ملحق

العقيدة والمدينة
قراءة في الذهنية الأصولية١

١

يبدو مفهوم الأصولية أحد تلك المفاهيم الإشكالية المسيطرة على حيِّز كبير من التداول الثقافي العربي الحالي. إنه ينتقل من الوضوح الصارم إلى الغموض المُربِك.

أعتقد أن لا مفهوم بَيِّن بإطلاقية البيان، كما أن لا مفهوم غامضٌ بإطلاقية الغموض، وأن المفاهيم تُولَد وتحيا وتموت وتُبعث، وتتكرَّر دورات اشتغالها بين حقل وآخر. وهي تنتج دلالات لا تخضع بسهولة للتحديد، كما تنتجُ ظلالًا عديدة لا يمكن تحديدها قط. أما ما يحدِّد ضرورتها في وقت دون آخَر، وفي حقل دون غيره، فهو إمكان قابليتها لأن تكون جزءًا من عتاد تستدعيه ضرورة التداول المعرفي. لا شيء يمكن أن ينكشف كاملًا في أداء المفاهيم، وهو أداء شَرْطي مؤقت، ذلك أن التنازع أو التدافع صفة رئيسةٌ في أدائها.

تعود طبيعة اشتغال المفاهيم إلى كيفيات إدارتها وتسويقها، أي تداولها، بعضها تلقائي، وهو استرسالٌ لبناء الدلالة والاستتار بالظل، وبعضها عَمْديٌّ ينتج عن التوظيف المبرمج، والقابل للاستخدام كعتاد له دوره، وأثره، ببداية ونهاية محددتَين. من هنا يكون تحيينُ المفاهيم أولَ ما على الباحث أن ينشغل به.

إن تداوليَّة المفاهيم هي صفةُ انخراطها وتورُّطها، صفةُ إرادتها في أن تتجاوز الممكن المنفتح دائمًا بالركون إلى الالتزام باتجاهٍ محدَّد، ذلك يعني: توطنها، سكناها، وقابليتها أن تأخذ مكانها في الحقل الذي تمَّ التفكير فيها لأجله، أو ربما التفكير فيه لأجلها.

في هذه العملية المتسمة بالتقدم والاطراد نعثر على تغذية ارتجاعية متناوبة بين المتن والأدوات؛ المتن الثقافي كما هو معروف لا يتفعل بغير عمل أدواته التي يأتي على رأسها إدارة المفاهيم، ولكن المفاهيم في نفس الوقت تشكل مادة هذا المتن وجسمه العام. هذه هي المفارقة التي يبدو أن الثقافة بدونها تفقد ممكناتها. كلما كانت المفاهيمُ أصيلةَ ذاتِها كلما تفعل المتن الثقافي العام واتسم بالأصالة، ولكنها بقدر ما تكون مستعارةً، بقدر ما يصيب ذلك المتن حالٌ من الازدواج في أدائه. إن التغذية الارتجاعية كما نعبر عنها هنا، إنما تذهب في هذه الحالة إلى مصدر المفهوم لا إلى المفهوم نفسه، ما يحدث عندئذٍ هو أن أدائيَّة المفاهيم تتحوَّل من الشأن الفكري إلى الشأن السياسي، وهي مسألة لم أجد سوى بعضٍ نادرٍ يوليها ما ينبغي من بحثٍ وتقصٍّ، بل إن الأمر غائب برمته عن الكثيرين ممَّن يشتغلون بالشأن الثقافي إنتاجًا واستهلاكًا. هذا ما يمكن أن ينسحب، ضمن مفاهيم كثيرة، على مفهوم الأصولية.

إننا نُعنى غالبًا بأثر المفهوم دون أن نوطِّنه في مكانه الصحيح من التداول، ودون أن نحدد إحداثياته، ويبدو أن مبحثًا محددًا بالذات لم يجد حتى الآن مَن يتصدى له ويكشف ما تنضد من طبقاته جيلًا وراء جيل، أعني جينيالوجيا مفهوم الأصولية، لا كرونولوجيته فقط بل نِسابته وآثار اتصاله وانقطاعه، آثار دَمِه، وموجبات انتمائه ومصيره، ويتطلَّب ذلك حصر أسبابه وأنساغه وتناسخاته، أو بعبارة أخرى: رصد الاستبدالات المحوريَّة في اشتغال المفاهيم؛ على أن ما تدعو إليه الضرورة قبل كل شيءٍ آخر هو تحديد مكان وتاريخ ميلاد المفهوم، الأمر الذي سيسمح بحصر دلالته دون الاكتفاء بالإحالة الدلالية الناشئة أصلًا عن تأويل الاسم، لا عن تفكيك المفهوم. أي دون الاعتماد على اللغة لرصد وتحويل الواقع، بل على التفعيل المعرفي الذي تهيمن اللغة على حيز واضح منه، ولكنها لا تمثله كله.

