في باريس

بعد أسبوعين من مقامنا بباريس دلفت ضحى يوم منفردًا أسير الهوينى في طريق الأوبرا، من ميدان الأوبرا إلى ميدان التياترو الفرنساوي، أمتع النظر بما حوته حوانيت هذا الطريق ومخازنه من بديع الطرف ورائع آثار الفن، وانتهيت إلى قهوة الريجانس نحو الساعة الحادية عشرة، ولم أرَ أن أمكث على مائدة من موائدها الخارجية التي تشهد المارة في الميدان يسيرون جميعًا مسرعين؛ سواء منهم الرجال والنساء والشباب والشيب، بل جزت إلى داخل المكان وجلست إلى مائدة في أحد أركانه، وطلبت «نصفًا» من البيرة ثمنًا لجلوسي. وداخل الريجانس كداخل أكثر مقاهي باريس ضئيل الضياء، حتى لينيرونه بالكهرباء في الأيام الغائمة، وجعلت وأنا بمجلسي أجيل الطرف فيما حولي، وأفكر فيما أضيع فيه الزمن الباقي على موعد الغداء. وكان إلى جواري شخصان مكثا نحو ربع الساعة ثم انصرفا، وصرت بعد ذهابهما وحيدًا في المكان كله، فطلبت إلى الخادم أدوات الكتابة، وأخذت أسطر رسالة «للسياسة» عن باريس ورحلتي إليها، وما كان لي أن أفضي للناس فيها بما تتوجع له نفسي وأنا أشدهم مقتًا أن يرى أحدهم أي مظهر من مظاهر ضعفي، لكن الكاتب لا يصدر فيما يكتب إلا عن نفسه، وإذا تناول غير ما يدور بخاطره فإن ما يتناوله يصطبغ دائمًا باللون الذي يرى هو به الحياة؛ لذلك كانت مقدمة رسالتي الأولى من باريس كما يأتي:

أربعة عشر عامًا من الحياة (من سنة ١٩١٢ إلى سنة ١٩٢٦) تقضت بين مغادرتي باريس بعد تمام دراستي بها، وعودتي إليها زائرًا متنزهًا ككل زائر متنزه، أما باريس فتغيرت؛ إذ صارت أكثر حياة وحركة، وأما أنا فتغيرت إلى نقيض ما تغيرت باريس. وما بالك بأربعة عشر عامًا هي خير أشطر الحياة تساقط واحدًا بعد الآخر في غيب الماضي بين حرب وثورات واضطرابات لم يرَ العالم ولم ترَ مصر لها نظيرًا! ما بالك بربيع الحياة تطوح به الحياة في السعير واللهب، وفي حمأة الجنون والهوس العالمي مما لا يزال يضطرب به جوف العالم! لذلك كان مقامي بباريس تملؤه الحسرات … أين الفؤاد الذي كان يهتز لما في باريس من روعة ولما في ضواحي باريس من جمال؟! أين النفس التي كانت لا تعبأ بالقذى التافه لأنها تستطيع أن تهضم الرواء العظيم الذي يشمل مدينة النور وتفيض مدينة النور به! وا أسفاه! إن الممعود ليضطرب لمرأى أطايب الطعام، والأعشى ليقذى بساطع الضياء، وهما مع ذلك يدركان لذة الطعام السائغ وبهاء النور الوضاء، كذلك من تحدرت سنو شبابه فعدا الزمن على فؤاده وخرم الهم شغاف قلبه، هو يرى بهاء الحياة وجمال الوجود ويقدرهما ويعجب بهما، لكن حجابًا ما يفتأ يغشى خاطره الكليم يجول بينه وبينها، ويجعل منهما، الحين بعد الحين، عذابًا له وألمًا، أرأيت إلى هذا البدر المحجوب بغلالة بنفسجية فوق قوس النصر؟ لقد كان من أربع عشرة سنة بدعة من بدائع باريس تتعلق بها الأنظار ساعات متواليات، ألم يكن البدر يومئذ عاشق السموات أنحله الحب وشفه الغرام والجنون؟ ألم يكن يحبو في غلالته مبطئًا آملًا في لقيا محبوبه شفاء من ألم أرَّقه وأضناه؟! أما اليوم فتحت قوس النصر قبر الجندي المجهول، وفي قلوب كثيرة قبور لجنود غير مجهولة: قبور إخوان وخلان وآباء وأبناء، نعم وأبناء! وهل لمن في قلبه قبر ابنه بالبدر أو بباريس عزاء؟! إنما عزاؤه في الحياة ملكه الحياة وإخضاعه إياها راضية أو كارهة.

ولكن … هل أنا وحدي تحدرت بي سنو الشباب، أم باريس هي أيضًا قد عانت ما عانيت وتألمت كما تألمت وحزنت بعض ما حزنت؟ أما الفرنسيون فيجيبونك أن باريس اليوم ليست باريس إلا أن يكون الصالح الذي أثم والبريء الذي أجرم ما يزالان هما إياهما، لأن أعينهما ما تزال تلمع حرصًا على الحياة، ولأن قواميهما لا يزالان معتدلين كما كانا. نعم لا يزال قوام باريس معتدلًا ليس كمثله اعتدال، وعيناها ما تزالان تلمعان حرصًا على الحياة، بل هي اليوم أكثر حياة وحركة. ما تزال باريس مدينة النور ومهبط وحي الفن، لكن نور باريس وفنها ليسا صفوًا كما كانا؛ لم تبقَ باريس الغادة الهيفاء، الضاحكة السن، الناعمة البال، المطمئنة للعيش، الواهبة للحياة كل ما في الحياة من جمال، بل ارتسم على جبين مدينة النور، ولا يزال أملس وضاء، جهام من وجل تقطب له ناظراها، فوقفت مستبسلة كي تدفع غارة الأجنبي وعدوان الجاهل جمالها وهيبتها المعتز بماله كي يملك هذا الجمال وهذه الهيبة من غير أن يكون قلبه وعقله وجنانه على ملكهما قديرًا.

أقرأ اليوم هذه المقدمة لرسالتي الأولى، فأسأل نفسي: أفكنت أكتبها بهذه النغمة المحزونة لو أنني ذهبت يومئذ إلى باريس زائرًا متنزهًا، ولم أذهب إليها مستشفيًا طالبًا الشفاء لشريكة حياتي وقد هدها المرض النفساني أضعاف ما هدني؟ لقد بدأنا سياحتنا بعد ذلك بعام، وبعد أن كانت النفس قد اطمأنت إلى ما أصابها، بزيارة الآستانة. وعن الآستانة كتبت ما سيتلوه القارئ من رسائل كلها الحرص على نسيان النفس في روعة الوجود لتنسى النفس فيها ما يحزنها ذكره، أما في باريس فكان الجرح لمَّا يندمل، وكانت اللوعة ما تزال تبرح بالنفس في ساعات الوحدة من مثل تلك التي كتبت فيها رسالتي الأولى، على أن مقتي لظهور الناس على ضعفي جعلني أخفيه فأجعله ضعف باريس وهمها بسبب تدهور سعر الفرنك يومئذ فيها، فأقول:

هذا هو الهم الذي يخترم نياط قلب باريس اليوم، وهو لكل فرنسي همٌّ مقيم مقعد، فما تكاد تجلس إلى أحدهم وتتحدث إليه في أمر من الأمور حتى يكون عود الحديث وختامه عن الفرنك ولو كان بدؤه عن الأدب أو الفن أو السياسة أو أي ما شئت من شؤون لا ترى أنت لها بالفرنك علاقة أو صلة. وليس في ذلك من عجب والفرنك وهبوط سعره هو اليوم مرض فرنسا العضال، ومن شأن كل مريض أن يربط كل ما في العالم بمرضه؛ فالجو والشمس الساطعة أو الذابلة وضجة الناس واضطراب الحوادث وكل ما ينظر له الصحيح على أنه بعض مظاهر الحياة الدائمة التغير مع ثباتها الدائم، ينظر له المريض في علاقته بعلته، ويكاد يخيل إليه أنه يتغير ليزيده علة، أو ليدنيه من العافية، وهو لا يخفي أمر ذلك على جليس من جلسائه أو عائد من عواده، بل يتحدث به ويفيض في شرح صلته بأسباب علته، ويلتمس في كلمة من محدثه أو نظرة من نظراته بعض أسباب الشفاء.

ولو أن الحق وعرفان الجميل هما وحدهما اللذان أمليا عليَّ تلك الرسالة لاقتضياني ألا أسلم قلمي لوحي العاطفة وحده، وأن أذكر أن هذين الأسبوعين كان لهما من الأثر في نفسينا أطيبه، وأن كل يوم من أيامهما كان يوسع للفؤاد في فرجة الأمل ويحطم جانبًا مما أقامه الهم تمثالًا لليأس في قلب زوجي، ويعيد إليها رويدًا رويدًا طعم الحياة كما لا تفتأ تذكر. فقد قمنا بكرة الغداة من وصولنا، فدلفنا من الفندق في شارع «دونو» إلى طريق «الكابوسين»، ثم إلى ميدان الأوبرا، ومقصدي أن أريها دار الأوبرا البديعة وميدانها قلب حي الحياة من قلب باريس، وأن أسير وإياها في طريق الأوبرا الذي سرت ميممًا الريجانس فيه يوم كتبت رسالتي الأولى لترى معروضات حوانيته ومخازنه، واثقًا بأنها واجدة فيها من صور الجمال والزينة ألوانًا ليس لنا بها في مصر عهد، واجدة بذلك في الحياة جديدًا يسرِّي عنها برمها بالحياة ويفرج من ضيق صدرها بها. وعجبت أن لم تحقق البرهة الأولى ظني، فإنها ما لبثت أن أرادت مئات الأتموبيلات المتتابعة في طريق الكابوسين، ثم ما لبثت في تخطينا من ميدان الأوبرا إلى طريقها أن اضطربت أمام حركة الأوتومبيلات الذاهبة والآيبة بين ميدان الأوبرا وميدان الفندوم، وأن بدا عليها الضجر من هذه الضجة المفزعة، ثم لعلها، برغم حديث مارسيل تنير حين كانت تقدم باريس إليها، كانت تنتظر أن تحيط نظرتها الأولى إليها بغير ما أحاطت به. على أن هذا الضجر ما لبث أن زال أكثره حين جعلنا نقف أمام معروضات طريق الأوبرا في كل حانوت من حوانيتها ومخزن من مخازنها. ولطريقة العرض وحدها أثر في النفس كبير، والفرنسيون أكثر أهل الأمم في طريقة العرض براعة؛ لذلك استرعى نظرها الشيء الكثير مما تحتوي معارض هذه الحوانيت. استرعت نظرها صور وتماثيل، كما استرعت نظرها أقمشة وأزياء، فجعلت تقارن بين أزياء باريس وأزياء مصر مما أعترف بأني غير طويل الباع فيه، ولذلك اقتصرت على الاستماع إليها والموافقة على ما تبدي من الملاحظات في شأنه. وإنا لكذلك إذ غامت السماء وأرسلت رذاذًا جعلني أفكر في ضرورة المظلة، أو المطرية كما يسميها الفرنسيون، في بلاد ما أكثر المطر فيها صيفًا، وتابعنا طريقنا، حتى إذا كنا على مقربة من ميدان التياترو الفرنساوي أفضيت إلى زوجي بأنه يجدر بنا أن نقضي مساء اليوم نشهد التمثيل في «الكومدي فرانسيز»، فقالت: لكن الفصل صيف وفصل إجازات، أفلا تخشى أن يكون المتقنون من الممثلين قد غادروا باريس إلى مصايفهم وبقي من دونهم من الممثلين درجة؟

فأجبتها: لا عليك يا صديقتي، إن بيت موليير يعتبر في نظر كل فرنسي عنوانًا من عناوين مجد فرنسا، فلن يسمح رجاله لهذا المجد أن يتضاءل ضياؤه في الصيف أو في الشتاء، ولن تري يومًا في بيت موليير رواية لا ينال موضوعها إعجابك ولا يأخذك تمثيلها كل مأخذ.

