في لندن

تقطع السفينة ما بين مصر والقارة الأوربية في أربعة أيام؛ أي مائة ساعة. وهي تقطع ما بين القارة وإنجلترا متخطية من كاليه إلى دوفر في ساعة واحدة. مع هذا يشعر الإنسان بتفاوت بين إنجلترا والقارة أكثر مما يشعر به بين مصر وأوربا، حتى ليخيل إليه أن مضيق المانش يفصل بين عالمين مختلفين. ولعل هذا الشعور يكون على أشده حين يجتاز الإنسان من مصر إلى إيطاليا أو إلى فرنسا ثم يجتاز من فرنسا إلى إنجلترا، فأما الذين يقصدون إلى البلاد الإنجليزية من ألمانيا فلا يبلغ منهم الشعور بالتفاوت كل هذا المبلغ، ويجدون وجوهًا من الشبه بين الأمتين لا شيء منها بين إنجلترا والأمم المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط؛ ذلك بأن بحر الروم هذا كان مستقر حضارات قديمة منذ ألوف السنين، ومذ كانت إنجلترا وألمانيا وبلاد الشمال الأوربي كله ما تزال تعصف بها ريح الوحشية والتأخر، وما تزال بعيدة عن أن تنال من الحضارة أي حظ أو تشاطر فيها بنصيب. وقد جمعت هذه الحضارات، التي يطلق الأوربيون عليها افتياتًا اسم الحضارة اللاتينية، بين مصر واليونان وروما والبلاد التي جاورتها وخضعت لها وأفادت منها. وهذه الجامعة ما تزال إلى يومنا، وإخالها لن تزال في المستقبل، مبعثًا لأوجه شبه شتى بين البلاد المحيطة بالبحر المتوسط. وهذه الجامعة هي التي تجعلك تشعر من التفاوت بين إنجلترا والقارة بأكثر مما تشعر به بين مصر وأوربا.

وأنت ترى هذا التفاوت في كل شيء، في الجو وفي البيئة الطبيعية وفي العمارة وفي صور الناس وطبائعهم وعاداتهم. وكم قيل إن الحرب الكبرى قربت بين إنجلترا والعالم، وأزالت ما كان في خلق الإنجليزي وطبعه من انقباض واعتزاز. وقد يكون حقًّا أن بين الإنجليز اليوم وما قبل الحرب فارق في ذلك محسوس، لكن الإنجليزي لا يزال هو الإنجليزي، إنجلترا لا تزال إنجلترا؛ فأنت تشعر لأول ما تتخطى دوفر ويتحدث إليك رجال الجمارك فيها أن للحياة هنا نظامًا غير الذي رأيت في فرنسا، وغير ما يمكن أن يجول بالخاطر عن نظام مصر؛ رجل الجمرك يحدثك في سكينة يسألك عن سبب زيارتك إنجلترا، وعن متاعك وما قد يكون فيه مما يستحق دفع الجمرك عليه، فإذا آنس الثقة بك من حديثك ونظراتك وفيما قد يفيده من جواز سفرك لم يثقل في شيء عليك، وتركك تجتاز إلى القطار أشد ما تكون طمأنينة له وثقة أنت أيضًا به. وأنت في القطار لا يسألك أحد عن تذكرة سفرك ولا عن أي شيء من أمرك، ويجتاز القطار بك الطريق من دوفر إلى لندن بين مروج باسمة الخضرة يزيد السحاب الذي يعترض جو إنجلترا في أحيان كثيرة خضرتها لينًا. فإذا وقف القطار في محطة فيكتوريا وانطلق بك الأوتموبيل في شوارع لندن، ألفيت حياة جديدة ونظامًا جديدًا وإدراكًا لمعنى المدينة وحياة المدينة غير ما خلفت وراءك في باريس. وأول ما يلفت النظر من ذلك سير العربات إلى يسار الطريق، وهي في غير إنجلترا تسير إلى يمينه، ويلفت النظر كذلك أن رجال البوليس كلهم طوال أقوياء يقظون، تلمح على وجوههم سمو قدرهم لواجبهم، وترى فيهم حقيقة ما يردده الإنجليز من أن الطريق ملك البوليس، هو الذي يحمي نظامه وينفذ القانون فيه. ثم إن عمارات لندن ليست هذه المباني الشاهقة التي ترى في باريس، والتي تنتظم شوارع بأكملها، بل هي أغلب أمرها دور مكونة من ثلاث طبقات أو أربع طبقات، ولا يزيد على ذلك إلا بعض العمارات في أحياء التجارة الكثيرة الحركة والنشاط. وخلال هذه الشوارع والطرق تمتد حدائق فسيحة متصلة تقوم مقام الرئة من قلب لندن وتزيد في مساحتها أضعافًا مضاعفة على التويلري واللكسمبور وبارك منسو وغيرها من حدائق باريس، وتخترقها الطرق تجري فيها العجلات على نحو ما ترى في غاب بولونيا. ثم إنك ترى التجارة محصورة في أنحاء معينة، على حين ترى أحياء فسيحة كلها منازل للسكنى تتخللها حدائق صغيرة تنفس عنها هي أيضًا. وفي أحياء التجارة لا تجد هذه المقاهي والمطاعم منظومة موائدها ومقاعدها على رصيف الشارع، حتى لتحسب أنك غير واجد في أنحاء العاصمة الإنجليزية كلها مكانًا تستريح إليه إذا أضناك السير وشق عليك طول الطريق، لكنك لا تلبث متى عرفت من حياة لندن بعض الشيء أن ترى في أماكن الشاي الكثيرة المنثورة في كل مكان، والتي لا تتبدى على الطريق أكثر مما يتبدى أي حانوت آخر، مواضع لراحتك، ثم ما تلبث أن ترى في عدد كثير من أماكن الشاي هذه من أسباب الترف، وجمال نغم الموسيقى، ومن أدوار الرقص، ما لا تذكر له في باريس مثلًا. وفي أبهاء الفنادق الكثيرة الكبيرة مأوى للراحة والترف قلَّ في كبريات فنادق باريس نظيره، فإذا طال مقامك بالعاصمة الإنجليزية وازددت بحياتها اتصالًا ألفيت فيها من دواعي النعيم غاية ما يصل إليه الترف، ثم هو ترف غير متكلف ولا مشوب بتقليد؛ لأنه ترف إنجليزي صميم. على أن أندية الليل التي يجتمع هذا الترف فيها هي أكثر الأمر في طبقات تحت الأرض تشعرك بما في غريزة الإنجليزي من حرص على أن يبدو أمام الناس في مظهر الجد والرهبة، فإذا خلا إلى نفسه استغرق في كل أسباب المتاع والنعمة، لا يحول حائل بينه وبين نيل كل ما يستطيعه منهما.

