الفصل السابع

المسرحيات التاريخية الإنجليزية والرومانية

السياسة عند شكسبير
  • «ريتشارد الثاني»

  • «هنري الرابع (الجزء الأول)»

  • «هنري الخامس»

  • «ريتشارد الثالث»

  • «يوليوس قيصر»

  • «كوريلانوس»

ريتشارد الثاني

كان مفهوم التدبير الإلهي أو العناية الإلهية يُعَدُّ أحد المفاهيم التاريخية واللاهوتية المِحورية في عصر شكسبير. وعلى النقيض من وقائع القَدَر أو الحظ الاعتباطية، كان هذا التدبير تجلِّيًا لمشيئة الرب التي كثيرًا ما تكون عقابية، والتي يمكن تتبُّعها على مَرِّ التاريخ في سردِ كيف كان الربُّ يصطفي ملوكه المُختارِين، وكيف — كما في حالة مسرحية «ريتشارد الثاني» — كان يخلعهم. دُمِجَت رؤية التاريخ من منظور العناية الإلهية وبُدِّلَت فكرة الحظ الوثنية القديمة، التي كانت تتمثل في الإلهة الرومانية فورتونا، التي كانت تُدير عَجَلتها ليرتفع قدْر البشر أو يهبِط اعتمادًا على رغبتها المُتغيِّرة. ومع ذلك فقد اتَّخذَت فكرة الحظ طابعًا مسيحيًّا منذ العصور الوسطى في مجموعاتٍ من القصص الأخلاقية في نوعٍ أدبي يُعرَف باسم «تراجيديا سقوط العُظماء»، وهي التَّسمية المأخوذة من عمل بوكاتشو الذي يحمل اسم «عن سقوط العُظماء من الرجال». وقد شاع هذا النوع الأدبي في إنجلترا في أوائل القرن الخامس عشر من خلال قصيدة جون ليدجيت «سقوط الأمراء». وبعد حركة الإصلاح البروتستانتي، اكتسَتْ تلك الحكايات بمسحةِ العناية الإلهية بنحوٍ كبير. وكان ثَمَّةَ اتفاقٌ أنَّ الربَّ يُهلِك أولئك الذين كان موقفهم في العالم يستنِد على أساسٍ آثم. وأحد أشهر الكُتب في زمن شكسبير، وهو كتاب «المِرآة للقضاة» (١٥٥٥)، كان عبارةً عن مجموعة من القصص الأخلاقية الشعرية الإرشادية على نحوٍ واضح يَهوي فيها ذوو الجاه والنفوذ من عليائهم لينالوا عقابًا مُرتَّبًا بتدبيرٍ إلهي. كانت هذه القصص تتناول حكامًا وأشخاصًا آخرِين في مناصبَ عامَّة كانتِ انتصاراتهم يعقُبها دومًا سقوطٌ مُذهِل حين تجلُب آثامُهم عليهم الوبال. وتماشيًا مع المشروع الإليزابيثي الجديد والبروتستانتي تحديدًا، جُمِعَت طبعة سنة ١٥٥٩ من كتاب «المِرآة للقضاة» بواسطة ويليام بالدوين بعنوان «مِرآة للقضاة» (لندن، ١٥٥٩) بعد عامٍ فقط من اعتلاء إليزابيث للعرش. وفي الواقع أنه بمجيء حركة الإصلاح البروتستانتي، وخاصةً بعد نشر عقيدة القضاء والقدَر الكالفينية، التي تنصُّ على أن مُخطَّط الرب للتاريخ البشري قد تَشكَّل قبل بدء الزمان، اكتَسبَت عقيدة التدبير الإلهي نطاقًا وزخمًا جديدًا باعتبارها الإطار المُنفرد الأَهَم الذي يمكن من خلاله رؤية وفَهم الأحداث التاريخية. وعندما كتَب شكسبير مسرحية «ريتشارد الثاني» في عام ١٥٩٥، كان ثَمَّةَ اتفاقٌ على أن كل الأحداث التاريخية السابقة قد تواطَأَت بمُساعدة التدبير الإلهي لوضع إليزابيث على العرش. وغنيٌّ عن البيان أنَّ كلَّ الأسباب كانت تدفع النظام الإليزابيثي الحاكم لتأييد هذه المُحصِّلة القَدَرية.

ومع أن عقيدة التدبير الإلهي كانت تصلُح كتسويغ لسيادة دولة إليزابيث البروتستانتية، فإنها كانت تَصوُّرًا تعصِف به تناقُضاتٌ عميقة، لا سيما أنه حتى أفعال شِرار الناس يُمكن أن تُحمَل على محمل أنها جزءٌ من مُخطَّط التدبير الإلهي الكبير؛ وبالتالي يُمكن فَهم وجود حاكمٍ جائر، من وجهة نظرٍ تتبنَّى فكرة التدبير الإلهي، على أنه عقابٌ حاق بأُناسٍ خاطئِين. وبالمثل، فإنَّ الحكَّام الذين رفع الربُّ من شأنهم يمكن دومًا أن يفقدوا جاههم وسُلطانهم. في الواقع، يرى جون فوكس، المؤرخ والباحث البروتستانتي في تاريخ الشهداء المسيحيِّين، أنَّ الملوك الذين اختِيروا بواسطة تدبير الربِّ من المُفترَض أن يرتقوا لأعلى الدرجات، وكان كتابه «الأعمال والآثار» (١٥٦٣) — الذي كانت ثَمَّةَ نسخةٌ منه، كما أشرْنا سابقًا، مربوطةً بسلسلةٍ إلى أثاث كلِّ كنيسةٍ في إنجلترا — يُوجِّه إليزابيث نحو برنامجٍ بروتستانتي أكثر تطرُّفًا تحت ستارِ تعزيزِ طابع الاعتقاد بأنَّ ولايتها هي نتيجة تدبيرٍ إلهي. كان كتاب «المِرآة للقُضاة» أكثر حذرًا نوعًا ما، وكانت كل الطبعات الإليزابيثية للكتاب حريصةً على تجنُّب تناوُل الحكَّام الموجودين في الذاكرة الحيَّة للناس. ورغم أن المصدر الرئيسي الذي استقى منه شكسبير مسرحيته «ريتشارد الثاني»، وهو كتاب رفائيل هولينشيد «تاريخ إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا» (١٥٨٧) كان يستنِد على عقيدة التدبير الإلهي، كما هو الحال مع كُتب التاريخ القائمة الأخرى، فهو لم يُشارك كتاب «المِرآة للقُضاة» بَرنامجه الأيديولوجي المباشر.

بطريقةٍ ذات مغزى، ورغم أن مُجمَل التاريخ، الصالح والطالح، أدَّى إلى الحُكم البروتستانتي المجيد المُعاصر، فإنَّ «كل» التاريخ المُدوَّن كان يحتمل كونه وعظًا للملكة الحاكمة؛ ففي كتاب «المِرآة للقُضاة»، تُوافق شخصية ريتشارد الثاني على أن تُروى قصته باعتبارها حكايةً تحذيرية:
بما أنكَ أردتَ أن تُوضِّح
كيف سقط الأُمراء، لتمنح حكمةً للأحياء،
فلا أرى جدوى من استبعادكَ لقصَّتي الآثمة،
ولكن أظهِرْ أنَّ الحكام الذين قد يتحاشَون المَشورة الحسنة،
أو القانون أو الفضيلة مُحْتقَرون.1

خلافًا لأشكال كتابة التاريخ الأخرى، التي تتطلَّب الوصول إلى حلٍّ أو اتخاذ موقفٍ في المشاكل السياسية والأخلاقية الموجودة في الوقائع التاريخية، نجد أنَّ النزعة لدى الدراما كانت هي تقديم تلك المشاكل أمام الجمهور من أجل طرحها للمناقشة. كانت تُوجَد مسرحيَّتان من العصر الإليزابيثي واجَهَتا، أكثر من غيرهما، المشكلة المُضطربة المُتعلِّقة بالسُّلطة وتسويغها. هاتان المسرحيَّتان كانتا مسرحية كريستوفر مارلو «إدوارد الثاني» (التي نُشرت سنة ١٥٩٢) ومسرحية شكسبير «ريتشارد الثاني». في مسرحية مارلو، يلقى الملك الضعيف المُتخنِّث — الذي يتحكم فيه المُقرَّبون منه، وخاصةً عشيقه بيرس جافيستون — ميتةً بشِعةً بشاعةً مُذهلة، ولو أن المسرحية لا تُحدِّدها بأي قَدْرٍ من التفصيل؛ إذ أُدْخِل في مُؤخِّرته حديدةٌ مُحماة. وفي مجتمعٍ ارتأى أنَّ الأنوثة والسُّلطة أمران يتعارَضُ أحدُهما مع الآخر، بصرْف النظر عن حكم إليزابيث، لربَّما كانت خُنثوية الحاكم الذكر، من حيث المفهوم على الأقل، مقاربةً بنحوٍ خطير لحكم الأُنثى. ومع كلِّ ذلك، لا يُوجد ما يُثبت أنَّ هذه المسرحية تحديدًا جابهَت مشكلاتٍ من قِبَل السُّلطات الإليزابيثية.

كشأن مسرحية «إدوارد الثاني»، مسرحية «ريتشارد الثاني» هي أيضًا مسرحية عن ملكٍ ضعيفٍ ومُذبذَب يرفُض المشورة السديدة من أعمامه ويُفضِّل عليها نصيحةً هَوجاء وحمقاء. ونتيجة حماقته تكون هي اضطراره للتنازُل عن العرش لغاصبٍ للسلطة قبل أن يتعرض للسجن ويُقتَل في نهاية الأمر. ويتَّضِح من حقيقة أنَّ السير إدوارد هوبي قدَّم المسرحية للترفيه عن المستشار الخاص بإليزابيث السير روبرت سيسل في ديسمبر من عام ١٥٩٥ أنه لم يكن حينئذٍ يُعْتَقَد أن المسرحية تُثير الفتنة. ولم يُعتقَد أنها قد تحمِل طابع الخيانة إلا بعد مُضيِّ ستة أعوام على عرضها الأول، في إطارٍ من أحداثٍ لاحِقة، حين أمر أنصار إيرل إسكس بإقامة عرضٍ للمسرحية عصر يوم السابع من فبراير من عام ١٦٠١، عشيةَ انتفاضةِ إسكس (وهي خطةٌ فاشلة للاستيلاء على قصر وايتهول وأَسْر الملكة). خَشِيَت إليزابيث نفسها من أن يكون تصوير المسرحية لحاكمٍ يُجْبَر على التنازُل عن العرش هو مِرآة لما قد يُلِمُّ بها إذا ما نجح إيرل إسكس الجريء، روبرت ديفيروكس، الأثير لدَيها في السابق، في تمرُّده المشئوم. وبعد عدَّة أشهُر من إعدام إيرل إسكس بِقَطعِ رأسه في برج لندن في الخامس والعشرين من فبراير من عام ١٦٠١، أشارت إليزابيث في مقولةٍ شهيرة لها إلى أن «هذا العمل التراجيدي مُثِّل أربعين مرةً في الشوارع العامَّة وفي المنازل.» واحتجَّت لدى المُتخصِّص بالأثريات ويليام لامبارد قائلة: «أنا ريتشارد الثاني، ألا تعرِف ذلك؟»2 تُثبِت المسرحية بمُنتهى الوضوح أنَّ اصطفاء الربِّ لا يُضفي عصمةً ولا منعة، بغضِّ النظر عن ادِّعاء ريتشارد البليغ بعكس ذلك: «ولن تستطيع مياه البحار المائجة الهائجة كلها أن تُزيل الزيت المُقدَّس الذي مُسِح به على رأس الملك» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ٥٤-٥٥)3 [ترجمة د. محمد عناني، وهي الترجمة التي اعتمَدْنا عليها على نحوٍ أساسي في ترجمة الاقتباسات من المسرحية في هذا القسم، وإن كان ببعض التصرُّف اليسير في بعض المواضع].
في واقع الأمر إن اهتمام مسرحية «ريتشارد الثاني» لا ينحصِر فقط في موضوعها السياسي وإنما أيضًا في تجسيدها لشخصية ريتشارد، وبخاصَّة فيما يتعلَّق بالبلاغة الشِّعرية الغنائية التي يَهَبه إيَّاها شكسبير:
بحق الرب، لِنجلس على الأرض ونقُص
قصصًا حزينة عن موت الملوك؛
كيف خُلِع بعضهم عن العرش، وكيف قُتِل بعضهم في الحرب،
وكيف طاردَت بعضَهم أشباحُ من قتلوهم،
وكيف مات بعضُهم بالسُّمِّ الذي دسَّته زوجاتهم، وكيف قُتِل البعض وهم نائمون؛
فالقتل مصير الجميع! ففي داخل التاج الأجوَف
الذي يُحيط برأس الملك، ويصِل ما بين فُودَيه الفانيَين،
يعقد الموت مجلس البلاط له،
وفيه يجلس ذلك المُهرِّج ساخرًا من مكانته، ضاحكًا من أُبَّهته،
ولو أنه يسمح له بهُنيهَة ومشهدٍ قصير يؤدي فيه
دور الملك؛ إذ يخشاه الناس، ويقتل من يشاء بنظرةٍ واحدة …
(الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأسطر ١٥٥–١٦٥)
يُصوِّر ريتشارد في هذا الموضع عدَم عصمة الحكام وكونهم عُرضةً لِلموت، ونوعًا ما لا يُلخِّص مصائر الملوك التاريخيِّين فحسب وإنما أيضًا مصائر الملوك الذين يُصوِّرهم شكسبير في أعماله؛ فريتشارد نفسه يُخلَع، وهنري الرابع سوف يُلاحِقه أمرُ اغتصابه لتاج ريتشارد، وماكبث يُذبَح في المعركة، وكلٌّ من دنكن والملك هاملت يُقتلان أثناء نومِهما. إن كيان الموت المُجسَّد هو السلطة الفعلية في تاريخ ريتشارد المُوجَز، الذي فيه كلُّ الملوك، حتى أقواهم، ممثِّلون — كما هو حالهم بالطبع في رُباعية شكسبير الثانية (سلسلة مسرحيات «ريتشارد الثاني»، و«هنري الرابع (الجزء الأول)»، و«هنري الرابع (الجزء الثاني)»، و«هنري الخامس») — مسموحٌ لهم فحسب ﺑ «مشهدٍ قصير». يُحاجِج ديفيد كاستَان قائلًا: «تفضَح المسرحيات التاريخية مسائل إضفاء المِثالية على السلطة السياسية بتقديم الحُكم على أنه دَور، وبالكشف عن أن السلطة تنتقِل إلى ذلك الذي يستطيع أن يُحْسِن التحكُّم في رموز السلطة البصرية واللفظية والتلاعُب بها.»4 ومن ثَمَّ فإنَّ تركيز ريتشارد الميتامسرحي على السلوك المسرحي المُتكلَّف للسلطة الحاكمة لا يمكن استخدامه لجعلِهِ ملكًا مؤثِّرًا، مع أنه يُعطيه مظهرًا يبعث على التعاطُف ﻟ «ملكٍ جليل [هوى] إلى مرتبة الرعية» (الفصل الرابع، المشهد الأول، السطر ٢٥٢). ولا يجعل الأسلوب الغنائي الحماسي المُتقَن لبيتٍ من قبيل «بحق الرب، لنجلس على الأرض، ونقُص قصصًا حزينة عن موت الملوك» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ١٥٥-١٥٦) من ريتشارد شخصًا كان يُمكن أن يكون ملائمًا أكثر لأن يحيا حياةَ شاعرٍ وليس حياةَ حاكم. يرى بيتر يوري أن «الشعر لدى ريتشارد موجود لأنه إحدى شخصيات دراما شعرية، وليس لأن شكسبير اعتقد أن ريتشارد الثاني فقد مملكته من خلال تفضيل الشعر المُرسَل على المعارك …».5 ينطبق هذا بصفةٍ خاصة على هذه المسرحية، التي تُمثِّل المسرحية الوحيدة، من مسرحيات شكسبير التاريخية، المكتوبة بكاملها شِعرًا، والتي نجِد فيها أن شكسبير يُعطي حتى البستانيِّين من الطبقة الدُّنيا المشحونين وجدانيًّا، على نحوٍ رمزي، حواراتٍ شعرية. يتسم ريتشارد بالرثائية، إذن؛ لأنه في الشعر، تُعَدُّ هذه هي لغة الخسارة.

الفترة الزمنية التي تُغطِّيها المسرحية هي ما بين عامَي ١٣٩٧ و١٣٩٩، حينما خلع هنري بولينجبروك، الذي سيُعرَف فيما بعدُ باسم هنري الرابع، ريتشارد الثاني. لا يستمرُّ هذا الاغتصاب للسلطة في مُلاحقة بولينجبروك نفسه فحسب في جزأَي مسرحية «هنري الرابع» وإنما أيضًا حكم ابنه، هنري الخامس، الذي تنتابه مخاوف، في الليلة السابقة على معركة أجينكور، من أنه على الرغم من أنَّ التدبير الإلهي أسفر عن انتصار والده، فقد يتعيَّن عليه الآن أن يدفع ثمن الخطيئة التي ارتكبها والده بخلعه للملك المختار من الرب. تبدأ مسرحية «ريتشارد الثاني» عندما يتجادل بولينجبروك مع دوق نورفك بشأن دوره في وفاة عمِّ الملك، دوق جلوستر. يُرتَّب لنزال لحلِّ المسألة، ولكن ريتشارد المتذبذب على الدوام يُقرِّر عِوضًا عن ذلك أن ينفي دوق نورفك مدى الحياة وأن يُبْعِد بولينجبروك لفترةٍ مُحدَّدة مُدَّتها ست سنوات. العنصر الرئيسي لإنشاء دافع التدبير الإلهي الآخذ في الاحتشاد وراء بولينجبروك هنا هو وجود والده، جون من جونت الشهير، دوق لانكستر، الذي لا شكَّ في صلاحه والذي يموت كسير الفؤاد نتيجة إبعاد ابنه. وعندما يستولي ريتشارد على أراضي جونت ويستخدِم العائد لتمويل حملةٍ عسكرية على أيرلندا، يعود بولينجبروك ومعه جيشٌ غازٍ ويُستَقبَل بتأييدٍ شعبي. وبعد أن يُحاصَر ريتشارد في قلعة فلينت، يوافق أخيرًا على الذهاب إلى وستمنستر حيث يقتنع بالتنازُل عن العرش لصالح بولينجبروك. يظلُّ سلطان الأخير مُزَعزَعًا؛ إذ يتآمر أوميرل، أحد مستشاري ريتشارد المَوثوقِين، على الملك الجديد. وفي دليلٍ واضح على أن الولاء الأُسري لا يُمكن أن يأتي على حساب الخيانة، يُميط والد أوميرل، دوق يورك، اللثام عن خيانته ويؤيد حقَّ هنري الرابع في المُلك، ثم يُسجَن ريتشارد في قلعة بونتفراكت حيث يقتُله بيرس من إكستون، الذي يُسيء تفسير توجيهات هنري. لا يصفح هنري عن هذا الاغتيال وينذُر أن يحجَّ إلى الأراضي المُقدَّسة ليكون ذلك بمنزلة تكفيرٍ عن موت ريتشارد.

أحد أكثر استعراضات القوة في المسرحية إثارة للاهتمام هو مشهد البرلمان في قاعة وستمنستر؛ فبينما كانت ثَمَّةَ مساحةٌ زمنية آمِنة بين تسعينيَّات القرن الرابع عشر وتسعينيَّات القرن السادس عشر، فإن هذا كان مكانًا يعرفه الجميع في لندن في عصر شكسبير؛ فباعتباره أحد مناطق التسوُّق الرئيسية بالعاصمة ومقرَّ محاكم العدل، كان من شأن جمهور شكسبير أن يكون لديه نقاطٌ مرجعية واضحة وضوحًا خاصًّا، ومُعاصرة فيما يتعلق بحدَثٍ ربما يكون قد ظلَّ بغير ذلك غير مُتصوَّر في السياق الإليزابيثي الراهن، ألا وهو ما تدعوه صفحة العنوان لطبعة قطع الرُّبع الثالثة «الموكب» الذي يُسلِّم فيه ريتشارد بالمعنى الحرفي الصولجان والتاج، الرمزَين العظيمَين للسلطة الحاكمة، لغريمه.

مُجرَّدًا من جلاله، «ريتشارد الذي انتُزِع ريشه … يتنازل عن صولجانه الرفيع» (الفصل الرابع، المشهد الأول، السطران ١٠٩-١١٠)، في تصرُّفٍ يَنِمُّ عن الخضوع ما كان لِيقوم به ملكٌ مُختار أبدًا. وبعد أن تخلَّى عن التاج، يطلُب ريتشارد، مثل كل شخصيات عمل «المِرآة للقُضاة»، مرآةً:
وإذا كانت كلمتي ما تزال من العُملات المُتداوَلة في إنجلترا،
فسوف آمُر بإحضار مِرآةٍ على الفور،
حتى أرى فيها صورة وجهي الآن،
بعد أن أَفلَس من جلال المُلك.
(الفصل الرابع، المشهد الأول، الأسطر ٢٦٤–٢٦٨)
حُذِف مائة وخمسة وستُّون سطرًا من هذا المشهد، الذي يُسلِّم فيه ريتشارد تاجَهُ بيده، من طبعتَي قَطع الربع الإليزابيثيَّتَين اللَّتَين تعودان لعامَي ١٥٩٧ و١٥٩٨. ومع ذلك، فقد أُدْرِجت تلك السطور في النصِّ في طبعة سنة ١٦٠٨ عندما تُوفيت إليزابيث بسلام، حسبما ذُكر في تقديم الطبعة المُشار إليها: «مع إضافاتٍ جديدة لمشهد البرلمان وخلع الملك ريتشارد.» إنَّ المسألة المتعلقة بما إذا كانت السطور المَعنية من المشهد الأول في الفصل الرابع قد أُضيفت في عام ١٦٠٨، أو أنها كانت جزءًا من المسرحية ولكن الأمر لا يعدو أنها أُسقِطَت من الطباعة، لا تزال مسألةً محلَّ جدالٍ أكاديمي.6 ظَهرَت طبعةُ قطعِ ربعٍ خامسة من المسرحية في سنة ١٦١٥، والتي اشتَملَت مُجددًا على المشهد.

تُظْهِر مسرحية «ريتشارد الثاني»، ربما أكثر من أي مسرحيةٍ أُخرى، مدى الحرية التي أخذها شكسبير في تناوُل موضوعاتٍ حسَّاسة من الناحية السياسية، وكذلك مدى الحرص الذي استلزم الأمر أيضًا منه مُمارسته إن كان يُريد أن تُكتَب له النجاة كإنسان وككاتبٍ مسرحي في إنجلترا في حِقبة أوائل العصر الحديث.