وذهبنا وكانت رواية (الحب يرعى L’amour veille) فلما خرجنا كانت أشد مني إعجابًا ببيت موليير وتقديرًا له كآية من آيات مجد فرنسا، ولم تقف بتقديرها عند التمثيل والممثلين، بل كان الجمهور وكان جو المكان وعمارته وكل ما فيه ذا نصيب في هذا التقدير، فلم يكد أول فصول الرواية يرتفع الستار عنه حتى كانت المقاعد كلها قد جلس إليها النظارة ولم يبقَ منها مقعد خاليًا، وبرغم هذا الحشد العظيم لم تكن تسمع أثناء التمثيل همسًا أو جرسًا إلا ما يفيض به الإعجاب ببراعة ممثل أو ممثلة في موقف من المواقف من دوي المكان بالتصفيق. وزينة المسرح وملابس الممثلات بنوع خاص، كان من بعض ما لفت نظرها، على أن هذه اللغة الفرنسية الرقيقة القوية، وهؤلاء الممثلين والممثلات الذين يصورون بها أشد العواطف عصفًا بالنفس وأدق الأفكار اتصالًا بالذهن، ذلك هو ما أدى بالجمهور إلى إقباله وحسن استماعه وعظيم إعجابه، وهو ما أدى بنا إلى أن نكثر التردد من بعد على مسرح فرنسا القومي. وانتهى الفصل الأول من الرواية فتركنا أماكننا إلى بهو الممثلين مجتازين إليه من طريق الشرفة المطلة على ميدانه. والشرفة طويلة نحو ثلاثين مترًا، لكن طولها وحده ليس لافتًا للنظر، وإنما يلفته هاته التماثيل الكثيرة القائمة فوق عمدها على مقربة من جدار الشرفة على أبعاد متساوية. وهي تماثيل نصفية للمؤلفين المسرحيين، يبعث رأس كل مؤلف منهم إلى نفسك صورة ما ألف، وصلته هذه الصورة العصبية أو الدموية الخيالية أو الواقعية الشعرية أو المفكرة. وانتقلنا إلى البهو فإذا به أربعة تماثيل: أحدها تمثال كامل لفولتير بالحجم الطبيعي، وإذا النظارة يخطرون، يختال الشباب، وتبسم الرجولة، ويهن المشيب. والشرفة والتماثيل والبهو والنظارة كلها تحدثك عن المسرح وفنه وتملأ نفسك إقبالًا عليه وقدرًا إياه. ودق الجرس للفصل الثاني، فلما انتهى هبطنا نقضي الفترة التي بينه وبين الفصل الأخير في الطابق الأول وصالته المتصلة بميدان اللوفر، وفي الصالة وفي بهو الدخول تحدثت إلينا تماثيل موليير وراسين وكورثي، كما حدثتنا تماثيل كبار الممثلين والممثلات وفي مقدمتهم مونيه سولي. فلما صعدنا للفصل الأخير لفتت نظرنا لوحة على جدار السلم كتبت عليها أسماء من استشهدوا من رجال هذا المسرح في ميدان الشرف أثناء الحرب الكبرى دفاعًا عن وطنهم فرنسا، فأعادت بعض هذه الأسماء إلى الذاكرة صورًا محبوبة في براعة تمثيلها. وكذلك لم تكن الرواية التي نشهد هي وحدها مأخذ النفس، بل كانت البيئة كلها تنقلك إلى عالم الفن التمثيلي وتجعلك أدق شعورًا، ببدائع ما يجليه الممثلون والممثلات على المسرح أمامك.

ورأيت في إعجاب زوجي بالمسرح دليلًا حسنًا على توفيق في اختيار باريس لتبدأ فيها استشفاءها، وعدت بها إلى الكوميدي فرنسيز بعد ذلك مرات، ولم تكن أمسية تمر من غير أن نذهب إلى أحد المسارح إلا نادرًا، على أن إعجابها بالكوميدي كان لا يفتأ في ازدياد. وإن أنسَ لا أنسَ يومًا كانت فيه إلى يميني وصديق من أساتذة كلية الحقوق الملكية إلى يساري، وكنا نشهد تمثيلية رواية «ابنة رولان»، ونسمع فيها ألبير لمبير ومدموازيل بييرا وزملاءهما من أكابر الممثلين والممثلات. و«ابنة رولان» رواية قديمة تقص تاريخ حادثة بين الأندلسيين وشارلمان ملك فرنسا، وفيها يتحدث شارلمان عن المسلمين بأنهم كفار، ويستنزل عليهم لعنة الله تطوح بهم في أعماق سقر. وكان ألبير لمبير يمثل شارلمان، فما كان أشد عجبي، وأنا أسمعه يرفع عقيرته بأشد عبارات التعصب ويدعو قومه إلى قتال هؤلاء المسلمين الكفار، أن أسمع عن يميني وعن يساري تصفيقًا حادًّا من مسلمة ومن مسلم تصطحبه عبارات الإعجاب بهذا الملك المجيد. والحق أن سمو فن الكاتب، وعظمة الممثل وبراعته قد أنست السامعين كل ما سوى الفن والإعجاب به، ذلك بأنه أخذ بالمشاعر جميعًا فأنساها الحياة الوضيعة وسما بها إلى حيث لا تقدر شيئًا غيره كائنة ما كانت المعاني التي يعبر عنها والصور التي يجلوها والعواطف التي يجيشها. وهل تريد للفن عظمة أكثر من أن يستر ما يملأ نفسك من العواطف العميقة ليقيم مكانها ما يناقضها كل المناقضة!

ولست بناسٍ لبيت موليير كذلك يوم شهدنا فيه رواية (الحب Aimer) تمثل، هذه الرواية الخالدة من روايات بول جرالدي يقص في جانب منها فجيعتنا؛ فهذان زوجان فقدا وحيدهما وأقفر العالم حولهما، وهوى الحزن بالأم فتعلقت بأسباب الحياة تلتمس عزاء ورجاء، وكان لهما صديق كثير التردد على البيت كثير التودد للزوجة، ما برح يزجي لها أسباب الإغراء حتى تعلقت به وأحبته وأعلنت ذلك إلى زوجها، وطمعت إليه في أن يرد لها حريتها لتلحق بصاحبها من غير أن يلحقها عار أو ضيم. وعبثًا حاول زوجها ردها إلى حمى الزوجية والواجب، ثم هدته الفكرة إلى أن ينزل عن الجهاد وأن يدع المحاولات، وأن يظهر كأنه لا يعنيه فراق زوجه، وأبلغها أنه أجابها إلى حريتها، فهي طليقة تفعل ما تشاء على ألا يبقى عنده منها في البيت أثر. وجمعت الزوج متاعها وكل ما كان في الدار لها، وأرادت أن تستأذن في الانصراف، فذكر لها زوجها أنها نسيت شيئًا لا يصح أن يبقى بعدها، وأعطاها صورة وحيدهما الذي غادرهما وغاله الموت منهما، وطلب إليها أن تحتفظ هي بها! وحدقت الأم إلى الصورة ثم ردت طرفها إلى زوجها تسأله: أحقًّا أن ذهابها ينزع حتى هذه الذكرى المقدسة من نفسه؟! وكان جواب الرجل الجريح في عزته، الجريح في أبوته، أنها هي التي تريد في سبيل هواها أن تمحو من كل نفس ذكرى فتاها. وكانت هذه الذكرى هي التي ردت إلى الأم أمومتها والى الزوجة زوجيتها، وهي التي ربطت بين هذين القلبين برباط مقدس لا يستطيعان، وإن حاولا، منه فكاكًا.

لست بناسٍ ذلك اليوم، ولست بناسٍ عبرات خنقتني ولا سبيل إلى حبسها وإن حبست صوتي أن يجهش بالبكاء إشفاقًا على جارتي التي ترى على المسرح مأساة فجيعة الأم في وحيدها من جديد تمثل، فتحاول ما أحاول عبثًا من حبس صوتها خجلًا من الجمهور وضنًّا بالفن أن يفوته، وخيِّل إليَّ زمنًا أن الخير أن نغادر المكان، وأشرت بين فصلين بذلك إليها، فإذا هي أشد حرصًا على شهود هذه الرواية وأشد حبًّا للمسرح من أجلها. وكذلك كانت الكوميدي فرانسيز، حتى في إسالتها العبرات الصادقة من مآقينا، تمد يد الفن المحسنة فتجعل من كل عبرة بلسم شفاء لأشد جرح نفورًا، وكذلك كانت وستبقى بحق آية من آيات مجد فرنسا، وكنت أنا على حق حين اتخذت منها لصاحبتي أبرع وسيلة في باريس للسلوة.