إن المفاهيم تولد بفعل ظهور واصطراع قوى اجتماعية جديدة، ويكون من الضروري كلما شئنا التفكير في مفهوم الأصولية أن نستدعي أسباب نشأته وآليات اشتغاله، بالعودة إلى الواقع، إلى القوة الاجتماعية التي أنتجته وجعلته ممكنًا.

٢

ما يمكن أن نلاحظه أولًا في هذا الاتجاه هو أن مفهوم الأصولية قد ورد في أول توثيق له في المعاجم الإنجليزية عام ١٩٥٠م في قاموس أوكسفورد، بينما لا نجد له أثرًا في التداول الفكري والثقافي قبل العقود الثلاثة السابقة، مع اتفاقنا — ربما — على أن الأصولية، بما هي حركة أو تيار أو اتجاه، أي قوة أو كتلة اجتماعية، ليست جديدة إلى هذا الحد، بل إنها انتفضت من جديد تحت اسم جديد لتلعب الدور القديم نفسه. إلا أن المفهوم، كما هو متداول، لم يأخذ زيَّه المعروف الآن إلا مؤخرًا.

في الدوائر الأكاديمية يستخدم المصطلح بشكلٍ عامٍّ للتعبير عن أشكال راهنة من الممارسة التقليدية و/أو أشكال من الاستجابة السلبية لقضايا التحديث. أو بكلمات أخرى: السلوك الذي يتضمن الخوف من أن يدمر التحديث تقاليد الأخلاقيات الإيمانية، ويشترك في هذا الرُّهاب كلٌّ من المسلمين والمسيحيين واليهود والسيخ وغيرهم.

في الإسلام والمسيحية واليهودية وأديان أخرى، يشير التوظيف الإعلامي للمصطلح إلى الأجنحة الأكثر محافظة وتقليديةٍ في هذه الأديان. على سبيل المثال فإن الأصولية المسيحية توصف عادة بأنها الجناح المحافظ للإنجيلية Evangelicalism التي تعدُّ بدورها جناحًا محافظًا في البروتستانتية. ولعلنا نلاحظ أن الأصوليين المسلمين والمسيحيين واليهود يعتقدون أن القرآن والإنجيل والتوراة هي كلمات الله المُوحى بها، وهم يؤمنون بعصمتها ويُنزِّهونها عن الخطأ، كما يرفضون جميعًا تلك المقاربات الحديثة التي ترى في هذه النصوص المقدَّسة وثائق تاريخية. هذا الفهم الأولي للنص المقدَّس هو المنشأ الحقيقي للأصولية من حيث هي اتجاه قابل على الدوام لأن يتزيأ بأشكال أكثر حدَّة وبيانيَّةً بمرور الوقت. كان لا بد من دخول اللاهوت مرحلة جديدة: حداثة اللاهوت.
في المسيحية، ثم في الاستخدام الحديث حول العالم، كان المصطلح «أصولي» Fundamentalist قد ظهر عام ١٩٠٩م اشتقاقًا من كلمة Fundamental في عنوان سلسلة من مطبوعات أصدرها عدد من الأنجيليين البروتستانتيين بعنوان: «الأصول: شهادة عن الحقيقة»٢ تشرح خمسة أركان أساسية للمسيحيين في معارضتهم للحداثة. وفي ١٩٢٠م اشتق المعمداني كورتيس لي لاوس٣ كلمة «أصولي» Fundamentalist ليعني بها، كما يقول ريفين ملايس في كتابه «البحث عن معنى»: «مَن هم على استعداد لخوض المعركة الملكيَّة من أجل الأصول»،٤ ثم انتقل الاصطلاح من الثيولوجيا إلى الاستخدام الإعلامي خلال عشرينيات القرن العشرين، وقد أشارت إحدى قصص انتشاره إلى توظيفه عام ١٩٢٥م من قبل الكاثوليك المدافعين عن قصة الخلق في الإنجيل لمعارضة النظرية الداروينية، وأثاروا الكثير من الشغب والفوضى ممَّا أدى إلى إدانتهم وتجريمهم، ولكن يبدو أنهم منذ ذلك الوقت كانوا قد كسبوا معركتهم المعنوية مع الحكومة الأمريكية.
في ثلاثينيات القرن العشرين أنشأ الأصوليون الكاثوليك معازل خاصة بهم، تشكِّل ما يشبه جدارًا معنويًّا يحميهم من التأثر بالظواهر الاجتماعية الحديثة، وفي الستينيات بدأ استخدام مصطلح fundamentalist بشكلٍ واسعٍ بعد مؤتمر الفاتيكان الثاني ليشير إلى الكاثوليك الذين يرفضون ما يعتمل في المجتمعات الغربية من تغير اجتماعي، ويسعَوْن إلى المحافظة على التقاليد الإيمانية للمسيحيين، وأصبح يُطلق من ثَم على جميع المحافظين المسيحيين، سواء كانوا من الكاثوليك أو البروتستانت. ويعتبر التحوُّل المسيحي إلى الأصولية الآن إحدى الظواهر الآخذة في التنامي، فالمعمدانيون الجنوبيون٥ على سبيل المثال، تحوَّلوا إلى الأصولية في السنوات الماضية، وكلمة «أصولية» بدأت تميِّز الكثير من المؤسسات الأكاديمية والبحثية في العالم الغربي، وهي أيضًا وصف شائع الانتشار للعديد من الكُتَّاب والمفكرين والصحفيين، بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية الدينية، وتدريجيًّا شهدت أواخر القرن العشرين انفجارًا دلاليًّا في طبيعة الاصطلاح ليصبح التوجُّه السياسي للأفراد والمؤسسات الممزوج بالتديُّن (دون أن يكون ذلك شرطًا عمليًّا) ركنًا أساسيًّا في التوصيف.