هنري الرابع (الجزء الأول)

على الرغم من أنه من المُفترَض أنَّ مسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)» تدور بكاملها في الفترة ما بين عامَي ١٤٠٢ و١٤٠٣، فإنه يُمكن تمييز أنَّ قدْرًا كبيرًا من المسرحية يقع في لندن الشكسبيرية. تختصُّ أجزاء المسرحية، التي تتَّسِم بنكهةِ حِقبة أوائل العصر الحديث أكثر من حِقبة العصور الوسطى، برُوَّاد حانةٍ يُمكن تمييز أنها تنتمي إلى العصر الإليزابيثي، تلك التي تقَع فيما كان في الماضي، في لندن الشكسبيرية، شارع السوق الرئيسي الذي يُعرَف بشارع إيست تشِيِب. يتردَّد على الحانة أمير ويلز، هال الأرعن، الذي تبدو حياة الانغماس في الملذَّات التي يحياها غيرَ مُناسبةٍ لوضعه باعتباره وريثًا للعرش. تتنقل المسرحية ما بين السياسة العُليا للطبقة الأرستقراطية في العصور الوسطى المعروضة في صورة شعرٍ مُرسَل إلى مسألةٍ أقلَّ تقليديةً كثيرًا بالنسبة لمسرحيةٍ تاريخية، وأعني بذلك شواغل الشخصيات العادية والعديمة القيمة (والتي تُعَد موضوعات المسرحيات الكوميدية عادةً) المُجسَّد كلامها في لغة النثر اليومية. إن مسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)» مَبنيةٌ بنحوٍ أساسي على المزج الشامل وعلى التبدُّل في عنصر الزمن. لم يكن العامل الأخير، مع ذلك، لِيصدم جماهير الحِقبة الإليزابيثية كونه ينطوي على مُفارقةٍ تاريخية لا تُغتَفَر، بل قد يُعزى إليه شُهرة المسرحية. لقد طُبِعَت المسرحية، التي من المُحتمل أن تكون قد كُتِبَت سنة ١٥٩٦، مرتَين في قَطْع الرُّبْع سنة ١٥٩٨، وقبل ظهورها في «المطوية الأولى»، كانت قد ظَهرَت فيما لا يقلُّ عن خمس طبعاتٍ أخرى من قَطْع الرُّبْع.

المسرحية مُتفرِّدة بين مسرحيات شكسبير التاريخية العشرة، ومُختلفة اختلافًا واضحًا عن مسرحيتَي «ريتشارد الثاني» و«هنري الخامس» بتركيزهما الأكثر تدقيقًا على الملك باعتباره بطل المسرحية. إنها تُشبِهُ مسرحيات شكسبير التاريخية الأولى، الأجزاء الثلاثة من مسرحية «هنري الخامس»، من ناحية أنها تدور حول «حُكم» هنري الرابع وليس هنري نفسه؛ بعبارةٍ أخرى، إنَّ تركيز مسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)» مُنصَبٌّ على الكيفية التي كانت تُمارَس بها السلطة، وكيف حدث تنازُع عليها وكيف انتَقلَت. ومع ذلك، تختلف المسرحية اختلافًا ملحوظًا عن البنية الحَلَقية لمسرحيات «هنري السادس». بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ تضخيمها الدرامي لشخصياتٍ أخرى غير الملك — وبخاصة الأمير هال ورفيقه في الشُّرب ذي البطن المُترهِّلة، الأرستقراطي الذي يتحوَّل إلى لص، السير جون فولستاف — لَهو أَمرٌ مُتفرِّد. لا تزال المسرحية تتناول الموضوعات التاريخية التقليدية: السُّلطة والحكم، التمرُّد والخيانة، إلى جانب المعارك التي تُقدِّم حلَّ الصراع، على الأقل حتى التحدِّي التالي للوضع الراهن. ومن ناحيةٍ هامة، عند تناوُل أحداثٍ تاريخية، يُوجَد دومًا احتمالية لتَتِمَّة، وبالطبع، فإن مسرحية «هنري الرابع» لها جزءٌ ثانٍ، رغم أنه ليس من الواضح على الإطلاق مسألة ما إذا كان شكسبير قد فَكَّر في المسرحية باعتبارها جزءًا أَوَّل أثناء كتابته لها.7 تُهيمن التساؤلات حول الخلافة الشرعية، وكيفيَّة التمسُّك بالسلطة حالما تحصُل عليها، على السياسة العُليا للمسرحية. إلَّا أن شكسبير يسمح لهذه الديناميكيات أن تستغرِق الانتباه وسط تناغماتٍ مُتعدِّدة من مُرتادي الحانة إلى المُتنافسِين مع الملك على السيطرة في أجزاءٍ أُخرى من البلاد: في الشمال، هنري برسي حاد الطبع المُلقَّب بهوتسبر، ابن إيرل نورثمبرلند؛ وفي ويلز، أوين جلنداور؛ وإدوارد مورتيمر، إيرل مارش، الذي يأتي من الحدود، في أقصى الشمال الغربي للبلاد.
اعتمد شكسبير على مصادرَ تاريخية بعينها لِسبر أغوار العمليات المُتعلقة بمقاليد الحكم من خلال المُحدِّدات الاجتماعية والجغرافية لإنجلترا. وكان أهم هذه المصادر مصدره التأريخي الرئيسي، كتاب رافايل هولينشد «تاريخ إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا» (الطبعة الثانية، ١٥٨٧)، مع أنه أخذ دلائل فيما يتعلق بكيفية تمييز هال وهوتسبر باعتبارهما منافسَين قويَّين من نفس العمر (وهو ما لم يكونا عليه من الناحية التاريخية) من عمل صامويل دانيل الشعري المُسمَّى «الحروب الأهلية بين عائلتَي لانكستر ويورك» (١٥٩٥). بالإضافة إلى ذلك، من الواضح أنَّ شكسبير اطَّلَع على أعمالٍ شهيرة عن تَحوُّل هال المُنغمِس في الملذَّات إلى الملك العظيم والمُظفَّر، هنري الخامس، وبخاصة مسرحيةٌ مجهولة المُؤلِّف من ثمانينيَّات القرن السادس عشر تحمل عنوان «الانتصارات الشهيرة لهنري الخامس». ومن الواضح أيضًا تأثير كتاب ميكيافيلِّي «الأمير» (الذي طُبع سنة ١٥٣٢) على كلٍّ من استراتيجية هال المُتوخَّاة بعناية للوصول إلى السلطة وبراجماتيةِ مُنافسِه هوتسبر التي لا تلين في مواجهة القوى الخفية لشريكه في التآمُر جلنداور (الذي يزعم أنَّ لديه القدرة على استحضار الشياطين).8 بيْد أن شكسبير، في مسرحيته التاريخية هذه، مضى أبعد من ذلك؛ إذ أزال القوالب التقليدية لما يُعرَف بتراجيديا سقوط العظماء، والقالب الذي كان يعزو وقائع التاريخ الإنساني إلى مخطَّط الربِّ الكبير الذي غالبًا ما تكون تدابيره عقابية. وعلى أي حالٍ كانت المُعالجة التقليدية لسقوط رجالٍ عُظماء لا تتلاءم مع المواد الأدبية والتاريخية المُتاحة عن ظهور ملكٍ عظيم، ووظَّف، عوضًا عن ذلك، بنيةً سببية تخيُّلية أكثر حرية. إنَّ تقديمه الأدبي مُفعَم بضروبٍ من الصور، وسلاسل الأنساب، والمنظورات الزمنية — إذ يستحيل الماضي حاضرًا بطرقٍ تتجاهل التسلسُل الزمني الخطِّي — التي تنتمي إلى الميثولوجيا الأوفيدية، أو إلى ما أشار إليه أوفيد في كتابه العظيم عن موضوع التغيير، «التحوُّلات»، بوصف «سجلات العالم … الأبدية.»9 إن كتاب «التحوُّلات»، قصيدة شكسبير المُفضَّلة، هو أيضًا «نوع من التاريخ» (مسرحية «ترويض النمرة»، المقدمة، المشهد الثاني، السطر ١٣٥)؛ فهو كتابٌ يقيس ذروة تسلسُلات الأحداث في إطار حياةٍ ما وعبر أجيالٍ ومن ثَمَّ يتطلع إلى الأمام نحو المستقبل بقَدْر ما ينظر إلى الوراء مُتأملًا الماضي.10 ورغم أن ألاعيب فولستاف الكوميدية قد تُمثِّل تهديدًا بسرقة الأضواء، فنقطة ارتكاز أحداث المسرحية ومركزها هي تحوُّل هال من شابٍّ سفيه إلى أميرٍ جليل ينقذ والده، ويقهر المُتمرِّدِين، والأَهَم، بقيامه بذلك، يمنع أزمةَ خلافةٍ محتملة.11 إن هذه مسرحية تدور، في المقام الأول، حول التحوُّل.

•••

تبدأ أحداث المسرحية بالملك هنري الرابع وهو يُعرِب عن أعباء المُلك في بيتٍ شعري من الوزن الإيامبي الخماسي التفاعيل الموزون بإتقان: «كم زلزلَتنا المحن، وأوهنَتنا الهموم» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ١) [ترجمة مصطفى طه حبيب، وهي الترجمة التي اعتمدْنا عليها على نحوٍ أساسي في ترجمة الاقتباسات من المسرحية في هذا القسم، وإن كان ببعض التصرُّف اليسير في بعض المواضع]؛ ففي أعقاب الحرب الأهلية، يأمل في الوقت الحالي أن يُؤمِّن مركزه تأمينًا استراتيجيًّا، حتى «تُشغَل العقول الهوجاء بصراعاتٍ خارجية» (مسرحية «هنري الرابع (الجزء الثاني)»، الفصل الرابع، المشهد الخامس، السطران ٢١٦-٢١٧)،12 على حدِّ تعبيره في الجزء الثاني، بإرسال جيشٍ للانضمام إلى الحملات الصليبية. يدفع هذا العزم أيضًا إحساسه بالذنب المُتعلق باغتصابه للعرش من سلَفه، ريتشارد الثاني. ما يُعاني منه هنري هو انعدام الأمن لدى مُغتصِب السلطة؛ فدومًا ما كانت يدُ العناية الإلهية، حسب هذه الطريقة في التعامُل مع الأحداث التاريخية، مُتأهِّبةً للقضاء على أولئك الذين يُزيحون الملوك المختارِين من الرب عن عروشهم؛ لهذا، وعلى الرغم من أنَّ هنري نفسه حينئذٍ هو ملكٌ مُختار، يظلُّ الضَّعف مُتأصلًا في ولايته كملك. بيْد أنَّ هذا الاستيلاء على السلطة لا يُنظَر إليه من منظور اعتقاد التدبير الإلهي الذي يؤمن به هنري فحسْب وإنما أيضًا من منظورٍ رمزي، وبخاصةٍ في أسلوب هوتسبر، على أنه تحوُّل. التحوُّل، في هذا السياق، هو شكل من أشكال الانتكاس؛ فهو انحطاط المُلك من المَلِك الشرعي ريتشارد الثاني، «تلك الوردة الحلوة الجميلة»، التي «سُحِقَت» لا لشيء إلا «ليُزْرَع مكانها هذا الحَسَك، هذا النَّبْت الشيطاني، المدعو بولينجبروك» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ١٣٧). يدُلُّ إلحاح هوتسبر المُتكرِّر على ذكر هُوية الملك السابقة واصفًا إياه بأنه «هذا الناكر للجميل والنَّبْت الشيطاني بولينجبروك» (الفصل الأول، المشهد الثالث)، على رفضه الاعتراف بشرعية حُكم هنري.

يقضي الضغط الفوري لهذه الأحداث على أيِّ آمالٍ ربما كانت تحدو هنري بشأن تسكين غضب الذات الإلهية على اغتصابِه للسُّلطة عن طريق حملةٍ صليبية. وفي حين ظفِر هاري برسي بنصرٍ على الاسكتلنديِّين عند هولمدون، في ويلز، يُهزَم الإنجليز بقيادة إدموند مورتيمر من قِبل «القبضة الخشنة» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٤١) لأوين جلنداور، الذي أخذ مورتيمر أسيرًا. تزوَّج مورتيمر، أثناء أَسْره، من ابنة جلنداور؛ وبالتالي فإنه، حسب زعم هنري، قد خان القُوَّات التي قُتِلَت في الصراع: «ألف من رجاله ذُبِحوا» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٤٢)؛ لِذَلِكَ يرفض الملك أن يفتدي مورتيمر من جلنداور. يغضب هوتسبر من الحالة التي عليها الأمور، ويظل يرفض بعنادٍ أن يُسَلِّم إلى هنري الأَسرى الذين تقاعَس في السابق عن تسليمهم إليه لأنهم طُلِبوا منه أَوَّل مرة بواسطة «ببغاءٍ ثرثار» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٥٠) من الحاشية على أرض المعركة. إنَّ هوتسبر الآن يُعارِض حُكم الملك ويَتمرَّد عليه، برُفقة والده، إيرل نورثمبرلند، وعمه. ومن المُفارَقات أنَّ المُتآمرِين الذين ساعدوا هنري على الاستيلاء على التاج يُنافِسونه الآن عليه ويُشكِّلون تحالُفاتٍ مع أعداء إنجلترا السابقِين، الاسكتلنديِّين والأيرلنديِّين. ينضمُّ هوتسبر، المحارب، السريع الغضب، الشديد البأس، والزوج المُخْلِص، إلى الإيرل الاسكُتلندي، دوجلاس، بينما يتحالف مورتيمر مع الويلزيِّين المُناهِضين لحُكم هنري من خلال زواجه من ابنة أوين جلنداور.

ومن ضِمن متاعِب الملك، وليُّ عهده، الأمير هال؛ فهو شخصٌ مُبذِّر يعتقد والده أنه قد يكون «نِقْمة وابتلاء» من قِبل العناية الإلهية (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ٧) خرج من صُلبه ليدفع ثمن تجاوُزاته السالفة:
إن سلوككَ في أطوارِ حياتكَ
يحمِلني على الاعتقاد بأن العناية قد اختارَتكَ
لِتكون آلةَ الانتقام الرهيب والسيف المُصلَت على رأسي
للتكفير عن آثامي.
(الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأسطر ٨–١١)
إن قول هنري هو تنويع على الفكرة القائلة بأن آثام الآباء قد تُعاقَب عليها أجيالٌ مُتعاقبة؛ وهي فكرة اسْتُخْدِمَت من دون شكٍّ لتفسير عهد حفيده هنري السادس المشئوم. بيْد أنَّ الكتاب المُقدَّس اشتمل على أقوالٍ مُتناقِضة فيما يختصُّ بهذه النقطة: «أنا الربُّ إلهك إلهٌ غَيور، أفْتقِد ذنوب الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يُبغِضونني» (سفر الخروج، الإصحاح ٢٠، الآية ٥). يتَّضِح من الآية السابقة أن انتقام الربِّ يُمكن أن يستمرَّ عَبْر فترةٍ تاريخية طويلة نوعًا ما. على النقيض، يؤكِّد العهد القديم بَعدَ ذلك أن «الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن. بِرُّ البارِّ عليه يكون، وشَر الشرِّير عليه يكون» (سفر حزقيال، الإصحاح ١٨، الآية ٢٠). ومع ذلك نجِد من كلام هنري أن الأمير هو بمنزلة سوط تهذيبِ الربِّ المُسلَّط على هنري نفسه. وهذه الأفكار مُهِمَّة لأنها تُدلِّل على المشكلة الرئيسية المُتمثِّلة في الخلافة؛ نقطة الانتقال، التي عندها كانت السلطة في أعلى مستويات ضَعفها. في الكتاب العاشر من قصيدة «التحوُّلات»، نجد أن الخلافة تُوصف بأنها تراكُم مآثِرَ مجيدةٍ عبر أجيال الأبطال الكلاسيكيِّين، مُختتِمًا بمثال تفوُّق جوف (جوبيتر) على أبيه، ساتورن. وبالنظر إلى أنه طَوالَ كتب القصيدة السابقة أُظهِر جوف في صورة مُغتصبٍ مُتسلسِل وشخصٍ يُسيء استعمال السلطة، فقد يُخامرنا الشك في وجود جرعةٍ كبيرة من السخرية السياسية الأوفيدية بشأن النظام الحالي للإمبراطور أوغسطس في هذه الرواية المثالية عن السَّليل المُنحدِر من الأب:
هكذا سلم مجد أتريوس بمجد أجاممنون،
وهكذا تغلَّب تيزيوس على إيجيوس، وآخيل على بيليوس.
هكذا، أخيرًا، يتفوَّق جوبيتر على ساتورن،
ويحكُم جوبيتر أَعالي الأَثير
وممالك العالم الثلاث.
أمَّا الأرض، فخاضِعةٌ لأوغسطس،
وكلاهما أبٌ لمملكتِه وسيِّدٌ عليها.
(«التحولات»، الكتاب العاشر، الأبيات ١٠٧٦–١٠٨٢)13 [ترجمة المجمع الثقافي السوري، بتصرف]

وهكذا عرف شكسبير من سلَفِه الرُّوماني كيف يُمكن أن يكون النَّسَب الأبوي شيئًا أساسيًّا في مفهوم التحوُّل نفسه وكذلك في السياسة المُتعلقة به. وفي التحوُّل النهائي لهال إلى هنري الخامس يتبع شكسبير هذا المسار الأوفيدي من الناحية التاريخية وكذلك الأدبية.

ومع ذلك، مثلما هو الأمر في انتقاد أوفيد للسلطة في سلسلة النَّسَب هذه، يُفسِح شكسبير دومًا بعض المجال للتشكُّك بشأن السلطة نفسها في خلقِه لبطله المُحارب؛ لذلك فإن تحوُّل هال هو، في نهاية الأمر، أكثر من مُجرَّد تمجيدٍ مُبالَغ فيه أو سيرةٍ تقديسية — حكايةٌ مُتوقَّعة عن الخطيئة والخلاص — ويرجع هذا لطبيعة التحوُّل نفسه التي توارَثَها شكسبير من أوفيد. في مسرحية «هنري الرابع (الجزء الثاني)»، يتماهى الأمير مع جوف في قصة اغتصاب أوروبا الواردة في الكتاب الثاني من قصيدة «التحوُّلات». في هذا الصدد، نجد جوف يستدرج أوروبا بتحويل نفسه إلى ثور. ولا يكشف عن طبيعته الإلهية إلَّا بعدما أغراها بالركوب على ظهره إلى داخل المُحيط واختطفها إلى جزيرة كريت: «أأنحَطُّ من إلهٍ إلى ثور؟ يا له من انحطاطٍ ثقيل! لقد فعلها جوبيتر من قبلُ. وأنا سأنزل من أميرٍ إلى مُستجدٍ، فيا له من تحوُّلٍ حقير؛ هذا الذي سأفعله» (مسرحية «هنري الرابع (الجزء الثاني)»، الفصل الثاني، المشهد الثاني، الأسطر ١٦٥–١٦٧)! في هذا الإجمال لسردِه الأسطوري، الخطوة الأُولى هي التحدُّر، «انحطاطٌ ثقيل». نمط التحدُّر الإلهي هذا الذي يسبِق المجد هو النمط المُشترك بين هذا النموذج الأوفيدي وبين الإيمان المسيحي بالآخرة؛ إذ إنَّ الشرط المُسبَق الخاص بقيامة المُخَلِّص وصعوده إلى المجد هو التجسُّد — أي المجيء إلى الأرض، واتِّخاذ جسد — وإخفاء الهُوية الإلهية بالهيئة البشرية، وتحديدًا في الظروف المُتواضِعة للإِسْطَبْل ببيت لحم. هذا هو المسار الأُسطوري الذي يتَّبِعه هال، وهو المسار الذي لا يستطيع هنري استيعابه، وهو ينظر إلى صورة شبابه (وهو أَمرٌ مُناسب تمامًا كونه غاصبًا للسلطة) في هوتسبر: «وأمَّا موقف برسي الآن فهو أشبَهُ بمَوقفي حينئذ» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ٩٦).

في حين يُحيط تَصوُّرا تعاقب الأجيال المسيحي والأسطوري بالعلاقة بين الأب والابن في المسرحية، فلا يزال واقِع الحال يتمثَّل — من وجهةِ نظرٍ عملية بحتة — في أن الخلافة الملكية اعتَمدَت على الانتقال الآمِن للسُّلطة بين الأب والابن. كان ولاة العهد القُصَّر مثل هنري السادس، على سبيل المثال، دومًا ضُعفاءَ وعُرضةً للخطر من قِبَل أولئك الذين كانوا يحكُمون حتى بلوغهم سنَّ الرُّشد. ومع ذلك فإنَّ هنري الرابع في واقع الأمر يخشى أن يكون ابنه غيرَ قادر على تولِّي زمام المُلك. هذا تقييمٌ يتَّفِق معه هوتسبر باستهزاء: «هذا الأفَّاق القاطع الطريق أمير ويلز» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٢٢٩). إن التنافُس بين النظيرَين الذي يخلُقه شكسبير بين هذَين الاثنَين يُظهِر بجلاءٍ شديدٍ مدى ميل شكسبير كمؤلفٍ مسرحي إلى البنية السردية للأسطورة وهو الذي جعله يُعدِّل حقيقةً تاريخية لِتُلائم أغراضه الدرامية. عندما يُشير إيرل ويستمورلند بوضوحٍ إلى أنَّ إخضاع هوتسبر لدوجلاس «لَغُنمٌ يحقُّ لأميرٍ أن يُباهي به ويفخر» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٧٦)، يتكلم هنري بتحسُّر عن أُبوَّته ويَتخيَّل كونه «الأب لابنٍ مبارك» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٧٩)، مثل هوتسبر، الذي «يلهَجُ المجد بذكره» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٨٠)، بدلًا من نجله الفاجر، الذي يبدو وكأنَّ أحدًا أبدَله مكان هاري برسي الشاب الشجاع عند ميلاده:
إني لأَقرأ آياتِ حمده بينما أنظر
لأرى ابني هاري الشاب وقد تلطَّخَت صفحته بالشِّقوة والعار.
أواه! ليتَهُ كان في الإمكان أن نُثبِت
أن جِنيَّةً من خاطراتِ الليل قد استبدَلَت
ابنه بابني وهما في قِماط الطفولة حيث يرقُدان،
وسمَّت فتاي برسي وابنه بلانتاجينيت!
إذن لأخذتُ ابنه هاري ولأعطيته ابني.
(الفصل الأول، المشهد الأول، الأسطر ٨٣–٨٩)

في حقيقة الأمر من الناحية التاريخية، كما سبق أن أشرْنا، لم يقترب أبدًا مهدا الأمير وهوتسبر بعضهما من بعض؛ فهنري برسي كان أكبر من هنري الرابع. بيْد أن هذا الارتباط — السابق ذكره في المسرحية — بين الطفلَين اللذَين لديهما نفس الاسم واللذَين يبدو، في تخيُّل هنري القائم على التمنِّي، أنهما يتشاركان نفس المهد كالتوءمَين، لهو صورةٌ لِهُوية مُغيَّرة، ومُبدَّلة. هذه الصورة هي بمنزلة تحضيرٍ لاستيلاء هال على «الصنائع المجيدة» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ١٤٦) لمُنافسِه في المعركة الأخيرة في شروزبري.