وكما أنك تتخطى طريق الأوبرا ما بين معبد الموسيقى (الأوبرا) ومعبد التمثيل (الكوميدي فرانسيز)، فإنك إذ تسير في اتجاه الطريق نفسه ما تلبث بعد خطوات أن ترى أمامك المعبد الأكبر للنقش والتصوير؛ إذ تقابلك البوابات الضخمة المؤدية إلى الفناء الفسيح، فناء متحف اللوفر، والى حدائق التويلري البديعة الجمال بقوس نصر الكاروسل، وبالتماثيل الكثيرة الجميلة المنثورة فيها، وبأشجارها المكتملة النماء، وبفسقيات الماء يدور من حولها الأطفال يلعبون. وكنت قد رأيت منذ نزلنا باريس أنه لا يجمل بنا أن نزور متحف اللوفر في أيامنا الأولى، وألا نزوره قبل زيارة غيره من المتاحف، بل رأيت ألا نعجل بزيارة المتاحف، ففيها دائمًا هيبة ورهبة، ونحن في حاجة إلى رواء وبهجة؛ لذلك اخترقنا التويلري أول زيارة لنا إياها ميممين ميدان الكونكورد، وتقوم وسط جوه الأوربي الكثير التقلب مسلة الأقصر الفرعونية التي لم تعرف قبل انتقالها إليه ما تقلب الجو وما عبثه، وإن عرفت مدى ألوف السنين التي شهدت كيف تطل على معبد آمون وعلى معبد الأقصر وعلى آيات من مجد الفن الخالد الباقي، ووقفنا على إفريز حديقة المسلة نسرح البصر في الميدان الفسيح تقوم في جوانبه التماثيل الكبرى، ومن بينها تمثال مدينة ستراسبور كان إلى ما قبل الحرب الكبرى متشحًا جانبه بالسواد، وها هو ذا اليوم كغيره من التماثيل قد زال عنه السواد منذ استردت فرنسا الألزاس واللورين واستردت ستراسبور معها. وتقوم مع التماثيل نافورتا المياه البديعتان ترسلان بالمياه صوب السماء من أفواه السباع المتقابلة. وولينا وجهنا نحو الشانزليزيه مقابل حديقة التويلري، فلم يبلغ البصر مدى هذا الطريق العظيم عند قوس النصر الأعظم. وعلى يميننا امتد شارع رويال منتهيًا بكنيسة المادلين المهوبة العمارة في غير جفوة ولا قسوة، وعن يسارنا تخطى البصر نحو السين ليقع على قصر بوربون دار مجلس النواب الفرنسي. ما هذا كله؟! أين هذا في مصر؟ وأين هذا في أوربا، بل في العالم كله؟! ما هذا الجمال والجلال؟! وما هذه العظمة الباسمة اختيالًا وتيهًا؟! إن هذه المجموعة التي نشهد لمجموعة فذة في عالم العمارة وفنها، وهي بحاجة لكي تنال النفس ريها من بهائها إلى عشرات بل مئات من الزيارات لا تزداد النفس بعدها إلا تعلقًا وشغفًا باستجلاء بديع الدقات في صنعها. مع ذلك فهذا الميدان الفسيح المحيط بكل هذا الجمال قلَّ من يقف فيه اجتلاءً لجماله إلا الذين قدموا باريس وزاروه للمرات الأولى؛ فهو على أنه متحف تماثيل وعمارة هو متحف في الهواء الطلق، وهو متحف في وسط هذه الحركة العنيفة ما تكاد في ساعة من النهار تهدأ؛ ولذلك يمر الناس به سراعًا، تطير السيارات بمن تقله منهم، ويسرع المشاة إلى تخطيه لئلا تحطمهم السيارات ومن فيها. على أني بينما أشارك زوجي في الإعجاب بروعة الميدان وما فيه أسرعت بذاكرتي لفتة إلى الماضي حين كان الكونكورد بعض الميادين التي خطا بباريس فيها شبابي، وحين كانت المادلين أول عمارة باريسية فخمة وقع عليها بصري. وما عسى أن تفيد الذكرى أو ينفع رجع الشباب في مثل موقفي! فدلفنا متقين العجلات إلى الشانزليزيه متخطين إياه إلى الطرق المحاذية لا يفصلها عنه فاصل، وتزينها الأشجار تكاد تحسبها غابة لا يصل نظرك إلى آخرها، وألقينا عصا التسيار غير بعيد أن طال بنا السير، فاستوقفنا عربة أنزلتنا حيث نتناول طعام الغداء.

وعدنا بعد ذلك مرات، بل عشرات المرات إلى التويلري فالشانزليزيه، عدنا إليهما في ساعات مختلفة من الليل ومن النهار. أتراني أستطيع وصف ما تقع عليه العين منهما وما تنقله للنفس من إحساسات ومشاعر؟! من العبث أن أحاول وصف مجموعات العمارة مما تقع عليه العين في الشانزليزيه عند تقابل القصرين الكبير والصغير، يمر الشارع الذي يفصلهما لينتهي إلى جسر الإسكندر أبهى جسور السين وأروعها بنسوره المحلقة يلمع في الهواء لونها المذهب، ويسير الطريق من بعد الجسر حتى ينتهي إلى الأنفاليد مثوى نابليون ومستقر رفاته «بين أمة الفرنسيين التي أحب حبًّا جمًّا» كما كتب على باب قبره. ومن العبث أن أصف قوس النصر الأعظم غاية الشانزليزيه وملتقى شوارع باريس الاثني عشر الكبرى، ومن بينها طريق غاب بولونيا الذي ينتهي بك إلى مسرح ما في باريس من حياة وفن وعاطفة وشعر ورغبة. من العبث أن أصف لك هذا وكل من القصرين والجسر والقبر وقوس النصر، يحتاج كل واحد منها إلى دراسة في الفن ودراسة في التاريخ لوصفه، ويحتاج إلى أن تقف لذلك عنده الساعات تباعًا، ونحن أشد حاجة إلى السلوى منا إلى الدراسة، وأشد حاجة للمتاع بما تنقله إلى النفس هذه المجموعة الفذة في مجموعها من إعجاب بها، وبما تشتمل عليه من حركة دائمة النشاط، حتى لخيِّل لزوجي أول مرة رأتها أنها في يوم عيد، أو على حد تعبير سيدة مصرية جليلة، أنها في مولد النبي. والحق أن هذا النشاط الدائم الحركة في هذا الحي البديع من أحياء باريس يشعرك أنك في مثل يوم الحشر؛ أنت كل لحظة في وجل من العجلات، فإذا أنت ركبتها رأيتها مضطرة لأن تقف هنيهة بعد هنيهة خضوعًا لنظام حركة المرور، ولأن تدفع من البنزين ومن الجاز ما يضيق له في كثير من الأحايين صدرك ويزكم له أنفك، ثم إنك بالكونكورد والشانزليزيه ما مررت بهما صدر الليل أكثر متاعًا. في هاته الساعة حين يبدأ شيء من السكون ينسل إلى شوارع باريس وميادينها، يمسي الكونكورد والشانزليزيه بحرًا لجيًّا من ضياء المساء يكسو المار بهما من غير أن يغرقه، ويبتعث خيالاته إلى كل ما ينطوي عليه الليل من نعيم ومسرة، ويدعوه ليستمتع بنور الليل الذي لا تعرفه مدينة ما تعرفه مدينة النور، فإذا دلفت إلى الطرق المحاذية للشانزلزيه وجدت كل آن وحين ملك الحب يتمشى تحت أشجارها، أو يستريح إلى مقعد من مقاعدها مصورًا في شاب وفتاة أكثر أمرهما متخاصرين وهما يتناجيان بوحيه ويتابعان سعيدين مسرى أهوائه، وتتبدى لك هنا وهناك خلال أشجار هذه الطرق أنوار وضاءة تهدي إلى ملهى فيه طعام وشراب ورقص وموسيقى، وفيه للمترفين من أهل اليسار ما يخفف عنهم عبء أموالهم، وما يحدثهم غير حديث هؤلاء الذين يكتفون بالسماء والشجر ستارًا لحبهم لأنهم لا يجدون لغير السماء والشجر الوسيلة. فإذا أغذذت في الشانزليزيه سيرك مصعدًا نحو قوس النصر حتى تمر بالقصرين الكبير والصغير تقاربت في الطريق الفخيم الأنوار والفنادق والقصور فلم يبق للحب المطمئن في هذه الناحية ستار، وإن بقيت له بعد قوس النصر في طريق غاب بولونيا وفي كثير غيره من الطرق أستار. وفي هذه الناحية المهتوكة الضياء يقوم مسرح الفمنا، وملهى الليدو، وغيرهما من متع باريس ما جنَّ الليل أهل باريس. وقد استحدث في هذه الناحية من المقاهي والمطاعم والبارات ما جعلها — وهي التي كانت من قبل حي السادة والأرستقراطية من أهل باريس — تشبه «الجران بولفار» مسرح الديمقراطية التي سادت بعد الحرب فطغت على الأحياء جميعًا، وإن بقي حي الشانزليزيه في ديمقراطيته مكان أرستقراطية المال الذي جد بعد الحرب لمن كانوا من قبل لا يملكونه، وهذه المطاعم والمقاهي هي أنس الشرقيين الذين يقصدون باريس، لما تتيح لهم من حياة كلها الشبه بحياة الشرق في اطمئنانها وكسلها، فإذا أنت جاوزت المطاعم والمقاهي وبلغت قوس النصر وأدرت بصرك فيما حولك، رأيت بساط الليل ممدودًا فوق ما سوى الشانزليزيه من كبريات الطرق ليست فيها أنوار الشانزليزيه وليست فيها حياته.

وقفت يومًا إلى جانب قوس النصر أحدق إلى النار الخالدة يتبدى ما فوق قبر الجندي المجهول لهيبها، لم يكن هذا القبر ولا كانت هذه النار هنا من سبع سنوات ماضية، ومع ذلك صارا في عداد الخلد الذي صار قوس النصر قبلهما إليه؛ وهما بالخلد جديران؛ لأنهما يمثلان فكرة خالدة هي فكرة التضحية في سبيل الوطن؛ التضحية الصامتة المجهولة التي لم تفكر يومًا في أية فائدة مادية أو معنوية، ولا فكرت في مجد أو جاه أو بقاء على الزمن، التضحية يرتضيها صاحبها باسمًا سعيدًا لأنها واجبه يؤديه غير منتظر جزاء ولا شكورًا، لا لأنها وسيلة يمن بها على مواطنيه ليقتضيهم ثمنها مضاعفًا، التضحية الصادقة الخالصة إخلاص الأم لابنها، والمؤمن لله، والإنسان للوطن، التضحية في أسمى صور التضحية وأجل معانيها، هذا المعنى الخالد جدير بأن يكون مثاله في كل نفس خالدًا، وأنت لذلك تشعر أنه كان في هذا المكان منذ الأزل، وأن فراغ هذا المكان منه قبل أن يقام فيه إنما كان تفريطًا ممن أقاموا قوس النصر وهم يعلمون علم اليقين أن لا نصر في الحياة من غير تضحية.