وأحسب أن الجد والرهبة والمتاع والنعمة كلها طبيعية في النفس الإنجليزية، وكلها ترجع إلى ما أصبح بعض غرائز الخلق الإنجليزي من الاعتزاز بالنفس والاعتماد عليها. فالإنجليزي لا يرى في الحياة رأي الفرنسي، ولا يجعل الادخار أكبر وسائله للاحتياط للمستقبل، بل يرى الإقدام والصبر والسعي المتواصل أكفل الأسباب التي تهيئ النصر في الحياة؛ لذلك تعيش إنجلترا معتمدة في عزلتها البديعة على قوة اتصالها بالعالم كله اتصالًا يكفل لها ما هي فيه من نعمة، ولو انقطع هذا الاتصال وانقطعت واردات العالم شهرًا واحدًا لطحنتها المجاعة. أما فرنسا وأكثر الأمم اللاتينية فحياتها وقوتها في الادخار، وفي الخوف المستمر من المستقبل والاحتياط له، وهذا الخوف هو ما يجعلك ترى حياة الفرنسي في بيته حياة شح وإقتار وانكماش أمام شبح الفقر.

وهذا الاعتماد على النفس والاتصال بالعالم هو الذي يجعل حياة الإنجليزي عزوة مستمرة للحياة وحرصًا على استنفاد ما بها من صنوف المتاع. قص عليَّ صديق سافر إلى برقة أثناء الحرب الإيطالية التركية سنة ١٩١١ ومر بالسلوم، أن الحامية المعسكرة بها كانت في قيادة مصري، فلم يكن بها غير الخيام والرمال، فلما أقام ببرقه الشهور التي استغرقتها الحرب ثم عاد منها في طريقه إلى مصر، ألفى قيادة حامية السلوم انتقلت لإنجليزي، وألفى خيمة القائد تحيط بها حديقة جميلة فيها حشائش خضر وأزهار ذات بهجة، ووجد في ضيافة هذا الإنجليزي المنقطع بالصحراء كل ما يطمع الإنسان في المدينة فيه من أنواع المتاع. وما رأيت أنا من حياة الإنجليزي بالسودان يؤكد هذا الذي رواه صديقي، فإذا كانت هذه حياة الإنجليزي خارج بلاده، وكان هذا مبلغ حرصه على المتاع بالحياة، فليس عجبًا أن تكون إنجلترا المظهر الأقوى لهذا الحرص، ولظهور الخلق الإنجليزي بكل ما فيه من اعتداد بالنفس واعتماد عليها.