تنسجِم هذا الأسطورة المُوجَزة عن الهُوية المُبَدَّلة أيضًا مع التحوُّل الذي يُشعِل جذوة أحداث المسرحية، وتحديدًا خطَّة هال لاستعادة سُمعته. تبُوح مُناجاته لنفسه في نهاية المشهد الثاني من الفصل الأول بأنَّ حياته الماجِنة كانت مُجرَّد خطةٍ كي يكون مُذهلًا عندما يكشف عن نفسه بمسلكٍ صادق، وملكي. وهو في هذا يستنهض التحوُّل الذي يُشكِّل الحدَث الرئيسي بالمسرحية:
إني لأعرفكم جميعًا، وسأسكُت فترةً ما على هواكم الجامح، ونزواتكم الشقيَّة التي هي وحي الفراغ والدَّعَة.
ولكنِّي بسكوتي هذا أُقلِّد في صنيعي الشمس،
التي تسمح للسحاب الوضيع الضارِّ
أن يحجُب جمالها عن الوجود،
حتى إذا ما بدا لها أن تستعيد ضياءها،
وكلَّما أحسَّت بحاجة الناس إليها، زاد إعجاب الناس بها.
(الفصل الأول، المشهد الثاني، الأسطر ١٤٨–١٥٥)
ومثل جوف في قصيدة «التحوُّلات»، لا يُصيب التغيُّر الأمير؛ وإنما هو يُحدِّد اللحظة «التي فيها أخلع عن نفسي هذا المَسلَك الماجن» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ١٦١)، عندما ينبذ تخفِّيه، وإن مكره فيما يتعلق بممارسة إرادته الملكية هو الذي يُميِّزه كمُخطِّطٍ حربي بارع وملكٍ مُستقبلي عظيم:
وبهذا أُخيِّب ظنَّ الناس فيَّ،
وهكذا يحجُب ضياء صلاحي الباهر ظِلَّ خطيئتي؛
كالمعدِن النفيس البرَّاق يزيده لمعانًا وإشعاعًا وجوده على أرضٍ داكنة.
وهكذا تبدو صنائعي أكثرَ جمالًا وأقوى جاذبيةً للعيون
من الصنائع التي لا إثم لها يُجلِّيها.
ولأقترفنَّ الخطيئة بحيث أجعل من الذنب حِذقًا ومهارة،
ثم أعود عن ذلك في وقتٍ لا يكاد الناس فيه يُصدِّقون أني فاعل.
(الفصل الأول، المشهد الثاني، الأسطر ١٦٤–١٧٠)

تُظهِر المُناجاة الذاتية هذه أنَّ هال يتمتَّع بذكاءٍ استقرائي للذات يفتقر إليه مُنافِسه؛ فهوتسبر عازم على الدوام على الفعل وليس لديه وقتٌ للتأمُّل ولا للاستراتيجيات المُعدَّة بعناية. تُلخِّص هذه المُناجاة موضوعَين أوفيديَّين بالأساس: تَدَخُّل القدير في حياة الفانين الأبرياء، والتحوُّل وتغيُّر الهيئة الذي هو من اختصاص جوف. تعتمِد على هذا الحديث الصِّلةُ بين عالم السياسة العُليا وعالم الحانة، ويُشكِّل شكسبير الصِّلة بطريقةٍ تُدين بالفضل في صياغتها إلى التحوُّلات الأوفيدية؛ فمِثل سلطان جوف على البشر الفانين الأدنى، يتَّسِم سلطان هال على نحوٍ مُشابه بأنه مشكوك فيه أخلاقيًّا. ورغم ذلك، وخلافًا لسَلَفه الأسطوري، فإنَّ هال ليس مُعتديًا جنسيًّا، إلا أنه من المُحتمَل أن يكون بنفس القَدْر من الشر. وفي حين أن تشبيه المُلك بالشمس هو أَمرٌ معهود، فإن هذا الوصف لرفاقه الحاليِّين — الذين يبدو هنا أنهم لا يُقدِّمون شيئًا أكثر من ستارٍ مناسب — قد حيَّر لأمدٍ طويل النقاد؛ فهذه المُناجاة هي بلا ريبٍ مُقدِّمة للنَّبذ القاسي من قِبَل الأمير لرفاقه، وبخاصةٍ فولستاف، الذي تبرَّأ منه علانيةً في مسرحية «هنري الرابع (الجزء الثاني)»، وهو تبرؤٌ يُودِي بحياة رفيقه السابق البدين، كما نعرف من مسرحية «هنري الخامس».

فولستاف : أبقِه في صُحبة هاري ابنك؛ إنكَ إن تُنَحِّ جاك البدين، فكأنما نحَّيتَ الدُّنيا جميعًا.
الأمير : لأَفعلنَّ ذلك.
(الفصل الثاني، المشهد الرابع، الأسطر ٣٨٠–٣٨٣)

هذه لحظة تَبعَث على القلق لدى المُشاهدِين والقُراء الذين ربما يُفضِّلون، في هذه المرحلة في المسرحية، أن يرَوا الأمير هال على أنه «الفتى الجميل» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ١٩)، و«الأمير الشاب الجميل الشقي» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ٦٢)، كما يدعوه فولستاف على نحوٍ مُحبَّب، أكثر من كونه شخصًا ميكيافيلِّيًّا ماكرًا. يُمكن أيضًا النظر إلى هال، على نحوٍ ألطف، على أنه مُمثلٌ قادر على القيام بأدوارٍ مُتعدِّدة. هذا جزئيًّا ما يجعل هال مختلفًا عن هوتسبر؛ فالأخير مُلتزمٌ بهويةٍ واحدة ثابتة لدرجة أنها تصير صورةً كاريكاتورية ساخرة، حسبما يرى غريمه: «هوتسبر الشمالي الذي يقتل ستِّين أو سبعين من الاسكتلنديِّين على الفطور، ثم يغسِل يدَيه، ويقول لزوجته: «تبًّا لهذه الحياة الهادئة! أريد أن أعمل شيئًا ما»» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، الأسطر ٨٤–٨٨).

إن هوتسبر الذي يُوصف بأنه «ثائرٌ صنديد» (الفصل الخامس، المشهد الرابع، السطر ٦٢)، محاربٌ عظيم لا يستطيع التملُّص من دَوره ولا يُدرِك حتى إنه يلعب دورًا. في المُقابل، عندما يُستدعى هال للمُثول بين يدَي والده، نجده يتدرَّب مع فولستاف على دَوره في المُقابلة. إن هذا مَشهدٌ مُدهش لأن العروض المسرحية الخاصة بالهُواة كانت تجري أحيانًا في حانات العصر الإليزابيثي، وبالفعل كانت بعض الحانات بمنزلةِ مسارحَ حتى أواخر القرن السادس عشر.14 هذه الواقعة تُبدِّد الغُموض الذي يكتنِف أمور السياسة العُليا وكذلك تُعِيدها إلى أرض الواقع، واضعةً إيَّاها في صلةٍ مُذهلة مع اللحظة الإليزابيثية الحاضرة التي كانت تُؤدَّى فيها المسرحية أصلًا.
هذا القرار، الذي أَعلَنه في مُناجاته مع نفسه، بأن يتخلَّص من دوره الحالي وأن يتنكَّر لفولستاف يُمثِّل لحظة التحوُّل المصيرية من هال الماجن إلى الأمير هاري الجسور الذي سوف يُدافِع عن عرْش والده في مواجهة المُتمرِّدِين. هذا هو عزم شخصٍ يعرِف أن بمقدوره تغيير مجرى التاريخ. ومع ذلك، فهذه ليست الإرادة التي تُطبَّق بغرَض كبْح أو تهذيب النفس لأنَّ غرضه هو التحوُّل الذاتي، وليس مُجرَّد الاهتداء إلى سبيل الفضيلة. الأمر الأخير هو في الواقع الكيفية التي يبدو عليها الأمر لأولئك المُتفرِّجِين الذين يعتزِم الأمير إبهارهم.15 وفيما يتعلَّق بهذا الشأن يُوجَد تناقُضٌ واضح مع فولستاف، الذي في وقتٍ سابق من المشهد قطع بصورةٍ ضاحكة على نفسه عهدًا بإصلاحها. في هذا السياق ينعطف عهده تحديدًا نحو تصوُّراتٍ دينية مُتعلِّقة بالتوبة عندما يُقِر بأنه «لا بُدَّ لي أن أكُفَّ عن هذه الحياة، ولسوف أكُفُّ عنها …» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٧٣-٧٤). لاحقًا، نجده يتَّخِذ قِناع الخطيب البيوريتاني الورِع، مُردِّدًا صدى كلام القديس بولس (الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح ٤، الآية ٢٠) ليدَّعي أن سرقة أكياس النقود «مِهنتي يا هال، وليس آثمًا من يعمل في مهنته» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٨١-٨٢)؛ ومن ثَمَّ، يتعيَّن أن نفترض أنَّ انصلاحه المُدَّعى ليس جِدِّيًّا. وأيًّا كان الأمر، من الواضح أنه بينما يُحقِّق هال التحوُّل، يتعهد فولستاف بإصلاح نفسه على نحوٍ قد يعود إلى أن شكسبير في البداية سمَّى شخصية فولستاف باسم السير جون أولدكاسيل، حتى إنَّ هال يُشير إليه بقوله «أيها العجوز العربيد (أولدكاسيل)» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ٣٤)، وهي تسميةٌ يبدو أنها بقيةٌ من الوضع السابق هذا. كان أولدكاسيل التاريخي، الذي صار فيما بعدُ اللورد كوبهام، لولارديًّا؛ أي كان منشقًّا دينيًّا ما قبل بروتستانتيٍّ أُحرِق باعتباره مُهرطقًا سنة ١٤١٧. اضطُرَّ شكسبير لتغيير الاسم، من المُحتمَل أن يكون ذلك لأن أحفاد كوبهام اعترضوا أو بسبب اعتراضٍ بروتستانتي أوسعَ على عمل مشهدٍ كوميدي لشخص مات شهيدًا.

أيًّا كان من هذَين السيناريوهَين هو الحال، فإنَّ فولستاف هو بلا شكٍّ أكثفُ غيمةٍ تحجُب إشراق هال؛ ففي أثناء الحادثة التي تجري عند تلَّة جادزهل — عندما يسرق فولستاف، وباردولف، وبيتو الحُجَّاج المُسافرِين على الطريق، وما يكادون يفعلون هذا حتى يأخُذ هال وبوان منهم مَغانمهم — يُعلِّق هال قائلًا: «العرَق يسيل من فولستاف بغزارة، حتى إنه يُبلِّل الأرض الجدْباء وهو يسير على طول الطريق» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، السطران ٨٩-٩٠). بعد الفِرار، يُعيد فولستاف على نحوٍ مُتوقَّع صياغة الأحداث بتعبيراتٍ مُبالَغ فيها مُبالغةً صارِخة حتى يُصبِح هو بطل الساعة: «إلا أكن قد قاتلتُ خمسين رجلًا منهم، فما أنا إلَّا هزيلٌ كعودٍ من الفجل» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، السطران ١٥١-١٥٢). في الوقت نفسه، يتَّهِم هال وبوان بالهروب بجُبن. وعندما يُضيَّق عليه الخِناق بكذبه، يدَّعي أنه أدرك أنَّ هال «أميرٌ حقيقي» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، السطر ٢١٥)؛ ولذلك لم يُقاتله على الأسلاب. قد يكون جسد فولستاف بطيئًا وبدينًا، ولكن بديهته حاضرةٌ بما يكفي لِيُعِدَّ حكايةً جديدة لِتُلائم الظرف المُتغيِّر. في الحانة، هذه الأكاذيب لا ضَير منها ومُسلِّية، ولكن في ساحة القتال تُصبِح مُثيرةً لقلقٍ بالغ؛ فبعد أن يُقتَل برسي على يد الأمير، يُدنِّس فولستاف الجثة حتى يَنسِب الشرف لنفسه. ومع ذلك فإنَّ الأَمرَ الأَكثرَ فظاعة من كذبه الشائن، هو استخدامه لمرتبتِهِ لحشْد قُواتٍ كفُرصة للتربُّح. يتشكَّل رجاله فقط من أولئكَ الذين يعيشون في أكثر الظروف بُؤسًا وفي أسوأ حالةٍ صحية الذين لا يجدون مالًا يُعينهم على الهروب. مع ذلك، وكما يُشير هو بوضوحٍ شديد، بفطنةٍ تهكُّمية باردة رغم كونها هدَّامة، هم سوف يُؤدُّون الخدمة تمامًا مثل من هُم أعلى منهم مقامًا باعتبارهم «طعمةً سائغة للبارود، ووقودًا طيِّبًا لنيرانه» (الفصل الرابع، المشهد الثاني، السطران ٤٩-٥٠). الأمر المُقلِق هنا هو أنه، على ما يبدو دونما وَخزٍ من ضمير، قد قاد هؤلاء الرجالَ مباشرةً نحوَ حتفهم: «لقد قدتُ رجالي المُهلهَلِين إلى حيث لقُوا حتفهم» (الفصل الخامس، المشهد الثالث، السطران ٣٤-٣٥).

يَتعيَّن على الأمير، على الأقل، أن يحصُل على ولاء فولستاف غير المشروط. ومع ذلك فمن الواضح على حدِّ تصوير المسرحية أنه لا يفعل. عوضًا عن ذلك، فإنه، بهُويته المُصوَّرة على نحوٍ أسطوري باعتباره لصًّا، تابعٌ للقمر وليس للشمس، التي هي رمز المُلْك: «نحن الذين نسرِق الأكياس نهتدي بالقمر والنجوم السبعة، وليس بفيبوس …» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ١٠-١١). وفي حين أنه ليس في الحقيقة مُتمرِّدًا، فهو ليس على اتِّساقٍ كامل مع جماعة الأمير، كما تكشف خطبته الخيالية عن يوتوبيا لِقُطَّاع الطرق في إنجلترا عندما يعتلي هال العرش:

عندما تُصبح ملكًا، لا تدَعْ أحدًا يُلقِّبنا، نحن جماعةَ الليل، بالمُتسكِّعِين المُفسدِين بهجة النهار، السارقين جماله، بل لنَكُن حاشية ديانا الصائدة، سادة الليل وعُشَّاق القمر؛ ودَع الناس يقولون عنَّا إنَّنا رجالٌ حسنو السلوك، فنحن كالبحر تحكُمنا سيِّدتُنا النبيلة العِفَّة إلهة القمر، وفي ظلِّها نعمل وتحت وجهها نسرق.

(الفصل الأول، المشهد الثاني، الأسطر ١٩–٢٤)
وكون أن ديانا بصِفتها إلهة الصيد والقمر العذراء كانت أيضًا كِيانًا يُمثل إليزابيث الأولى، فإن المعاني المُتضمَّنة هنا قد تتَّسِم بالخطورة. فضلًا عن ذلك فإن دراية فولستاف بما يُسمَّى «جماعة الليل» تُوحي على أقل تقديرٍ بنحوٍ من أشكال التعدِّي وتُوحي على أسوأ التقديرات بالاستباحة والانتهاك.16 كذلك، فإن كلَّ نسيجٍ في جسم فولستاف الضخم لَهو، كما يعلم هال جيدًا، مُعَادٍ «للسلوك الحسن». إن فولستاف، بالطبع، ليس مثل المُتمرِّدِين في رغبتهم في القضاء على النظام القائم لا لشيء إلَّا لوضْع أنفسهم (أو على الأقل مورتيمر الذي كان يُطالِب بحقِّه في العرش) مكانه؛ فمن شأن مِثل تلك التطلُّعات أن تتطلَّب طموحًا وجهدًا أكثر ممَّا يملك. مع ذلك، فهو مُشترِك معهم بقَدْر ما يُعرِب أيضًا هوتسبر — «أن نُسفِر عن العداء للملك ونحشد جيشًا ضدَّ مملكته … سوف نقلِبُها رأسًا على عقِب» (الفصل الرابع، المشهد الأول، السطران ٨١-٨٢). يرجع هذا إلى أنَّ فولستاف هو شخصٌ مُعبِّر عن الفوضى ذات الطابع الكرنفالي المُصاحِبة للجسد ومَلذَّاته التي تُلبَّى في الحانة وبيت الدعارة. إنَّ الصورة الرائجة للفوضى الاحتفالية المُباحة، وبالتالي المؤقَّتة، كانت هي صورة العالم المقلوب رأسًا على عقِب التي سادت في فترات العُطلة. ومع ذلك، وكما أشار هال، ليس من المُلائم أن يُصبح كلَّ يومٍ هو يومًا للفوضى المباحة: «لو استحالت أيام السنة كلها مراتع للهو، لكان اللهو مُملًّا كالعمل» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ١٥٧-١٥٨).17 بيْد أن هذا بالضبط ما يطرحه فولستاف (وإن كان يقوله من باب المزاح)؛ إذ ينبغي أن ينقلِب العالم رأسًا على عقِب حتى يُصبِح اللصُّ في جُنح الظلام محترمًا بقَدْر العامل في وَضَح النهار.

قد لا تتَّسِم تلك الأفكار بالخيانة، ولكنها أفكارٌ هدَّامة، ونشهد مدى قدرة فولستاف على قلب الوضع الراهن في تساؤله اللاذِع عن فكرة الشرَف مُعتبرًا إياه مجرَّد «كلمة» (الفصل الخامس، المشهد الأول، السطر ١٣٢). مضت فضيلة الشرف الأصيلة دونما جدالٍ طَوالَ مدة المسرحية حتى لحظة ساحة القتال في شروزبري في الفصل الأخير من المسرحية عندما يتساءل فولستاف قائلًا: «أيستطيع الشرَف أن يُقيم ساقًا؟» (الفصل الخامس، المشهد الأول، السطر ١٣٠). إنه يَتصنَّع الموت في قتاله مع دوجلاس، مُستشهدًا بالقول المأثور: «إن التبصُّر خير سِمات الشجاعة» (الفصل الخامس، المشهد الرابع، السطر ١١٧). إنَّ وجهة نظر فولستاف هي بالفعل وجهةُ نظرٍ آتيةٌ من الجانب الخفيِّ المُظلِم من هذا العالم؛ من «الظل». إن رؤيته للشرَف لهي نقيضُ طموحِ كلٍّ من هوتسبر وهال؛ فما دعاه والد هال «شرف لن يموت» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ١٠٦) يظلُّ بالنسبة لهال جائزةً ذات بريق، ولهوتسبر هي المَغنم الذي يُلهِم طموحه المبالَغ فيه: «بحق السماء، إني لأراها قفزةً سهلة، أن أرقى إلى القمر الشاحِب فأَنتَزع منه الشرَف والوضاءة» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطران ٢٠١-٢٠٢).

قبل أن تلتقي القوات المُتنازِعة لأجل معركة شروزبري النهائية والحاسمة، يُقحِم شكسبير تجمُّعًا للمُتمرِّدِين وزوجاتهم. وقد أَوضحَت جين هاورد وفيليس راكين أنه على الجانب الخاص بالملك من العِراك، إذَا جازَ التعبير، الشخصية الأنثوية الوحيدة هي السيدة كويكلي، مُضيفة الحانة، والتي يدُلُّ اسمُها على الخِدمات الجنسية التي ربما أيضًا تُقدَّم في حانتها.18 وحدَهم المُتمرِّدون هم من لدَيهم زوجات؛ المرأة الويلزية المُغنية المتزوجة من مورتيمر، وكيت المُشاكسة، زوجة هوتسبر، التي يَصطحِبها معه إلى قلعة جلنداور. إنَّ مسألة أنه يُنظَر بين أنصار الملك إلى النساء على أنهنَّ، نوعًا ما، عبءٌ لهو أَمرٌ تَشهَد به على نحوٍ قابل للجدال مُحاكاةُ هال الساخرة لحوار الليدي بِرسي مع زوجها: «تقول له زوجه: «أي حبيبي هاري، كم كان عدد قتلاك اليوم؟»» (الفصل الثاني، المشهد الرابع، السطران ٨٧-٨٨). تُوحي الزَّوجات في هذه المسرحية بضعف المُتمرِّدين؛ إذ يُناضلون ضدَّ قوات الملك الذكورية بأغلبيةٍ ساحِقة.
ومع ذلك، فإن ثَمَّةَ أنوثةً أسطورية تُصاحِب فريق الملك، وهي أُنوثة إنجلترا نفسها؛ ففي بداية المسرحية، عندما يأمُل هنري أن تكون هذه «الصراعات الداخلية» (الحروب الأهلية) قد توقَّفَت: «كي لا تعود هذه الأرض الظامئة إلى تدنيس أفواهها بشُرب دماء أبنائها» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطران ٥-٦). الأُنوثة الآكلة للحوم البشر المُفترِسة (وربما الطمثية) هي، إذن، إحدى الأشياء التي ينبغي تقييدها بواسطة السيادة المناسبة حتى يمكن لإنجلترا أن تُصبِح الأم الصالحة التي يمكن أن تُقدِّم الجنود الذين سوف يَقتُلون خارج البلاد وليس في الوطن:
فلنُجنِّد على الفور قوةً من الإنجليز،
الذين جُبِلَت أذرعهم في بُطون أمهاتهم
على ملاحقة هؤلاء الوثنيِّين في تلك الأراضي المُقدَّسة …
(الفصل الأول، المشهد الأول، الأسطر ٢٢–٢٤)

في شروزبري، يُبرهِن الأمير هاري، بمُطاردته للمُتمرِّدين وليس للوثنيِّين، على أن أنه مَجبولٌ تمامًا على هذا. ينتظر هوتسبر تقريرًا عن «أمير ويلز السريع العَدو والفرار والطائش» (الفصل الرابع، المشهد الأول، السطر ٩٥)، ولكن الأمير، بدلًا من ذلك، كما وعد، كان «في حُللٍ ذهبية … وفي عظمةٍ وجلالٍ كالشمس في منتصف الصيف» (الفصل الرابع، المشهد الأول، الأسطر ١٠٠–١٠٢). وهو مُزوَّد بتجهيزات الفرسان؛ خوذة لها واقٍ للوجه، ودرعَين لحماية الساقَين. من المُرجَّح أنَّ هذا السمو هو ما كان في ذِهنه عندما وعد والده قائلًا: «لأرجعنَّ إلى نفسي» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ٩٣).

في الحقيقة إن الأبعاد الخارقة للطبيعة أو السحرية للتحوُّل هي أكثر ما يُميِّزه عن الإصلاحِ أو الاهتداء. في شروزبري، تتأكَّد هذه الأَوجُه بالإشارة إلى الكيانات المُرتبِطة بالطيران، وتحديدًا بيجاسوس، الحصان المُجنَّح، وميركوري، الرسول المُجنَّح، من الأساطير الإغريقية والرومانية على الترتيب. ترك الأمير وراءه الأمور الدنيوية التي لا تعدو أن تكون أرضية:
لقد رأيتُ هاري الشاب وخوذته على رأسه،
ودرعا ساقيه تُغطِّيان فخذَيه، ويلبَس الدروع بأناقة،
ينهض من الأرض فكأنما هو ميركوري المُجنَّح القدَمَين،
ويقفز إلى صَهوة حِصانه في سهولة ويُسر
كأنما هو ملاكٌ هبط من وسط السحاب فوق بيجاسوس الحصان المُجنَّح الجامح،
ليقودَه ويُوجِّهه ويدور به حيثما يريد،
ويَسحَر العالم بفنون فروسيته.
(الفصل الرابع، المشهد الأول، الأسطر ١٠٤–١١٠)19
ولإتمام وصف التحوُّل السحري هناك صورة ملاكٍ (السطر ١٠٨) ساحر («يسحر العالم» السطر ١١٠).20 لم يكشف الأمير أخيرًا عن ذاته فحسبُ وإنما حقَّق أيضًا المِثال الفعلي للسيادة الذي حَدَّدَه والدُه بأن رَسَّخ فيما بين الناظرِين إليه أن «يتطلَّعوا إليه بشغف، كما لو كانت أبصارهم شاخصةً تتطلَّع إلى صاحب جلالةٍ كالشمس» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ٧٨-٧٩)؛ فهو ليس مجرَّد أميرٍ مِثالي؛ إنه الوريث المثالي للعرش. وهذه هي الجوانب السياسية الخاصة بالتحوُّل.