ومتى أقيم قوس النصر؟ ومتى شق الشانزليزيه؟ ومتى أقيم القصران الكبير والصغير؟ ومتى مهد ميدان الكونكورد؟ ومتى نسقت حدائق التويلري؟ وكم من الأجيال أقامت قصر اللوفر؟ نعم! كم اقتضت هذه المجموعة نرتع خلالها ونستمتع بجمالها من زمان وجهد وعبقرية؟ قلَّ أن يعرض لنا هذا السؤال ونحن نتخطاها على حين يقضي بعضهم سنوات من حياته بل حياته كلها بتقصي أخبار هذا التاريخ العظيم الذي تنطوي عليه هذه البقعة من باريس، ليست أقدمها وإن كانت أروعها، وليست أبقاها أثرًا في النفس وإن كانت أشد أخذًا بالنظر وبهرًا للب. وأنت في غير حاجة إلى كل هذه الدراسة التي يقضي فيها من شاء السنوات ليقص أخبارها، بل أنت في غير حاجة للرجوع إلى قصص هذه الأخبار لتقدر ما ذاب من فلذات الإنسانية أذهانًا وأرواحًا وخيالات وعواطف وأذرعًا، ليذر لنا وللأجيال من بعدنا أن نشارك هؤلاء الذين سبقونا على الحياة في ارتشاف أكبر نصيب من حياة الكون والوجود كله. إن ما يقع عليه نظرك كفيل وحده بأن يريك من هذه الأجيال ونبوغها وسمو فنها وقوة عاطفتها ومتانة أذرعها وبنانها ما يشعرك أنك صغير بينها بانقطاعك عنها، كبير معها باشتراكك وإياها في ذوق الفن والسعي لمزيد منه تستمتع بالإنسانية به. حقًّا! إن الوطن ليس هو هذه الأرض التي نحفظ منذ صغرنا حدودها ونعتبر شركاءنا عليها إخوانًا وأعوانًا، بل إن للآباء والأجداد وللمقابر وللرفات لحظًّا من الوطن أعظم من حظ أرضه، وهذا الحظ هو الذي يجعل بقعة من الأرض وطنًا، ويجعل الوطنية روحًا، ويجعل لنا بهذا الروح إيمانًا نفتديه بمهجنا وأنفسنا وأرواحنا ونتخذ له من أرض الوطن معبدًا ومقامًا. فمن أولاء الذين أقاموا قوس النصر، وفيم أقيم؟ ومن أولاء الذين مهدوا ميدان الكونكورد ورفعوا تماثيله؟ وفيم مهد الميدان ورفعت التماثيل؟ وقصر اللوفر … كم من ملوك تعاقبوا عليه ومن مهندسين صوروه، ومن رجال فن نقشوه؟! والقصران والجسر وقبر نابليون وكل عمارة وكل أثر!! ليس هذا ثرى الوطن، ولكنه حياة ألوف الأجيال من أبناء هذا الوطن؛ ولذلك يدافع عنه أبناؤهم بإيمان وحرارة؛ لأنهم يدافعون عن آبائهم وعن تراثهم وعن أنفسهم وأرواحهم! يدافعون عن الدم الذي يجرى في عروقهم كما يدافعون عن الأرض التي يقوم عليها هذا التراث المقدس عندهم وعند كل الأجيال التي تخلفهم، والتي تطوي الرفات الغالية التي أقامت هذا التراث فأقامت منه للوطن هياكله ومعابده، وجعلت الوطن لذلك أكثر في النفوس قداسة، كما جعلت النفوس أكثر بالوطن إيمانًا.

هجست هذه الخواطر بنفسي، فأردت أن أفضي بها إلى زوجي لعلها تشاركني فيها أو تدلي إليَّ بخاطر جديد، لكني سرعان ما ترددت ثم أحجمت مخافة أن يثير ذكر الماضي شجنها بعد أن بدأ الأمل يفتح لها أحضانه، ويعدها في المستقبل متاعًا بجمال العالم كله يعوضها عن عالمها الذي ذهب. لقد سألت نفسي بعد أن اعتصمت بإحجامي بمَ كنت أجيبها لو أنها صاحت بي: لا كان وطن ثراه رفات الأطفال وفلذات الأكباد!

على أن ذكر هذا المجد في جانب من جوانب باريس هفا بذاكرتي إلى جانب آخر أشد اتصالًا بها، ذلك هو الشاطئ الأيسر والحي اللاتيني منه، هذا الحي الذي قضيت فيه خير ما قضيت بمدينة النور من شبابي. ولئن كان الشاطئ الأيمن حيث مسارح الأوبرا والأوبرا كوميك والكوميدي فرانسيز، وحيث الكونكورد وقوس النصر ومتحف اللوفر والجران بولفار وما يتصل به، قد أمتعني أيام ذلك الشباب بما نعمت به سواء أكنت مقيمًا ببعض أحيائه أم كنت مرتادًا إياه لأعود إلى حي الجامعة والكليات، فإن هذا الحي العلمي المليء بالشباب والنشاط وبالحياة الساخرة من الحياة وبالمتاحف والحدائق، هو الذي كوَّن شبابي ووجَّه معارفي ونظَّم إلى حد كبير خطة حياتي. وزادني شغفًا بزيارته شوق للأماكن التي سرت فيها، والمنازل التي أويت إليها، والمعاهد التي درست بها، والمكاتب التي ترددت عليها. وحديقة اللكسمبور طالما فتنت بجمال ربيعها، وإلى هواء هذا الحي الذي تنسمت، ووجوه شبابه الذين بينهم نشأت، وإلى فنه في متحف اللكسمبور وفي البانثيون وإلى الأوديون؛ كم صفقت لممثليه! وكم درت حول جدرانه وتحت أقبائه، أتعهد فيها عند فلاماريون الكتب الحديثة التي ظهرت، وأبحث لديه عن الكتب القديمة التي اندثرت، وأضيف من ذلك كله يومًا بعد يوم جديدًا إلى حياتي وإلى عاطفتي وإلى روحي وإلى ذهني. وما كانت زوجي لتخالف عن مشيئتي وأنا دليلها وقد أقمت لديها على حسن تصرفي الدليل. ومن اليسير عليك أن تصل إلى حي العلم بأن تتخطى السين على جسر الكونكورد أو جسر سولفرينو أو جسر اللوفر أو أي من هذه الجسور التي تقابل التويلري ومتحف اللوفر، وتكون بعد هنيهة في طريق سان جرمان تنحدر منه خلال أي من شوارعه الكثيرة إلى حيث تقصد عند الأوديون أو اللكسمبور أو البانثيون أو شارع المدارس أو بلفارسان ميشيل. وإلى هذه الأماكن مواضع ذكرى الشباب وطلب العلم، ذهبنا ذات صباح وفي نفسي للقياها بعد انقطاع أربعة عشر عامًا عنها هيبة ولهفة، وللوقوف بكل مكان تركت فيه بعض حياتي وترك لي على الحياة ذكرًا باقيًا شغف وحنين. ها نحن أولاء بشارع المدارس أمام كلية فرنسا (college de France) نصب أمامها تمثال كلودبرنار، وأقفلت أبوابها في هذا الفصل فصل الإجازات المدرسية. ومع إقفالها اخترق خاطري أبوابها، وحاولت أن أستعيد في ذاكرتي صورتها، فألفيتني داخلًا إليها منعطفًا عن يميني إلى قاعتها الكبرى لأستمع كما كنت من خمسة عشر عامًا أستمع إلى برجسن، ثم داخلًا إليها ميممًا بهوها الذي يواجه الباب لأستمع كما كنت أستمع إلى دركيم. لقد مات دركيم وشغل برجسن بالدعوة للعلم ولفرنسا، وما أزال أراني جالسًا في هذه القاعات الفسيحة يتابع ذهني آراء هؤلاء الفلاسفة الجبارين ومن حولي سيدات جاوزن الأمومة وشابات لما يدركنها، وقسس ورجال من كل الطبقات، والكل مصغٍ إلى هذا الفيض من نور التفكير العلمي السامي يرتفع بصاحبه فوق كل اعتبار ديني أو غير ديني، ويحله من كل قيد اجتماعي أو مادي، ويحلق به في سموات رفيعة ينسى فيها نفسه والعالم المحيط به، ويستمع لهؤلاء الدعاة إلى مدينة فاضلة جديدة تقوم على أسس العلم الواقعي الصحيح، لا على صور وهمية تخلقها الخيالات والأحلام. ويخرج المستمعون من هذه القاعات تحوي كل واحدة منها عالمًا كاملًا يعتقد صاحبه أنه عالم الحقيقة والكمال، فلا يأبهون ساعة خروجهم لضجة الحياة المحيطة بهم، بل ترى جماعات تسير منهم يتحدثون فيما سمعوا، ويبدي كل منهم عليه ملاحظته، وترى آخرين يسير كل واحد منهم منفردًا يحاول ذهنه أن يضع ما عرض عليه من النظريات موضع التحقيق والنقد العلمي. وهذا الاتجاه الذهني عندهم هو الذي يدعو الكثيرين منهم إلى الاعتكاف في قهوة أو محل حلوى أو نحو ذلك يجترون فيه هذا الغذاء العلمي الدسم، يرددونه ويلوكونه وينقدونه، يحاول كل منهم أن يكوِّن لنفسه فكرة ذاتية منه تتصل بتفكيره في نظام الحياة والعالم ليجاهد في حدود طاقته كي يسمو بنظام الحياة والعالم إلى مثال فكرته.

