المقر السري ينكشف

مرَّت أكثر من ساعة دون أن يظهر «فهد» أو «زبيدة»، وانقلب قلق الشياطين الثلاثة إلى يقين من أن ثمة شيئًا خطيرًا قد حدث. وقال «أحمد»: يجب أن نتصل فورًا ﺑ «إلهام» … إنها الآن في غاية القلق علينا، ولعلها تلقَّت التقرير الثاني من رقم «صفر».

ريما: نحن في منطقة مهجورة بين قريتين، وعلينا الوصول إلى إحداهما حتى نتمكَّن من الاتصال بها …

أحمد: سأذهب للاتصال وأعود إليكما.

أسرع «أحمد» إلى الطريق حيث كانت السيارتان الحمراوان، وكم كانت دهشته عندما لم يجدهما! … كان الطريق خاليًا … ولا أثر للسيارتين … وأحس برأسه يدور… إن العدو الخفي يتحرَّك بسرعة … فها هو قد غيَّر نفسه للمرة الثانية … وها هو قد اصطدم بهم وانتهت النتيجة لصالحه … وها هما «زبيدة» و«فهد» مفقودان والسيارتان قد اختفتا! …

دبَّت روح المغامرة والتحدي في دماء المغامر العنيد … وأسرع يرفع يده لكل سيارة مارة … لا بد من الاتصال فورًا برقم «صفر» وإطلاعه على التطوُّرات، ثم معاودة البحث عن «آمبروز» … بشكل أفضل.

وتوقفت سيارة مارة … وركب «أحمد»، وبعد ربع ساعة تقريبًا كان عند إحدى القرى، وأسرع إلى مقهًى به تليفون، واتصل ﺑ «إلهام».

ردَّت «إلهام» بسرعة قائلة: أين أنتم؟ لقد تأخرتم جدًّا …

وروى لها «أحمد» ما حدث بسرعة ثم قال: هل هناك تقارير من رقم «صفر»؟

إلهام: نعم … في العاشرة تمامًا أرسل تقريره الثاني …

أحمد: اقرئيه لي.

إلهام: إلى شياطين الكهف السري من رقم «صفر»

وصلت رسالة من الإنتربول عن شخصية «آمبروز». اسمه الأصلي مجهول تمامًا … اتضح أن «بيرد آمبروز» شخص ميت، وأن هذا القاتل المحترف قد حصل على أوراقه بطريقة ما … وانتحل شخصيته … بالنسبة لأوصافه ليست محدَّدة … فهو يستطيع تغيير شكله ومظهره بسرعة، وحتى لوَّن عينيه بعدسات ملصقة … لا ندري بالضبط لماذا حضر إلى لبنان. كل ما نعرفه أنه تلقَّى برقيةً من بيروت أثناء وجوده في القاهرة … البرقية تقول: «احضر خلال ثلاثة أيام … العملية جاهزة» … والتوقيع باسم «سامي صيدح». وبالبحث عن «سامي» هذا اتضح أنه كان ينزل في فندق فينسيا عند المرفأ … وغادره بعد إرسال البرقية … يمكنكم البدء من هذه النقطة …

و«سامي صيدح» رجل طويل القامة … قوي البنيان … يعرج قليلًا … يتلعثم في حديثه … ويستخدم نظارات طبية …

أحمد: أرسلي تقريرًا إلى رقم «صفر» بما حدث خلال الساعات الماضية …

إلهام: وماذا ستفعلون؟

أحمد: لن نتحرَّك من هنا حتى نعثر على «فهد» و«زبيدة» …

إلهام: هل أحضر إليكم؟

أحمد: ابقَي مكانك … لا بد من وجود شخص في المقر للاتصال برقم «صفر».

إلهام: أحمد!

أحمد: إلهام!

إلهام: إنني …

أحمد: وأنا أيضًا …

إلهام: كن على حذر … إنك تعرف ماذا تعني بالنسبة لي …

سكت «أحمد» لحظات … كان يريد أن يقول أشياء كثيرةً ﻟ «إلهام»، ولكن لم يكن ذلك وقتًا للحب … فقال: سأتصل بك مرةً أخرى بعد ساعتين …

وأغلق «أحمد» السماعة … ثم خرج مسرعًا إلى الطريق … نظر حوله في محاولة للعثور على سيارة … ولحسن الحظ وجد سيارةً قد أدار صاحبها محركاتها، وتتحرَّك في نفس الاتجاه الذي يريده، وأشار بيده للرجل الذي ابتسم ودعاه للركوب …

عبر «أحمد» الشارع إلى حيث كانت تقف السيارة، وفتح الباب المجاور للسائق وركب، ولم تكد السيارة تتحرَّك حتى أحس بشيء بارد يلمس رقبته وبصوت خشن يقول: أنت أسيرنا.