هنري الخامس

عندما يصف هاملت التمثيل السيئ بأنه الأسلوب المُتكلَّف، المُبالَغ فيه لبعض المُمثِّلِين — وهو نقيض الطبيعيَّة تمامًا — فإن التشبيه الذي يَستخدِمه هو الخاص بهيرودس، ملك اليهود القاتل الأطفال الذي كان طغيانه المُتبجِّح يُمثل قوام الدراما الدينية للعصور الوسطى: «يغلب هيرودس في صخَبه وتبجُّحه. أرجو أن تتجنَّب هذا الأمر» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ١٣-١٤).21 قبل أن يَنظِم شكسبير هذا السطر، كان قد سبق أن كتب مسرحية «هنري الخامس»، التي نجد فيها تجسيده لملك إنجلترا البطل المُحارِب يُخالف نصيحة هاملت مخالفةً صارخة؛ فأمام بلدة هارفلور التي يُحاصرها هنري الخامس، يُرعِب العمدة ومواطنيه حتى يؤدي بهم إلى الاستسلام تحت شبح الذبح العشوائي:
أطفالكم عُراةٌ على رءوس الحِراب،
بينما الأمهات، وقد جُن جُنونهن، يصرُخن ويُعْوِلن
عويلًا مُختلطًا مضطربًا يشُقُّ السحب،
كما فَعلت نساء اليهود يوم أغار رجال هيرودس السفَّاحون.
(الفصل الثالث، المشهد الثالث، الأسطر ٣٨–٤١)22 [ترجمة الدكتور محمد عوض محمد، وهي الترجمة التي اعتمدنا عليها على نحوٍ أساسي في ترجمة الاقتباسات من المسرحية في هذا القسم، وإن كان ببعض التصرُّف اليسير في بعض المواضع]
قد يعترِض البعض بالقول إن هنري الخامس ملكٌ محارب وليس ممثلًا، ولكنه، أيضًا، مرآة كل الملوك المسيحيِّين (الفصل الثاني، الاستهلال، السطر ٦)، وقد يُتَوقَّع منَّا أن نفترض أنه لا يعتزم حقًّا تنفيذ تهديداته؛ قد يُتَوقَّع منَّا أن نفترض، باختصار، أنه يُمثِّل، وأن خُدعته بحاجة لأن تكون جيدة بما يكفي — مُروِّعة بما يكفي — ما دامت لن تُطبَّق. بَيْدَ أن حديث هنري يُشير إلى أهوالٍ كان من شأنها أن تُمثِّل تحديدًا دلالاتٍ مسرحية لجمهور حِقبة أوائل العصر الحديث. إنَّ مذبحة الأبرياء؛ قتل هيرودس لكلِّ الأطفال الذكور في بيت لحم ممَّن كان عمرهم دون السنتَين في محاولةٍ لقتل المسيح الطفل، كانت عملًا وحشيًّا شائنًا معروفًا من مسرحيات الغموض التي حُظِرَت حينها منذ عهدٍ قريب (والتي كانت تُؤدَّى، بالطبع، قبل ظهور التمثيل الاحترافي). هذه التجسيدات الدرامية كانت تستنِد على إنجيل متَّى (الإصحاح ٢، الآيات ١٦–١٨) حيث نرى أن هيرودس — الذي خَدعَه الحكماء الذين أهملوا العودة إليه بعد زيارتهم ليسوع الطفل لأنهم تلقَّوا تحذيرًا في حُلمٍ من العودة إليه — قد أصبح «غاضبًا للغاية» (إنجيل الأساقفة، طبعة ١٥٦٨). غَضَبُ هيرودس وحَنقُه يُصبحان هما قِوام شخصية هيرودس الشرِس المُتبجِّح الذي صوَّرَته المسرحيات. عَرضَت تلك الأعمال الدرامية أيضًا عنصرًا من عناصر القصة مُشتقًّا من نبوءة في سفر إرميا في العهد القديم، وهو: «صوتٌ سُمِع في الرامة، نَوح، بكاءٌ مُر. راحيل تبكي على أولادها، وتأبى أن تتعزَّى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودِين» (الإصحاح ٣١، الآية ١٥). هؤلاء هن «نساء اليهود» النائحات اللَّواتي يُشير هنري إلى عويلهنَّ واللواتي كان دومًا يرِد ذِكرهنَّ في مسرحيات الغموض التي تتناول هذا الموضوع.23 المشهد المُروِّع الذي يستحضره هنري يُرسِّخ وكذلك يُعَقِّد مسألة بسالته العسكرية وبراعته الخطابية؛ إذ إنَّ استحضار هيرودس لا يجعل الملك يصطفُّ مع الملك التوراتي سيئ السمعة فحسب، وإنما أيضًا مع دور هيرودس، الذي يُعَدُّ التجسيد المسرحي، وليس الواقعيَّ، للطُّغيان. من شأن هذا أن يُوصل إلى جمهورِ حقبةِ أوائل العصر الحديث ما مَفادُه أنَّ هنري يُمثِّل عن وعيٍ وإدراكٍ منه دورًا؛ فمن ناحية، يُوحي هذا التمثيل بأنه يُعطي النذير الاستراتيجي بالشرِّ رغم صلاحه الذاتي، رغم أنه، باعتباره سياسيًّا مُحنَّكًا، يَحرِص على تحميل مسئولية الأهوال التي يطرح إطلاق عِنانِها على سُكان هارفلور أنفسهم بزعمه أن مُقاومتهم الصلبة وحدَها هي التي سوف تدفعه إلى ذلك. ومن الناحية الأخرى، تحمِل الإشارة إلى هيرودس بيانًا قد يكون باعثًا للقلق بأنَّ ثَمَّةَ شيئًا مُتكلَّفًا تكلُّفًا مُتأصِّلًا فيما يتعلَّق بطبيعة السيادة نفسها. هذا يعني أنَّ مُمارسة السُّلطة تُصبِح ضربًا من التصنُّع يبرَع فيه هنري براعةً فائقة؛ ومن ثَمَّ فلا يُمكن اعتبارها عملًا مُحايدًا أخلاقيًّا. وهكذا، وعلى النقيض من تجربة هاملت فيما يتعلَّق بطُغاة المسرح الخُرْق، فإنَّ أداء هنري يُمثِّل الجانب المثالي، وتُثبِتُ تهديداته أنها مدروسةٌ بدقَّة من أجل ضمان استسلام بلدة هارفلور.

رغم أن العقيدة السياسية لحِقبة أوائل العصر الحديث تجعل من السُّلطان المُصطفَى من الرب أمرًا ضروريًّا، فإنَّ هذه المسرحية تقدِّم السُّلطان على أنه «أداءٌ تمثيلي» للسلطة وليس خاصيةً ذاتية يتَّصِف بها العاهل الذي اختِير من الربِّ ليحكم. إن مسألة «لعِب دَور» الملك لَهي مسألةٌ جوهرية بالنسبة لمسرحية «هنري الخامس» لأنها المسرحية الأخيرة من رباعية المسرحيات التاريخية الثانية لشكسبير (التي تتضمَّن أيضًا مسرحية «ريتشارد الثاني»، ومسرحية «هنري الرابع» بجُزأيها الأول والثاني) التي تصدَّى فيها شكسبير إلى طبيعة السُّلْطَان (من المُهمِّ الإشارة إلى أنَّ كلمة «الثانية» هنا تُشير إلى الترتيب الذي كتَبَ به شكسبير مسرحياته التاريخية — إذ كتب مسرحيتَي «هنري الرابع» و«ريتشارد الثالث» أولًا — وليس إلى التَّسلسُل الزَّمني الذي حَدثَت فيه الوقائع التاريخية التي يُصوِّرها). في هذه المسرحية الأخيرة من الرباعية الثانية، أَوفَى هنري، الذي كان في السابق الأمير الماجن هال، بالوعد الذي لم يكن أحدٌ مِمَّن عرفوه في شبابه الطائش لِيحلُم بأن يُحقِّقه؛ ففي مسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)»، يُثبِت شكسبير أن تَحوُّل الأمير هال ليس نابعًا من مُجرَّد النُّضج الطبيعي، وإنما بالأحرى مُمارسةٍ استراتيجيةٍ مدروسة للسلطة. وبالتالي يكشف شكسبير عن الأمير هال بصفته «هاري»، ملك إنجلترا في مسرحية «هنري الخامس»، الذي يمكن القول إنه أَمرٌ لا يخلو من نقد، في أكمل وأفضلِ تعبيرٍ عن سُلطته بصفته حاكمًا وقائدًا للجنود.

دائمًا ما صاحَب هنري رمز المُلك، الشمس، وتقديم مشهد سُلطانه هو جانبٌ أساسي من نجاحه بصفته ملكًا مُحاربًا؛ ففي بلدة هارفلور، تظهر «السُّحب التي تحمِل السموم» (مسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)»، الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ١٩٠)، ثانيةً عندما يَعِد هنري بتحوُّل رجاله:
لهذا أدعوكم يا رجال هارفلور،
أن تُشفِقوا على مدينتكم وعلى قومكم،
وجنودي لم تزل بعدُ طَوعَ أَمري،
ورياحُ الرحمة الباردة المُعتدِلة لم تزَلْ لها القُدرة
على اكتساح سُحُب القتل والنَّهب والرذيلة
«بما تحمل من سموم» وأقذار.
(الفصل الثالث، المشهد الثالث، الأسطر ٢٧–٣٢، أقواس التنصيص الداخلية من عندي)

هذه السحب هي، في الواقع، الدخان من نيران المدفعية، ولكنها أيضًا تتَّفق مع الأحوال الجوية التي تتحكم بها الشمس/الحاكم. يُمكن للسُّحب التي أَظهرَت سلطان هال أن تُزيح الستار عن الجحيم؛ فهذا النوع من العظمة ذات العِلم المُطلَق والغضب المُتكرِّر، كما أدرك هاملت، له حدوده. ومع ذلك فإنَّ ما يجعل من الملائم لهنري الخامس أن يُخالِف قواعد التجسيد المسرحي المعقول والطبيعي هو أنه بطل ملحمةٍ إبَّان الفيضان الكبير للأحداث التاريخية التي اعتُبِرَت على مدى أجيالٍ عديدة، وهي نوعٌ أدبي شعري نَقلَه شكسبير إلى وسط المسرح. تبدأ مسرحية «هنري الخامس» بابتهالٍ مَلحميٍّ تقليدي: «ألا ليتَ الشعر نارٌ تشتعل» (الفصل الأول، الاستهلال، السطر ١)، وتختم المسرحية دَورة التاريخ على نغمةٍ منتصرة نسبيًّا. وأَيًّا كانَ تساؤُل المسرحية، الذي دار حوله كثيرُ نقاش، بشأن الحرب والمُعاناة المُتَّصِلة بها، فإن هنري مُنتصر وليس مهزومًا. تُذكِّر الجوقة الجمهور بأن هنري، «نجم إنجلترا الساطع» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، السطر ٦)، أورث مملكته لابنٍ رضيع خُسِر في عهده كلُّ ما رُبِح مع الكثير من إراقة الدماء؛ «وكثيرًا ما عرَضْنا هذه القصة في مسرحنا» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، السطر ١٣). ذَكَّرَت هذه الإشارة الجمهور بأُولى مسرحيات شكسبير التاريخية وذات الشعبية الهائلة، الأجزاء الثلاثة لمسرحية «هنري الرابع»؛ ومن ثَمَّ عرفوا المُستقبل المشئوم الغافل عنه هنري بسعادةٍ في غَمْرة انتصاره.

كان الوقت قد حان للعظمة الملحمِيَّة في المسرح عندما كتب شكسبير المسرحية (التي طُبِعَت لأول مرة سنة ١٦٠٠) لأن إيرل إسكس الجريء، روبرت ديفيروكس، «قائد إمبراطورتنا العظيمة» (الفصل الخامس، الاستهلال، السطر ٣٠)، كان قد أُرسِل إلى أيرلندا من قِبَل إليزابيث في مارس من سنة ١٥٩٩ ليُخْمِد تَمرُّد هيو أونيل؛ الإيرل الثاني لمُقاطعة تايرون. إنَّ الإشارة إلى موضوعٍ ما بهذا التحديد لَهيَ أمرٌ غيرُ مُعتاد للغاية في أعمال شكسبير ويُوحي بأنه لم يكن يكتُب ما يُمليه عليه وَحيُه الشعري الخاص وإنما لِيَفي بمُتطلَّبات فِرقته، وبالتالي لِيُرضي أذواق جمهوره اللندني، من النُّخبة والعامَّة على السواء، الذين كانوا مُنبهرِين بروعةٍ وفروسية إيرل إسكس. ومع ذلك، فإن الإشارة تُوحي أيضًا بالدرجة التي كان عليها إيرل إسكس المُرتَقَب يُشكِّل شُغلًا شاغلًا على الصعيد الوطني:24
ومع ذلك انظروا،
واستعينوا بتوقُّد أذهانكم لِتتصوَّروا،
كيف أخرجت لندن جميع سُكانها.
وفيهم العُمدة وصحبه في أحسنِ مظهر،
كأنهم شيوخُ روما القديمة،
ومن خَلفهِم جموع الشعب المُتكدِّسة،
وقد تقدَّموا جميعًا ليُرحِّبوا بعودة الفاتح قيصر.
ومثل هذا قد يحدُث باحتمالٍ أقل،
وإن كان محبوبًا لنفوسنا،
عندما يعود من أيرلندا
قائد إمبراطوريَّتنا العظيمة، بعد فترةٍ من الزمن،
وقد أمكنه أن يطعن الفِتنة طعنةً نجلاء،
فكم من سكان هذه المدينة الهادئة، سيُغادرها للترحيب به!
إن الذين رحَّبوا بهاري كانوا أكثر عددًا ولدَيهم سببٌ أكبر.
(الفصل الخامس، الاستهلال، الأسطر ٢٢–٣٥)

وفي سَطرٍ يُذكِّرنا بأطفال خطبة هارفلور المُخوزَقِين على رُءوس الحراب، «يُطْعَن» التمرُّد في أيرلندا، أو يُخوزَق، على سيف إيرل إسكس. يُعَدُّ إيرل إسكس في هذا السياق بطلًا ملحميًّا عصريًّا، رغم أنه قائدٌ فقط وليس ملكًا أو إمبراطورًا. كذلك يعمل القياس مع الانتصارات الإمبراطورية لقيصر العائد إلى روما على تشكيل صِلة بين التطلُّعات الملحميَّة للمسرحية والشعر الملحمي الكلاسيكي. وفي الواقع فإنَّ التاريخ نفسه أقام الدليل على غُلُوِّ ومُبَالَغَة هذا القياس حيث إن إيرل إسكس فشِل فشلًا ذريعًا في أيرلندا وبعد ذلك تآمر على الملكة، وكان جزاؤه أن أُعدِم بقطع رأسه سنة ١٦٠١.

وجد شكسبير في تضخيم الماضي وتحويله إلى قصصٍ ملحميةٍ أرضيةً أسلم بكثير، مُعيدًا عقارب الساعة إلى عالم السياسة في العصور الوسطي وإلى حياة الملوك الإنجليز بدلًا من توريط نفسه في تضاريس الحاضر المحفوفة بالمخاطر؛ إذ جسَّد التاريخ البعيد كلَّ البُعد عن ذلك الذي وجده في كُتب تاريخ رافايل هولينشد وإدوارد هال، بالإضافة، فيما يختصُّ بهذه المناسبة، إلى مسرحية «الانتصارات الشهيرة لهنري الخامس» مجهولة المؤلِّف (١٥٩٨). ترتكز مسرحية شكسبير على الواقع التاريخي المُتعلِّق بالحرب التي شنَّها هنري في فرنسا سنة ١٤١٤ لتعزيز مُطالبته بالعرْش الفرنسي. وكما هو الحال في المسرحية، ورغم التفوُّق العددي الهائل لخصومه، قاد الإنجليز للنَّصْر في معركة أجينكور سنة ١٤١٥. وعندما أعلن شارل الخامس أنَّ هنري هو وريثه للعرْش على حساب ابنه، الدوفين (وهو لقبٌ فرنسي يُمْنَح لوريث العرش)، بدا مستقبل السُّلطان الإنجليزي في فرنسًا مُطْمَئِنَّا. وعزَّز الزواج الملكي من كاثرين دي فالوا، ابنة الملك الفرنسي، من تأكيد النصر.25 وبالطبع، وكما سبق وأشرْنا، فإن كلَّ انتصارات هنري الخامس ستُنْقَض في عهد هنري السادس الكارثي. لكلِّ ذلك، تأتي الجاذبيَّة الكاسِحة للمسرحية من مُعالجتها لموضوع النصر رغم كل الصعاب، أوَّلًا في حصار بلدة هارفلور وبعد ذلك في معركة أجينكور الحاسمة.

من ثَمَّ فإن شكسبير لا يُقدِّم تاريخًا مُنقَّحًا بالكامل لتاريخ عهد هنري المجيد المعروف وإنما يُحاول بالأساس أن يجمع بين الاثنين؛ ويُفلِح في القيام بذلك. فدونما طعنٍ بأيِّ طريقةٍ في سجلِّ هنري باعتباره بطلَ حربٍ أو إنكارٍ لحَقِيقَة انتصاراته، يُفلِح شكسبير أيضًا في طرح أسئلةٍ مصيرية عن تبرير وكُلفة الحرب. فلا يُنظَر إلى هذه التكاليف من وجهة نظَر هنري ونُبلائه فحسْب وإنما أيضًا من حياة الطبقات الدُّنيا: السيدة كويكلي، التي تُتَوفَّى بينما زَوجها الجديد، بيستول، بعيد عنها في فرنسا؛ والجنود المُجنَّدين جون بيتس، وألكسندر كورت، ومايكل ويليامز؛ والفِتية الإنجليز الذين ذُبِحوا وهم يحرُسون الأمتعة؛ والأسرى الفرنسيِّين الذين تُنْحَر رقابهم لأن قادتهم يحشُدون قواتِهم المُتبقِّية. والأمر الأكثر إثارةً للمشاعر هو وفاة السير جون فولستاف بعيدًا عن خشبة المسرح، كَسِيرَ الفؤاد جَرَّاء كَون نديمه الملكي السابق تنكَّر له في حانات إيست تشيب. إنَّ محوَ هنري القاسي لماضيه لهو كُلفةٌ عاطفية شديدة الوطأة على المسرحية، رغم أنه يبدو أنها لا تُثقِل كاهل هنري نفسه على الإطلاق.

يبقى الرأي النَّقديُّ مُنقسمًا بشأن ما إذا كان هنري شخصًا ميكيافيلِّيًّا مُخادعًا أم قائدًا عظيمًا، وبشأن إذا ما كان هذان الأمران مُتناقِضَين بحيث يستبعد كلٌّ منهما الآخر؛ فمن ناحية، قد يبدو أنَّ فولستاف الذي تنكَّر له هنري، وباردولف، وهو صديق من تلك الأيام الخوالي والذي أَعدَمه هنري عقابًا على سرقته قِطَعًا أثرية طقسية من إحدى الكنائس، هما من ضحايا سُلطته، ولكن على الناحية الأخرى، هما يُمثِّلان التضحية بكل جوانب حياته لغرضٍ واحد وهو لعِبُ دور الملك؛ فبِسبب فترة شبابه الماجنة، قلَّل الفرنسيون تقليلًا فادحًا من شأن قيادته، والمشهد الافتتاحي للمسرحية، والمناقشة المُطوَّلة التي يَحويها بشأن القانون السالي — أو بعبارة أخرى، مُطالبة هنري بأحقيته في العرش عبر نَسَبِه من جهة الأم — يختمِر بوصول هديةٍ عبارة عن كُراتِ تنس من الدوفين؛ الهدية ليست من اختراع شكسبير وإنما كانت واقعةً تاريخية حقيقية، وكانت سخريةً فرنسية من رعونة هنري. يزعم هنري الثائر في المشهد الأول أنه سوف يلعب اللعبة فعلًا، ويُعلِن بداية الحرب معهم، «ها قد بدأ اللَّعِب» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٣٢).

تُستخدَم قُدراته الخطابية على الإقناع، التي تظهر جليَّةً في هارفلور، لإحداث تأثيرٍ مُختلِف عندما يُلهِب حماس قوَّاته من أجل النصر قبل المعركة قُرْب قرية أجينكور. تلك هي المجموعة العظيمة من الخُطب التي تحويها المسرحية؛ فتتَّخِذ خطبة يوم عيد القديس كريسبين موقف المُساواة الاجتماعية المُطلَقة الجذري في إطار السعي إلى انتصارٍ وطني:
فلَعَمري إنَّ من يُسفَك دَمُه اليوم معي فهو أخي،
ومهما كان وضيع النَّسَب،
فإن هذا اليوم سيرفَعُه إلى مقام السادة …
(الفصل الرابع، المشهد الثالث، الأسطر ٦١–٦٣)

تستوعب الهُويَّة الوطنية في هذا السياق التقسيمات الطبقية الواضحة بشدَّة مِثل «وضيع النسب» و«السيد»، والعامي والنَّبيل؛ فعند الموت، عند التضحية بالنفس في قتالٍ بطولي، يكون الجُنديُّ العاديُّ أخًا لهنري: «نحن القلَّة السعيدة، نحن العُصبة المُتآخية» (الفصل الرابع، المشهد الثالث، السطر ٦٠). بعبارةٍ أخرى، من أجل إيجاد هُويةٍ وطنية مُتماسكة، تُصبِح الهُويات الأخرى غير مقبولة، أو غير لازمة، أو على الأقل مُعطَّلة مُؤقَّتًا. وعندما يتفقَّد هنري، مُتخفِّيًا، المُعسكر أمام قرية أجينكور، مُحاولًا تحمُّل الأعباء الأخلاقية للمُلك، يتصدَّى أيضًا لقضية التقسيمات الطبقية والهُوية الوطنية التي يُمكن أن تُقوِّض أيَّ انتصارٍ إنجليزي؛ فعندما يدخُل في نقاشٍ مع الجندي، مايكل ويليامز، بشأن ما إذا كانت قِسْمَة الملك هي نفسها قِسْمَة أيِّ رجل من القوات، نجِده يستمرُّ في «التمثيل» لأنه مُتنكِّر، وفي حين تظلُّ هُويته «محجوبة» ومُستغلِقة، يتسنَّى لويليامز أن يكشف عن آرائه الصادقة للملك. يقول ويليامز إنَّ الملك عند الهزيمة سوف يُفتدى، ولكن الجنديَّ سوف يُقتَل. ينتهي النقاش بين الاثنَين بتحدٍّ من شأنه أن يتحقَّق بعد المعركة. تتناول المسرحية مُجدَّدًا ما يَعنيه كونُ المرء جزءًا من إخوة هنري في مَشاهِد مع الضابط الاسكتلندي جامي، والضابط الأيرلندي الإنجليزي (أي إنه ينحدِر من نَسلِ مُستوطِنين إنجليز وليس واحدًا من أبناء البلد الأيرلنديِّين المُحتقَرِين جدًّا) ماكموريس، والضابط الويلزي فلولين. ينتهي الأمر بالاحتكاك بين هذه الرُّتَب، التي يُحتمَل أن تكون في تنافُس، إلى التلاحُم والتضافُر تحت قيادة هنري الكاريزماتية.

