شيء عن رومانيا

كان مقامنا في رومانيا قصيرًا، فلم نمكث في بخارست أكثر من ثلاثين ساعة، وقضينا في الذهاب إلى سنايا وفي المقام بها وفي العودة منها وفي السفر إلى مرفأ رمضان، لنركب الدانوب إلى بودابست، ثماني وأربعين ساعة، لكني صادفني من الحظ في هذه الفترة القصيرة أن قابلت رجال مفوضية مصر في بخارست، واتصلت من طريقهم بأحد كبار الصحفيين، وعرفت بسببهم شيئًا عن رومانيا قد يعنيني الوقوف عليه للإحاطة ببعض شأن هذه البلاد، ولأنه مقدمة صالحة لكثير من الأفكار والخواطر التي أثارها عندي ما رأيت حيث نزلت بوادابست وفينا، وحيث تبينت فيهما وفي براج بعض الآثار السياسية والاقتصادية للحرب الكبرى وللصلح العجيب الذي نشأ عنها.

أول ما يشعر به من ينزل رومانيا ويتصل بأحد الرومانيين، هذا الزهو بما كسبت رومانيا في صلح سنة ١٩١٩م، والحيرة في السبيل إلى الاستفادة من هذا الكسب؛ فبخارست كانت وما تزال بلدًا بلقانيًّا، لكنها كانت عاصمة سبعة ملايين، فأصبحت عاصمة سبعة عشر مليونًا بما أضافت إليها معاهدات الصلح من مغانم الحرب التي حكم الحلفاء بأنها من حقهم وحق من انضم إليهم، وكيف السبيل إلى هذه الاستفادة؟ وكيف يمكن أن تكون بخارست عاصمة كبيرة؟ في هذا يفكر أهل رومانيا وساستها، وإن كانوا في شغل بمسائل شخصية شتى تجعل تفكيرهم هذا بطيء النتائج.

والحق أن أمام الساسة الرومانيين مشاغل كثيرة تجعل جهادهم، ليقيموا دولة واحدة من رومانيا القديمة ومن الأجزاء التي ضمت إليها من النمسا ومن المجر ومن بعض ولايات الجنوب، جهادًا عسيرًا شاقًّا، وليست تقف مشقتة عند ما اضطرب ويضطرب به بلاط رومانيا من أهواء وميول، لجلالة الملكة ماري الكاتبة المقتدرة منها حظ غير قليل، بل إن بين ولايات رومانيا القديمة التي لم تتحرر من الحكم التركي إلا منذ ستين سنة، وهذه الولايات الجديدة التي كانت مع المجر ومع النمسا، بونًا شاسعًا في الحضارة وفي الثقافة وفي نظام الحياة. سكان هذه الولايات الجديدة لا يكاد يكون فيهم أميون، وسكان رومانيا القديمة أكثرهم أميون، والمتعلمون من أهل هذه الولايات الجديدة لهم ثقافة قديمة كانوا يشيدون عليها مع أهل النمسا وأهل المجر، وليس للمتعلمين من أهل رومانيا القديمة مثل هذه الثقافة، ثم إن أهل هذه الولايات الجديدة ما يزال لهم إلى الممالك التي انسلخوا عنها حنين، وما يزال في نفوسهم عليها عطف، في حين أن أهل رومانيا القديمة يعتبرون النمسا ويعتبرون ألمانيا دولًا أعداء، ويدينون لفرنسا وللثقافة الفرنسية بإيمان لا يدين به من أخضعهم الصلح لحكمهم.

