت النفير، وسوف نكتشف في كل مرَّة أنْ لا برابرة على الأبواب، وأن المدينة آمنةٌ كما كانت دائمًا. والآن …

«ما الذي سيحدث لنا بدون برابرة؟

لقد كان أولئك البرابرة نوعًا من الحل».

يمكننا أن نحار على طريقة الشاعر قسطنطين كفافي، قبل أن نكتشف أن العدو هو اﻟ «أنا-آخر». هذا جيد، ولكن في الأثناء يحدث أيضًا أن تتخلَّق ميثولوجيا المستقبل في صمت.

٩

في هذا الكتاب الصغير أصوات متعدِّدة؛ صوتي الخاص لا يكاد يوجد إلا عرَضًا، ولكنه إذ يظهر فإن القوة لا تعوزه لكي يعلن عن نفسه بوضوح، مع التزامي الدائم بمهمة هذا الكتاب؛ أي أن أتابع وأعرض طرَفَي (أو أطراف) جدل التأليه ونفي اللاهوت كما أفكِّر فيه وأتفاعل معه.

يبدو لي أنني كثيرًا ما كنت أستسلم لإغراء فكرة مُلحَّة وهي تَرْك فقرة أو مجموعة فقرات تلخِّص كلَّ ما أريد أن أقول، ثم أجدني أعود لأعيد تفتيت الموضوع وتشذيره في فقرات أخرى، فأواصل التفكير وأكتب المزيد. أعتقد أن هذا الكتاب وُلد على هذا النحو؛ أي على أجزاء، أو بالتقسيط، يمكن أن أقول، ولكن فكرة واحدة بالطبع كانت تخيِّم على كل ما كتبت، على أن إضافتي — إذا جاز لي قول ذلك — لا تكاد تتمثل سوى في نقاط ثلاث، الأولى: «تجريد العقيدة» أو الدعوة إلى إعمال «نظام التجريد» لفهم العقائد كما يجب، الأمر الذي اعتبر هذا الكتاب مثالًا عنه. والثانية: التنبيه إلى أعراض ما أسمِّيه «المتلازمة التوحيدية»، وهي الأعراض التي يشترك فيها أتباع الديانات الثلاث الرئيسة، وديانات أخرى عديدة. والثالثة «ميثولوجيا المستقبل» أو صورة المعتقد في مستقبل بعيد. إن عمر البشرية الكاتبة — برقم متعاطف — لا يكاد يبلغ ١٠ آلاف عام، وقد مرَّت العقائد في هذا العمر القصير بمراحل كثيرة تشكَّلَت فيها وتحوَّرَت، منذ الطوالع البدائية الغُفل في العصر الجليدي الأخير إلى أن وصلَت إلى الأشكال التي توجد عليها اليوم. من برج بابل إلى ناطحات السحاب، ومن مغامرة الترحال نحو أرض مجهولة أو في بحر غامض إلى سُفن الفضاء واكتشاف الكواكب، تبدو الرحلة قصيرة للغاية، دون أن تتوقف العقائد عن التشكُّل والتحوُّر كل يوم، وستظل هكذا إلى أن تصل إلى نهاية، أو غاية، جديدة مختلفة يتشاركها البشر، أو جزءًا منها، ولكنهم لا يختلفون حولها، حيث لا معنى للاختلاف حول الاختيار والتفضيل الفردي، وحيث لا طقوس ولا شعائر، وحيث لا دين بالمعنى القديم، وحيث لا أساطير متناسلة بعدُ. صورة ميثولوجيا المستقبل لن تردِّد صدى براءة الأسلاف وعجزهم أو فشلهم في ارتياد الآفاق المجهولة واعترافهم بالخضوع والامتثال، صارت ملقاةً هناك في مستقبل ما يحدثُ كلَّ يوم، كأن جانوس قرَّر أن يتطلَّع بوَجْهَيه إلى الأمام، إلى المستقبل.