والخلاف بين الخلق الإنجليزي والخلق الفرنسي يرجع في رأيي إلى أطوار التاريخ في الأمتين أكثر مما يرجع إلى عزلة الجزر البريطانية وإلى قسوة الطبيعة عليها وعدم برها بها، فقد أرادت أقدار التاريخ، ولعل الطبيعة البريطانية بعضها، أن يقوم النضال بين سلطة الملك وسلطة الأمة في إنجلترا منذ القرن السادس عشر، وأن تنتصر سلطة الأمة انتصارًا باهرًا، وبرغم ما حدث بعد ذلك من استبداد الزعماء والقادة بالأمة الإنجليزية ما استبد نابليون بفرنسا، فإن الروح القومية بالمعنى الديمقراطي شقت طريقها في إنجلترا في حين كانت سلطة الفرد ما تزال كل شيء على القارة. والروح القومية تسمو بنفس الفرد وتجعله يسعى إلى أسمى ما تقصد إليه الحضارة من غاياتها: إلى حرية الفرد وتضامن الجماعة، والحرص على حريته، فحرية ذويه، فحرية إنجلترا هو الذي قوى في الخلق الإنجليزي ما قدمنا من صفات، وهو الذي أدى به إلى أن يجعل لكلمة الدار “Home” معنى لا مثيل له في غير إنجلترا، والواقع أنه حيثما كان التسلط لفرد على الجماعة، وحيثما كان حكم المستبد هو القاعدة التي يؤمن الناس بها نظامًا لاجتماعهم، سواء أكان المستبد مصلحًا أم مفسدًا، فإن هذه المعاني الخلقية التي نمت في النفس الإنجليزية منذ النضال الأول بين سلطة الملك ظلت دفينة بل معدومة في النفوس التي كانت تؤمن بأن لا وجود لها إلا بمقدار ما يريد المستبد أن يكون وجودها؛ ولذلك كانت حياة كل فرد وحريته وماله في هذه البلاد معلقة بين شفتي الحاكم، تكفي كلمة لسعادة رجل، وتكفي كلمة أخرى لشقائه أو للقضاء على حياته. وفي ظل نظام كهذا تنمو أنانية الأفراد غاية النمو، فلا يفكر أحدهم في غير نفسه، وقلَّ منهم من يفكر في خير الغير أو يهب حياته لمصلحة الجماعة وعلى غير كره منه. فأما حيث تتحقق الحرية المدنية، ويصبح الحكم عملًا اجتماعيًّا كغيره من الأعمال الاجتماعية، فلا يبقى للحاكم على غيره أي حق، وحيث تصبح علاقات الناس مقررة بالقوانين بما يطمئن كل من معه إلى أن ماله وعمله وحياته بمأمن من كل اعتداء — ما لم يعتدِ هو على غيره — فهنالك يتأصل بين الناس نظام تقسيم العمل والتضامن فيه، ويهون على الفرد أن ينزل للجماعة مختارًا عما فاض عنه من ثمراته؛ ولذلك تراك حيث وجدت الحضارة أشد تأصلًا رأيت الناس أشد للحرية تقديسًا وللتضامن الاجتماعي سعيًا وعملًا. هذا ما ترى مظاهره في إنجلترا واضحة قوية بما ترى من قيام الحرية الفردية بالنفوس قيام الغريزة، ومن تقديسها، حتى يعتبر أي مساس بها جريمة دونها أية جريمة، وبما ترى من التضامن الاجتماعي الذي يجعل أغلب الأعمال ذات المنفعة العامة، من مثل الجامعات والمستشفيات مستقلة بذاتها قائمة على تبرعات الأفراد والهيئات، غير متصلة بالحكومة ولا خاضعة في قليل أو كثير لسلطانها. قص علينا صديق مصري أثناء مقامنا بلندن أن فتاة مصرية كانت تتعلم في أحد المستشفيات بها، وأنها كلفت جمع الإعانات من الجمهور لفائدة المستشفى، وما كان أعظم دهشتها حين مرت ببائع صحف فأعطاها جنيهًا، وبجزار فأعطاها خمسة جنيهات لهذا المستشفى!