نشأ عن هذا الاختلاف بين العنصرين شقاق في شئون كثيرة هو بعض هذه المتاعب التي تجدها رومانيا في إيجاد الوحدة بين أجزاء رومانيا الكبرى، وأول مظاهر هذا الشقاق ما تعلق بحكم البلاد. صحيح أن لرومانيا برلمانًا مكونًا من مجلسين، على خلاف غيرها من دول البلقان التي اختارت نظام المجلس الواحد، وصحيح أن الولايات التي ضمت بعد الصلح لأهلها حق الانتخاب كأهل رومانيا القديمة، ولكن أهل رومانيا القديمة ينادون بأنهم أحق من أهل الولايات الجديدة بالحكم، وأن أهل هذه الولايات لا حق لهم في التذمر من هذا الحق؛ فهم الذين ضحوا في الحرب، وهم الذين كان لهم إلى جانب الحلفاء النصر والظفر، والحكم حق للغالب لا للمغلوب، ثم إن هؤلاء الذين كانوا مع الولايات المعادية لرومانيا في الحرب لما تبلغ نفوسهم من الصفو ما يجعل منهم رومانيين بالعاطفة مثلما هم رومانيون بالقانون. والحكم إن لم يقترن بالعاطفة الوطنية كان وبالًا على البلاد التي يسود فيها. فإلى أن تندثر في النفوس عواطف المنافسة والبغضاء، وإلى أن تصبح رومانيا الكبرى وطنًا للكل متأصلًا الإحساس به في النفوس، يكون من الخطر على رومانيا أن يتولى الحكم فيها غير أهلها الأقدمين.

فأما أهل الولايات الجديدة فلا ينكرون على أهل رومانيا القديمة حقهم في ولاية الحكم، ولكنهم ينكرون أن يكون هذا الحق مقصورًا عليهم، وألا يمتد إليهم هم أهل الولايات الجديدة، ولهم حجتهم، فهم قد أصبحوا رومانيين بالقانون، فيجب أن يكون لهم ما لكل روماني من حق لا فرق بين قديم وجديد، وهم أرقى عقلية وثقافة وأكثر علمًا وبصرًا بأمور الحكم، فاشتراكهم في تولي شئون الدولة يصلح من هذه الشئون، ثم إن العاطفة الوطنية لا تتولد في نفوسهم وفي نفوس أبنائهم بهذا الحرمان الذي يراد قسرهم عليه، وإنما تتولد وتنمو بازدياد المصالح المشتركة بينهم وبين بني وطنهم أهل رومانيا القديمة، ولا يتم هذا الاشتراك مع إقصائهم عن الحكم، ولا تنمو العاطفة الوطنية في نفس من يحس بظلم كان لا يحس بمثله قبل أن ينضم إلى رومانيا. والعواطف يرثها الأبناء عن الآباء، وما دام أهل الولايات الجديدة أكثر عددًا، وسيكون أبناؤهم كذلك، فسيكون لهؤلاء الأبناء لا شك نصيب في الحكم، وسيكون هذا النصيب مشوبًا في نفوسهم بعاطفة ليست هي عاطفة الامتزاج التام مع مواطنيهم أهل رومانيا القديمة.

إلى جانب هذه المشكلة القائمة بين الأقدمين من أهل رومانيا وبين الولايات الجديدة، مشكلة أخرى يتشعب حولها الرأي؛ تلك أن حالة رومانيا الاقتصادية سيئة كحالة الدول التي اشتركت في الحرب؛ سواء منه المنتصر والهزيم، ولرومانيا في الولايات الجديدة موارد ثروة لا نهاية لها ولكنها تحتاج إلى الاستغلال، وإذا كانت منابع البترول تستغل اليوم فيها استغلالًا صالحًا فإن كثيرًا جدًّا من هذه المنابع لا يزال بكرًا لما يتفرع؛ فأما الغابات التي تجعل رومانيا من أكثر بلاد العالم ثروة في الأخشاب، فما يزال بعضها تأوي إليه الحيوانات الضارية، لأن يد الإنسان لم تعمل فيها عملًا، وكالبترول والأخشاب موارد للثروة كثيرة تجعل من رومانيا ميدانًا اقتصاديًّا بالغًا في الغنى، لا عيب فيه إلا عجز صاحبه عن استغلاله. وكثيرون من الكتاب وأهل الرأي في رومانيا ينادون بضرورة الاستعانة برأس المال الأجنبي عن طريق القرض، لاستخراج ما في باطن الأرض من معادن، ولإدخال أخشاب الغابات ميدان الصناعة، وأصحاب هذا الرأي لا يريدون أن يكون لليد الأجنبية في الاستغلال مدخل، فهم يعترضون أشد الاعتراض على منح امتيازات للشركات الأجنبية، كالامتيازات التي منحت في الماضي لشركات إنجليزية وغير إنجليزية في استنباط البترول من الأرض، لكنهم يرون أن لا سبيل غير الاقتراض وغير الاستفادة بالغنى الأجنبي، على أن يكون عاملًا لا صاحب مال، إلى أن تدخل هذه الأموال الطائلة المهملة في عداد المقومات.