أدرك «أحمد» على الفور أنه كان متبوعًا من حيث لا يدري … وأن الشيء البارد الذي يلمس رقبته ليس إلا مسدسًا … وتساءل بينه وبين نفسه: هل استمعوا إلى المكالمة التليفونية أيضًا؟

وتذكَّر أن بعض الأشخاص كانوا يمرون بجواره أثناء حديثه التليفوني في المقهى … وأدرك أن «آمبروز» لا يعمل وحده … وأن «فهد» و«زبيدة» قد وقعا في يدي «آمبروز» وأعوانه.

سارت السيارة مسرعة … وتجاوزت المكان الذي دارت فيه أحداث الساعات الماضية … واقتربت السيارة من طريق جانبي ومكتوب عليه كلمة «طريق خاص»، ثم لاحظ «أحمد» أن أشخاصًا في الظلام تفتح بابًا … وسمع صوت الباب وهو يُغلق … سارت السيارة ببطء شديد، وأدرك «أحمد» أن الطريق ضيق للغاية، ثم انحرفت السيارة مرةً أخرى داخل مكان كثيف الأشجار … ثم وقفت أمام منزل صغير اختفى خلف الأشجار تمامًا.

سمع صوتًا يأمره بالنزول … ففتح الباب ونزل … وأحس أن في إمكانه تحت ستار الظلام أن يقوم بحركة ما … ولكنه فضَّل الاستماع إلى الأوامر … فقد كان يريد فعلًا أن يعرف ماذا يدور في هذا المكان … وعندما اقترب من المنزل فُتح باب جانبي، وأحس بفُوَّهة المسدس من خلفه تدفعه إلى الداخل.

بهر عينيه الضوء القوي داخل المنزل، ثم اعتادت عيناه الضوء، ووجد أمامه رجلًا وحيدًا جلس في استرخاء في مقعد كبير … وقد ضم كفيه تحت ذقنه ووضع ساقًا على ساق … وأُغلق الباب خلفه … وأصبح وحيدًا مع الرجل …

أدار «أحمد» بصره في المكان … كان رغم صغره شديد الأناقة … قد فُرش بأثاث اختير بعناية … وقد غطَّت أرضه السجاجيد الثمينة … وعُلِّقت على جدرانه لوحات غالية … وسمع صوت الرجل يقول له: اجلس …

جلس «أحمد» في كرسي مواجه للرجل … وتأمَّله … كان أبيض اللون مشربًا بحمرة، نحيلًا شديد الأناقة … تجاوز الخمسين ولكنه يتمتع بجسد رياضي، ولاحظ وجود بندقية صيد بجواره.

قرَّر «أحمد» الهجوم على الفور فقال: هل أنت «آمبروز»؟ …

ظل وجه الرجل هادئًا، وظلت كفاه تحملان ذقنه العريض القوي … وظلت عيناه ترمقان «أحمد» في تأمُّل عميق.

رد الرجل ببطء: إنني لست «آمبروز»، وما دمت قد سألتني وأجبتك، فمن حقي أن أسألك سؤالًا تجيب عليه: من أنت؟ رد «أحمد»: هذا هو السؤال الذي لا أستطيع الإجابة عليه ضمن أسئلة قليلة أخرى …

قال الرجل وقد ضاقت عيناه: من الواضح أنك لست لبنانيًّا … ويغلب على الظن أنك من مصر … فماذا تفعل هنا؟

رد «أحمد» على الفور: وهذا سؤال آخر لا أستطيع الإجابة عليه.

برقت في عيني الرجل نظرة غضب سريعة، ولكن اختفت على الفور وقال: لقد رفض زميلك وزميلتك أن يجيبا على السؤالين … ولكن ذلك قد لا يستمر طويلًا. وفي نفس الوقت، فإن رجالي يحيطون الآن ببقيتكم في الجبل … كما أننا عرفنا رقم التليفون الذي تحدثت إليه … وسيكون من السهل جدًّا أن نعرف مع من تحدثت … وسنُضطر إلى التخلُّص منها؛ فإن أي شيء خاص ﺑ «آمبروز» لا يصح أن يعرفه غيري … ثم سكت لحظةً وقال وهو يعض على شفتيه: مهما كان …

كان على «أحمد» أن يستجمع كل قوته وكل ما تعلَّمه من ثبات ليواجه هذه المعلومات الرهيبة … فهذه أول مرة يواجه خصمًا بهذا الدهاء … وأخذ ذهنه يعمل بسرعة ليحاول إيجاد حل قبل أن تقع «إلهام» في أيديهم … ليس فقط «إلهام» بكل ما تمثِّله في قلبه، ولكن «إلهام» … كأمل أخير للإنقاذ … خاصةً إذا استطاعوا دخول مقر الشياطين اﻟ «١٣» حيث توجد جميع تقارير رقم «صفر»، وحيث جهاز اللاسلكي … إن معنى ذلك دمار الشياطين اﻟ «١٣» تمامًا.