قد تدهشك ثقة بائع الصحف والجزار بالفتاة المصرية ودفعهم المال لها لمجرد إبرازها تذكرة شخصيتها، بل لقد تدهش هذه الثقة في فرنسا وفي بلاد كثيرة، لكنها مظهر الحياة في إنجلترا. فالإنجليزي يثق بنفسه ويثق بغيره؛ ذلك بأنه تاجر، وبأن الثقة في التجارة أساس النجاح، فأما من خان هذه الثقة فله الويل أكبر الويل من القضاء من ناحية، ومن ازدراء الجماعة الإنجليزية إياه من الناحية الأخرى، ازدراء لا يستطيع معه أن يعيش في إنجلترا كلها. وأستطيع أن أقص عليك من مظاهر هذه الثقة وما يقابلها من أمانة الشيء الكثير مما رأيت؛ فكثيرًا ما كنا نأخذ بضاعة من متجر ثم لا تعجبنا بعد يوم أو أيام، فنردها فيردون إلينا ثمنها من غير أن يفتحوا صندوقها، وكثيرًا ما نسينا ونسي غيرنا من معارفنا محافظ نقودهم في غرف الفندق الذي يقيمون به، ثم عادوا فوجدوها حيث كانت لم تمسسها يد وإن كانت الغرفة كلها قد نظفت وتغير فرشها. روى لي صديق أنه ذهب يومًا، قبيل سفره من لندن عائدًا إلى مصر، ليشتري هو وزوجه أشياء، فلما عادا إلى مسكنهما تفقد حافظة نقوده فلم يجدها، وكان بها كل ما بقي له من نقد! فتذاكر هو وزوجه أين دفعا آخر دفعة، فادكرا مخزنًا من المخازن الكبيرة والفتاة التي باعتهما فيه، وفي الصباح ذهبا إلى ذلك المخزن، فلما رأتهما الفتاة عن بعد أقبلت عليهما في ابتسام قائلة: إن لدي شيئًا لكما. وذهبت بهما إلى درجها وأخرجت منه المحفظة، وعبثًا حاول صديقي أن يدفع لها شيئًا؛ إذ رفضت أن تقتضي ثمنًا لأمانتها!!

هذه هي البيئة الإنجليزية التي نزلنا في ١٢ أغسطس سنة ١٩٢٦ ولنقف منها على ما ذكرت. قضينا بالعاصمة الإنجليزية سبعة عشر يومًا كان إخواننا المصريون المقيمون بلندن دليلنا إليها وسلوانا فيها، وما كنت لأدعي معرفتها ولم أقم بها أكثر من شهرين، منها ستة أسابيع في صيف ١٩١٠، وأسبوعان في ربيع ١٩١٢؛ لذلك وقفت معرفتي إياها عندما يعرف السائح من متاحف بلد من البلاد وآثارها الظاهرة وبعض الشيء عن مسارحها. وما كنا لنعنى بالمسارح وقد فتنتنا باريس عن مسارح العالم كله، فزرت وزوجي برج لندن حيث انبهر ناظرها بجواهر التاج البديعة وبماسة (كوهي نور) المنقطعة النظير في حجمها وصفائها، وحاولت أن أتسلق البرج على نحو ما صنعت في سنة ١٩١٠، فصدت عن ذلك نفسي أن لم يبق لديها من تطلع الشباب ما تستهين في سبيله بالجهد والمشقة. وزرنا المتحف البريطاني وطفنا بأبهائه وصالاته المختلفة، وقفنا منها عند الصالة المصرية القديمة، ثم هبطنا إلى صالة التماثيل فوقفت أمام تمثال إيزيس الحبيسة في زجاجها. ما أعظم ما أخذني من البهر أمام هذا التمثال يوم وقفت أشاهده للمرة الأولى سنة ١٩١٠! أما اليوم وقد رأيت الكثير من التماثيل المصرية فقد سلكته في عدادها وإن بقي في النفس من ذكرى بهرها ما يجعل له فيها إعزازًا ومحبة. وزرنا (الناشيونال جالري)، ووقفنا أمام صورة لإدي هملتن، وجبنا غير ذلك من أنحاء المدينة وروَّينا النظر بآثارها، ثم زرنا من أماكن الشاي ما كان لنا متعة بموسيقاه ومراقصه. على أن إخواني المصريين، ومن بينهم أصدقائي في السفارة وفي القنصلية المصرية، أغنوني كما قدمت عن أن أجعل من المتاحف والآثار كلها متاعي، وجعلوا من ضواحي لندن والريف الإنجليزي مواضع نزهتنا، حتى لقد خرجنا إلى هذا الريف أكثر من اثنتي عشرة مرة في الأيام السبعة عشر التي أقمناها بينهم، والحق أن هذه الضواحي وهذا الريف الإنجليزي البديع وما يجده الإنسان في هامبتن كورت وفي قصر وندسور وفي غيرهما من الأماكن الفخيمة من الآثار مما يصل بك إلى فرط البهر بسحر جماله وبارع فتنته.