غير أن الحكومة تقف في وجه هذا الرأي وترى الاكتفاء برءوس الأموال القومية، حتى لا يتسرب لحكومة أجنبية خيال بإمكان الاستفادة اقتصاديًّا أو سياسيًّا من رومانيا بسبب ما يكون لأهلها من رءوس أموال في القروض الرومانية، ولهذه الحجة ظاهر من الوجاهة يدفعه معارضو الحكومة بأن رءوس الأموال لم تعطِ في أمة مستقلة حقًّا لأمة أخرى تتدخل بموجبه في شئونها، وبأن الحكومة إنما تذهب هذا المذهب لأن المصارف ورءوس الأموال التي توظف في موارد ثروة رومانيا ملك لأنصار الحكومة الذين يخشون إن دخلت أموال جديدة في ميدان الاستغلال أن تقل أرباحهم وهم عليها أشد مما هم على المصلحة العامة حرصًا.

ومشكلة ثالثة تجعل جهاد الرومانيين في سبيل وحدة رومانيا الكبرى عسيرًا، وتجعل نتائجه بعيدة، تلك ما حدث في هذه البلاد أخيرًا من توزيع الثروة العقارية توزيعًا قضى على كبار الملاك قضاء مبرمًا، فمجاورة رومانيا لروسيا جعلتها مستعدة لعدوى البلشفية أكبر استعداد، وقد بلغ أمر ذلك في زمن من الأزمان أن تعرض العرش للانهيار، وأن تعرضت البلاد للثورة، فلم تجد الحكومة ولم يجد الملك يومئذ وسيلة لتفادي ما رأوه كارثة مقبلة إلا أن سنوا قانونًا وزعت بموجبه أملاك كبار المزارعين على صغارهم وعلى الفلاحين بثمن صوري، فأصبح الكل ملَّاكًا، ودافع الكل عن الملكية، واتقت رومانيا البلشفية، إذ تلهَّى كل مزارع فقير كان مستعدًّا للثورة بما ناله عن طريق القانون بعد أن كان له أمل في نيل مثله من طريق الثورة.

وقد أصابت نتائج هذا القانون أهل الولايات الجديدة كما أصابت رومانيا القديمة، بل إن بعض كبار الملاك في الولايات الجديدة ممن احتفظوا بجنسيتهم القديمة ليضجون اليوم بالشكوى ويرفعون عقائرهم بأن هذا التشريع لا يجوز أن يسري عليهم، وكبار الملاك من أهل رومانيا القديمة ومن الولايات الجديدة متذمرون بطبيعة الحال من قانون أنتج لهم أن أصبحوا فقراء مسودين بعد أن كانوا أغنياء سادة، وليس ينتظر منهم في مثل هذا الظرف أن يكونوا في الجهاد الجديد لوحدة رومانيا الكبرى أعوانًا متحمسين، فإذا ذكرنا أنهم أكثر الطوائف ثقافة وأرقاها إدراكًا، بسبب مركزهم الاجتماعي القديم، بدا لنا مقدار عظم هذه المشكلة مضافة إلى المشاكل الأخرى التي تقف في سبيل الجهاد لتنظيم رومانيا الكبرى.