إنَّ سِمة هنري البارزة بوصفه ملكًا هي هُويته البطولية، الذكورية على نحوٍ لا يُدحَض، وما يتَّصِف به الفرنسيُّون على نحوٍ أساسي هو خُنُوثتهم الطاغية. إنَّ السخرية من الفرنسيِّين واضحة على نحوٍ خاص بالإشارة إلى الدوفين، الذي يكتُب سونيتة عاطفيَّة إلى حصانه. ومن المُهم، مع ذلك، الإشارة إلى أنه لا تُوجَد سُخرية من هذا القبيل فيما يتعلَّق بأمورٍ جنسية، أو في الواقع عن ضعفٍ من أي نوع، فيما يتَّصِل بالملك الفرنسي. هذا رغم أن شارل الخامس الحقيقي عانى من اعتلالاتٍ عقليةٍ حادَّة من الواضح أنه «غير» مُشارٍ إليها في المسرحية؛ فيتعيَّن أن يكون الملك الفرنسي بمنأًى عن الزِّرَاية لأنه جَدُّ ملكٍ إنجليزي، وهو هنري السادس. غير أنَّ إحدى مُشكلات السُّلطان، والتي لم تُؤخَذ في الاعتبار في تأمُّلات هنري قبل المعركة، هي أنه من أجل إقامة تحالفٍ ملكيٍ مُوفَّق، كان يلزم في كثيرٍ من الأحيان الزَّواج من العدو. إنَّ المَشاهِد التي فيها كاثرين ووصيفتها، ألِيس، هي مَشاهدُ يُبرهِن فيها شكسبير على إجادته لِلُّغة الفرنسية وهي تُستخدَم لِترويض العدو. إنَّ درس كاثرين في اللغة الإنجليزية هو بالأساس عبارةٌ عن مجموعة تَورياتٍ إباحية عن الأعضاء الأُنثوية. قد يكون الفرنسيُّون خُنثويِّين، ولكن النساء الفرنسِيَّات الفِعليَّات هنَّ بمنزلة عامل اتزانٍ لأسلوب هنري الصريح، المُباشر في الكلام والمنقول نثرًا، بدلًا من الشعر المُتكلَّف المُستخدَم في أداءات هنري الرائعة لخُطَب المعركة. إن التغزُّل في كاثرين والتودُّد إليها هو عملٌ شكلي؛ نظرًا إلى أنَّ مُداوَلات الزواج الوحيدة المُهمَّة؛ وأعني بذلك المُداوَلات بين هنري والملك الفرنسي، قد جرَت بالفعل. هذه لَمحةٌ عن هنري المُقبِل على الزواج، في مُقابل هال السَّفيه وهاري المُحارب. ولأنَّ هذه المَشاهِد تُعيد الجمهور إلى حالةٍ من الحميمية مع هنري لم يستمتِعوا بها منذ مسرحية «هنري الرابع (الجزء الثاني)»، فإن ثَمَّةَ شعورًا بأنه في هذا الإطار «لا» يلعَب دَور الملك وإنما هو على طبيعته الخاصة؛ «شخص يمتاز بالثَّبات النقي والفطري على العهد» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، السطران ١٥٢-١٥٣). بيْدَ أن المَشاهِد التي تَضُمُّ كاثرين هي كذلك بمنزلة تذكير بأنَّ أحد أعباء السلطان؛ العبء الذي أَرَّق مضجعَ مُلك هنري الثامن، كان إنجاب وريثٍ ذكَر وتأمين توارُث المُلك، وإلَّا كان البديل المُحتمَل هو الزجُّ بالبلاد في أتونِ حربٍ أهلية في إطار صراع القُوى على العرْش الذي من المُمكن أن ينشأ. كانت إليزابيث — على الرغم من أنها تجنَّبَت تحمُّل هذا العبء بالتحديد على كاهلها — مع ذلك على وعيٍ به؛ فعندما وَردَت أنباء أنَّ ماري ملكة الاسكتلنديِّين أنجبت جيمس، يُذكَر أنَّ إليزابيث قالت لوصيفاتها: «أنجبَت ملكة الاسكتلنديِّين اليوم ابنًا شرعيًّا، وأنا لست سوى امرأةٍ عقيم.»26

تُختتم المسرحية، مع ذلك، بظفرٍ غرامي، وسُلاليٍّ ملكي، وعسكري. وكثيرٌ من تاريخ أداء المسرحية، ولكن ليس كله، استُغِلَّ في تضخيم بطولة هنري المُبالَغ فيها أصلًا والعظمة الملحميَّة للمسرحية. على سبيل المثال، أثناء الحرب العالمية الثانية، أَسبغَت نُسخة لورانس أوليفييه الفيلمية من المسرحية على النصِّ نزعة التعصُّب الوطني الحماسية الواردة في خطبة هنري في يوم عيد القديس كريسبين. وحتى يتجنَّب تقويض المجهود الحربي حذف أوليفييه تصوير خيانة الأرستقراطيِّين؛ كامبردج، وجراي، وسكروب التي يكشفها هنري قُبيل الإبحار إلى فرنسا. إلَّا أن تضمين هؤلاء الخوَنة في نصِّ شكسبير دالٌّ على مُعالجة المسرحية الدقيقة والمُعقَّدة لكلٍّ من موضوعَي الحرب والنصر؛ فهو وكذلك جمهوره عرفوا أنَّ إنجلترا في عهد خليفة هنري لن تُفلِت من المهانة والهزيمة.

ريتشارد الثالث

في المسرحيات التاريخية، نجد أن قصة شكسبير عن السياسة، والسلطة، والهُوية الوطنية تُعنى كثيرًا بما تُشير إليه أولئك المُؤرِّخات الاسكتلندِيَّات المُنحرِفات، شقيقات مسرحية «ماكبث» الثلاث الساحرات الغريبات، بوصفه سردًا لا ينقطع لمعارك «تُسفِر عن هزيمة وانتصار» (مسرحية «ماكبث»، الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٤).27 خارج الزمن، وخارج نطاق أوهام الحياة الفانية، وخارج نِطاق صراعات السُّلطة المُلِحَّة والمطامع السياسية لأولئك المُنخرطِين فيها، لا يبدو أن الشقيقات يَهتمِمن كثيرًا بمن على وجه التحديد «الذي» يُهزَم ومن الذي ينتصِر في المعارك الحربية التي تتخلَّل السجلَّ التاريخي بذلك الانتظام المُروِّع. كشأن المؤلِّف المسرحي، تُلقي الشقيقات الغريبات نظرةً بعيدة على التاريخ، مُتطلِّعاتٍ إلى كلٍّ من الماضي والمستقبل، رغم أن الساحرات يمتلِكن امتيازًا بلا مُبالاةٍ خارقةٍ للطبيعة فيما يتعلق بنتائجَ بعينها للتاريخ وهو الأمر الذي نادرًا ما يُسمَح به للكاتب المسرحي البشري الفاني. إنَّ مسرحيات شكسبير الإنجليزية ليست استعراضاتٍ خاليةً من الغرَض للانتصارات المجيدة والهزائم المُخزية لأبطالها، حتى حين يكون الأَثَر الإجمالي للرُّباعيَّتَين أثرًا منظورًا شاملًا. إلا أنه في حالة حضور ريتشارد الثالث الأحدب، أثبت شكسبير أنه يمكن تحويل الهزيمة إلى انتصارٍ مسرحي مجيد. تلك كانتِ المؤشرات المُبكِّرة لنجاح مسرحية «ريتشارد الثالث» الذي لم يتمثل فقط في نصِّها الذي جعلها أكثر مسرحية في العصر الإليزابيثي من ناحية تَكرار الطباعة، وإنما أيضًا في براعة المُمثِّل الذي لعِب دَور البطولة فيها، ريتشارد بيرباج، الذي يبدو أنه أسبغ على دوره طابعًا جنسيَّا جذَّابًا لأنَّ كاتب اليوميات جون مانينجهام كتب في عام ١٦٠١ يقول إن امرأةً واحدة على الأقل كانت تُرتِّب معه لقاءً غراميًّا بعد العرض.28
إن ريتشارد المُشوَّه الخِلقة هو شخصيةٌ ذات أداءٍ مسرحي مُتكلَّف تكلُّفًا حماسيًّا الذي عندما تُستهَلُّ المسرحية لا يكون ملكًا بعدُ، ونرى صعوده إلى السلطة عن طريق دروب المكائد والاغتيالات التي لم تكن في الواقع غير معتادة تمامًا، ولكن التي تجعل منه، حسب تقديم شكسبير، أحد أكثر الشخصيات اللئيمة لؤمًا نابضًا بالحياة في أعمال شكسبير الأدبية. وبما أنَّ التاريخ لا يكتُبه المُنهزمون، كانت المادة التي كان على شكسبير أن يشتغل بالاعتماد عليها في الوقائع التاريخية بالفعل روايةً مُلتوية بقَدْرٍ ما للأحداث لصالِح أسرة تيودور لدرجة أنه يمكن القول إنها تُعَدُّ قصةً خيالية. ورغم ذلك، تَستخدم المسرحية حقائقَ سياسيةً أساسية مثل التحَزُّب، ومشكلة الخِلافة، وفساد سياسات الأُسَر الحاكمة، وقُدرة السياسيِّين الذين لا يرحمون على إخفاء دلائل تَورُّطهم، بالإضافة إلى العلاقة بين السلطة السياسية والكاريزما الشخصية، وذلك قبل زمنٍ طويل من ظهور الحملات السياسية المُتلفَزة. وطَوالَ المسرحية يُؤكِّد شكسبير على قُدرة ريتشارد المُطلَقة، كمُمثِّل «مخادع»، في مسرح النظام السياسي.29
كان ريتشارد الثالث آخر ملكٍ من سلالة بلانتاجينيت من أسرة يورك. ولقد هُزِم في معركة بوسوورث في ٢٢ أغسطس سنة ١٤٨٥ على يد جَدِّ إليزابيث الأولى، هنري تيودور، الذي أصبح بعد ذلك الملك هنري السابع؛ أَوَّل ملوك أسرة تيودور. مثَّل انتصار هنري نهاية حروب الوردتَين؛ أي الحرب الأهلية بين أُسرتَي يورك ولانكستر، التي تورَّطَت فيها إنجلترا طيلة القِسم الأعظم من مُدَّة اثنين وثلاثين عامًا. مثَّلَت نهاية هذه العداوات زوال السلطة الإقطاعية، وبزوغ دولةٍ أكثرَ مركزيةً بكثير، وظهور نظام تيودور المُستقِر نسبيًّا الذي كان شكسبير ومُعاصِروه في ظلِّه في ذاك الوقت. ومع ذلك احتاج الحكم التيودوري من أجل شرعيته نسخةً من الماضي لتسويغ النظام القائم؛ فلو كان قد نُظِر، مثلًا، إلى هنري السابع باعتبار أنه كان مخطئًا في الاستيلاء على السلطة من ريتشارد الثالث، لكانت السلالة الحاكمة بأكملها قد تعرَّضَت كلها للخطر. ولطالما احتاج أَمرُ اغتيال الملك في ظلِّ أي ظروف لبعض التحرُّكات السريعة لتبريره، وفي هذه الحالة كان التعليل العقلي لهيمنة هنري السابع هو أنه حرَّر إنجلترا من نِير طاغية؛ لهذا السبب، كانت المسرحيات التاريخية الباقية من تلك الحِقبة، على الأقل بالمعايير الحديثة، عبارةً عن دعاية للدولة التيودورية. كانت مصادر شكسبير التاريخية هي كتاب «اتِّحاد أُسرَتَي لانكستر ويورك النبيلتَين المرموقتَين» (١٥٤٨) للمؤرخ إدوارد هول؛ وكتاب رافايل هولينشيد «تاريخ إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا» (١٥٧٧؛ ونُقِّح سنة ١٥٨٧)، الذي كان يدين بدَوره بالفضل لكِتاب السير توماس مور «تاريخ الملك ريتشارد الثالث» (١٥٤٣)؛ وكتاب بوليدور فِرجيل «التاريخ الإنجليزي» (١٥٣٤).30 وبدلًا من محاولة تقديم سردٍ موضوعي لحُكم ريتشارد، نجح مور في أن يُصورِّ العاهل المُنتمي لأسرة يورك في هيئة الشرِّير الخالص. في هذا الشأن، تحذو المسرحية حَذْو مور؛ فنجدها تنسِب إلى ريتشارد ما لا يقِلُّ عن عشر جرائم قتل. مع ذلك، تبدأ المسرحية بسَجْن دوق كلارنس سنة ١٤٧٨، وما إن تفعل هذا حتَّى ترتد إلى الوراء في المشهد التالي إلى جنازة هنري السادس سنة ١٤٧١. وبمثل هذه الحِيَل المتعلقة بعنصر الزمن، يُضفي شكسبير الحيوية على تاريخ تيودور ولا يسرده بِخُضوع. هذه، على سبيل المثال، رواية مور فيما يتعلق بشخصية ريتشارد: «كان مُتحفِّظًا وكَتومًا، ومخادعًا ذا دهاءً، مُتواضِع الملامح، مُتعجرِف الباطن، اجتماعيًّا في الظاهر فيما كان يكره باطنيًّا … لم يُحجِم عن قتل أي رجلٍ وَقفَت حياته عقبةً أمام غايته.»31 كون ريتشارد عند مور «مخادعًا» dissembler كان بوجهٍ خاص مُناسبًا لأهداف شكسبير؛ فلم تكن كلمة dissembler في إنجليزية أوائل العصر الحديث تعني كاذبًا فحسب وإنما أيضًا مُمثِّلًا، ومُؤدِّيًا. في المُناجاة الذاتية الافتتاحية يؤكد ريتشارد أنه ما دام «لا يصلُح للحب»، فإنه «عاقد العزم على أن ينجح كشِرِّير» (الفصل الأول، المشهد الأول، الأسطر ٢٨–٣٠). ومِثل مُمثلٍ يتأمَّل الأدوار المُحتمَلة التي يمكن أن يلعبها، يتخيَّر ريتشارد، وهو واعٍ تمام الوعي لعيوبه الجسدية وهيئته المُنفِّرة، الدور الأنسب لصِنْفه. وبوعيٍ ذاتي منه يتقبَّل بسرورٍ تقارُبه مع شخصِيَّتَين نمطيَّتَين درامِيَّتَين من العصور الوسطي وهما: شيطان مسرحيات الغموض («أنا أمضي في تمثيل دور الشيطان»، الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٣٣٧)، وشخصية الرذيلة في مسرحيات الأخلاق والفواصل الترويحية («شخصية الرذيلة المعهودة» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٨٢). لمسرحيات الغموض صِلةٌ خاصَّة بمسرحيات شكسبير التاريخية تتمثَّل في أنها كانت أيضًا بالأساس استعراضاتٍ بانوراميةً تاريخية تسعى إلى تجسيد أحداثٍ من العالم، وإن كان ذلك من رؤيةٍ مُستنِدة استنادًا تامًّا على الكتاب المُقدَّس، من الخلق إلى يوم الدَّينونة. في هذه المسرحيات، كان الشيطان، كبيرُ المُخادعين وأبو الكذِب، أكثرَ شخصيةٍ يكرهها الجمهور والذي كان طموحه الذي يُحبَط دومًا هو أن يَنتزِع عرش الحاكم الأعلى. في الفواصل المسرحية، عادةً ما كانت شخصيتا الرذيلة والشيطان عبارةً عن ثُنائي كوميدي؛ فنجِد الرذيلة تضرِب الشيطان (الذي كان يقوم بدور صاحبٍ كوميدي) في أنحاء خشبة المسرح بهراوة. يُجسِّد بكنجهام هذا الدور في مسرحية شكسبير، بقيامه بدَور مُعاون ريتشارد في الإثم.

التقى جمهور شكسبير لأول مرة بريتشارد في مسرحية «هنري السادس (الجزء الثالث)» عندما أدلى بتصريحه الخبيث خُبثًا مُدهشًا بأنَّ من شأنه أن يجعل «من ميكيافيلي السفَّاح تلميذًا» (مسرحية «هنري السادس (الجزء الثالث)»، الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ١٩٣). لا يُفْصَح أبدًا بوضوحٍ مِثل هذا عن مهمة الرب، وبخلاف الرب في مسرحيات الغموض، الذي كان بالمعني الحرفي بعيدًا تمامًا عن الجمهور، نجد الشيطان وقد اقترب من مُقدِّمة خشبة المسرحية إلى مستواهم، مزوَّدًا بمعرفةٍ ميدانية أكثر واقعيةً بنحوٍ واسع للطبيعة البشرية أكثر من تلك التي امتلكَها الإله. قد يكون الربُّ كُليَّ القدرة ومُطلَق الخيرية، ولكن مِثل هذه الصِّفات لا تُساعد على منحه روح دُعابة في المسرح. من الناحية الدرامية، هذا عيبٌ فادح، يُتيح للشيطان بأن يتفوَّق عليه على المسرح دائمًا. فضلًا عن ذلك، مَيل الإله إلى التأمُّل المُضجِر يجعله يبدو بطيئًا في الاستيعاب مُقارنةً بخصمه الكوني الماكر بفِطنته السريعة كالبرق. إذن، فإتيان شكسبير بأقرَبِ مثيلٍ دُنيَوي إلى حيِّز الوجود، في إطار هذه الديناميكيات، هو أَمرٌ موروث عن تُراث الدراما الدِّينية. كذلك، نجِد ريتشارد، مِثل الشيطان والرذيلة في العصور الوسطي، يُخاطِب الجمهور مُباشرة من مُنطلقِ حميميةٍ نابعة من اقترابه من مُقدِّمة خشبة المسرح؛ ونجد الجمهور «يُعْجَب» به وليس ذلك رغم شره، وإنما هو تحديدًا بسببه.

وبالطبع فإنَّ سقوط الشيطان النَّمَطي من مكانةٍ عالية هو أيضًا التركيبة المؤسسة للتراجيديا. إن مسار ريتشارد، صعوده إلى السلطة وبعد ذلك، بسبب الضغط الزَّمَني من قِبَل شكسبير، انحداره السريع والمُذهِل، جعل المسرحية تستحقُّ تصنيف التراجيديا في طبعة قَطع الرُّبع الأُولى لعام ١٥٩٧: «تراجيديا الملك ريتشارد الثالث والتي تتضمن مكائده الماكرة ضِدَّ أخيه كلارنس: القتل المؤسِف لابنَي أخيه البريئَين، استيلائه الغاشم على الحكم، بالإضافة إلى كامل مسار حياته البغيضة، وموته المُستحقِّ تمامًا. كما مثَّله مؤخَّرًا أتباع فرقة سيادة اللورد تشامبرلين». وفي حين كان الجمهور في دراما العصور الوسطى لا يشعُر بكثير تعاطُف نحو إبليس، ولا هو يطلُب أيَّ تعاطُف، فإن شكسبير يُولِّد نوعًا من الشَّفَقة لدى الجمهور نحو ريتشارد. يوضِّح ريتشارد، وهو الشخصية الوحيدة في أعمال شكسبير التي تبدأ مسرحيةً بمُناجاةٍ ذاتية، كيف أن إعاقاته الجسدية جعلت من شَرِّه أمرًا محتومًا:
أنا الذي خُلق على عجَل، ولم يُؤتَ من جمال المُحبِّين،
ما يخطُر به أمام حسناءَ مُختالةٍ لَعُوب.
أنا الذي حُرِم اتِّساق القَسَمات،
وزيَّفَتِ الطبيعة المُخادعة بِنيتَه.
أنا المُشوَّه المنقوص، الذي أُرسل قبل الأوان،
إلى هذا العالَم النابض بالحياة ولمَّا يكَد يُتَمُّ خَلقه.
أنا الذي تنبَحُه الكلاب إذا وقف عليها؛
لِما تراه من بالغِ عجزِه، وغرابةِ هيئته.
(الفصل الأول، المشهد الأول، الأسطر ١٦–٢٣) [ترجمة دكتور عبد القادر القط، وهي الترجمة التي اعتمدْنا عليها على نحوٍ أساسي في ترجمة الاقتباسات من المسرحية في هذا القسم، وإن كان ببعض التصرُّف اليسير في بعض المواضع]

كان الإليزابيثيون يَميلون إلى اعتبار التشوُّه الجسدي دليلًا على الخطيَّة، ولكن خطبة ريتشارد الافتتاحية تلُوم الطبيعة نفسها باعتبارها المُخادع الحقيقي؛ المنافق المُحتال الذي غَبَنَه بالتشوُّه المُصاحب له لدى ولادته ولادةً مبكرةً. وهكذا فإنه يُقنع الجمهور بأنه ليس المُوجِد لظروفه بل ضحِيَّتها.

في تقاربٍ عجيب بين الفن والحياة، كانت عاهة ريتشارد مُتناظرة تاريخيًّا مع عاهة الأحدب، المُقوَّس الساقَين روبرت سيسل، الذي صار فيما بعدُ إيرل سوزبيري (١٥٦٣–١٦١٢)، ابن ويليام سيسل أو اللُّورد بيرلي وبالتالي هو العضو الآخر للسلالة السياسية التي يُشار إليها باستهزاء من قِبَل مُعاصرِيه باسم «المملكة السيسلية». ورغم كلِّ المُعوِّقات الجسدية، كان رُوبرت أو «روبن» سيسل، الذي كان «قزمًا مُخادعًا، ذا وجهٍ أجردَ مُنافق»32 على حدِّ تعبير مُنتقِديه، موهوبًا عقليًّا وعُيِّن في مجلس إليزابيث الملكي الخاص حينما كان عمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين. وكان واحدًا من أهمِّ الوزراء في ظلِّ حُكم كلٍّ من إليزابيث وجيمس، وبعد مَوته جَعلَت موجةٌ من التشهير الربط بينه وبين ريتشارد الثالث واضحًا تمامًا: «هنا يرقُد روبن الأحدَب، الذي اعتُبِر دون وجه حقٍّ ريتشارد الثالث. لقد كان يهوذا الثاني.»33 فضلًا عن ذلك، زعم المُشهِّرون أنَّ انهياره الجسدي النهائي جرَّاء علَّتَي الإسقربوط والسرطان كان النتيجة المنطقية لفُجُوره الجِنسي الجامح.

في حين أنكر ريتشارد الأحدَب وجود أيِّ استطاعةٍ لدَيه على الوثْب «بخفَّة في مخدَع محبوبته» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ١٢)، أو على الإتيان ﺑ «أفانين الحب» «الغزلية» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطران ١٤-١٥)، فإنه مع ذلك يزعم أن قدراته كمُخادعٍ تمنحه قوى إغراءٍ تتغلَّب حتى على عاهتِهِ الجسدية؛ ففي المشهد الثاني من المسرحية، يشرَع ريتشارد في طلَب زواجٍ يبدو مُستحيلًا؛ وهو أن يُغوي الليدي آن نيفيل، أرملة الرجل الذي قتلَه. علاوةً على ذلك، قام بمُحاولته أمام تابوتِ حَميها المُتوفَّى، هنري السادس (في الحقيقة، لم تكن آن زوجة ابن هنري؛ إذ كانت مخطوبة لابنه ليس إلَّا ولم تكن مُتزوِّجةً منه). ثَمَّةَ أَمرٌ مُستغرَب ولكنه أيضًا هزلي بشأن نجاحه غير المعقول في مشهد التودُّد هذا. في بدايته، تبدو قصَّة الحبِّ غير مُبشِّرة بجلاء؛ إذ تدعوه آن «شيطانًا»، و«قنفذًا»، و«مُخادِعًا»، و«قاتلًا» (الوصف الأخير هو بمنزلة تعريضٍ آخر بريتشارد كشخصيةٍ نمَطية مسرحية) قَتل زوجها وحَمُوها (الفصل الأول، المشهد الثاني، الأسطر ٣٤، و١٠٤، و١٨٧، و١٢٨). وتبصُق عليه عندما يدَّعي أن كل شَرِّه ارتُكب بدافع من حُبِّه لها. ومع ذلك، في نهاية المشهد قبَّلَت خاتمه. يُسِرُّ ريتشارد إلى الجمهور باستغرابه المُغتبِط لنجاحه: «هل رأى أحد امرأةً قَطُّ خطب وُدَّها رجلٌ على هذا النحو؟ هل رأى أحدٌ امرأةً قط ظفِر بها رجل على هذا النحو؟» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٢٣٠-٢٣١).