بعد يومين من مقامنا دعانا صديق إلى نزهة على النهر، فركبنا السيارات العامة (الأتوبيس — أو البس على اختزال الإنجليز) إلى رتشمند إحدى الضواحي القريبة من لندن والمتصلة بها بالقطار والمترو أو «تحت الأرض» أو «الأنبوبة» (في تعبير الإنجليز؛ لأن النفق الذي تجري فيه أسطواني) وبالبس وبكل أسباب المواصلات. ورتشمند ضاحية جميلة هي طليعة الريف الإنجليزي البديع، وإذا قلت عن الريف الإنجليزي إنه بديع فأنت لم تقل في الحقيقة شيئًا؛ فالريف الإنجليزي، أو على الأقل ما رأيت منه، حديقة متصلة تجري خلالها الطرق العامة رصفت كلها بالأسفلت رصفًا يجعلها تصل ما بين إنجلترا وأسكتلندا بحيث يقطعها المسافر في الأوتومبيل وهو ناعم بسفره مستريح أشد الراحة له. ورتشمند ليست بعد من ريف إنجلترا، بل هي بساتين تصعد من شاطئ النهر إلى مرتفع عظيم يقع عليه البصر، فيبعث إلى النفس راحة وطمأنينة وإلى القلب سرورًا وسعادة بفتنة هذا الجمال. وبين هذه البساتين نثرت مبانٍ قليلة، بعضها فنادق وبعضها منازل صغيرة على طراز المنازل الإنجليزية المبنية بالآجر، تكتنفها من أمامها ومن خلفها حدائق تكاد أزهارها تكسو واجهة البيت جميعًا فتحيله كله زهرة ضاحكة. وجاورنا النهر وسرنا على شاطئه، فرأينا ما لا نظير له في غير إنجلترا؛ زوارق يخطئها العد، استقلها شبان وشيوخ وكلهم يجدفون في نشاط، وكلهم على الرياضة البدنية إقبال أي إقبال. وركبنا زورقًا بخاريًّا أخبرنا مضيفنا أنه يسير وغايته هامبتون كورت، فما كدنا نتخطى رتمشند حتى تبدى الريف الإنجليزي على شاطئ النهر في كمال روعته. ومن آن لآخر نمر ببعض الزوارق بها كل ما يجب لأدوات الشاي، وذكر صاحبنا أن بها كذلك طعامًا يكفي أصحابه آخر الأسبوع؛ أي من ظهر السبت إلى صبح الاثنين، يهجرون أثناءه العاصمة إلى صفو هذا الجو الجميل، مبتعدين بذلك عن ضجة المدينة وعما يفسد جوها حتى يضيق به الصدر. هذه بعض مميزات الخلق الإنجليزي المولع بالرياضة. على أن للإنجليز بالغ العذر لما يدعو ريفهم الجميل النفس له، ونهر التيمس نفسه قد زينته الصناعة خير زينة، وقامت على شاطئيه دور تحف بها الحدائق تزيد زينته بهجة وابتسامًا، ثم إنك حيث نزلت من هذا الريف وجدت أماكن لراحتك ولتناول طعامك وشايك، تحسبها أول الأمر غير قادرة من ذلك على كثير، ثم ما تكاد تدخل إليها حتى يشتملك جوها بكل ما يبعث الطمأنينة إلى نفسك. نزلنا مع صديقنا عند إحدى بوابات النهر الحاجزة مياهه تنظيمًا للملاحة فيه، وكانت ساعة الشاي، فملنا إلى دار مؤلفة من غرفتين هي دار خفير البوابات، فإذا به قد وضع في رحبة من الأرض أمامها بضع موائد للذين يتناولون الشاي، وإذا زوجه وابنته تقومان بخدمة من ينزلون عندهم لهذه الغاية، وتقومان لذلك بتحضير كل ما يلزم من فطائر وخبز وزبدة وكعك، وتقدمان ذلك نظيفًا لطيفًا تشتهيه النفس ويأخذ الإنسان منه ما يشاء راضيًا مغتبطًا ببساطته وإتقانه، سعيدًا بالهواء النقي وبمنظر النهر، ويجد الفتاة إذ تؤدي واجب الخدمة في رزانة ووقار كأنها تؤدي واجبًا مقدسًا. وأراد صاحبنا التبسط معها، فأجابت بكلمة وانفلتت لترى غيرنا ممن هم في حاجة إلى خدمتها، وضحكنا لهذا المظهر من الجد الذي إن اتفق وبساطة عيش الريف، فهو يتنافر والشباب، وهو أشد مع الأنوثة تنافرًا. وأدينا عن شاينا هذا دريهمات قمنا بعدها إلى النهر وإلى الزورق البخاري الذي أقلنا إلى رتشمند، ونحن — باليوم كله وبجمال الريف الإنجليزي وبهجة مناظره وبروعة الحدائق المنثورة هنا وهناك، مبعثرة خلال خضرتها دور الريف الصغيرة الرشيقة وبكل ما أحاط بنا وأمتع نظرنا — نشوة ومرح لا سبيل إلى مثلهما في جو المدينة، وإن عوض جو المدينة الناس من أسباب المرح والنشوة ما قد يهيج النفس أضعاف ما تهيجها نشوة الريف، ولكن على حساب الصحة وعلى حساب الأعصاب.