ومن عند كلية فرنسا صعدت يسرة إلى سان جاك لأقف هنيهة أمام كلية الحقوق، أذكر لديها سنوات ثلاثًا كانت خلالها مثابة درسي ومآب تحصيلي، وأذكر كذلك أني كتبت على مناضد مكتبتها الغنية بألوف المجلدات الحقوقية والقضائية صحفًا غير قليلة من رواية «زينب»، كنت أجد في كتابتها فسحة واستراحة من عناء البحث والدرس. يا رعى الله أيام الشباب وذكرت دائمًا بالخير! إني لأراني الساعة داخلًا إلى الدهليز المؤدي إلى المكتبة متخطيًا إياه أقفز في نشاط ومرح عشر درجات أو نحوها لأكون في بهو الكلية، يخطر فيها الشباب فتيانًا وفتيات بين منتظر درسه وخارج منه، ويسرع آخرون إلى هذه المدرجات الكبيرة (الأمفيتاترات) يجلسون منها في المكان الخالي، ومنهم من يدخل في أعقاب الأستاذ، ومنهم من يضيع زمنًا من درسه، وأكثرهم متأبط كراسة يسطر فيها ما يلقى من علم، كيما يراجع ما فيه من نظريات وآراء من بعد. والأساتذة في عباءاتهم الطويلة وقبعاتهم الحمراء الصغيرة لا تكاد تستر إلا بعض رءوسهم يسيرون في وقار ورزانة، ومن ورائهم حاجب علقت في رقبته سلسلة طويلة من معدن وهو يحمل بين يديه عددًا من الكتب قلَّ أن يفتح الأستاذ منها كتابًا؛ لأنه يحيط بما فيها إحاطة مدقق ناقد ذي رأي مستقل وفكرة تكونت بعد قراءة أضعاف هاتيك الكتب التي يحملها حاجبه واتسقت له في كمال شبابه، ثم جعل يصقلها ويدقق في تحديدها وينفي كل ما يراه من زيف يختلط بها، حتى إذا بك حين تسمعه يلقيها وهو يهز رأسه الأبيض الشعر الجميل المشيب، تسمع الفكرة ملكت صاحبها كما ملكها، فسمت به وسما بها، وتملكته بمقدار ما أحبها، وصار يقلبها أمامك في حنان وإعزاز كما تقلب أنت طفلك العزيز قضيت لياليك وأيامك في العناية به وأعانك القدر إلى إنجاحه فصار عندك كل شيء، وصار عليك أعز من نفسك، وصرت تتعصب له وتغامر في سبيله على حين أنت متسامح في شأن ما سواه غاية التسامح. وذكرت وأنا في موقفي هذا من كلية الحقوق ذات مساء كنت أستمع فيه لجواز العلوم الجنائية إلى العلامة الكبير جارسون، الكبير على صغر جسمه وقصر قامته وبريق عينيه الضيقتين، وفيما هو يتحدث ضرب لنا مثلًا، رجلًا قصد إلى قتل ملك فأصاب شخصًا يشبهه ولم يصبه، أفيعاقب على جريمة قتل الملك وتطبق عليه الظروف المشددة؟ وآخر أطلق عيارًا على سرير شخص فلم يكن فيه، ما جزاؤه؟ فقلت أنا: إن المثل الأخير هو مثل الجريمة المستحيلة، وإن المثل الأول فيه جريمة مستحيلة بإزاء الملك، ولكنه القتل عمدًا بالنسبة لمن وقع عليه. وهنا أبرقت عينا جارسون وانطلق في فيض من الحجج بدأها بقوله: لكني لا أسلم يا سيدي بالجريمة المستحيلة، ليس هناك شيء اسمه الجريمة المستحيلة، فالركن المعنوي هو كل شيء، والركن المادي ثانوي بالنسبة له، ولو أن الركن المادي كان الأول في التقدير لما عوقب الشروع بعقوبة الجريمة التامة ولو كان شروعًا خائبًا. وانطلق في تدليله انطلاقة انقلب أمام أنظارنا أثناءها شابًّا عالي الكلمة متواتر الحجة ناهض الدليل، حتى كنا جميعًا في صمت ذاهل هو صمت الإجلال والإذعان. كذلك كان أستاذنا المغفور له جارسون ونحن نسمع له في شتاء ١٩٠٩–١٩١٠ كذلك ارتسم أمامي ساعة وقفت أمام كلية الحقوق، وكذلك هو الآن، وكذلك ستبقى في نفسي صورته. وكمنبر هذا الشيخ الهرم السن الصغير الجسم الشاب القلب المتوقد الذكاء كانت تقوم منابر فحول القانون الجنائي والمدني والتجاري والدولي وغيرها من هذا العلم الذي ينظم صلات الأفراد والجماعات والدول، والذي يتصل من ناحية بأسمى النظريات الإنسانية والاجتماعية، ومن الأخرى بأدق تفاصيل الحياة العملية في تفاعلها تفاعل تعاقد وخروج عليه، وإجرام وإمعان فيه، وحرب وما يتبعها من عدة هلاك ودمار وإجراءات تنظيم ذلك كله، فتهون على الجمعية من سيئاته قدر المستطاع، وتجنبها شروره ما أمكن الإنسان أن يجنب نفسه الشرور.

ما أكبر رسالة كلية الحقوق وهذه غايتها، وعلى منابرها يجتمع النظر والعمل على سواء! لكن جلال الرسالة لم ينسني حين ذكرت أيام طلب العلم مآب هذا العلم حين الامتحان، وإني ليخيل إليَّ أن الامتحانات لو لم توجد لكانت علاقة الطلبة والأساتذة أكثر إجلالًا من الأولين وأكثر عطفًا ومودة من الآخرين، ولما رأينا ما في علاقاتهم من شوائب الضغينة المستخفة من الشباب بالمشيب، والازدراء المستكبر من المشيب للشباب. أم لعل الامتحانات ليست وحدها مبعث هذه الشوائب، فلها كذلك مبعث من ثورة الشبان يحاول الخروج على ما يسميه قواعد المشيب ونظمه البالية، ودفاع المشيب عن هذه النظم في انتظار اليوم الذي ترد الحياة فيه عقل الشباب إلى رأسه، فيدرك أن الثورة ليست إلا كبرياء الوهم الغرور، وأن التطور في أناة وروية وعلى مهل حذر هو وحده سبيل الإنسانية إلى الكمال.

ومن شارع سان جاك درنا إلى طريق سان ميشيل مجتازين إليه شارع سوفلو كظته حوانيت كتب الحقوق، وتطل نهايته القريبة من كلية الحقوق على البانثيون، في حين تطل نهايته المتصلة ببولفارسان ميشيل على حديقة الكسبور الرشيقة البديعة، ثم تخطينا ميدان السوربون ووقفنا نواجه مثوى الفن والأدب والفلسفة في نظامها العلمي المستند إلى التاريخ المطمئن أكثر من استناده إلى ما في كلية فرنسا من ثورات توجه تاريخ التفكير الإنساني وجهات جديدة. كم لهذا الاسم — اسم «السوربون» — من رنة في العالم كله! وكم لأساتذته في نفوس طلاب علمهم وفي نفوس علماء الأرض جميعًا من مكانة سامية ومقام رفيع! وكما كنت وأنا طالب حقوق أتردد الوقت بعد الوقت على كلية فرنسا، فقد كنت على السوربون أكثر ترددًا، وكان لي بالاستماع إلى بعض كبار أساتذته أمثال مسيو كروازيه ومسيو لانسون ولع خاص، وما أزال حتى اليوم أذكر هذه النغمة المطمئنة الرضية التي كان يلقي بها العميد كروازيه محاضراته عن أدب اليونان وعن فلسفتهم، حتى لتحسبه أفلاطون يتحدث إلى المشائين من تلاميذه، وإن كان تلاميذ كروازيه كلهم جلوس في «الأمفيتياتر» الكبير يتسع لعدة ألوف من بينهم الشباب والشيب، ومن بينهم نسوة يعدلن الرجال إن لم يفقنهم عدًّا. وفي نغمته الرضية أسبغ عليها علمه ومشيبه مزيدًا من الطمأنينة والرضا كان هذا العالم العظيم يصل ما بين أدب الأقدمين وفلسفتهم وأدب عصرنا وفلسفته، ويجمع بذلك في هذا البهو الفسيح قرونًا من الزمان عدة تتالت متصلة في تتابعها على الزمان واصلة بسلطانها الذهني بين مختلف الأمم في مختلف بقاع أوربا، بل في مختلف بقاع العالم القديم كله، ويخلق من هذه الصلة أمام سامعيه صورة من وحدة الحياة الإنسانية على هذا النحو في مختلف بقاعه وأزمانه، وهو لم يكن ينسى في مقارناته أن يصل بين أدب الإغريق والأدب الفرنسي، لكنه كان يشير إلى مجمل من هذه الصلة تحتاج إلى تفصيل يكفله لك مسيو لانسون في محاضراته عن تاريخ الأدب الفرنسي؛ وبخاصة أيام تأثر هذا الأدب بشعر اليونان والرومان ونثرهم في عصر راسين وكورني. وما كان أبدع بيان مسيو لانسون حين شرحه كيف استقل الأدب الفرنسي بنفسه بعد ذلك رويدًا رويدًا، وكيف بنى استقلاله على أسس من هذه الصلة بينه وبين الأدب القديم، ثم كيف تخلص في القرن الثامن عشر من هذا الأدب القديم وإن لم ينكره ولا أنكر عليه ما كان له من فضل في نهضة الأدب في فرنسا وفي أوربا كلها.

إلى يسارك وأنت منحدر في الزقاق المؤدي من السوربون إلى شارع المدارس كانت تقع مدرسة العلوم الاجتماعية العليا الحرة أثناء دراستي بباريس، ولعلها حتى اليوم ما تزال في هذا المكان، وكنا نذهب إلى هذه المدرسة مقابل اشتراك زهيد نؤديه لنستمع فيها إلى محاضرات في شئون اجتماعية مختلفة يلقي المحاضر منها اثنتين أو ثلاثًا حسب الموضوع الذي يختاره، وقد يفصل أسبوع بين المحاضرة والتي بعدها، وقد يفصل بينهما أسبوعان أو أكثر. وكانت هذه المدرسة أقسامًا يتصل كل قسم منها بعلم من علوم الاجتماع، والمحاضرون ليسوا دائمًا من كبار الأساتذة، بل بينهم من الشبان، ومن غير المشتغلين بالتدريس، من تشغل أذهانهم فكرة أو نظرية خاصة يدرسونها ويلقون على السامعين نتائج دراستهم فيها، ويطلبون إلى مستمعهم مناقشتهم فيما قد تعن لهم المناقشة فيه. ويقع في أحيان كثيرة أن يكون من بين المستمعين من هو أكثر تضلعًا من المحاضر، ومن كنا نجد في الإصغاء إليه لذة ومتاعًا يشاركنا المحاضر فيهما، ولا يأبى أن يعترف، إذا هو اقتنع بخطأ رأيه أو بنقص البحث فيه، بما أدى به إليه اقتناعه. وقد يطلب إلى المستمعين مهلة ليقوم فيها من جديد بدراسة فكرته وليلقي بعدها محاضرة يرجو مناقشه أن يكون من بين المستمعين إليها، ليكون البحث بينهما أداة للوصول إلى الحقيقة؛ فالوصول إلى الحقيقة يجب أن يكون الغاية العليا التي يتجه إليها نظر الإنسان المهذب.