على أن هذه ليست كل المصاعب التي تقف في سبيل جهود رجال رومانيا، فثم مصاعب غيرها ليست أقل منها دقة وإثارة لعناية الجمهور والساسة جميعًا، وأولى هذه المصاعب مسألة العرش والجالس عليه؛ فمنذ تنازل البرنس كارول عن ولاية أبيه مفضلًا أن يتبع الغانية التي أحبها وأحبته ليطوفا أنحاء الأرض، وليقيما كلما حلت لهما الإقامة في أم المدن باريس، ومنذ آلت ولاية العهد إلى البرنس الطفل ميخائيل الجالس اليوم على عرش جده، من ذلك الحين تكوَّن في رومانيا حزب يطالب ببقاء العرش لكارول، وكان هذا الحزب صغيرًا بادئ الأمر، وكانت الملكة ماري أم كارول من ألد خصوم أعوانه، فلما توفي الملك فرديناند وأقسم نواب الأمة يمين الولاء لميخائيل، بدأ حزب كارول يزداد ويقوى، ومع أن المسيو برتيانو رئيس الوزارة الرومانية الحاضرة وأشد أنصار سياسة الملكة ماري أيدًا وقوة كان في صف الملك الطفل بادئ الأمر، فهو قد بدأ يشعر بالحركة لكارول تقوى وتنتشر في حزب الفلاحين بنوع خاص، وهو قد بدأ لذلك يفكر في التوفيق بين الملكة وابنها، وفي دعوة كارول إلى عرش أبيه بشروط اتصل بي أن المفاوضة دائرة بشأنها بين رئيس وزارة بخارست وبين البرنس وأعوانه في باريس، غير أن ذلك ليس معناه الثقة بإمكان التفاهم؛ فهذه المفاوضات ما تزال سرية صرفة، ثم إن البرنس كارول ما يزال له خصوم في رومانيا، وهم إن قل عددهم فلهم من تأييد الملكة الكاتبة عون وقوة لا يستهان بهما.

ومشكلة غير كل ما تقدم تعوق الجهود التي تبذل لتنظيم رومانيا الكبرى، تلك أن خصوم الوزارة الحاضرة يرون أنها تعتمد في البرلمان على كثرة زائفة لا تمثل رأي البلاد، فقد استعملت في الانتخابات الأخيرة ألوان من العسف والاضطهاد، بل من الغش ومن التزوير مما تحدثت به الصحف وأكدته في حينه دون أن تجرؤ الحكومة على محاكمة المسئولين فيها، وإنما لجأت الحكومة إلى هذه الوسائل في الانتخابات بعد أن أخفقت مساعٍ كان يبذلها المقربون لقلب جلالة الملكة في سبيل التوفيق بين الأحزاب المختلفة على قاعدة تأييد سياستها، وحكومة هذا مبلغ الثقة بها لا تستطيع أن تفرغ للإصلاح، ولما تقتضيه مشكلة تنظيم رومانيا الكبرى من جهود جسام.

وهذه المشاكل التي استطعت أن أقف عليها هي قليل من كثير مما تضطرب به سياسة رومانيا، وبسببها تعددت الأحزاب في هذه المملكة إلى يحد لم يعرف حتى في فرنسا. ويتصل رجال هذه الأحزاب بزعمائهم أكثر من اتصالهم بمبادئهم؛ لأن لكل مطامع، وكل يتعجل فرصة تحقيقها. والحرب بين هذه الأحزاب حرب عنيفة لا هوادة فيها ولا رحمة، ووسائلها هي وسائل كل حرب حزبية: الخطابة والصحافة، وشدة هذه الحرب واشتغال كل حزب بتأييد رأيه للوصول إلى الحكم أكثر مما يريد به الوصول إلى نتيجة سريعة في تنظيم المملكة الكبيرة التي آلت للرومانيين بعد الحرب يجعل هذا الموارد الاقتصادية العظيمة التي كانت لرومانيا من قبل والتي ضمت إليها مع الولايات الجديدة، معطلة دون استغلال على الطريقة التي تقضي بها الحضارة الحديثة.