وسارت السفينة بنا بعد ذلك بأيام بين خضرة هذا الريف البهيج حتى بلغنا هامبتون كورت مقر أحد القصور الإنجليزية الملكية، والناس أشد بحدائق القصر ولعًا. فلئن كانت طنافس القصر وبديع أثاثه وما به من صور زيتية ينال الكثير منها الإعجاب العظيم، فإن هذه الحدائق الفسيحة الأرجاء والبحيرات الصغيرة التي تتخللها، والأزهار الباسمة الألوان وما يشتمل ذلك من جو صفو رقيق، كل ذلك يقتضي الناس أضعاف ما يقتضيهم القصر من الزمن الذي ينفقونه في الضاحية. ثم إن أكثر الناس يكتفون برؤية هذه الآثار الفنية مرة، ولكنهم مع ذلك يترددون على الحدائق وحشائشها وبحيراتها وأزهارها كلما دفعهم ملال المدينة إلى الخروج إليها لتنسم الهواء الصافي الصحيح. وفي هذه الحدائق تبسم الثغور وتفيض النظرات بمعاني المرح والغبطة، وتعود الحياة نعيمًا ومسرة يغريان بالحب وبالمودة وبكل العواطف الرقيقة الجميلة التي تحبب إلينا الحياة؛ إذ يهش لنا ما فيها ويجيبنا إلى ابتسامتنا لها بابتسامة كلها حنان وحب ومودة.

أما قصر وندسور، كما يسميه الإنجليز “Windsor Castle” فلا يزال منزلًا لضيوفهم من الملوك ورؤساء الجمهوريات. وهو حصن حقًّا في ظاهره، فأنت ما تلبث حين تدخل إلى فنائه أن ترى أمامك جدرانًا من الحجر لم تطلس ولم تنقش ولا تكاد ترى فيها نافذة أو فجوة، وتستدير إلى بابه فيزيدك الطريق إليه اقتناعًا بأنك أمام حصن من طراز برج لندن، لكنك متى تخطيت الباب إلى الدرج فواجهتك غرف القصر وأبهاؤه ألفيت نفسك في قصر منيف، بديع النقوش، ثمين الآثار، ملكي الغرف، بما فيها من صور زيتية ونقوش جدرانية وصور في السقوف وآنية في غرف المائدة وسرر في غرف النوم، وما إلى ذلك من مظاهر الجلال والأبهة مما ينسيك هامبتون كورت، بل مما ينسيك فونتنبلو. على أنك ما تكاد تذر القصر حتى يعاودك الشعور بأنك أمام حصن مهيب ليس حوله ما حول هامبتون كورت من حدائق غناء. ثم يصل ما بينه وبين قرية وندسور طريق قصير يقرب ما بين مقر الملك ومراح الشعب بما يرفع من معنى الديمقراطية إلى المكان الصحيح، وما يحقق الوحدة القومية المستندة إلى سيادة الأمة وإلى رمز هذه السيادة.