في مناقشة الأوضاع الدينية المسيحية في بداية القرن العشرين، كان الرأي السائد بين الثيولوجيين والمؤرخين المسيحيين أن الدين سوف يصبح أقل محافظةً وأضعف تأثيرًا على الحياة العامة، ولكن بدلًا من ذلك نمت الأجنحة الأصولية في الكثير من الأديان: الإسلام، المسيحية، اليهودية، البوذية، الكونفوشيوسية، الهندوسية، وغيرها من الأديان الصغرى، ليصبح أصوليو هذه الأديان هم الفعاليات الاجتماعية والقيادية الأولى لشعوبهم.

بالإضافة إلى ذلك يقود الأصوليون المسيحيون الآن أغلبية أخلاقية ضمن برنامج اجتماعي يتمثل في رفض عدد من الظواهر، مثل: الإجهاض، وزواج المثليين وحقوقهم، والانتحار وإنهاء الحياة الطبيعية لأسباب طبية، والاستنساخ واستخدام خلايا الأجنة في الأبحاث الطبية، ودروس المعرفة الجنسية في المدارس. وهم يلتقون في ذلك مع أصوليي الأديان الأخرى، كما أن سلوكهم الاجتماعي هذا، بالإضافة إلى ما يحيط به من تزمُّت معرفي، ولَّد الدلالة المعتادة الآن في استخدام المصطلح ليصبح مرادفًا ضمنيًّا للتعصب واستخدام العنف الذهني والجسدي لأسباب دينية.

٣

في الشرق، لم تكُن كلمة أصولي تُثير حفيظة المسلمين في بداية القرن العشرين، ربما كان وصف: متزمِّت أو متعصِّب أكثر استخدامًا للدلالة على المغالاة في التديُّن وتفسير الحياة والتاريخ بالعودة المفرطة إلى الديني والغيبي. بينما كانت كلمة أصولي لا تنصرف سوى إلى وصف الأصل المرادف للفطرة، أو — تحديدًا وضمن مجال أضيق — الإشارة إلى علم أصول الدين، أو كوصف سلبي للإشارة إلى التحجر في تفسير النصوص الرئيسية، أو الالتزام بحرفيَّة النص ورفض الاجتهاد التأويلي.

أما في الدراسات الغربية الحالية التي تتناول الظاهرة الإسلامية فإن الاصطلاح ينصرف الآن إلى دلالتَين مرتبطتَين ببعضهما بعضًا: (١) قابليَّة العنف (الفردي والجماعي) للدفاع عن الموقف الديني، (٢) توظيف الدين سياسيًّا للوصول إلى الدولة الإسلامية.

يميل «المتزمِّتون» إلى ربط هذه الظاهرة بظواهر عنف أخرى، وإننا لعلى يقينٍ من أن هذا التوظيف السلبي تفاقم، خاصة في وسائل الإعلام إلى الدرجة التي تندمج فيها الحدود الدلالية لديهم بشكل سلبي، بين كلمات كثيرة على رأسها الإسلام، الأصولية، الإرهاب، بالرغم من إدراكنا أن الأصولية واحدةٌ في الديانات الثلاث.