•••

إلى متى يظل هذا الشلل المقعد لرومانيا عن النهضة السريعة؟ هذا ما يتعذر التكهن به، ولعل قياسه إلى تقدم الصحافة ونهضتها يشوبه شيء من المجازفة، فالصحافة في رومانيا تقدمت في الظروف الأخيرة، وتتقدم الآن تقدمًا سريعًا؛ لأنها أصبحت أداة قوية في الحياة العامة، أصبحت سلطة رابعة، بل صاحبة جلالة. أصبحت كذلك بطبيعة الظروف وبطبيعة هذه المشاكل التي أشرنا إليها، والتي جعلت من الصحافة قوة كقوة الجيش في تأييد حكومة أو مناهضتها. وليس لغير الصحافة من مرافق رومانيا كهذه الظروف التي دفعت بالصحافة إلى الأمام، على أن تقدم الصحافة تقدمًا يشعر الإنسان بأنه أكيد ثابت، يبعث إلى النفوس الاعتقاد بأن الصحافة ستكون أداة نهضة لسائر المرافق، وبأن هذا التشعب في الحزبية وفي المصالح سينتهي في زمن غير بعيد إلى تغلب بعض الآراء وبعض المصالح تغلبًا صحيحًا سببه الاقتناع والإيمان القائمان على تقدير سليم، فنهضة المرافق كلها نهضة أكيدة ثابتة كنهضة الصحافة نفسها.

والحق أني رأيت من نهضة الصحافة ومن أفراد هذه النهضة في بخارست ما أدهشني، فقد زرت إدارة جريدتين، تصدر إحداهما في الصباح جريدة إخبارية، وتصدر الثانية في المساء حزبية مؤيدة لرأي المعارضين للحكومة، واسم الأولى «الصباح» واسم الثانية «الحقيقة»، وكلتاهما تقوم بأمرها إدارة واحدة وتحرير متصل، وإن كان لكل منهما نظامه الخاص وحجمه ومطابعه وورقه، وكان أول ما استوقف نظري انتشار كلتا الجريدتين في دولة لا يزيد سكانها عن سكان مصر إلا قليلًا؛ فكل منهما تطبع مائة وأربعين ألف نسخة، وتطبعها باللغة الرومانية التي لا تقرأ إلا في رومانيا. ولم تنتشر هاتان الصحيفتان ولا غيرهما من صحف رومانيا هذا الانتشار إلا بعد الحرب وبعد انضمام الولايات المتعلمة من المجر ومن النمسا إلى رومانيا.

ولذلك بدأ أرباب هذه الصحف يعنون بأمرها عناية كبرى. أليس انتشارها يزيد في إيرادها! فإذا أصلحت إحداها شيئًا من أمرها سبقت غيرها. فلتتسابق جميعًا في مضمار الإصلاح، ولتقم جميعًا بالنهضة الصحفية، وهي تقوم بهذه النهضة مطمئنة واثقة. رأيت في إدارة هاتين الصحيفتين — الصباح والحقيقة — أحدث آلات الطباعة وأسرعها، ورأيت أصحاب الجريدتين قد وضعوا برنامجًا لإصلاحهما كي تقفا إلى جانب أحسن الصحف في أكثر الأمم تمدنًا، وحددوا لتنفيذه عشر سنوات مضى منها خمس. من هذا الإصلاح أن أضافوا إلى دار الجريدتين دارًا أخرى، وجعلوا من الدارين عمارة شاهقة تدور في طبقاتها جميعًا فلا ترى إلا معدات الطباعة والتصوير، خلا غرف الأخبار والتحرير، وتري من هذه المعدات جديدًا جيء به لزيادة الإتقان والدقة. ولو أن القارئ كان صحفيًّا متصلًا بطباعة الصحف لقصصت عليه من أمر ذلك الإصلاح في فن الطباعة ما يشركه معي في الدهشة والإعجاب.