يقابل شارع المدارس شارع مدرسة الطب، تقع فيه كلية الطب إحدى كليات جامعة باريس الكبرى، وعلى مقربة من كلية الطب تقع مدرسة الفنون الجميلة العليا، هذا خلا عددًا من المدارس الحرة ومن أبهاء الجماعات العلمية يقصد إليها كبار الأساتذة يلقون فيها محاضرات علمية وفلسفية واجتماعية وأدبية، ويبعثون فيها بذلك إلى الذهن وإلى الحس وإلى العاطفة ما ينبه نشاطها ويدعوها للإمعان في البحث الدقيق عن الحق والخير والجمال، مما تدعو إليه كلية فرنسا وكلية الحقوق والسوربون ومدرسة العلوم الاجتماعية العليا ومدرسة الفنون الجميلة، وهذه المدارس والكليات الكثيرة الجمة النشاط المنصرفة للدراسات العليا، والتي تجعل من هذا الحي اللاتيني القلب الحساس والذهن المفكر والعاطفة المتقدة والفن المبدع في باريس جميعًا.

أي المجموعتين أبهى جمالًا وأشد بهرًا: مجموعة الحي اللاتيني هذه، أم مجموعة اللوفر والتويلري والكونكورد والشانزليزيه؟ هذه الأخيرة هي الجمال البارع أمام النظر والزينة البادية لكل عين، أما الأولى فهي القلب الذي يوزع على باريس وعلى كثير من أنحاء العالم أسباب الحياة الإنسانية السامية؛ لذلك أحسب باريس بحيها اللاتيني أشد تيهًا وفخرًا، وأنها تعد في مجموعته التي أشرنا إلى بعض ما فيها أكبر سبب مجدها؛ لأنه مصدر كل مجد لها على المسرح وفي الفن الجميل وفي العلم وفي الطب وفي الحقوق وفي الأدب، وفي كل ما تزدهي به باريس على كل المدائن.

وفي باريس مجموعات شتى، مجتمع بعضها يصل بينه تجاوره، ومشتت بعضها يصل بينه تشابهه. ومن المجموعات التي تزدهي بها باريس ازدهاءها بالمجموعتين اللتين وصفنا، مجموعة عجائبها وآثارها وعماراتها، من مثل كنيسة نوتردام والأنفاليد مستقر قبر نابليون، وبرج إيفل والبانثيون واللوفر وما يخضع لعظمته من سائر المتاحف. وهذه المجموعة هي ما يقصد إليه زائرو باريس كما يقصدون إلى مجموعة ملاهيها في المولن روج والفولي برجير والأولمبيا وأشباهها من الأبهاء الموسيقية البديعة التي تجتمع فيها أسباب الفن بأسباب اللهو، وجمال الرقص بوضيع الرغبات؛ ذلك بأن أمثال تلك المجموعة الأثرية أو تكاد، وهذه المجموعة الناعمة باللهو والمسرة، هي كل ما يتحدث الأجانب من زوار باريس عنه كأنه كل ما في باريس. على أني كنت دائمًا عميق الشعور بأن أقوى ما تنبض به حياة باريس ليس في هاتين المجموعتين وإن كانتا في الطليعة من مواضع فخرها. أما حياتها النابضة فهي في هذا الحي اللاتيني، وفي تلك المظاهر التي تتصل بقوس النصر، ثم هي كذلك في مسارحها، بل لعل للمسارح على كل مجموعة سواها فضل الاقتدار على صلة ما بين الفرنسي والأجنبي بما لا تستطيعه الآثار والملاهي، وبما لا يستطيعه الحي اللاتيني لا يتذوق ما فيه إلا شاب مقبل على العلم والفن، أو شيخ اتصل بهما منذ شبابه ثم آلى أن يجعل منهما ختام حياته. أما مسارح باريس فتجمع من الثمرات أطيبها لتجليها على نظارتها بما يجعل منها سحرًا يفتن العقول ويملك القلوب، وإن في العشرات الكثيرة من مسارح باريس لما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وما فيه للروح غذاء وللفؤاد راحة وللقلب مسرة؛ فيها من ثمرات الذكاء الفرنسي أطيبها، ومن ثمرات الذكاء العالمي أجلها. ولو أن شيئًا كان لباريس جنانًا يترجم عما يدور بعقل العالم ولب الأديب وجنان الفنان ومطامع الوضيع وشره الحاكم وقسوة رجل المال، ويكشف بذلك ما تنطوي عليه الأضلاع وما يعبث بالعواطف ويلعب بالأهواء — لكانت المسارح هي هذا الترجمان القوي الصادق. ولم لا؟! وهل من بين آثار الفن ما يمتاز بكثرة الفنانين الذين يتعاونون في استظهاره ما يمتاز به المسرح؟ وهل كالمسرح فن يعبر بمثل قوته عن كل معاني الحياة؟ إنك لتقرأ القصة القصيرة أو الطويلة فتترجم كما يحلو لك ما وضعه الكاتب من صور ومعانٍ وعواطف، وتكون أنت في الوقت نفسه بطل الرواية وبطلتها وكل شخص من أشخاصها. وإنك لترى الصورة أو التمثال فتعيره من المعاني ما يشاء خيالك متأثرًا بظروف حياتك. ومثل الكتاب والصورة والتمثال غيرها من آثار الفن؛ فيها الفنان الذي أبدعها وأبدع ما فيها من قوة أو عظمة أو جمال، وفيها أنت تترجم هذه القوة أو العظمة أو الجمال كما تفهمها أو كما تريد أن تفهمها. أما المسرح ففيه الكاتب، وفيه فنانون قد لا يقل أحدهم عن الكاتب عظمة، يترجم كل منهم ما أراد الكاتب أن يظهره لك من الصور والمعاني، فإذا كان الكاتب عظيمًا في فنه، وكان الممثلون الذين يترجمونه لك عظماء كذلك في فنهم، كان مشهد الرواية التمثيلية لا شك قطعة فنية نادرة الجمال.

فإذا أضفت إلى ما تقدم زينة المسرح وما يتصل به في بعض الأحيان من موسيقى تعين الممثلين خير عون على أداء أدوارهم، كنت ميالًا كل الميل إلى مشاركة أنصار المسرح في رأيهم في امتيازه على غيره من الفنون، أو بعبارة أدق في جمعه مختلف الفنون معًا لتكون أكثر قوة في أداء ما في الحياة من معان وصور مختلفة أشد الاختلاف متناسقة في اختلافها أشد التناسق.

تحدثت من قبل عن الكوميدي فرانسيز التي تعتبر في العالم كله أبرع مسارح العالم دقة فن ومثال جمال، ويلي الكوميدي في عرف الفرنسيين مسرح الأوديون، وكلا المسرحين قوميان تتعهدهما الحكومة ولا يدخلها من الممثلين إلا الذين لهم في فنهم مقام محمود، لكن ذلك لا يعني أن ما سواهما من المسارح لا يمتاز هو أيضًا بمثل ما يمتازان به، بل إن كثيرًا من الممثلين والممثلات الذين رفعوا للفن المسرحي في فرنسا مناره، وكانوا نجومًا ساطعة في سماء هذا الفن في العالم كله، قد ظلوا حياتهم أو أكثرها بعيدين عن هذين المسرحين. وهذه سارا برنار، وهذا ساشا جيتري، وأضرابهما كثيرون لم يلتحق أحدهم ببيت موليير أو بالأوديون. والممثلون الثائرون على عرف الفن في زمن من الأزمان والذين يخلقون في الفن ويجددون، هم دائمًا بعيدون عن أن يظلهم علم الجماعة وإن كان كل منهما علمًا يستظل به؛ لذلك كان لكثير من المسارح في باريس من المقام في نظر الفنانين ما للمسارح القومية، وكان لها إلى جانب ذلك فضل الإقدام على التجديد في الفن بتمثيل روايات قد تظل عشرات السنين قبل أن تقرها هذه المسارح القومية، فإذا هي أقرتها كانت غرة في جبين الروايات التي تمثل فيها، وحازت من رضا الممثلين عنها، وتقدير النقادين لها، وإقبال الجمهور عليها، ما يدلك على فضل الذين سبقوا بتقديمها للجمهور ولنقد رجال الفن.

ثم إن لهذه المسارح غير القومية فضلًا؛ ذلك أنها أدل من المسارح القومية على تطور الروح القومية، وأنت إذا سمعت في الكوميدي فرانسيز أو في الأوديون روايات راسين وموليير وهوجو وبرنشتين فإنما تسمع المعاني الثابتة في النفس الفرنسية مما لا يسرع إليه التغيير، أما ما تسمعه في كثير من المسارح الأخرى من الروايات الجديدة ففيه مظاهر البحث العلمي عند آخر طور من أطواره، بل يعد آخر طور من أطواره أحيانًا. وفيه ما تأثرت به هذه المعاني الثابتة إلى حد كثير أو قليل حسب ما مر بفرنسا أو بالعالم من صور التطور المختلفة. ولقد يدهشك أن ترى هذه الآثار مصوغة في قوالب كلها الفكاهة والمجون، كما هو الحال في رواية (قسيسي عند الأغنياء) التي تمثل على مسرح سارا برنار، وفي رواية (الحقيقة العارية) التي تمثل على مسرح باريس، وفي رواية (لأول هذين الرجلين) التي تمثل على مسرح باليه رويال. وقد تكون هذه الآثار أقرب إلى الجد منها إلى الفكاهة، كما تراها في رواية (السجينة) على مسرح (فمينا). على أن الفكاهة في هذا الوقت أغلب، وترجع غلبتها إلى أن الناس لا يزالون منذ أيام الحرب ينفرون من كل منظر يثير الألم ويهرعون إلى حيث المجون واللهو وما يثير في النفس شهواتها الدنيا. وكما انتقلت موسيقى الرقص من الفالس وما إليه من نغمات هادئة أكثر الوقت إلى الجازباند وما إليه من نغمات — أستغفر الفن — بل من ضجات وحشية مضطربة ثائرة، كذلك انتقل الفن المسرحي في أكثر دوره من رزانة الحكمة وسكينة الفن إلى ثورة الحواس واضطرابها، ولست أدري أي هذين الأمرين إلى الطبيعة أقرب، لكني أميل إلى الاعتقاد بأن الفن وإن ضج وصخب ميال دائمًا إلى شيء من الاتساق والتجاوب أكثر مما في هذه الموسيقى وفي هذه الروايات الثائرة بالناس إلى المجون وإلى اللهو وإلى حكم الشهوات. على أن هذا المظهر من مظاهر التطور الطبيعي الذي نشأ عن الحرب له هو أيضًا قوته وإبداعه، ولقد ترى مظاهر المجون التي كان ينفر منها الذوق قبل الحرب أشد النفور قد هذبت ونظمت حتى كادت تصير هي أيضًا فنًّا، بل حتى صارت بمقدرة الممثلين فنًّا جميلًا إن أثار في النفس الطرب الماجن فلن يثير منها نفورًا أو اشمئزازًا، ولعل الزمن كفيل بالتوفيق بين هذا المظهر الجديد من مظاهر الحيوية الإنسانية وبين الفن في أرقى صوره وأسماها، ولئن تعذر ذلك على أهل هذا الجيل ممن شهدوا الحرب ومن لا تزال آلامها وأحزانها تحز في قلوبهم وأفئدتهم حتى ليطلبون في اللهو المضطرب منجاة من هذه الآلام والأحزان، لقد يكون لأهل الجيل الناشئ اليوم والطامح بإخلاص وحرارة إلى السلام والسكينة أن يقوم بهذا التوفيق، وأن يعيد إلى الفن المسرحي كل ما يرجو الفن من اتساق وتجاوب.