كثيرة ضواحي لندن وإن لم أعرف بها قصورًا غير قصري وندسور وهامبتن كورت، وأكثر الضواحي يبذهما روعة وجمالًا. ذهبنا إلى بريتن وإلى إيسبون الواقعتين على شاطئ المانش. وذهبنا إلى غيرهما من الضواحي يقع بعضها على التيمس والبعض خلال الريف غير متصل بنهر ولا ببحر، فكنا في جولاتنا جميعًا نستمتع بنضرة وبهاء وصفو جو، وننعم خلال ذلك بأماكن الشاي الريفية الجميلة المنثورة خلال إنجلترا مثابة للسكينة والنعمة، على أنه لم يأخذ شيء بنظرنا في هذه الضواحي جميعًا ما أخذ منظر من أروع مظاهر التضحية وأبدعها؛ ذلك حين عرجنا أثناء تجوالنا أنحاء الجنوب الإنجليزي مما حول لندن على قرية المسنين، أو قرية ويتلي، كما يسمونها هناك باسم المحسن الذي أنشأها. هذه القرية الواقعة بين نضارة ريف إنجلترا يهز القلب مرآها كما تأخذ باللب فكرة الإحسان التي دفعت مستر ويتلي إلى إنشائها. لها بوابة حديدية فخمة، تخطيناها إلى غابة صغيرة تتخلل أشجارها الباسقة أزهار جميلة، ويمر الطريق من خلالها نظيفًا منتظمًا حسن الرصف يصل بين القرية وبينها. والقرية بيوت مشيدة كلها على طراز واحد غاية في البساطة، غاية في الحسن، بنيت من الآجر، وفي الطابق الأسفل منها غرفتان أو ثلاث غرف، وفي الطابق الأعلى غرفة أو غرفتان. لكن البناء على رشاقته وظرفه ليس هو الذي يسبغ على القرية جمالها؛ فمن حول كل من هذه البيوت حديقة ظريفة غرست على النظام الإنجليزي، فيها الأزهار مختلفًا ألوانها، وفيها الأشجار الزاهية الخضرة ما لم يذبل خضرتها قرُّ الشتاء. وخلال الأزهار والأشجار طرق ضيقة تفصل الجازون الذي يكسو الأرض بخضرته بعضه عن بعض، وتجعل الحديقة تبدو كأنها خريطة مرسومة على ذوق البستاني الفنان الذي يقوم على العناية بها. وفي جانب القرية كنيسة رشيقة هي أيضًا يحيط بها فضاء يسبغ عليها ما يجب لبيوت العبادة من هيبة. والمنازل والكنيسة ومستشفى القرية وما فيها من سائر صور الحياة منثورة تتخللها الحدائق والطرق، وتنبسط بينها ساحة واسعة مغروسة كلها إلا طريقًا يمر وسطها، ويقوم عند غايته تمثال مستر ويتلي منشئ هذه القرية. والقائم على زراعة الحدائق وتعهدها هم أولئك المسنون الذين بنيت القرية من أجلهم، كما أنهم هم الذين يعمرون دار العبادة كل يوم في أوقات العبادة، وهم وحدهم الذين يقيمون في القرية، فلست ترى فيها إلا من جاوز الخمسين على الأقل، وقد ترى فيها من أربى على الثمانين. وما أجمل منظرهم رجالًا ونساء وهم يروحون ويغدون أمام منازلهم يتعهدون الحديقة تارة ويتروضون تارة أخرى، وهم عن هموم الحياة وآلامها بمعزل بعد أن كالت الحياة لكل منهم نصيبه من هذه الهموم والآلام!

كلا! بل بقي لهم بعض همِّ الحياة؛ ذلك أن مستر ويتلي حين فكر في بناء قريته للذين يتجاوزون الخمسين وتضيق بهم سبل العيش، لم يرد أن يتركهم بغير عمل، ولم يرد أن يخليهم من كل تبعة. وما قيمة الحياة بلا عمل ولا تحمل تبعة؟! إنها تصبح إذن حملًا ثقيلًا وهمًّا دونه كل هم؛ لذلك اكتفى بأن شيد القرية ليسكنوا في منازلها، وقدم لهم الماء والكهرباء والوقود والدفء، وترك على عاتقهم العمل لكسب القوت. وإذن فعليهم تبعة ولهم عمل، وإذن فلديهم شفاء آلام النفس كلها. وهل غير العمل هذا الشفاء؟! وهل ينسى المكلوم القلب والمحزون كلومه وحزنه في خير من أحضان العمل؟! وهل ينسى المسن هموم الماضي وعبء الحاضر وخوف المستقبل في شيء خير من العمل؟!

لكن التقدم في السن يصل بالرجل وبالمرأة إلى تمام العجز عن العمل، ويضطرهما إلى انتظار غاية الحياة وهما ينظران إليها تفر سراعًا ولا يستطيعان إمساكها ولا شغلها؛ لذلك قرر مستر ويتلي أن يذهب كل من عجز عن العمل إلى المستشفى يقدم له فيه طعامه وشرابه إلى جانب ما كان يقدم له ولسواه من قبل، ويبقى فيه إلى أن ينقل منه إلى المقر الأخير ينتظر فيه الأبدية التي قدم في سبيلها من أنواع العبادة ما قدم.