وليست تقف إدارة الصباح والحقيقة عند إصدار الجريدتين، يتولى رئيس تحريرها المستر بتساري بمعونة زملائه إصدار عدة نشرات أخرى، بعضها للأطفال، وبعضها لسواد الجمهور، وبعضها للخاصة، يقرب لك طائفة من هذه الطوائف أسباب النهضة العالمية بالطريقة التي تقربها إلى إدراكها وإلى سلامة حكمها، وتلك أسباب جديدة تتعجل نهضة رومانيا برغم الحوائل والمشاكل السياسية التي أوردت. ولا ريب في أن لغير هاتين الصحيفتين من الجهد المحمود مثل ما لهما.

•••

على أن الجهد للنهضة العامة يجب أن يكون عنيفًا، فإن في بعض المرافق ركودًا يقابل هذا التقدم في أمر الصحافة أو يزيد عليه، وإذا كان ما قصصت من أمر الغابات والمناجم وآبار البترول إنما وقفت عليه من طريق الرواية والإطلاع، فإن ما رأيت في المزارع أثناء سياحتي من قسطنزة إلى بخارست، برغم خصب أرض رومانيا خصبًا عجيبًا، هو بعض مظاهر هذا الركود. ومظهر آخر هو السكة الحديدية؛ فعربات الدرجة الأولى في رومانيا دون عربات الدرجة الثانية في مصر. ركبنا القطار من بخارست إلى جيورجيو قاصدين مرفأ رمضان لنأخذ الباخرة إلى بودابست. والقطار يقوم الساعة السادسة ويصل الساعة التاسعة مساء. دع عنك فرش الديون وعدم العناية به، ويكفيك معي أن تنظر إلى هذا المصباح الذي يقال إنه يضيئه؛ مصباح ضئيل يضاء بالزيت ولا يكاد يضيء. كنا ثلاثة في الديوان لا يرى واحد منا وجه صاحبه، ولا يتبين من كل شخصه إلا شبحًا يتحرك أو يسكن. والمحطات تضيئها مصابيح البترول من طراز نمرة ٥ الذي بطل استعماله بمصر أو كاد حتى القرى والأرياف. والقطار يقطع هذه المسافة التي لا تزيد على ستين كيلومترًا في أكثر من ثلاث ساعات. هذا مع أن الطريق من بخارست إلى جيورجيو ومرفئها من الطرق التي تصل بين رومانيا وغيرها من دول البلقان.

وما كان أسعدنا بالخلاص من هذا القطار وبالنزول إلى السفينة النهرية (ساترنس) التي تقلنا إلى بودابست، وكم كنا نود أن ننتقل إلى أوربا التي نعرف بعد أسبوعين من مغادرتنا مصر، لكنا وجدنا عقبة أخيرة؛ تلك هي جمرك الخروج من رومانيا. نعم! جمرك الخروج! وكان أثقل من جمرك الخروج من تركيا، فقد سألنا عماله عن النقود التي معنا، ولما أخبرناهم أنا لم يبق معنا من النقود الرومانية إلا القليل لم يكفهم هذا، بل سألوا عن غير النقود الرومانية، واضطررت أن أبرز لهم تذكرة شخصيتي بوصفي رئيس تحرير السياسة ليعفوني من أسئلتهم الكثيرة، وليعتذر أحدهم بأن قوانين الدولة تقضي بألا يخرج منها نقد بغير إذن من وزارة المالية، وبأنه تجاوز عن عدم حصولي على هذا الإذن لوجود موظف المالية إلى جانبه ولتسامحه. وشكرت، ونزلنا قاصدين السفينة معتقدين أنَّا انتهينا، فإذا بنا يجب أن ننتظر حتى نمر أمام عامل مراقبة الجوازات، وانتظرنا ثم مررنا، وأقلعت بنا الباخرة وأنا أقول في نفسي: أوليس خيرًا لهؤلاء الناس أن يحسنوا معاملة الأجانب الذين يزرون بلادهم ساعة مغادرتهم إياها!

ثم صرفني عن التفكير في رومانيا وفي جمركها هذا البدر المكتمل تكبد السماء وألقى على موج ماء الدانوب كساء من لجين، وقديمًا كان البدر لي صديقًا، وكان لي عن كثير من مشاغل الحياة خير عزاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