وليس معنى ما سبق أن الروايات التي تمثل اليوم على مسارح باريس ليس فيها ما كتب له البقاء، فمنها ما يفوق كثيرًا من الروايات التي تمثل على المسارح القومية قوة ودقة، كما أن الحرب الأخيرة وما خلفت من مظاهر ليست عرضًا ضئيلًا على الحياة بقاؤه، بل هي وقفة من وقفات الإنسانية عند أطوار الانتقال الكبرى، إن لم تظهر كل آثارها في فترة قصيرة كالفترة التي انقضت بين انتهاء الحرب وهذا الوقت الحاضر، فهي لا بد ستظهر متى هدأ غليان هذا البركان العالمي وعادت إلى الأمم قوة التفكير المطمئن الهادئ. لكن كثيرًا من هذه الروايات التي تمثل اليوم في مسارح باريس ستبقى بين آثار الفن الماضي وآثار الفن المقبل، وكأن فيها بعض نشاز لا أدري أهو يصرف عنها بعض اهتمام الأجيال المقبلة أم يجعلها أدعى للعناية بها والإقبال عليها.

ومهما يكن مصير هذه الروايات فستبقى مسارح باريس في المستقبل كما هي اليوم وكما كانت في الماضي آية من أروع آيات فتنتها، وسيجد الذين يقصدون باريس في مسارحها ما يزيد ليلها على النهار جمالًا فإذا هم غادروا هذه المسارح وقد انتصف الليل أو كاد ألفوا ليل باريس يقظًا وفنها نشيطًا، وإذا كتب عليهم أن يغادروا باريس ناجتهم مسارحها مع ما يناجيهم من كل ما فيها من فتنة وجمال وسحر: إني أنا الشباب الضاحك السن، المقبل على جد الحياة ولهوها بكل ما في الشباب من حرارة. وفي أحضان الشباب حياة ما تزال كل يوم تتجدد، وهي كل يوم خير منها بالأمس، ومن فاته الشباب فاتته الحياة، وليس الشباب شباب الجسوم، ولكنه شباب القلوب.

إذا كان للمسرح في باريس كل هذه الفتنة فإن لفن مسرحي يتصل به ويختلف عنه فتنة تزيد عند قوم عليه، وإن لم تنل عندنا نحن أهل مصر والشرق كل هذه الحظوة، ذلك الفن هو الموسيقى، ولقد يكون الجيل الناشئ بعدنا أشد منا لموسيقى الغرب ذوقًا كما أنا — فيما يخيل إليَّ — أكثر قدرًا للأدب والمسرح الغربي من الجيل الذي سبقنا. والأوبرا هي معبد الموسيقى الأكبر في باريس، وهي جديرة بأن تكون كذلك وفيها من روعة العمارة وجمال زخرفها ما تزدهي به على أبدع الهياكل وأجمل الكنائس أيًّا كان طرازها، والقلم لا ريب يضل بي إذا أنا حاولت وصف هذا المعبد، كما يضل الزائر للأوبرا في مختلف أنحائها للمرات العشر الأولى من زيارته إياها، وهو في أي ناحية كان ضلاله فيها سعيد بهذا الضلال الذي يؤدي به من بهو إلى بهو ومن مقصف إلى طنف، وكلها روعة تتلو روعة، تنتقل إليها جميعًا على سلم بالغ من الفخامة حدًّا تتضاءل أمامه كل روعة، فإذا خرجت إلى شرفتها المطلة على طريق الأوبرا أخذت أنواره البديعة اللألاء بنظرك مأخذ أنغام الموسيقى الشجية بسمعك، فإذا عدت بعد ذلك لتسمع الرواية الموسيقية التي تمثل رحت من زينة المسرح، ومن غناء المغنيات، ومن رقص الراقصات، ومن موسيقى مطربة ساحرة في نوع من البهر تذهل معه عن نفسك، ثم لا يردك منه إلا بهر مثله بالمتفرجات المستمعات جئن إلى الأوبرا كاملات العطر والزينة، فبعثن في جوها المرح الطروب مزيدًا من المرح والطرب يجعلك تود لو أن الهياكل والمعابد كلها كانت على هذا المثال، ولو أن الإنسان كان يجزى بعد الموت عن أعماله كما يجزى اليوم بهذا المتاع البارع عن مشقة يومه، وكما يتلهى به المترفون إضاعة للوقت لأنهم لا يعرفون في يوم مشقة.

والأوبرا هي القمة من هذا الفن المسرحي المتصل بالتمثيل؛ فالتمثيل فيها تطغى عليه الموسيقى ويطغى عليه الغناء والرقص أشد الطغيان، وبين هذه القمة من الفن الموسيقي وبين التمثيل المسرحي درجات، تبدأ عند اختلاط طرف من الأغاني والموسيقى بالتمثيل بمقدار لا يزيد على ما يدخله بعض الكتاب من شعر في نثرهم، ثم تتدرج لتكاتف التمثيل، ثم لتزيد عليه، ثم لتدنو من الأوبرا فيما تشهد من روايات بالأوبرا كوميك، حظ التمثيل فيها أكثر ظهورًا من مثله بالأوبرا، ولكنه قليل الظهور ومتصل بالغناء وبالموسيقى أوثق الاتصال. وهذا التدرج في معاهد الموسيقى يوازيه تدرج مثله في الموسيقى نفسها؛ فالموسيقى التي تسمعها في الأوبرا كوميك ليست هي الموسيقى الكبرى التي تسمعها في الأوبرا، بل هي موسيقى أخف وزنًا وأسهل مساغًا عند نفوس أمثالنا الذين لم تتصل هذه الموسيقى الأوربية بغرائزهم منذ نشأت هذه الغرائز. والغناء في هذه التفرقة كالموسيقى؛ ولذلك ترى الشرقيين أكثر إقبالًا على الأوبرا كوميك منهم على الأوبرا، كما أن أكثر الغربيين أشد للأولى ميلًا؛ لأنها لا تقتضي نفوسهم وعواطفهم ما تقتضيه الموسيقى الكبرى. فأما المسارح الموسيقية الأخرى من مثل (البوف بارزين) ومسرح (موجادور) وغيرهما فموسيقاها وغناؤها ورقصها فيها من الدعاية ما يجعلك أشد حبًّا للهوها ومرحها منك طربًا بموسيقاها وغنائها، وإن كانت أدوارها جميعًا أكثر رواجًا في أنحاء باريس وفي أنحاء العالم الغربي كله من الأدوار الفخمة الضخمة التي تغذي نفوس نظارة المسرحين القوميين: الأوبرا والأوبرا كوميك.

•••

أتراني وقد تحدثت عن بعض ما في باريس من عمارة وعلم وفن وأدب متناولًا ناحية أخرى أشد اتصالًا بالحياة، ولكنها تنال من عناية السائح في باريس حظًّا غير قليل؟ أتراني أتناول حديث الطعام والمطاعم؟ فالطعام في باريس فن جميل، وطهاته هم ولا ريب من خير طهاة العالم، حتى لتراك حين تقرأ عن فنادق لندن وفينا وبرلين وغيرها من كبريات العواصم تقرأ من حسناتها أن طهيها فرنسي. ومطاعم باريس فيها فن تمتاز به على غيرها من المطاعم وأكثرها له طابع خاص في عمارته، وفي طريق تقديم الطعام لزبائنه، وفي اختيار الأنبذة التي تزيد لونًا أو آخر من الطعام مساغًا ولذة. ولخدم هذه المطاعم أدب خاص بالطعام يجعلك له أكثر اشتهاء. على أن لبعض المطاعم من الطابع ما يدعو الأجانب إلى زيارته، كما يزورون اللوفر وقبر نابليون وبرج إيفل، أو كما يزورون متحف جريفان حيث تعرض الصور الشمعية تمثل الحياة تمثيلًا حيًّا. وأشهد لقد كان لمشوي (الرين بدوك) ولمشوي ميدان سان ميشيل من الجاذبية ما كان يذهب بنا إليهما في اغتباط وبهجة. ولغيرهما من المطاعم في أنحاء مختلفة من باريس ما لهما من جاذبية لبساطة الأثاث مع إبداع الطهي، أو لطرافة محببة في نظامها. ولست بناسٍ أول مرة ذهبنا فيها إلى مشوي الرين بدوك: دخلنا فإذا بنا في قاعة ضيقة لا تزيد على ستة أمتار في مثلها، يجلس إلى موائدها عدد يزيد على الأربعين أمامهم طعامهم وشرابهم، وإلى جانبهم في ناحية من المكان مشوي تدور عليه دجاجة لا يديرها أحد، وهم جميعًا في جذل ومرح، والخدم لا يكادون يشقون لهم طريقًا من بينهم لضيق المكان بهم، ويحمل أحدهم وهو في لباس الطهاة أصناف (الهرديفر) على صورة لم يألفها قط نظرنا؛ فالزبدة قطعة ضخمة تزن أكثر من سبعة أرطال أو ثمانية وضعت في «ماجور» كبير يقدم إلى كل طالب (هرديفر)، وتقدم معها كميات ضخمة من اللحوم والأكباد السمينة والسمك والسلطات المختلفة وغيرها مما لا يكاد الإنسان يجد بعده في نفسه للطعام مكانًا، لولا مرح المطعم ولذة الشواء والجدل الذي لا ينتهي بين الآكلين والخدم، جدل تشوبه النكتة الظريفة من هؤلاء ومن أولئك، وانتظارك حتى يجيء اللون الذي طلبت، فإذا بك حين مجيئه قد تجددت شهيتك، وقد فكرت في طلب غيره. وهذا المطعم فيه — خلا هذه الغرفة التي دخلت إليها أول مرة — غرفة مثلها في «البدرون» وغرفة مثلها فوقها، وكان الله يحب المحسنين. أما مشوي سان ميشيل فأفسح مكانًا وإن لم يكن أقل ازدحامًا. وغير هذين المطعمين مطاعم مختلف ألوانها، مختلف طابع كل منها، وإن ألف بينها جو باريس كله الظرف والرقة ليتهما كانا وحدهما طابع أهل باريس فلم تشبهما شوائب تجعل الكثيرين أشد حبًّا لباريس منهم لأهلها.