هذه قرية ويتلي، وهي مثل من أمثال التضحية بالمال في سبيل خير الجماعة أدت إليه فكرة غاية في السمو والنبل؛ فمن الحق أن يصل الإنسان من عمله أيام المقدرة عليه إلى ما يخفف عنه عبء العمل حين الضعف وعدم استطاعة الإنتاج بما يكفي كل حاجات الحياة، لكن نظام الجماعة الحاضرة لا يكفل هذا الحق، وقد يكون عسيرًا أن يكفله، فعلى من يؤمن به أن يعمل ما استطاع لكفالته؛ فإن كان هذا المؤمن من الذين أتاحت الحياة لجدهم أو لعملهم أن يثمر ما يفيض عن حاجاتهم فيضًا عظيمًا، فخير ما يعمله، كفالة لهذا الحق، أن يقوم بمثل ما قام به مستر ويتلي، وأن يبني قرية على طراز قريته.

وأحسب أن الذين يؤمنون بما آمن به مستر ويتلي كثير، لكن الذين يدفعهم إيمانهم إلى القيام بمثل عمله قلة في أكثر الأمم، وغير موجودين في البلاد التي لم تتـأصل فيها بعد حضارة حرية الفرد وتضامن الجماعة، وقد يكون لهم شيء من العذر حتى في البلاد المتمدنة لضعف الجماعة في بعض الظروف عن حماية الفرد مما قد ينزل به من هموم وكوارث.

ولعل مصير مستر ويتلي نفسه، هذا المصير المحزن العجيب، مما ينهض حجة للأنانيين؛ فهذا الرجل المحسن العظيم الذي عمل لإنقاذ مئات ومئات من الذين قضوا حياتهم سعيًا وجدًّا وكادت الحياة تجني عليهم، هذا الرجل البر بالإنسانية قد مات منتحرًا. ولئن بقيت قريته تشهد بإحسانه وبقي تمثاله القائم بين أولئك الذين أنقذهم من براثن البؤس يدل على سمو نفسه، فإن فاجعة انتحاره تدل على أن كثيرًا من جوانب الحياة الإنسانية ما يزال لغزًا غامضًا عسيرًا حله، وأن الإحسان وإن عظم قد لا يكفي لسعادة الحياة، كما أن المجد والمال وكل ما ينظر إليه الناس على أنه غاية من الغايات التي يسعون إليها قد تجتمع كلها للرجل، ثم لا تكفي مع ذلك حتى لطمأنينته إلى الحياة، فيفر منها جميعًا ويطلب الراحة في أحضان العدم يصل إليه من طريق الانتحار.

•••

سبق أن قلت إن أصدقاءنا المصريين في لندن كان لهم أكبر الفضل في اتصالنا بكثير من نواحي حياتها وبالريف الإنجليزي البارع الجمال مما يحيط بها، وأشهد أنهم أحاطونا بكل صنوف العناية، حتى لم يكن يمر يوم لا نرى فيه جماعة منهم كل مقصدهم أن يروحوا عنا، وأن يعاونونا على نسيان ما شعرت بإخلاصهم في مشاركتنا فيه من أسانا. وإن أنسَ لا أنسَ ما كان لقنصل مصر يومئذ بلندن (صديقي مصطفى الصادق وأسرته الكريمة) من فضل مضاعف. ولن أنسى إلى جانب فضله إخواننا جميعًا ممن أخشى إن حاولت ذكر أسمائهم أن تخونني الذاكرة فلا يرد اسم أحدهم أو بعضهم، فيكون عليَّ في ذلك من إثم الجحود ما أرجو أن أبرأ منه. وهذه العناية من جانبهم وما اقترن بها من حفاوة شبابنا وفتياتنا الذين يتعلمون في إنجلترا هي التي جعلتنا نمد زمن بقائنا بالعاصمة الإنجليزية إلى أكثر من الأسبوع الذي اعتزمنا بقاءه بها، وقد كان مستطاعًا أن ننفذ خطتنا، وأن نذهب إلى بروكسل لنعود منها إلى باريس بعد أن ازدادت زوجي فتنة بها بعد مقامنا بلندن لو أن الأسبوع لم يمتد إلى أسبوعين، بل لقد حجزنا تذاكر العودة إلى باريس في ختام الأسبوع الثاني، فأصر إخواننا على أن نجيب دعوة دعينا إليها، فأجلنا سفرنا يومين آخرين، فلما كان الظهر من يوم ٢٩ أغسطس ركبنا القطار لنعود إلى باريس كي نقيم بها يومين اثنين ننظم بعدها رحلتنا إلى الألب وسويسرا، لكن سحر باريس كان أقوى من عزيمتنا، فاستبقانا بها أسبوعين كاملين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