عند هذه المرحلة في المسرحية، يُنسَب إلى ريتشارد مقتل هنري، ونيفيل زوج آن، وأخيه الشقيق دوق كلارنس، الذي حلم أنه سيتعرَّض للغرَق والذي يُتَخَلَّص من جُثَّته في برميلٍ من خمْر المامزي. يُتابِع ريتشارد أعماله الشرِّيرة؛ فيقتل الملك إدوارد، وريفرز، ووجراي، وفون، وهاستينجز، وزوجته نفسها. ورغم كونه جذَّابًا بالنسبة إلى الجمهور، فهو يخسَر تواطؤهم في خُطَطِه الشريرة عندما يقتُل ابنَي أخيه، «الطفلَين الوديعَين» (الفصل الرابع، المشهد الثالث، السطر ٩)، في برج لندن. في الواقع يُعَد حبس الولدَين الصغيرَين في المشهد الأَوَّل من الفصل الثالث نقطة تحوُّل في المسرحية، وكل جرائم القتل التي ارتكبها تتضاءل بالمُقارنة بجريمة القتل تلك. يستجلِب الأميران ندَم حتى دايتون وفوريست اللَّذَين كان جيمس تيريل قد أرسلهما لقتلهما، في مَشهدٍ ذُكِر في الفصل الرابع: «كانا وغدَين ضارِيَين ككلاب الصيد، ذابا من الرحمة والحنان الوديع» (الفصل الرابع، المشهد الثالث، السطران ٦-٧). وبحلول الوقت الذي يبلغ فيه ريتشارد ذُروة قُواه يكون الجمهور راغبًا في هلاكه وليس نجاحه. يظفر ريتشارد بالتاج بأن جعل بكنجهام في تأبينٍ للملك إدوارد أمام مبنى جيلد هول في مدينة لندن يقول إنَّ العاهل المُتوفَّى كان نغِلًا. هذا لا يطعن في شَرَف أُمِّه فحسب وإنما أيضًا يجعل وريثَي إدوارد ابنَي سفاح؛ ومن ثَمَّ غير مؤهَّلَين لحُكم إنجلترا. شهِد الجمهور ريتشارد يتستَّر على جرائمَ شنعاء، والآن يتصنَّع الإحجام عندما يُضغَط عليه من قِبَل اللورد مايور أن يُتوَّج ملكًا.

تُقَوَّض سُلطة ريتشارد عند هذه المرحلة في أحد أقوى المشاهد النسائية القصيرة في أعمال شكسبير. من المُلاحَظ أن شكسبير يُظهِر النساء، وخاصةً المُسِنَّات اللواتي هن مُخلَّفات الحُكم الذكوري الأبوي بعد استنفاد أدوارهن الإنجابية، على أنهنَّ يمتلكن قوةً أخلاقية تتجاوز الهيمنة الذكورية. تُقطع زيارة آن لبرج لندن حيث تُحتجَز دوقة يورك والملكة إليزابيث، وتُستدعى إلى وستمنستر من أجل أن تُتَوَّج كملِكة، باعتبارها زوجة ريتشارد. يُروِّع النَّبأ المرأتَين، لا سيما أنهما تشُكَّان أنَّ الأميرَين الصغيرَين قد قُتِلا. إن قُدرة النساء في مواجهة ريتشارد هي بالأساس قدرة صِيَغ الخطاب المُميَّزة؛ القدرة على اللَّعن، والقدرة على التنبُّؤ. إن قدرة التأثير الصوتي الأُنثوي هذه تتجسَّد في أقوى قُدراتها في الملكة مارجريت؛ أرملة هنري السادس. قد لا تملك مارجريت نفوذًا سياسيًّا، ولكن قَدْحها الطويل والفتَّاك لريتشارد في الفصل الأول محفورٌ في أذهان مُستمِعيها بنحوٍ يتعذَّر محوه. يلقى ضحايا ريتشارد؛ دوق بكنجهام، وريفرز، وجراي، وهاستينجز، حتفَهم وهم يَتذكَّرون كلمات مارجريت. إن عدم وجود مارجريت في واقع الأمر في إنجلترا على الإطلاق أثناء مُعظم الأحداث المُصوَّرة بواسطة المسرحية يُقيم الدَّليل على عزم شكسبير المقصود بأن يجعل الغضب الأُنثوي الوسيلة الرئيسية للحق. إن مارجريت ليست مُجرَّد امرأة، وإنما هي تُمثِّل أيضًا، على المستوى الأسطوري، المَظهَر المُعبِّر عن الإلهة الغاضبة.

باعتبار أنَّ المسرحيات التاريخية بحُكم طبيعتها تدور حول الخلافة الأبوية الذكورية، فإن شكسبير يُعَظِّم دَور النساء، وبخاصة الطُّرُق التي يُصبحنَ من خلالها ضحايا لنظامٍ يحتاج إلى ذُريَّتهنَّ الذكورية من أجل نقْل السلطة عبر الأجيال ولكنه يَمنعهُنَّ من الإمساك بزمامها بأنفسهن. ريتشارد الذي تعرفه هؤلاء النساء، وخاصةً أمه، دوقة يورك، هو مَسخٌ أكثر شرًّا من الرجل الذي لم يَفتن في السابق آن وحدَها وإنما أيضًا الجمهور. تقول دوقة يورك: «أيها الضفدع، أيها الضفدع، أين أخوك كلارنس، وابنه الصغير نِد بلانتاجينيت؟» (الفصل الرابع، المشهد الرابع، السطران ١٤٥-١٤٦).

تُصاب الملكة إليزابيث، زوجة الملك إدوارد، بالذُّهول جرَّاء مَقتل ابنَيها الصغيرَين وتسعى إلى حماية ابنَتِها من ريتشارد، الذي، ما إن تخلَّص من آن، حتى نجده يطلُب يدَ ابنة أخيه للزَّواج على نحوٍ يُعَدُّ من قبيل سِفَاح المحارم كسبيلٍ لتوطيد مركزه. يُحاول ريتشارد، المُغترُّ في هذه المرحلة بشأن براعته الجنسية والسياسية، أن يُكرر نجاحه السابق مع آن. وفي انحرافٍ هام عن مصدر شكسبير المُتمثِّل في عمل هول، والذي يتَّهِمها بالتلوُّن، نجد الملكة إليزابيث تتفوَّق على ريتشارد في المُناوَرة، وتتصنَّع المُوافَقة على زواجه من ابنتها، إليزابيث الصغيرة، من أجل أن تحمِيَها.34 تُعَدُّ الأخيرة شخصيةً هامَّة في المسرحية، على الرغم من أنَّ دَورها لا يظهر في قائمة شخصيات المسرحية وليس لها دورٌ مكتوبٌ تُلقيه؛ ففي عالم كان ينظُر إلى عِفَّة النساء باعتبارها مُرادِفةً لصَمْتِهن، ربما يُراعي شكسبير بحرصٍ أعراف السلوك الأُنثوي المُحتشِم؛ فإليزابيث هي، في النهاية، الزوجة المستقبلية لهنري السابع، وبالتالي جَدَّة إليزابيث الأُولى. تتفوَّق امرأتان، كلتاهما اسمُها إليزابيث، وكلتاهما تربطهما بالملكة الحالية قَرابة دم، في الحِيلة والدَّهاء على ريتشارد، تفوُّقًا ليس باستطاعة أيِّ رجل في المسرحية أن يفعله.
إن شخصية ريتشارد التي أماط المُؤرِّخون المُعاصرون عنها اللثام ليست مُثيرة للاهتمام مِثل تلك التي وصَفَها عمل مور، أو هولينشيد، أو هول، أو شكسبير. ولم يتَّسِم عهده بِشرٍّ أو طُغيان لا مُوجِب لهما. كذلك، طبقًا لأحدث المدخلات في «قاموس أكسفورد للسِّيَر الوطنية»،35 ليس ثَمَّةَ إلا نَزرٌ يسير من الأدلة التاريخية المُمكن التثبُّت منها حول، على سبيل المثال، ما حدَث في معركة بوسوورث، باستثناء أنَّ من المُرجَّح أن ريتشارد قاد الهجوم الأخير الذي قاد إلى هزيمته. تُسجِّل رواية بوليدور فِرجيل أنه مات وهو «يُقاتل ببسالةٍ في أشدِّ ضغطٍ من أعدائه.»36 في كتابات شكسبير، بوسوورث هي، بالتأكيد، ذُروة الصراع. في الليلة السابقة للمعركة، يغشى ريتشاردَ أشباحُ أعدائه، بما فيهم زوجتُه المقتولة، في الوقت الذي يشعُر فيه هنري تيودور بسَلوَى الرب، والتي هي، بلا ريب، إلى جانبه. إنَّ نجاح هنري الحتميَّ المُقدَّر يُجرِّد فاعليته من صفة الاهتمام البشري؛ لهذا يعود الجمهور، عالِمًا أن ريتشارد سوف يُهزَم، من جديد إلى جانبه. وبعدما خسِر ريتشارد مَطيَّتَه في المعركة، يستصرخ بأحد أشهر الجُمَل الحوارية في أعمال شكسبير: «جواد! جواد! مملكتي لقاءَ جواد!» (الفصل الخامس، المشهد الرابع، السطر ٧). هذه هي الجملة التي عَلِقَت في أذهان المُتفرِّجِين، أكثر من أقوال هنري التي تتَّسِم بأنها أكثر ورعًا.
المُفارَقة الدرامية الكامنة لمسرحية «ريتشارد الثالث» هي أنه شخصيةٌ جذَّابة أكثر بكثيرٍ من الملك المُستقبلي هنري السابع، المدعوم إلى أقصى درجةٍ من قِبَل العناية الإلهية والذي تُطمِئنه تجلِّياتها قبل المعركة بالنصر. لَاحَظ أحد المُؤرِّخِين المُعاصرِين، وهو ستيفن جَن، أنَّ تأثير بطَل مسرحية شكسبير كبيرٌ لدرجة أنه تُوجَد ثلاثة كُتب تتناوَل ريتشارد الثالث في مُقابل كلِّ كتابٍ يتناول الرجل الذي هزَمه.37 في عالم المسرح، الانتصار الساحِق هو من نصيب ريتشارد الثالث.

يوليوس قيصر

نظرًا لكون يوليوس قيصر مشهورًا في إنجلترا باعتبار أنه كان قد غزا البلاد على رأس جيشٍ روماني سنة ٥٥ و٥٤ قبل الميلاد، فقد كان شخصيةً معروفة بالفعل حتى في أوساط أولئك الذين يُشكِّلون أفراد جمهور شكسبير الذين لم يَحظَوا بفُرصة قراءة كتاب يوليوس قيصر «تعليقات على الحرب الغالية» في مدرسة القواعد اللغوية. ومع ذلك، اضطَلعَت إنجلترا أيضًا بصِلةٍ هامَّة بغريم قيصر الجمهوري، بروتس. في الواقع أن اسم «بريطانيا» نفسه كان يُعتقَد أنه مُشتَقٌّ من اسم مُؤسِّسها، بروتس. بروتس هذا كان سلفًا للشخصية التي تحمل نفس الاسم التي تظهر في مسرحية شكسبير فضلًا عن كونه ينحدِر من نسْل إنياس الذي أبحر، حسب كتاب جيفري من مونموث الذي يرجع إلى القرن الثاني عشر «تاريخ ملوك بريطانيا»، من روما لِيُؤسِّس لندينيوم استجابةً لتوجيه أُعطيَ إليه في حُلم من قِبَل الإلهة ديانا. وفي أساطير بريطانيا القديمة، انطلَقَ مسار المدن الكبرى بالإمبراطورية من طروادة الأسطورية، عبر روما إلى لندن، طروادة الجديدة أو «تروينوفا». وهكذا في حين كانت رُوما المُعاصِرة، مَعقِل البابا نفسه، «عاهرة بابل» كما ينعَتُها البروتستانت على نحوٍ مُشين، فقد كانت روما القديمة تُبَجَّل باعتبارها التي زَرعَت بذور القومية الإنجليزية التي كان يجري رعايتها سريعًا لتؤتي ثمارها أثناء الحقبة الإليزابيثية.

كان وضْع إنجلترا الإمبراطوري يرجع إلى حقبة الإصلاح البروتستانتي ليس إلَّا. حَظِيَت إنجلترا، المُنعزلة دومًا عن بقية أوروبا، بوضع الإمبراطورية عندما انفصل هنري الثامن عن روما أثناء طلاقه من كاثرين من أراجون. وبتمزيقه لصِلات إنجلترا بالبابا، اكتسَبَ سُلطةً سيادية على كلِّ جانبٍ من جوانب الحياة الإنجليزية، الرُّوحية والدنيوية؛ ومن ثَمَّ انطبق عليه تعريف النظام الملكي الإمبراطوري. إنَّ الأحداث التي صُوِّرَت في مسرحية شكسبير تُمثِّل التفكُّك الكارثي للنظام الجمهوري الذي يطمح بروتس والمتآمِرون معه إلى إنقاذه.

تبحث مسرحية شكسبير، التي تدور أحداثها في العالم القديم البعيد زمنيًّا بعدًا آمنًا (نِسبيًّا)، مسألة مَن هم الأشخاص وما هي الأمور التي تُنْعِم بالسلطة على القادة الأفراد، وتطرَح أسئلةً جوهرية حول طبيعة وحدود السلطة السياسية، وتختبر فاعلية الخطابة من ناحية إمكانية كونِها أداةً أكثر خطورة من البراعة الحربية. لا تغُضُّ المسرحية الطرْف عن مقتل يوليوس قيصر الاستبدادي الذي كان يُعاني من الصَّرَع، ولكنها لا تُدين المُتآمرِين. في الواقع، يُسهِب شكسبير في عرْض دوافعهم ببعض التعاطُف ويُصوِّر، من خلال شخصية بروتس المحورية، الصراعات السياسية والنفسية للفصيل الجمهوري. إن الأسلوب اللُّغوي لماركوس أنطونيوس، نصير يوليوس قيصر، لا مثيل له في المسرحية؛ فهو يملك القدرة على استخدام الأسلوب الخطابي ببراعة، ولكنه في نهاية الأمر لن يحكم روما. فستُترَك هذه المهمة لابن أخي يوليوس قيصر، أوكتافيوس، الذي يظفر بالكلمة الأخيرة في المسرحية ويحتفل بهزيمة أعدائه فيما يُطلِق عليه، «أمجاد هذا اليوم السعيد» (الفصل الخامس، المشهد الخامس، السطر ٨٢)،38 الذي هو بالأحرى يومٌ تقشعِرُّ له الأبدان.

واصلَت مسرحية «يوليوس قيصر»، التي لم تُنشَر حتى ظهور «المطوية الأُولى» التي نُشِرَت عام ١٦٢٣، اهتمامَ شكسبير بالعالم القديم الذي ظهر لأول مرة في تراجيديا الثأر الدموي «تيتوس أندرونيكوس». تتعلق حبكة شكسبير، المأخوذة من ترجمة السير توماس نورث سنة ١٥٩٥ لكتاب بلوتارخ «حيواتٌ مُوازية»، بالأحداث المؤدية إلى واللاحقة على اغتيال يوليوس قيصر في منتصف مارس (١٥ مارس) سنة ٤٤ قبل الميلاد على يد بروتس والمُتآمرِين معه، وأولهم عضو مجلس الشيوخ كاسيوس «شَرِه العين منهوم النظرات» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ١٩٣) [ترجمة محمد السباعي]. روما عبارة عن جمهورية ولكن شعبية يوليوس قيصر تصِل، لدى عودته من نصرٍ حاسم في الحرب الأهلية في مُواجهة بومبي العظيم وفصيله، إلى درجة أنَّ الناس يُلِحُّون عليه أن يكون ملكًا. عُرِض على يوليوس قيصر التاج ثلاثَ مرَّات، ولكنَّ رفْضَه لم يَزدِ الدعم الشعبي إلا حماسةً: «هتَفَ الغوغاء وصفَّقوا بأيديهم المُشقَّقة» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٢٤٣-٢٤٤). وعلى الرغم من رفضه بذلك للتاج، يذكر كاسكا (وهو مُتآمرٌ آخر) أن مجلس الشيوخ ينوي «أن يُنصِّب قيصر ملكًا» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٨٦). يُلِحُّ كاسيوس على بروتس أن يُخمِد هذا الاحتمال وأن يضع نهايةً لمسلك قيصر الاستبدادي. بروتس، الذي يُعذِّبه في داخله توقُّعه للاغتيال، مدفوعٌ كرهًا نحو الاستنتاج الذي مَفاده أن قيصر يجِبُ أن يُغتال. وثَمَّةَ عنصرٌ رئيسي في هذا القرار المُعلَّل بعناية وهو أن سلَفَه أطاح بالطاغية تاركوينيوس من السلطة سنة ٥١٠ قبل الميلاد لِيُؤسِّس الجمهورية. يذهب قيصر إلى الكابيتول خلافًا لتحذير العرَّاف، الذي قال له: «حذارِ من مُنتصف مارس» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ٢٣)، وخلافًا لنصيحة زوجته، كالبورنيا، التي رأت حُلمًا تنبُّؤيًّا مَفادُه أنه سوف يتعرض لأذًى في هذا اليوم. أيضًا تُنْبِئ العواصف المُروِّعة، والآيات المُخيفة، والنُّذُر المُرعِبة (الفصل الأول، المشهد الثالث) بمصرَع قيصر.

مباشرةً قبل لحظة اغتياله، في بداية الفصل الثالث، وردًّا على ميتيلوس المُتوسِّل، الذي يطمَحُ إلى تأجيل تنفيذ الحُكم على شقيقه المَنفي، يرفض قيصر بغطرسةٍ العفو عنه، قائلًا: «واعلم أن قيصر لا يظلِم أحدًا، ودون سببٍ وجيه لا يُغيِّر قرارًا له» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطران ٤٧-٤٨). سخِر بن جونسون من هذه الجملة الحوارية، ولكن بما أنه يُورِدها بصيغةٍ مُختلفة؛ «إنَّ قيصر لم يظلِم أحدًا أبدًا، إلَّا لسببٍ وجيه.» فيبدو من المُرجَّح أن شكسبير عدَّل العبارة المُهينة قبل النشر، ربما استجابةً لانتقاد جونسون. في واقع الأمر إن الجملة الحوارية التي يُدَّعى كونها مُثيرةً للضحك تتطابق تمامًا مع منطق المُتآمرِين الذين يرتكبون فعل القتل باعتباره عملًا من أعمال الصلاح. بيْدَ أنَّ قيصر لا يدَّعي أنه لا يُخطئ أبدًا فحسب، وإنما يدَّعي أيضًا أنه، رغم كونه أَصمَّ في أذنٍ واحدة، وعُرضةً لخروج زَبَدٍ من فمه ومُصابًا ﺑ «داء الصرع» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ٢٥٣)، فهو «لا يُحرك ولا يُزعزع» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٧٠). وهو صارم لا يتزحزح، وذلك كما يقول لكاسيوس: «أنا ثابِتٌ كنجم الشمال» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٦٠). هذا التشديد على طبيعته «الراسخة»، «المنيعة» على نحوٍ فريد (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطران ٦١ و٦٩)، وعلى امتلاكه لثباتٍ تام، «فأنا دائمًا قيصر» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطر ٢١١)، يُحاكي شعار إليزابيث الشخصي: «دومًا على نفس الحال.» وعندما كتب شكسبير مسرحية «يوليوس قيصر» في عام ١٥٩٩، جسَّد الجسد المُتحلِّل للملكة المُتبتِّلة المُسِنَّة؛ «العذراء الملكية» في مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» (الفصل الثاني، المشهد الأول، السطر ١٦٣)39 وعبارة «إمبراطورتنا العظيمة» في مسرحية «هنري الخامس» (الفصل الخامس، الاستهلال، السطر ٣٠)40 الهُوية الوطنية الإنجليزية. وبصرْف النظر عن الصورة الثابتة المُصوَّرة في لوحات إليزابيث الشخصية المرسومة تحت رعاية الدولة، فقد سقط شعرُها وأسنانها، ويرجِع ذلك جزئيًّا إلى استخدام مساحيق التجميل التي تحتوي على الزئبق، وفي سنِّ الشيخوخة كانت عُرضةً لنَوباتِ غضبٍ غير منطقي.
تُظْهِر المسرحية هشاشة السلطة الإليزابيثية المُطلَقة عندما يُسدِّد بروتس الضربة الأخيرة القاتلة، التي يَرُدُّ عليها قيصر وهو في رمَقِه الأخير قائلًا: «حتى أنت، يا بروتس؟ فليمُت قيصر إذن» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٧٧). إن عبارة «حتى أنت يا بروتس»، المكتوبة باللاتينية، التي لا تعود إلى أيِّ مؤلف، تحمِل في طيَّاتها إحساسًا مذهولًا بالخيانة في لحظةٍ بارزة تتَّصِل بما يمكن أن ندعوه حميمية القتل. هذا القُرب بين بروتس وقيصر ينقلِب على الفَور بفعل العرض العام التالي الساخر على نحوٍ رمزي. يحُثُّ بروتس رفاقه من المُتآمرِين معه أن يغسلوا أيديهم «حتى المرافق» في دم قيصر وأن يُلطِّخوا سيوفهم فيه حتى يُمكنهم أن يدخلوا ساحة السوق، رافعِين سيوفهم، صائحِين: «السلام، والتحرُّر، والحرية» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ١١٠). بالمِثل، نجد كاسيوس واثقًا في ادِّعائه بأن العُنف فضيلةٌ سياسية ويَعتبِر أن العصور اللاحقة سوف تُجيز فعلة القتل هذه:
كم من العصور بعدَنا سيُعيد تمثيل هذا المنظر النبيل هنا،
في دول لم تُولد بعدُ وبلغاتٍ لم تُعرَف بعد؟
(الفصل الثالث، المشهد الأول، الأسطر ١١١–١١٣) [ترجمة حسين أحمد أمين]
إنَّ تصريح كاسيوس الميتامسرحي (فهو يُذَكِّر الجمهور بأنهم في المسرح يُشاهدون إعادة تمثيل للأحداث) يمكن أيضًا أن يكون نوعًا ما بمنزلة وسيلة أمانٍ للكاتب المسرحي، مُشدِّدًا على أنَّ هذا العُنف السياسي المُستغرَب «ليس إلا مسرحية» وأن أمْر إعادة الأحداث التاريخية الخاصة به بعيدٌ كل البعد عن كونه أمرًا ينفرد به شكسبير؛ ففي مسرحية «هاملت»، على سبيل المثال، يتحدَّث بولونيوس عن تجربته التمثيلية في الجامعة قائلًا: «مثَّلتُ دَور يوليوس قيصر. وقُتِلتُ في الكابيتول. قتلني بروتس» (مسرحية «هاملت»، الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ٩٩-١٠٠).41
إن إحدى أكثر القضايا إلحاحًا في المسرحية هي مدى كون التاريخ ملاذًا آمنًا يمكن من خلاله إمعانُ النظر في أمورٍ بجَسامة التآمُر والاغتيال، وهي الأمور التي كان يُعَدُّ من قبيل الخيانة مناقشتها في أُطرٍ أخرى أكثرَ مُعاصَرة. لا شكَّ في أن الأزمة في مسرحية «يوليوس قيصر»، في بعض الجوانب على الأقل، تشابَهَت تشابُهًا خطِرًا مع مُعضلة إليزابيث من حيث كونها حاكمةً دون وريثٍ تتزايد دكتاتوريتها، وقد يَتخلَّص منها بسهولةٍ فصيلٌ ناقِم عليها، مثل سلَفِها الرُّوماني. خشِيَ كل الملوك من التعرُّض للاغتيال، وقد كان هناك العديد من المؤامرات التي حِيكَت ضِدَّ إليزابيث؛ ففي عام ١٥٨٥، على سبيل المِثال، تآمَر الكاثوليكي أنتوني بابينجتون لقتل إليزابيث وإجلاس ماري ملكة الاسكتلنديِّين على العرش. قد يكون «الرومان المُتكتِّمون» (الفصل الثاني، المشهد الأول، السطر ١٢٤)؛ أي المُتآمِرون، في المسرحية مُماثلِين لكاثوليك إنجلترا المُستَتِرِين المُتآمرِين، لولا أن أعضاء نفس هذا الفصيل يَبدُون شِبْهَ بروتستانت وهم يُدينون الاحتفال الشعبي في مهرجان اللوبركاليا ويُزيلون الزينة من أعمدة قيصر. تضع خطبة أنطونيوس في الجنازة عامَّة الرومان في موضع «الرومان الكاثوليك» عندما يتوقَّع تعظيمهم لجسد قيصر كما لو كان تمثال المسيح المصلوب. وهو أيضًا يتخيَّلهم، مِثل جامعي الآثار المُقدَّسة عند إعدام أحد الشهداء، يمسَحون الدم في مناديلهم: «لَمضَوا وقبَّلوا الجِراح في جُثة قيصر، ولَغمَسوا مناديلهم في دمِهِ المُقدَّس» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ١٣٣-١٣٤).42 مرةً تلو الأخرى، يبدو الأَمرُ وكأنَّ المسرحية تتحرَّك عن قصدٍ داخل وخارج نطاق التواصُل مع الحاضر.