لكن، وكيفما كان تصنيف هذه الكلمة في طبقاتها وتشظياتها العديدة، فإن الأصولية ليست علَمًا على طَيْف إسلامي دون آخَر، ويمكننا تحت اسمها أن نجمع، من موقع حداثي، جميع الأطياف الإسلامية مهما اختلفت مشاربها، وتباينت رؤاها، وتناقضت دعواتها.

فإلى أي مدى يمكن للأصولية أن تختزل الإسلام؟ بل عن أي إسلام نتحدث فعلًا؟ إن التباين في وصف الأداء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بل والفردي أيضًا بالإسلامي هو أكبر من أن يُختزَل في كلمة، أو وصف، أو إشارة. كما لا يمكننا نَزْع تهمة توظيف الإسلام سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا عن جميع التيارات التي تدَّعي أنها وحدها هي التي تُقدِّم الصورة الصحيحة للإسلام.

٤

الإسلام دينٌ له منظومته الميثيَّة المتكاملة، وهو غير قابل من جهة الاعتبار هذه إلى الإضافة، لقد كان في بدئه بناءً قبَليًّا بسيطًا إلى أن تم تحميله تدريجيًّا، وفي ظروف مختلفةٍ تاريخيًّا، بما هو أكثر من الدين انهمامًا بالدنيا، وبما هو أقل منه حرصًا على إظهار جوهره المتمثل في بساطة وعمق علاقة الإنسان بالعالم الغيبي. لقد تحوَّل الدين من وسيلة للخلاص، إلى أداة توظِّفها النزعات، وعوضًا عن كونه كلمةً أولى، يصير سيفًا. هذا ما يحدث إذا انتقلنا بالإسلام من الدين وهو واحدٌ إلى الدنيا وهي شتَّى.

من هنا أعتقد أنه من المهمِّ التفكير في الإسلام على نسقَين متصلين: الإسلام التاريخي، وذلك يعني من الناحية البحثية إمكانية تجريده من التحميلات السياسية والفكرية الغريبة عنه. والإسلام مجرَّدًا، أي جملة التأملات والمبادئ التي تقود الإنسان في معتقده، وتدعم بحثه الذاتي عن الخلاص.

لنميِّز بين الإسلام والتأسلُم (وهذا امتداد لتمييزي السابق بين الدين والتديُّن)، إن الأولَ دعوةٌ كغيره من الأديان، والثاني ادعاء، الأول مطلقٌ بحكم تعريفاته، والثاني نسبيٌّ، وفي الأول يمكن أن نتحدث عن نصٍّ واحدٍ وحيد هو القرآن، أما في الثاني فإن النزعات عديدةٌ لا حصر لها، ولكلٍّ نصُّه الذي يُنافح به عن دعواه، أو بالأحرى ادِّعاءه. إن الأصولية كونها عمليَّة إضفاءٍ لصفة الدين على ما ليس من الدين في شيء لا يمكن نسبتها هنا إلا إلى التأسلم، إلى الادِّعاء، إلى الانشغال بالدنيا، لا إلى الدين مجرَّدًا.

لنفكِّر في جانب آخر من الأصولية في العالم. إنها صفةٌ لا ينفرد بها المتأسلمون، فنحن نجدها في جميع الأديان بلا استثناء، ونجدها في الأيديولوجيات القديمة والمعاصرة، ولا غرابة في أن تواصل الأصولية ترحالها إلى المستقبل، فتأخذ زيًّا جديدًا وأسماء جديدة كما فعلت دائمًا. هذا إذا اكتفينا بردِّ جذورها إلى ذلك الميل الذي يبدو جزءًا مكونًا وأساسيًّا من مكوِّنات النفس البشرية، أعني التردُّد الطبيعي بين التقليد والتجديد، بين المحافظة والتحرُّر، بين الاتباع والإبداع. فالشطر الأول يَمتَحُ أسبابه من إرادة التواصل مع الماضي، وهي إحدى أوليَّات دَعْم الذات والهويَّة، والشطر الثاني يَمتَح أسبابه من إرادة الاستمرار بالتفاعل مع الراهن، وهذا أحد أسس التطوُّر في الممارسة، وهو يعطي الحياةَ بُعدَها المادي التفاعلي.

أما إذا عدنا إلى تتبع أثر المفهوم بشكل أدق، فإننا نجد مجال عمله، أو حقل تأثيره، موزَّع بالتساوي تقريبًا بين الدين والسياسة، وهما كما تلمسون انعكاسٌ آخر للشطرَين السابقَين المكوِّنَين لكل جدل وتوتر.