١٠

ختامًا … أرجو ألا أبدو علمويًّا Scientistic في الجزء الذي يناقش الانفجار الكبير، أو المفردة، أي ما عنَّ لي أن أصفه بجدل المقراب والمحراب. ليس من المُقنع أن يخوض المرء نقاشًا علميًّا ما لم يكن ذا صلة بالجوانب التطبيقية، نظريًّا على الأقل، فتلك هي الإمكانية المتاحة في عالمنا العربي. أنا هنا أستفيد من حصيلة علميَّة مبكرة اكتسبتها قبل أن أغادر العلوم الصلبة إلى الفلسفة؛١١ هناك معطيات أساسية يتم تداولها بين الخصوم، وعليَّ أن أعيد النظر فيها، بعد ذلك سيبدو الأمر بالنسبة لي مجرَّد عَرْض لمناظرات خضتُ معظمها، وسوف أدَّعي الحياد ما أمكنني لنقلها. إن خطَّ التفكير المتَّبع لا يلتزم مسطرة واحدة، فهذا الكتاب لحظة من لحظات الأين والإيناء١٢ أمام اليقينيَّات المطلقة التي تأْنَفُ من التحدُّث بصوت الناس. ما أقدِّمه هنا لا يدَّعي الجدة والابتكار، ولا أفكِّر في جعله كذلك على الإطلاق. باختصار: هذا الكتاب هو نقاش مفتوح أعرض فيه لكم كيف أفكِّر في هذه المشكلة العنيفة التي لا تخلو من … مرح!
١  روسو، دين الفطرة، ١٠٧-١٠٨ (ترجم عبد الله العروي كتاب جان جاك روسو Profession de foi du vicaire savoyard وصدر تحت عنوان «دين الفطرة» عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء سنة ٢٠١٣م).
٢  The World as Will and Representation كتاب صدر عام ١٨١٨م للفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور.
٣  فتغنشتاين، تحقيقات ج١، ٢٩٧.
٤  التوحيدي، الإشارات الإلهية، ٨٥.
٥  سارتر، الوجود والعدم، ١٣.
٦  عنوان كتاب للفيلسوف واللاهوتي الألماني الأصل بول تيليش.
٧  مانهايم، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ٨٣.
٨  كان سبينوزا يحترف صنع النظارات وصقل العدسات.
٩  فتغنشتاين، رسالة، ٢٫٠٢٣٢.
١٠  عقائد الإسلام دُفنت تحت ركام من النصوص التي ابتدعها المفسِّرون وواضعو الحديث وبلغت أَوْجها في القرن الثالث الهجري. تدعو الضرورة إلى «تجريد العقيدة» ونزعها عمَّا ألحق بها من زخارف ركوكية ونقوش أرابيسك على مرِّ العصور لمعرفة أصلها الحي وإعادة قراءته. ثمَّة نوع من «الحرب» لم ينتهِ، بل لم يبلغ أَوْجَه بعدُ، يحتاج فيه الجميع إلى الوقوف عقلانيًّا أمام سؤال الوجود، وأن يخلص كلٌّ منهم إلى موازنة خاصة بين الحاجة والحرية. إلى أي مدى نحن مأخوذون بقوة الوهم الذي يلبِّي حاجتنا إلى الإيمان، وإلى أي مدى يمكننا أن نكون أحرارًا في ممارسة الحياة دون إحالتها إلى ثنويَّة عقدية؟
١١  انتقلتُ في منتصف ثمانينيات القرن العشرين من دراسة العلوم الصلبة، كما أسميها، إلى دراسة الفلسفة التي أعتبرها علمًا رخوًا يتميِّز بالانفتاح ولا يعنيه أن يستند إلى منطق قوي. الفلسفة التي تلجأ إلى مثل هذا المنطق تتصلَّب ثم تنكسر.
١٢  لسان العرب: الأَيْن «هو الإعياء ولم يستعملوا منه فعلًا»، و«إنما الأَيْن الإعياء والتعب»، و«الشدَّة» و«الفتور»، و«الإيناء: الانتظار». قال العجَّاج:
«ناجٍ طَواهُ الأَيْنُ مِمَّا وجَفا
طَيَّ اللَّيالي زُلَفًا فَزُلَفَا
سَماوةَ الهِلالِ حَتَّى احْقَوْقَفا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