وفي حين يُعلِن بروتس والمُتآمِرون انتصار الحرية على الاستبداد، يندب ماركوس أنطونيوس قيصر على الملأ؛ ففي هفوةٍ سياسيةٍ فريدة، لا يسمح بروتس، الذي أَلحَّ على الإبقاء على حياة أنطونيوس، له بإلقاء خطبةٍ جنائزية فحسْب وإنما يُصِرُّ أيضًا على بقاء العامَّة للاستماع إليها. يتبيَّن أن هذا القرار، أكثر من الاغتيال نفسه، هو سبب سقوطه. أخفى أنطونيوس، بأسلوبٍ روماني، غضبَهُ لمقتل قيصر، ولا يُفضي إلَّا للجمهور في مناجاةٍ ذاتية بخُطَّته لإطلاق «كلاب الحرب» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٢٧٣) من خلال الانتقام لمَقتل قيصر. وبعبارة «أيها الأصدقاء، أيُّها الرُّومان، بني وطني، أعيروني أسماعكم: إنما أتيتُ لأدفن قيصر، لا لأمدحه» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ٧٤-٧٥)، تستميل خطبة أنطونيوس البارعة، والتي تُعَدُّ نوعًا أدبيًّا رومانيًّا، العوامَّ المُتقلِّبِين، الذين يبدءون مُتحمِّسِين في القيام بأعمال شغْبٍ ضدَّ المُتآمرِين؛ فيقتلون سينَّا الشاعر لمجرَّد أنه يحمل نفس اسم سينَّا المُتآمِر.

بنحوٍ أساسي، إن نفوذ الزعماء الرومان يرتبط بالناس الذين في الشوارع، عامَّة الرومان، مثل النجَّارِين والإسكافيِّين الذين تبدأ بهم المسرحية، إن لم يكن يعتمد عليهم، وإن كان ذلك بطرقٍ غير مُحدَّدةٍ نوعًا ما. ففي مسرحية «كوريلانوس» يدعوهم شكسبير «الحشد العديد الرءوس» (الفصل الثاني، المشهد الثالث، السطر ١٧)،43 بيْد أنهم يملكون نفوذًا قليلًا، ومِثل العمال اليدويِّين في مشهد المسرحية الأول، هم «ينصرِفون وقد عُقِدَت ألسنَتُهم» (مسرحية «يوليوس قيصر»، الفصل الأول، المشهد الأول، السطر ٦٣)، جرَّاء الفصاحة المُوبِّخة للأشخاص الأرفع منهم في المنزلة الاجتماعية. في مسرحية «يوليوس قيصر» ترتدي هذه الرءوس العديدة «قلانسَ ناضحةً بالعرَق» ولديهم «زفراتٌ كريهةُ الرائحة» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٢٤٤، و٢٤٥). وعلى خلاف المتآمرِين الذين يتَّصِفون هم وكاسيوس بالعقلانية الرُّواقية والنشاط العقلي — «فإن كاسيوس ذاك شَرِه العين منهومُ النظرات. إنه لمِطراقٌ، كثيرُ الهواجس، وإنَّ مِثله حريٌّ أن يكون خطرًا مخوف الجانب» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ١٩٣-١٩٤) — تجد أنَّ رءوس العامة مشغولة بنشاطٍ جسدي: العرَق، والرائحة الكريهة. إنهم «قُطعان العامة»، و«الغوغاء» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٢٦٣ و٢٤٣). بيْد أن التجمُّعات التي تُميِّز العامة تتغير، وفي بعض الأحيان يكونون عبارة عن غوغاء وجَمْهرَةٍ سافكِين للدماء؛ إذ تُلقى الخُطَب الجنائزية من أجل قيصر من منصَّة للخطابة. بل الأَهمُّ من ذلك، أنهم عبارة عن مُتفرجِين. تفاعَلَ «السوقة» مع قيصر مِثلما يتفاعلون مع «المُمثِّلِين في المسرح» (الفصل الأول، المشهد الثاني، السطران ٢٥٧ و٢٥٩). يتَّسِم الناس، كمُستمعِين، بأنهم طيِّعون للغاية يقعون تحت رحمة ما يسمعون. وهكذا، قبل أن يُسيطِر أنطونيوس على عامَّة الرومان، نجدهم يستقبلون دفاع بروتس المُبتذَل عن فَعلة القتل بمُداهنةٍ غير مُتحفِّظة؛ إذ كانوا قد تَوصَّلوا عند هذه المرحلة إلى استنتاجٍ «مؤكَّد» مَفادُه أنه «من حُسن حظنا أن تخلَّصَت روما منه»؛ أي قيصر، (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطران ٧٠-٧١). وكذلك، ومن المُفارقات أنهم يُعرِبون عن حماسهم لِبروتس، الذي كان قد دافع لِتوِّه عن نظام الجمهورية، في صورة رغبةٍ في أن يجعلوا «منه» قيصرًا. وهكذا نجد العوامَّ «الوضيعِين»، و«الدنيئِين»، و«الحقيرِين» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأسطر ٢٩–٣٢)، يَتخلَّون طوعًا عن سُلطتهم لصالح البلاغة الخطابية. يَرُدُّ العاميُّ الروماني الثالث على سلسلة أسئلة بروتس الخطابية في خطبته الجنائزية، التي تبدأ بسؤاله «من منكم هنا هو من الضَّعَة بحيث يقبل أن يكون عبدًا؟» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ٢٩)، بالإثبات؛ إذ يصيح قائلًا: «فليكن هو قيصر الجديد» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ٥١). إنَّ كلَّ ما تبحث عنه تلك الرءوس الكريهة الرائحة، المُتعرِّقة لا يعدو أن يكون رأسًا أكبر. مع ذلك، يبدو أنَّ شكسبير يُدرِك أن جمهوره بتقسيماته الطبقية المُتأصِّلة هو كِيان كان يمتلك السلطة، وإن كانت سُلطةً لم تصِل بعدُ إلى أَتمِّ درجات الوضوح السياسي. وعندما يصُوغ المُضاهاة بين الأحداث التاريخية السياسية لإنجلترا وروما في مسرحية «هنري الخامس»، نجده يصِفُ مواطنِي لندن في تلك المسرحية التاريخية الإنجليزية بأنهم يُحيُّون ملِكهم المُختار مثل جُموع روما القديمة «المُتكدِّسة»:
كأنهم شيوخ روما القديمة،
ومن خلفهم جموع الشعب المُتكدِّسة،
وقد تقدَّموا جميعًا لكي يُرحِّبوا بعودة الفاتح قيصر …
(مسرحية «هنري الخامس»، الفصل الخامس، الاستهلال، الأسطر ٢٦–٢٨) [ترجمة الدكتور محمد عوض محمد]

كما في مسرحية «يوليوس قيصر»، تتألَّف السلطة في هذه الفقرة من ثلاثة عناصر: القائد الفاتح، وطبقة الشيوخ التي يتألَّف مُعادِلها الإنجليزي من «العمدة وجميع صحبه» (الفصل الخامس، الاستهلال، السطر ٢٥)، وبقية الشعب.

بعد موت قيصر، ينشأ الصراع على روما بين الفصيل الجمهوري الذي يضمُّ بروتس وكاسيوس وبين أنصار قيصر، ماركوس أنطونيوس، وأوكتافيوس؛ ابن شقيق قيصر الذي سوف يُصبِح مُستقبَلًا الإمبراطور أغسطس. وأثناء الاشتباك بين القوات التابعة لكلٍّ منهما في فيلبي، يتَّهِم بروتس كاسيوس بقَبول رشاوى. يُسوَّى النزاع في نهاية المطاف ويكشف بروتس أنه وَصلَته أنباء بأنَّ زوجته، بورشيا — وهي امرأةٌ جرحت نفسها في فخذِها في السابق (الفصل الثاني، المشهد الأول، الأسطر ٢٩٧–٣٠٠) في محاولةٍ منها لإظهار كبتِها الأنثوي لمشاعرها — قد انتَحرَت بابتلاع جمراتٍ مُشتعِلة. بيْد أنه بعد هذا الإعلان في المشهد الثاني من الفصل الرابع، عندما يصِل رسولٌ بالأنباء من جديد، لا يكشف بروتس عن أنه يعلَم مُسبقًا بموت بورشيا، وإنما يتفاعل بوجهٍ علنيٍّ ذي استجابةٍ غير مُكترِثة يبدو أنها هي جُلُّ ما تسمح به معرفته المُسبَقة بالأمر. يُبيِّن شكسبير في هذا المَوضع، كما يفعل مرارًا وتَكرارًا على مدار مسيرته، الكُلفة البشرية الرهيبة للحقيقة الجليَّة التي مَفادها أن التاريخ يصنعه الرجال غالبًا على حساب النساء. يستمرُّ الدَّمار الحائق بالمُتآمرِين عندما ينتحِر كاسيوس، ضحية معلوماتٍ مغلوطة عن سَير المعركة. وبعد ذلك يموت بروتس — الذي كان شبَح قيصر قد غَشِيه قبل أن تبدأ المعركة — بالطريقة الرومانية اللائقة، بالسقوط على سيفه، قائلًا إنه يقتُل نفسه عن إرادةٍ منه تفوق إرادته حينما قتَلَ صديقه قيصر. يجد أنطونيوس، وأوكتافيوس، وأتباعهما، الجثة ويُمتدَح بروتس بأنه «أنبَلُ الرومان جميعًا» (الفصل الخامس، المشهد الخامس، السطر ٦٩)، وأن ما فعله كان نابعًا تمامًا من اعتقاده بأنه «الصالح العام» للشعب (الفصل الخامس، المشهد الخامس، السطر ٧٣) وليس من دوافعَ شخصيةٍ دنيئة.

إن شكسبير، إذن، لا يُحاول أن يحلَّ الجدلِيَّات التي يبسُطها في مسرحية «يوليوس قيصر»، بل إن مجرَّد عرضها أمام الجمهور المُتنوِّع في مسرح «ذا جلوب» كان بالقطع أمرًا خطيرًا بما يكفي. كانت الموضوعات التي تتناولها المسرحية، والمُتعلِّقة بالحُكم، والانفراد بالسلطة، والاستبداد، مُهمةً بنحوٍ هائل لجمهور شكسبير، رغم أن الأيديولوجية السائدة، تحت الحُكم المُستبِدِّ لإليزابيث، كانت تؤكِّد أن إنجلترا كانت في عصرها الذهبي وأنَّ الاستبداد والانفراد بالسُّلطة لم يكونا إلَّا حكاياتٍ خُرافية من ماضٍ سحيق. ولكن إن كان شكسبير يُعرِّض نفسه لخطرٍ ماثل هنا بتناوُله لتلك الموضوعات، فَقَد غفل عن الأَمرِ الزائرُ السويسري توماس بلاتر، الذي تُسجِّل يومياته تقديم المسرحية على مسرح «ذا جلوب» سنة ١٥٩٩. كان أكثر ما استمتع به بلاتر في العرض هو أنَّ الزوجتَين، كالبورنيا وبورشيا، رَقصَتا مع زَوجَيهما بعد المسرحية. في واقع الأمر يبدو أنَّ المسرح يملك حُريةَ عرضِ حتى أخطر الأفكار السياسية وربما أكثرها تمرُّدًا.

إنَّ مسرحية «يوليوس قيصر» هي أيضًا مسرحيةٌ هامَّة من ناحية تاريخ انشغال شكسبير المُتواصِل بالعصور القديمة في خلال مسيرته. كان أول تجسيدٍ درامي له للعالم القديم هو مسرحية «تيتوس أندرونيكوس»، التي طُبِعَت في عام ١٥٩٤، وإن لم تكن مُستندةً على وقائعَ حقيقية، والتي سار عُنفها الثأري الدموي على نهج تقليد التراجيديا السينيكية. وكانت مسرحية «اغتصاب لوكريس»، التي طُبِعَت أيضًا في عام ١٥٩٤، مُحاولةً شعرية أُولى للدخول إلى عالم العصور القديمة، وتناوَلَتِ الكيفية التي قضى بها انتهاك تلك العقيلة الرومانية العفيفة، وانتحارها الذي استَتْبَعه، على حُكم التاركوينيِّين الاستبدادي في روما. وشرع في مُعالجة موضوعات السياسة والسلطة في العالم القديم في مسرحيتَيه الرومانيتَين اللاحقتَين، «أنطونيو وكليوباترا»، و«كوريلانوس»، وفي مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» صوَّر أبطال اليونان القديمة.

بيْد أنَّ مسرحية «يوليوس قيصر» تتَّسِم بأهميةٍ إضافية لأنها تسبق مسرحية «هاملت» مباشرةً وتسبقها في مُعالجة نفس الموضوع؛ إذ تدور مسرحية «هاملت» حول مسألة قتل الملك أو عدَم قتله. وتُمهِّد مسرحية «يوليوس قيصر» الساحة بتقييم المعضلة — التي كان قد سبق أن نُوقِشَت لمئات السنين وقتما كتَبَ شكسبير مسرحيته — المُتعلِّقة بمسألة قتل أو عدم قتل قيصر، الرجل الذي «كان سيُصبح» ملكًا.

كوريلانوس

ذهب بعض المُعلقِين، بخاصة في القرن التاسع عشر، إلى أن شكسبير لا بُدَّ أنه كان جنديًّا لأنَّ روايته للعمليات العسكرية كانت تنبض بحيويةٍ شديدة ومُفعمة بالحياة، وتستقصي مسرحية جوناثان بيت «أن تكون شكسبير» (٢٠١١؛ التي قُدِّمَت على مسرح «ترافالجار ستديوز»)، في آونةٍ أقرب عهدًا، الفكرة القائلة بأن شكسبير كان جنديًّا أثناء «السنوات المفقودة». ورغم جاذِبية مثل هذا التخمين الاستنباطي، فإنَّ القول بأن شكسبير صنَع سُمعته باعتباره كاتبًا، وشاعرًا، ومُمثلًا، وليس باعتباره أحد رجال السلطة أو باعتباره بطلًا حربيًّا، لَهو حقيقةٌ لا جدال فيها فيما يتعلَّق بحياته. وفي إطار السعي إلى إيجاد معلوماتٍ جديدة عن حياة شكسبير، من السهل جدًّا أن ننسى أن النشاط الذي يُمكن القول بأنه شَغَل جُلَّ وقت شكسبير ككاتب، والذي كان بالفعل جزءًا لا يتجزَّأ من عملية التأليف الأدبي نفسها، كان نشاط القراءة المُرتبِط بها ارتباطًا بديهيًّا.

في مسرحية «كوريلانوس»، برهن شكسبير على قُدراته الهائلة كقارئ؛ قارئٍ كان، إلى جانب ذلك، قادرًا على مُعالَجة ما قرأه ومنح الحياة له من أجل تقديمه من خلال وسطٍ جديد؛ وهو المسرح الجماهيري. المسرحية هي عبارةٌ عن سَردٍ لسيرة حياة بطلِها الذي تحمِل اسمه، كايوس مارشيوس، والذي يُمنَح لاحقًا الكنية التشريفية، كوريلانوس. محور حياة كوريلانوس هو الشرَف العسكري، وهو نتاج كلٍّ من الثقافة العسكرية الرومانية، والأَهَم من ذلك، أُمُّه، فولومنيا، وهي عقيلةٌ رومانية وطنية تُفضِّل أن ترى ابنها مَيِّتًا على أن تراه موصومًا بعار الهزيمة. كان مصدر شكسبير، وهو «حياة كايوس مارشيوس كوريلانوس» جزءًا من كتابٍ استعان به مرارًا وتَكرارًا في مسيرة الكتابة الخاصة به، وهو كتاب «تراجم نُبلاء الإغريق والرومان» (والذي يُعرف أيضًا باسم «حيوات موازية») الذي ترجَمَه توماس نورث (وطُبِع سنة ١٥٧٩ وطُبِع مُجدَّدًا مع إضافة تراجمَ جديدة سنة ١٥٩٥). تكشف مسرحية «كوريلانوس» عن الطريقة التي بعَث بها شكسبير، أولًا وقبل كلِّ شيءٍ باعتباره قارئًا، ولكن أيضًا باعتباره مُمثِّلًا وباعتباره كاتبًا، الحياةَ في تاريخ العالم القديم الذي قرأه وجَسَّده في المسرح اليعقوبي.

•••

تبدأ مسرحية «كوريلانوس» بأعمال شغْبٍ من قِبَل عوامِّ الرومان، وبينما يحتجُّون في كتاب بلوتارخ على الرِّبا، نجدهم في مسرحية شكسبير ضحايا بلاءٍ مألوف جدًّا لجمهوره؛ ألا وهو شُحُّ الغذاء. تُفاقِم طبقةٌ أرستقراطية، مُعتادة على احتياجاتهم، من مُعاناتهم، وغطرسة واحتقار وُلاةِ أمورهم تتمثَّل وتتجسَّد، من وجهة نظر عامة الناس، في كايوس مارشيوس؛ لهذا السبب، يُندِّدون به حتى وهو يقود روما، تحت رئاسة كومينيوس، إلى خِضَمِّ معركةٍ في مواجهة قبائل الفولسكي. كايوس مارشيوس مُدانٌ بالفعل بكل الأشياء التي يتَّهِمه بها العامة، ولكنهم هم أنفسهم عبارة عن تكتُّلٍ مُتقلبِ الآراء ويسهُل التلاعُب بهم عن طريق مُمثلِيهم الفاسدِين، الذين كان يُدعى أحدهم بالتريبيون. إن هذه ليست بمسرحية تبسُط الصراع الطبقي. يغنم كوريلانوس نصرًا مجيدًا لروما على الفولسكيِّين حينما يُحاصَر داخل أسوار بلدة كوريولي ويتغلَّب بمُفرده على سكانها، بما في ذلك مُحاربهم النبيل أوفيديوس. ويكون منح كايوس مارشيوس كنية «كوريلانوس» التشريفية مكافأةً على هذا. وفي أعقاب انتصاره، تأمُل والدته، فولومنيا، أن تراه يُمنَح التشريف الأقصى بأن يُصبح قُنصُلًا. وثَمَّةَ أَمرٌ من الأمور الأساسية لهذه العملية هو مُعتادٌ لنا ولكنه غريب جدًّا على عالم شكسبير، وأعني بذلك مُشاركة عامَّة الرومان في انتخابه؛ «ولن يتنازل عن قيراط من شعائره» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، السطران ١٣٩-١٤٠)44 [ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، وهي الترجمة التي اعتمدنا عليها على نحوٍ أساسي في ترجمة الاقتباسات من المسرحية في هذا القسم، وإن كان ببعض التصرُّف اليسير في بعض المواضع]. بيْد أنَّ كوريلانوس يرفُض دورهم مُعتبرًا إياه «شهادةً لا معنى لها» (الفصل الثاني، المشهد الثالث، السطر ١١٦). وفي حين يمنحه العامة في بداية الأمر موافقَتَهم على منصب القنصل، نجد أن رفضه بأن يُظهِر لهم جروحه حسبما يقتضي العُرف الروماني، بالإضافة إلى تواطُؤ مُمثلِيهم، يجعلهم ينقلِبون عليه؛ ففي البداية يدْعون إلى إعدامه، ولكنهم في نهاية الأمر يُطالبون بالعقوبة الأقل وهي نفيه من روما.

يغضب كوريلانوس من رفضه من قِبَل مُواطني روما، ومع التصريح الجازم بأن «ثَمَّةَ عالمًا في مكانٍ آخر» (الفصل الثالث، المشهد الثالث، السطر ١٣٦)، ينضمُّ في نهاية الأمر إلى صفوف عدوُّهِ السابق أوفيديوس ويتقدَّم صوب المدينة مَسقطِ رأسه، التي لا مناص الآن من تدميرها. يذهب أكبر مُؤيِّديه، منينيوس؛ الرجل الذي يُعتبَر كوريلانوس مثل ابنٍ له، إلى معسكر الفولسكيِّين لَيتوسَّل إليه أن يرحَم روما، فلا يجد من كوريلانوس إلَّا أنه غير مُتأثِّر بتوسُّلاته. ولا يرِقُّ كوريلانوس إلَّا عندما تصِل جماعة النساء (فولومنيا، وفيرجيليا، وفاليريا) ومعها الصغير مارشيوس لتتوسَّل إليه أن يَكُفَّ. هنا، تقع لحظة استثنائيةٌ بين الأمِّ والابن، هي عبارة عن توقُّفٍ مُؤقَّت، ذلك الذي من أجله تُعْطي المسرحية في «المطوية الأولى» توجيهاتٍ مسرحيةً كاملة على غير العادة؛ إذ تُوجِّه كوريلانوس لأنْ «يُمسكها من يدِها صامتًا» (الفصل الخامس، المشهد الثالث، السطر ١٨٢). يُمثِّل هذا الانقطاع القصير، ولكنَّهُ مع ذلك مُوحٍ، في أحداث المسرحية اللحظةَ المصيرية التي يُغيِّر فيها موقفه، والتي عندها يبدأ السقوط التراجيدي المُتعجِّل نحوَ مَوت البطل. لقد خَتمَت قدرات أُمِّه على الإقناع في الحقيقة على شهادة وفاته. يجد أوفيديوس، الناقم بالفعل من أنَّ شعبية كوريلانوس مع الفولسكيِّين تفوق بشدَّة شعبيته، سببًا جديدًا ليستشيط غضبًا الآن؛ إذ نَجحَت فولومنيا في إثناء ابنها عن تدمير روما تدميرًا كاملًا. تنتهي المسرحية بطعن كوريلانوس حتى الموت على يد أوفيديوس ولكن من دون أي مدلولٍ على ما يستَتْبِع ذلك فيما بعدُ.