إننا أينما اتجهنا الآن، نرى المجتمعات العربيَّة والإسلامية شاهدًا رئيسًا على هذا التوتُّر. وإن هذا الجدل لا استثناء فيه، وهو يصيب جميع المجالات، المادية والرمزية، في الحياة.

٥

أقول أخيرًا … إن مفهوم الأصولية لا يقف وحده، صحيح أن الكثير من المفاهيم تفقد فعاليتها إذا جُرِّدت من منظوماتها وحقول عملها واشتغالها، إلا أن هذا المفهوم بالذات لا يعني شيئًا خارج التوظيف السياسي له، وعلينا أن نبدأ التفكير فيما إذا كنا فعلًا قادرين قبل كلِّ شيءٍ على توجيه جدلنا إلى الدينيِّ وحده، أو إلى السياسي وحده. بعبارة أخرى: كم هو شاسع ذلك المدى الذي نقول فيه كلمة أصولية، بينما نحن لا نعني شيئًا سوى الإسلام السياسي!

الدِّينُ دَيْن فردي، سبيلُ خلاصٍ اختياري إلى الحياة الأخرى، والرفاه اللاأرضي؛ السياسة سَوْس الجموع، أو إدارة فضاء اجتماعها، والرفاه الأرضي. إن Politics لا يمكن نزعها عن Polis أي: المدينة، كما لا يمكننا قولُ Religion دون استدعاء Relic، أي البقيَّة (كما في قولنا: دَيْن متبقٍّ)، وهي تعني أيضًا أي أثر مقدَّس.

هنا تمامًا، أي في الإسلام السياسي، نكون أكثر دقَّة وموضوعية، لأننا سنقوم بإعفاء أنفسنا من تعميم المفهوم على منطقة مفاهيمية شاسعة، وسنحصر تداولنا في الإجابة على سؤال أساسي: إلى أي مدى يمكن للإسلام أن يكون سياسةً؟ أو إلى أي مدى يمكن للسياسة أن تكون دينًا؟ أو إلى أي مدى يمكن للعقيدة أن تتواطأ مع المدينة، ولكنها تبقى، بالرغم من تداول وتفعيل وتغير الحياة، عقيدةً فوق التاريخ؟

إسلامٌ سياسيٌّ! إن دِين الفرد في الحالَين تمَّ تحويله إلى الولاء والخضوع بدلًا عن تحقيق الذات، إلى المفارق الذي يتيح التحليق والمسافة والرَّصد، بدلًا عن المحايث الذي يستدعي المشاركة والانهمام. هذه هي الموضوعة — الحَكَم، كما أعتقد.

أسئلة أخرى، يمكن لكل منا أن يضعها، وفق وجهته في تداول المسألة، أما شخصيًّا فأنا معنيٌّ بالإجابة عن السؤال: ما العلاقة التي يمكن رصدها بين الدين والتاريخ من جهة، وبين الدين والمجتمع من جهة أخرى؟ كيفما أعدنا تدوير السؤال سنجد أن المجتمع والتاريخ يقفان في الحقل نفسه، بينما نجد للدين حقلًا مقابلًا، حقلًا مسورًا باسم العقيدة التي لا تبديل فيها، وهو حقل يتصل الآن بالأسطورة والمخيلة ولا وعي الشعوب والجماهير، أكثر مما هو متصل براهنيَّة المفهوم.

من هذا السؤال الأساسي تتشعب أسئلة أخرى، لعلَّ أهمها: كيف يمكن للعرب (والمسلمين) أن يحققوا أداءً تفاعليًّا مع التاريخ، محافظين في الوقت نفسه على عقيدتهم المُقيمة فوق التاريخ؟

إن الخطل المفاهيمي هو أول سوء التقدير، وسوء الفهم، وهو بدءُ منزلق الحوار إلى واحدة من هاويتَين: إما الضجيج، وإما الصَّمم … ما الفرق؟

١  مجلة فضاءات، العدد ٢٣، ٢٠٠٦م.
٢  The Fundamentals: A testimony to the truth.
٣  نشر ك. ل. لاوس Curtis Lee Laws المقال الذي اشتق فيه كلمة أصولي Fundamentalist في صحيفة المراقب الراصد The Watchman Examiner، وهي صحيفة دينية محليَّة صدرت في نيويورك بين ١٨١٩ و١٩٧٠م.
٤  Ruthven, Malise, Fundamentalism: The Search for Meaning, Oxford University Press, 2005.
٥  Southern Baptist Convention.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