وكأن الرجل كان يقرأ ما يدور بذهن «أحمد» فقال: لعل من الأفضل أن نتفاهم … وقبل أن ينتظر ردًّا من «أحمد» قال: إننا نعرف أنك ستتصل بزميلتك مرةً أخرى هذه الليلة … وفي إمكانك أن تنقذها من الموت المؤكد إذا جعلتها تأتي إلى هنا …

ومرةً أخرى قبل أن يرد «أحمد» مضى الرجل يقول: يجب أن تكونوا جميعًا تحت سيطرتنا المدة الباقية …

وهنا قاطعه «أحمد»: المدة الباقية على أي شيء؟ …

ابتسم الرجل لأول مرة، فقد أدرك أن «أحمد» لا يعرف مهمة «آمبروز» وقال: المدة الباقية على العملية … وهي مسألة حياة أو موت بالنسبة لي … أقصد بالنسبة لنا جميعًا …

لم يكن «أحمد» قد أخطأ عندما سأل عن مهمة العصابة … فقد كان يقصد تمامًا ما يقول.

كان يريد أن يؤكِّد للرجل أنهم لا يعلمون الكثير حتى لا يتعرضوا للتعذيب أو الموت … وقد أحس أنه أصاب الهدف … فقد ابتسم الرجل، ومعنى ذلك أنه راضٍ وسعيد بأنهم لا يعرفون الكثير.

عاد «أحمد» يفكر في الحديث الذي يمكن أن يقوله ﻟ «إلهام» ويحذِّرها … إنهم طبعًا سوف يستمعون إلى ما يقول … ولن يسمحوا له بأن يقول ما يريد … وأدهش «أحمد» جدًّا أن الرجل مرةً أخرى أدرك ما يجول بذهنه فقال: إن اتصالك بصديقتك سيتم طبعًا تحت إشرافنا … وسنكتب لك الكلام الذي تقوله … وأي كلمة زائدة فسوف تعرضك كما تعرض بقية زملائك للموت السريع.

وظل وجه «أحمد» ساكنًا لا يعكس مشاعره المضطربة … ونقل تفكيره فورًا إلى البندقية التي بجوار الرجل … وقاس المسافة بينهما وبينه … إن قفزةً سريعةً واحدةً تكفي لكي يصيب الرجل في وجهه بقدمه إصابةً قوية … وفي نفس الوقت يتناول البندقية ويوجِّهها إليه، ويستطيع والرجل تحت رحمته أن يفرض شروطه …

كان «أحمد» متأكدًا أنه مراقب … وأن أكثر من بندقية ومسدس موجَّه إليه من أماكن مختلفة من الحجرة … ولكن ذلك لم يكن يثنيه عن عزمه إلا في حالة واحدة … أن تكون البندقية غير محشوة … ففي هذه الحالة لن يتمكن من عمل أي شيء … وفي ثوانٍ قليلة إمَّا أن يصبح جسده كالغربال من الرصاص، وإمَّا أن يتمكن الذين يراقبونه من الإمساك به تحت تهديد أسلحتهم.

ساد الصمت الحجرة … وأخرج الرجل سيجارةً أشعلها، وأخذ يدخِّن بهدوء … وهو ينظر إلى «أحمد»، ولكن نظرته كانت تتجاوز «أحمد» إلى بعيد … كان يفكر بعمق، كأنه يحل مشكلةً عويصة.

وفجأةً رنَّ في الصمت صوت سيارة مقبلة … توقفت أمام الباب، وسمع صوت أقدام تقترب، وفتح الباب … والْتفت «أحمد» وعلى العتبة، كانت «ريما» تقف، وقد تمزَّقت ثيابها … وعلى جانب وجهها إصابة واضحة … وأدرك «أحمد» أن الكمَّاشة تنطبق عليهم … فقد وقعت «ريما» و«عثمان» … ولكن «عثمان» لم يدخل، وسمع «أحمد» صوت رجل يقول: لقد سقط الولد الأسمر من فوق الجبل … وهو في الأغلب جثة هامدة في إحدى الحفر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