ماذا في باريس غير ما ذكرت مما يلفت النظر ويستنفد الوقت في المتاع به؟ أرى الجواب يسرع إلى نفسي: وماذا تراك ذكرت من باريس؟ ثم ماذا تراك تعرف منها برغم ما قضيته من السنين فيها؟ وهذا حق؛ فباريس عالم، بل في كل ناحية من باريس عالم، ثم إن كثيرًا مما أعرف منها لم يكن موضع عنايتنا في سفرنا فلم أذكر عنه شيئًا، وأنا إنما قصصت ما كنا نزور وما كنا به نشغف، وقصصته في إجمال ما كان لي أن أعدوه إلى التفصيل أو يضيق هذا الكتاب بأيامنا في باريس وحدها. وأشهد أن هذا الذي أغرقنا أنفسنا فيه من حياة باريس كان عظيم الأثر في عزائنا بما كشف لزوجي عن آفاق في الحياة جديدة، وما جلا أمام نظرها من صور الجمال في الحياة، حتى لكنا نتساءل أي هذه الصور أشد جمالًا، فلا نجد على سؤالنا جوابًا. جلست يومًا أتحدث إلى جماعة من أصحابي، وكان لأحدهم بلندن ولع قديم دعاه يومئذ أن ينظر إلى باريس نظرة فيها جفوة وقسوة، ثم شاءت المقادير أن تنقلب جفوته وقسوته حنانًا وحبًّا لباريس، وقد سمعنا نفاضل بين ما في باريس فنقدم مسارحها على متاحفها ومتاحفها على عمارتها، ونذهب في هذه المفاضلات إلى مدى بعيد، فقال: والله يا أخي إنك لترى باريس منذ يدخلها القطار من أية ناحية من نواحيها حتى يخرج من ناحيتها الثانية، ومن حين ينزل المطر من سمائها حتى يصل إلى حمم الأرض، فلا ترى إلا حسنًا يزحم حسنًا، وجمالًا يأخذ بتلابيب جمال.

وكانت لأحد كبار المصريين عبارة ظريفة رد بها على سائل يسأله: أيوافق على ذهاب ابنه في بعثة لباريس دون أن يخشى عليه الفتنة؟ فكان جواب الكبير: وما الخير في ذهابه إلى باريس إذا لم يفتن بها! اذهب به إليها، فمسيرته في طرقها وشوارعها أجدى عليه في تكوينه للحياة وحسن ذوقه إياها من كل درس يمكن أن يتلقاه هنا.

على أن باريس مدينة، مهما يكن فيها من جمال، وحياة المدينة المكتظة بالحياة المليئة بالعجلات المشبع جوها بأنفاس الناس ودخان المصانع وبنزين السيارات وكهارب الجو وكل البقايا والفضلات، تثقل على الصدر وتدفع أهل المدن لالتماس الهواء الطلق. ونحن كنا إلى الهواء الطلق أشد من كل من سوانا احتياجًا؛ فأعصابنا كانت أشد ما فينا كلالًا. والهواء وفسحة الجو خير ما يبرئ الأعصاب من كلاها، ومهما تكن التويلري واللكسمبور وما في باريس من حدائق كثيرة كفيلة بالتنفيس عن الناس في جو المدينة المثقل بما فيه، فهي في جوف المدينة، وهي لذلك متأثرة بجوها وما يحمل؛ لذلك أحاطت بباريس غابات، وأحاطت بها ضواحٍ يهرع أهل باريس إليها عادة كل أحد، وكنا نحن نهرع إليها في كل أسبوع مرات. وغاب بولونيا ألصق ضواحي باريس بباريس، وغاب بولونيا مرتع جمال ومسرح نعيم ومجمع مسرة، تتصل فيه حياة المدينة بحياة الضواحي وحياة العمارة بحياة الغاب؛ فيه البحيرات تتخلل أشجاره تخترقها الطرق البديعة النظام، وكأن هذا الغاب مدينة وحده، نسقت لتكون حديقة باريس وملجأ أهلها من كل نصب، ومراح شبابها كلما عزهم المراح. وأهل باريس يجدون فيه من الحرية ومن ألوان المتاع ما في الحياة الغربية مما يزيدنا للحياة حبًّا وبها إعجابًا.

دهشت زوجي ونحن بمارسيليا لمرأى ذلك الشاب وتلك الفتاة يتبادلان قبلة الوداع ساعة افتراقهما، أما اليوم فلم يبقَ لها أن تدهش لهذا الشباب المرح في زوارقه فوق سطح البحيرات، أو حين استلقائه على الأعشاب المخضرة بين أشجار الغاب، أو أثناء مسيرته تائهًا في أحلامه يتهادى لغير وجهة يعرفها، وهو في هذه الصور كلها لا يدور بخاطره ما يدور بخاطر الشرقي أن يتوارى من المحيطين به ممن تخطوا الشباب فجاءوا بأطفالهم يستمتعون وإياهم بهذا الجمال، ويرون أولئك الشبان في مرح الهوى، وأولئك الأغنياء ممتطين خيولهم أو تسرع بهم سياراتهم، ومرح الهوى في الحالين لهم رفيق، فيرون في أصائل الخيل وفي فخامة السيارات صورًا أخرى من الجمال تزيد الغاب إبداعًا وإن زجت به في غمار حياة المدينة وجعلت الكثيرين يلتمسون في ضاحية أكثر عن باريس نأيًا وسيلة للتخلص من جو المدينة ومن مشاغلها.

وضواحي باريس من هذا القبيل كثيرة لا يعنيك اختيار إحداها كلما حدثتك نفسك بالخلوة إليها والاستمتاع بجمال جوها وغابها. ذهبنا منها إلى فرساي وسان كلو وفنتنبلو وأنجان وسان جرمان وغيرها وغيرها، ومتعنا في قصر فرساي بآثار لويس الرابع عشر ملك العصر العظيم في تاريخ فرنسا، وبحديقة هذا القصر كم شهدت من غرام رجال القصر وسيداته، ثم أصبحت اليوم كما أصبحت غرف القصر متاع الجمهور الفرنسي، بل متاع أهل العالم كله، خاضعة بذلك لما تطورت إليه أفكار العالم حينما نقلت مصدر السلطة من الملك الذي كان يعد نفسه خليفة الله على الأرض إلى الأمة التي تنصب الملوك وتنصب رؤساء الجمهوريات وتملك الأمر طرًّا. وإلى هذا المصير الذي خضع له قصر فرساي خضع قصر فونتنبلو، وإن بقي محتفظًا من آثار نابليون بأكثر مما احتفظ به قصر فرساي من آثار لويس. فأما سان كلو وسفر وأنجان وغيرها من الضواحي فليس لها ما لفرساي وفونتنبلو من بهاء؛ إذ لم يكن لما بها من قصور أثر في التاريخ له من العظمة ما لنابليون وما للويس الرابع عشر. لكن في هذه الضواحي جميعًا متعة للنفس وسكينة للفؤاد برواء بهجتها ولين خضرتها ورقة هوائها ونمير مائها وما فيها من أسباب المسرة والنعيم، فإذا أنت قضيت بها نهارك وجاء عليها الليل ألفيت بها من مظاهر مدينة النور شيئًا غير قليل، وآنست في بساتينها وفي المطاعم والمقاهي المنثورة بين غاباتها أنوارًا تعبث بحجاب الليل وتدعوك إلى متاع به فيها يعوضك عن متاعك بليل باريس، وإن على صورة ريفية إلا يكن لها ما لليل باريس من بهاء، فلها ما لليل الريف من بهجة ورواء.

وقضينا بباريس ثلاثة أسابيع تغيرت أثناءها صورة الحياة أمام زوجي، لكنها بعد هذه الأسابيع الثلاثة بدأت تألف حياة باريس، وبدأت تعاودها الذكرى فيعاودها من الألم ما نسيت أول ما غمرتها هاته الحياة واستدعت كل انتباهها. وأشهد أنها جاهدت لتتغلب على أساها، ولتنسى في الحياة نفسها، لكنها كانت ترى في الوقت بعد الوقت ما يهيج هذا الأسى حين ترى أمًّا تفيض أمومتها على طفلها حنانًا وحبًّا، وحين ترى الأطفال يرتعون في الحدائق وبين أشجار الغابات، فتهيج أمومتها الجريحة من أساها ما تجاهد بعزم صادق أن تغالبه. وكثيرًا ما شعرت بهذا الجلاد النفساني، فجعلت كل همي أن أصرفها عنه إلى جديد، أو أن أمحو من نفسها اليأس ولو بوهم من رجاء، وكنت أنجح أحيانًا ثم تغلب الغريزة الإنسانية مجهودي، وتبعث إلى ما خلفت باريس من صفو الجو أمام ناظرها سحابة تسيل من عبرتها ما كان قد هدأ. وزاد في الأمر أنَّا في خلال هذه الأسابيع الثلاثة التقينا بمصريين ومصريات ممن نعرف، وتعرفنا إلى طائفة من المقيمين بباريس لم نكن من قبل نعرف، وشعرت هي بما لمبالغة هؤلاء وأولئك في حسن معاملتها من معنى الإحساس معها وتقدير ألمها، فازدادت ألمًا. عند ذلك فكرت في ضرورة الانغماس في بيئة جديدة تختلف عن بيئة باريس، ويكون بينهما ما بين البيئة الفرنسية والبيئة المصرية من بون، ولم أكن أعرف ألمانيا لأختار برلين، فآثرت أن نذهب إلى لندن، وأن ننتقل إلى البيئة الإنجليزية لعلنا نرى فيها جديدًا يشغل وينسي. وأعددنا للسفر متاعنا في الثاني عشر من أغسطس معتزمين أن نقضي بالعاصمة الإنجليزية أسبوعًا نعود بعده إلى القارة، وكان هواي أن نعود إلى بروكسل، ولم يدر بخاطري ساعة غادر بنا القطار محطة الشمال من محطات باريس أنه سيعود بنا بعد أسبوعين إلى هذه المحطة، وأن انتقالنا من بيئة باريس إلى لندن سيكون أكبر أثره أن يزيد زوجي لباريس حبًّا، وعلى العود إليها حرصًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