•••

مسرحية «كوريلانوس» هي عبارة عن تصويرٍ درامي لرواية بلوتارخ فيما يتعلَّق بالقائد الروماني، وفي المسرحية، يُقدِّم شكسبير قراءة لمصدره ليُشكِّل البطل التراجيدي في صورة أحد رجال السلطة وأعظمِ مُحاربٍ في روما. وعلى هذا النحو، فإنه لا يحتمِل السياسة وليس لديه احترامٌ لمن هُم أدنى منزلةً منه على الصعيد الاجتماعي، وتطرح المسرحية بنحوٍ أساسي التساؤُل التالي: ما، أو بالأحرى «من»، الذي جعله هكذا؟ الإجابة هي فولومنيا، والدة كوريلانوس المهولة (وهي أكثر شخصيةٍ يُفصِّل شكسبير في تصويرها اعتمادًا على مصدره)، تلك التي تزعُم امتلاكها له لأنها صَنعَته، حرفيًّا ومجازيًّا: «إنك مُحاربي؛ أنا كنتُ العون في تشكيلك» (الفصل الخامس، المشهد الثالث، السطران ٦٢-٦٣). إن لكلمة «تشكيل»، بالإضافة إلى ذلك، مدلولًا بنائيًّا وسياسيًّا هنا ينطوي على إشارةٍ إلى البِنية الاجتماعية لروما، وتحديدًا الكيان السياسي الذي هو موضوع «حكاية البطن» التي يَرويها منينيوس في الفصل الأول؛ وهي عبارةٌ عن قياسٍ سياسي مُستهلك تلتهِم فيه البطن المميزة كلَّ شيء، ظاهريًّا لصالح جميع أعضاء الجسد. إن كَون فولومنيا هي مصدر ومُصمِّمة جسد المُحارِب لهو أيضًا عكسٌ للتسلسُل الهرَمي التقليدي الذي يَعتبِر الذَّكَر أساس الإنجاب والأنثى ليست سوى وعاءٍ مُتلقٍّ. ومع ذلك، يستحضر كوريلانوس نفسه الأفضلية الأكثر تقليديةً للذكور فيما يتعلق بزوجته عندما يُخاطبها قائلًا: «يا خير جسدي» (الفصل الخامس، المشهد الثالث، السطر ٤٢)، وهذه مُحاكاة للآية ٢٣ من الإصحاح ٢ لسفر التكوين حيث يدعو آدم حوَّاء «لحم من لحمي.» لأنها؛ كونَها مُستمدةً من ضلعه، «من امرئٍ أُخِذَت.»

وبالرغم من عدم اطلاع الجمهور اطلاعًا مباشرًا على مرحلة صِبا كوريلانوس، فإنه يُقَدَّم لنا تصويرٌ غيرُ مباشر لها من خلال ابنه، الذي يُشَدَّد على تماثُله مع والده في فاتحة المسرحية ومُجدَّدًا مع مَيل المسرحية دون رجعةٍ نحو كارثةٍ مأساوية؛ فمارشيوس الصغير هو «الابن سِرُّ أبيه، لا ريب» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٥٧)، النسخة المُطابقة للأصل المُصغَّرة من أبيه:
هذه صورةٌ بائسةٌ منك،
وعندما يتمُّ له تأويل الزمن،
قد يُشبِهك كلَّ الشَّبَه.
(الفصل الخامس، المشهد الثالث، الأسطر ٦٨–٧٠)
مارشيوس الصغير هو «صورةٌ «بائسة»» لا لأنه نُسخةٌ غيرُ مُتقَنة من كوريلانوس وإنما ببساطة لأنه مبعوثٌ مُثير للشفَقَة يُرافِق النِّسوة اللاتي جئنَ للتوسُّل إلى والده طلبًا للسلام. يُؤكِّد شكسبير على هذا الشَّبَه بين الأب وابنه في انحرافه الأوضح عن ترجمة نورث؛ فالمشهد الثالث من الفصل الأول، المُعَدُّ لِيضُمَّ نِسوة المسرحية، هو مشهد من ابتكاره بالكامل. هنا، يُركِّز شكسبير، ويتوسَّع في رواية بلوتارخ للرابطة الاستثنائية بين كوريلانوس وأُمِّه الأرملة:
… لم يَكتفِ مارشيوس — مُعتقدًا أنَّ كلَّ فضلٍ يعود إلى أُمِّه كان سيكون لوالده لو أنه كان قد عاش — بأن يُبهِجها ويُجِلَّها فحسب، وإنما بناءً على رغبتها اتَّخذ زوجةً أيضًا، أنجبَ منها طفلَين، ومع ذلك لم يترُك منزل أُمِّه أبدًا.45
بينما يُلمح بلوتارخ فقط إلى درجة التحكُّم التي تمتلكها فولومنيا على ابنها، نجد شكسبير يُفصِّل الأمر تفصيلًا ينبض بالحياة ويُضفي حيوية على طبيعة ودرجة تأثيرها. كايوس مارشيوس غائبٌ يُقاتل من أجل روما، وشكسبير يغتنم الفرصة ليُوجِّه انتباه الجمهور صوبَ النسوة اللواتي يترقَّبن أنباءً عن مصيره في المعركة واللواتي يُعتبرْنَ في ظاهر الأمر هامشياتٍ بالنسبة للسطوة الرومانية. لا تُفصِح الحوارات المُتبادلة بين فولومنيا وزوجة ابنها، فيرجيليا، وزائرتهما، فاليريا، عن أنَّ فولومنيا هي منبعُ بسالة ابنها أو عجرفَتِه، وإنما تُبرهِن على نزعةٍ فطرية، ذُكورية تمامًا، نحوَ العدوانية. تُبرِّر فاليريا باستحسانٍ كيف ركض الطفل ﺑ «عزمٍ شديد» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطران ٥٩-٦٠)، بطريقة تنِمُّ عن إصرارٍ شديد، خلف فراشة، فقط ليُمزِّقها إربًا عندما يمسك بها:

رأيتُه يركض في أَثَر فراشةٍ مُذهَّبة، وعندما أمسك بها، أطلقها، ثم راح في أَثَرها مرةً أخرى، ثُم عثر ووقع، فنهض، وأمسك بها ثانيةً. ولستُ أدري إن كانت وقعَتُه قد أَغضبَته أو أي شيءٍ آخر؛ إذ صَرَّ على أسنانه ومَزَّقها. إي والآلهة فَتفَتها!

(الفصل الأول، المشهد الثالث، الأسطر ٦٠–٦٥)

الفراشة ترمُز إلى كلِّ ما يتعيَّن تدميره داخل الطبيعة البشرية لِصُنع آلة حربٍ من مُحاربٍ مثل كوريلانوس. ثَمَّةَ شيءٍ يبعث على قلقٍ شديد بشأن عُنف هذا الطفل الذي يُوجِّه غضبه صَوبَ مخلوقٍ رقيق جميل، يُوصله شكسبير بصورةٍ خاصة في كلمة «فتْفَتَها» (أي مَزَّقها إربًا). أيضًا، هذه النزعة التدميرية هي بالضبط الموضع الذي لا يُظهِر فيه مارشيوس الصغير شبهًا بأبيه فحسْب بل أيضًا تطابُقًا كاملًا معه. في هذا الشأن، تقول فولومنيا عندما تسمع رواية فاليريا عن وقت اللهو الفتَّاك الخاص بالصبي: «إنه يمتلك مزاج أبيه» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ٦٦).

واقعة الفراشة تحتوي على وصفة التراجيديا: الطموح، ثم الإحباط، ثم العنف، وبعد ذلك، حتمًا، الموت. ومن المُهمِّ أن هذه العملية تجري تحت مرأى ومسمع، بل استحسانٍ أُنثوي.46
ثَمَّةَ مغزًى خاص لكون الوَصف الجليِّ الأول للقِتال يجري أيضًا في هذا المشهد العائلي المُبكِّر (الفصل الأول، المشهد الثالث). ومع ذلك، فهذه ليست قصَّة حرب يرويها مُحاربٌ مُسِن، وإنما رواية تُقدِّمها فولومنيا نفسها:
يُخيَّل إليَّ أني أسمع هناك طبل زوجك،
وأراه يقبض على أوفيديوس من شَعره
والفولسكيِّين يتجنَّبونه كما يتجنَّب الأطفال دبًّا،
يُخَيَّل إليَّ أني أراه يخبط بقدمه هكذا، صائحًا:
«هلُمُّوا يا جبناء! بالخوف حَبلَت بكم أمهاتكم،
وإن كنتم وُلِدتم بروما.» جبينه الدامي يمسحه
بيدٍ مُدرَّعة، وينطلق
كحصَّادٍ التزم بحصاد الحقل كله،
وإلَّا فسيفقِد أجره.
(الفصل الأول، المشهد الثالث، الأسطر ٢٩–٣٧)
تكرار عبارة «يُخيَّل إليَّ» يُوحي بأن حواسَّ فولومنيا منخرطة انخراطًا تامًّا في الصورة الذهنية التي تصنعها. وبما أنها لا يُمكنها الذهاب إلى الحرب، فيتعيَّن عليها، بالضرورة، أن تستخدم خيالها لِتُشارك على نحوٍ غير مباشر في معارك ابنها: «يُخَيَّل إليَّ «أني أسمع»»، «يُخَيَّل إليَّ «أني أرى»». يُتيح لها التخيُّل أن تدخُل إلى وَعي ابنها لِتسمع صيحةَ استنفاره: «هلُمُّوا يا جبناء». ومن الواضحِ أن فولومنيا تستمتع بحكايات الحرب التي تتعلق بأفعال ابنها المُتميِّزة، بينما ليست زوجة ابنها كذلك لأنها تخشى على سلامته. في عبارة «يُخيَّل إليَّ أني أسمع هناك طبل زوجك» الأصلية الإنجليزية، الجناس الاستهلالي في حرف h يجعل الصوت الذي تتخيَّل فولومنيا سماعه يتردَّد صَداه طَوالَ الوقت. على النقيض، لم يُضطَرَّ كوريلانوس قَطُّ إلى تعلُّم كيفية استخدام خياله. في المشهد المُدرَج ببراعةٍ لاستحضار طفولته عن طريق ابنه والنسخة المُطابقة للأصل المُصغَّرة منه، يكشف شكسبير عن القُوى التي شكَّلَت نظرته للعالم: «إنه يُفَضِّل رؤية السيوف وسماع الطبول على النظر إلى مُعلِّمه» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطران ٥٥-٥٦). لا يهتمُّ مارشيوس الصغير لا بمُعلِّمه ولا، ضمنًا، بفنون القراءة والكتابة.
ليس لدى أبطال الحركة (أو أبطال الحركة المُضادِّين) في أعمال شكسبير الكثير من الوقت للكتب؛ فنجد أنَّ هوتسبر، قائد المُتمرِّدِين، في مسرحية «هنري الرابع (الجزء الأول)»، ليس بقارئٍ (بالمعنى الحرفي)؛ فبينما هو على وشك أن يخوض المعركة، لم يتأنَّ حتى ليرى ما إذا كانت الخطابات المُسلَّمة إليه تحوي معلوماتٍ استخباراتية ذات صِلة فيما يتعلَّق بحالة سير التمرُّد، وعندما يصِل الرسول حاملًا إيَّاها، نجده يُهملها قائلًا: «لا أستطيع قراءتها الآن، أيُّها السادة، إنَّ فسحة العمر قصيرة» (الفصل الخامس، المشهد الثاني، السطران ٨١-٨٢).47 إن القراءة وإمعان النظر يَستلزمان وقتًا، وصبرًا، وسكونًا وهي أمورٌ يُبغِضها هوتسبر. بالمثل، نجد في مسرحية «كوريلانوس» أن استفاضة شكسبير في بلورة المادة المأخوذة من مصدره تكشف، عن طريق لمحةٍ جانبية لطفولة بطلِه غير المُحبِّ للاطلاع قطعًا، عن أنَّ القائد الرُّوماني هو شخص «لم» تتشكَّل لدَيه القُدرة على قراءة حياته.

على خلاف ردود أفعال فولومنيا، التي تتصف بانخراطها التخيُّلي، فإنه حتى اهتمام الصبي هو شكلٌ من أشكال الفعل وليس الإدراك؛ كما في عبارة فولومنيا «يُخيَّل إليَّ». إن المَقطعَين القصيرَين اللذَين يخلُقان الحركة في السطر — «رؤية السيوف»، و«سماع الطبول» — يُعطيان الإحساس بأنه مُتأهِّب تأهُّبًا كاملًا، ومُستعِدٌّ للاشتباك، وكل غريزةٍ حيوانية لدَيه مشحوذة للهجوم. يعمل هذا الاستعداد على مماثلته مماثلةً أكثر قوَّةً بأبيه، الذي تُعَدُّ صفته المُمَيِّزة القطعية هي استمتاعه بالتجربة المباشرة للحرب.

في حين أنَّ كوريلانوس هو رجلُ أفعالٍ محارب، فإن فولومنيا تبدو، إن جاز للمرء أن يقول أمرًا كهذا، أشبَهَ بشكسبير؛ فهي امرأةٌ قادرة على استخدام خيالها المُتحمِّس لترسم صورةً للقتال الدموي مع الفولسكيِّين. قد تكون فولومنيا مُحاربةً مُحبَطة كانت ترغب في المشاركة في القتال، ولكنها أيضًا، للمُفارقة، مِثل كلٍّ من المؤلف والجمهور، ومثل كلِّ أولئك الذين يسمعون ويقرءون حكايات الحرب، مُتفرِّجة. إنَّ فولومنيا هي التي تُظهِر، أكثرَ من أيِّ أحدٍ آخر في المسرحية، هذه المشاركة غير المباشرة، المُنخرِطة انخراطًا تامًّا في أحداث الحرب، رغم أنَّ استمتاعها العميق بالقصة التي تَحكيها يُزعِج زوجة ابنها. ومع ذلك، فإنَّ كلام فولومنيا قد يحمل أيضًا إدراك شكسبير للقوة الهائلة للخبرتَين «الوسيطتَين» المُتمثلتَين في القراءة والذهاب إلى المسرح. قد يكون الاعتراض القائل بأنَّ القراءة عن حرب طروادة، على سبيل المثال، لا تماثل المشاركة بالقتال فعليًّا فيها، اعتراضًا صحيحًا تمامًا. ومع ذلك فإنَّ «خبرة» القراءة حقيقيةٌ تمامًا مِثل «خبرة» الصراع المسلَّح؛ كلُّ ما في الأمر أنهما تجربتان مُختلفتان.48 بالإضافة إلى ذلك فالانطباع الذهني عن الحرب الذي تنقُله القراءة هو انطباعٌ حقيقي بشدَّة بقَدْر شحْذ المرء لريشتِهِ أو شجاره مع أُمِّه.

كان شكسبير مُنتبهًا بدرجةٍ غير عادية لوقع حكايات الحرب على أولئك الذين سمِعوها؛ ففي مسرحية «سيمبلين»، وهي مسرحية عن تاريخ بريطانيا القديمة الشَّبَه الخيالي، يستمع جيديريوس، ومعه شقيقه الأصغر، بانتباهٍ مُنتَشٍ إلى حكايات الحرب.

عندما أجلس على مقعدي وأحكي
عن مآثري الحربية التي قمتُ بها، تُحلِّق رُوحه مندمجةً في قصتي.
وعندما أقول: «سقط عدُوِّي هكذا،
وهكذا وطِئتُ عُنقَه بقدَمي»؛ عندئذٍ
تتدفَّقُّ الدماء النبيلة إلى وَجنتَيه، ويتصبَّب جبينه عرقًا،
وتَتوتَّر أعصابه الصغيرة، ويتَّخِذ أوضاعًا
تُحاكي كلماتي.
(الفصل الثالث، المشهد الثالث، الأسطر ٩٦–١٠٢)49
يُصغي جيديريوس مع الرغبة في التمثيل الذي هو السِّمة الرئيسية لِبطلٍ مُحارب أو ملكٍ مُستقبَلي. هذا الوصف يستدعي إلى الذهن صورة طريقتَي تمثيل استجابةً لنصٍّ ما. يُجسِّد الأمير الأصغر، أرفيراجوس، السرد بطريقةٍ ليست تمثيلًا أو مُحاكاةً للقصة وإنما تبعَثُ رُوح الحياة في الحكاية عن طريق استيطان السرد، إن جاز لي القول: «يدخل كإحدى الشخصيات، يبعث الحياة في كلامي، بل إنه يُضيف تصوُّره الخاص» (الفصل الثالث، المشهد الثالث، الأسطر ١٠٣–١٠٥).50 هذان الطفلان يُمثِّلان، إذن، صورتَين مختلفتَين ولكنهما مُرتبطتان من صور الإصغاء. في كِلتا الحالتَين، بالطبع، مسألة تدخُّلِهما غير المباشر في المعركة تُستبعَد بالضرورة من الصراع نفسه على نحوٍ يجعل انغماس الصبيَّين في قصة المعركة أقربَ إلى انغماس القُرَّاء، أو المُتفرِّجِين، أو المُمثِّلِين أكثر من كونه انغماسَ مُقاتلَين فعليَّين. ومن خلال الأميرَين الصغيرَين، يرسُم شكسبير نطاق الاستجابة المُحتمَل للتشويق السَّردي المُتولِّد عن قصةِ حربٍ آسِرة. الأميران هما، بالطبع، مُتفرِّجان وليسا قارئَين، وتُحكى لهما قصةٌ نابعة من خبرةٍ مُباشِرة وليس من كتاب. ومع ذلك، ففي عالمٍ لم تكن الثقافة فيه قد تَعدَّت بَعدُ الشفاهَة باعتبارها وسيلةَ الناس الرئيسية للحصول على المعلومات الثقافية، يُمكن القول بأن المُستمِع، ومن يحضُر المسرحية، والقارئ كانوا فئاتٍ مُتَّصِلةً أكثر مِمَّا هم عليه في وقتنا الحاضر.
إن تصوير فولومنيا للحال التي يجب أن تكون عليها الحرب هو، كما رأينا، تصويرٌ نابض بالحياة، يتَّسِم بحركةٍ شِبهِ سينمائية، ويتَّفِق مع استدلالها السابق بأنه لا يفيد كوريلانوس بأن يكون مُجرَّد شابٍّ جميل — كما كان في شبابه — وإنما يجب أن يكون جماله مفعمًا بحيويةٍ نابعةٍ من القتال، ومن الحرب، ومن الشرَف الذي يمكن أن يجلبه له الانخراط العسكري:

يوم كان طريَّ العود، ووليدَ رحمي الوحيد، ويوم جعل الصِّبا مع الحُسن ينتزعان الأنظار كلها نحوه، يوم لم تكن أمٌّ، لو راح الملوك يَترجَّونها نهارًا بطوله، لِتبيعَه ساعةً واحدة لا تراه فيها؛ إذ حسبت كيف أنَّ الشرَف يليق بفتًى كهذا، وأنه لم يكن لِيفضُل صورةً مُعلَّقة على جدارٍ إن هو لم تُحرِّكه دواعي الشُّهرة، كان يسُرُّني أن أَدعَه يطلُب الخطر حيثما قد يجد الشُّهرة، لحربٍ عاتية أَرسلتُه، عاد منها مُكلَّل الجبين بالسنديان.

(الفصل الأول، المشهد الثالث، الأسطر ٥–١٥)

إنَّ الجمال الراكد العديم القيمة، ولا يعدو أن يكون مُجرَّد زينة، مثل لوحةٍ مُعلَّقة على حائط، وتصف فولومنيا مفاتِن ابنها الجسدية اليافعة بأسلوبٍ يكاد يُطابق أسلوب سونيتة شكسبير رقم ٢٠؛ فهو «يخلب عيون الرجال ويُثير أرواح النساء.» نُشِرَ عمل «السونيتات» في عام ١٦٠٩، بعد عامٍ فقط من عرض مسرحية «كوريلانوس» لأول مرة؛ لذا فإنَّ تقارُب الوصفَين هنا هو أَمرٌ مفهوم. إن الحركة، والبسالة، والنصر هي أُمورٌ تُعطي حياةً للجمال؛ فالصِّيت الناتج عن الأعمال المجيدة في القتال هو ما يجعل الجمال «ينبعث» أو تَدِبُّ فيه الحياة. أَخذَت فولومنيا اللحم الطيِّع لولَدِها «طري العود» وجعلته صلبًا في القتال. هذا لا يجعل منها أمًّا شرِّيرة أو بالضرورة سيئة. على النقيض من ذلك، ففولومنيا تُمثِّل شكل الأمومة الذي تتطلبه الدولة الرومانية. في الواقع، تُستحضِر هذه المعركة المُبكرة مُجدَّدًا في المسرحية على لسان كومينيوس الذي يتذكَّر رؤيته لكوريلانوس الذي يبدو كالبنات يتغلب على مُحاربِين مُتمرِّسِين عندما كان «يسُوق بذقنه الأمازونيِّ الأَمْرد الشوارب الكبيرة أمامه» (الفصل الثاني، المشهد الثاني، السطران ٩٠-٩١). وإذ لم تظهر عليه بعدُ علامات نُضج الرجولة، كونه أَجردَ دون لِحية، فإنه يبدو مثل واحدة من عِرق النساء المُحارِبات الأسطوري، اللواتي يُعرَفن بالأمازونات، في صورةٍ ذهنية تستدعي دومًا إلى الذاكرة أُمَّهُ باعتبارها صورةً مؤنثة منه.

ربما تكون فولومنيا قد شَكَّلَت كوريلانوس، ولكن روما كانت قد شكَّلَتها في قالب الأمهات المُحارِبات مِثل نساء إسبرطة، اللواتي كان من شأنهنَّ أن يقُلن لأبنائهن إن عليهم أن يعودوا من الحرب مُنتصرِين أو قَتلى محمولِين على تُروسهم؛ لذلك عندما تستعلم فيرجيليا بشأن قرار فولومنيا بأن تزُجَّ به إلى المعارك في تلك السنِّ المُبكِّرة بقولها «ولكن ماذا لو كان قد مات في الحرب، بماذا كنتِ ستشعرين حينها يا سيدتي؟» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطر ١٩)، تُجيب فولومنيا بروحٍ وطنيةٍ باردة: «لكان صِيتُه الطيب هو ابني» (الفصل الأول، المشهد الثالث، السطران ٢٠-٢١). وبأسلوب يُحاكي تَوسُّل الليدي ماكبث إلى «جِنِّيَّات الهلاك» بأن «حَوِّلي في ثديَيَّ لبنَ المُرضِع إلى سُمٍّ نقيع» (مسرحية «ماكبث»، الفصل الأول، المشهد الخامس، السطر ٤١)، ترفُض فولومنيا على الفور مَخاوف كَنَّتها من عودة كوريلانوس من المعركة الدائرة مُثخنًا بجروحٍ دامية:
ابعُدي يا بلهاء! إنه لأَليقُ بالرجل
من ذهبٍ يُوشِّي ضريحه. وإن نهدَي هيكوبا
إذ كانت تُرضع هيكتور، ما بانا أَجملَ من جبهة هيكتور
حين راحت تبصُق الدم
على سيف الإغريقي، ازدراءً به.
(الفصل الأول، المشهد الثالث، الأسطر ٣٩–٤٣)

يُشبِه الدم الطلاء الذهبي على نُصبٍ تَذكاريٍّ للنصر، والذي يُعَدُّ بمنزلة وسامٍ حربي. ومع ذلك، فإنَّ هذه الفقرة تأخُذ مَنحًى غيرَ عاديٍّ عندما يأخُذُنا شكسبير، في سطرٍ واحد، من التعبير العَلَني عن الشرَف العسكري إلى مشهد هيكوبا الحميمي — والذي يُمكن أن يُوصف، في هذا الموضع، بالمُثير للشهوة (فهذان ثديان جميلان) — وهي تُرْضِع.

هيكوبا هي، بالطبع، زوجة بريام، ملك طروادة، وأم لأبناءٍ عديدِين، من ضمنهم هيكتور، القائد العظيم للجيش الطروادي. يبدو من المنطقي أن نتوقَّع مُقارنةً بين جبهة هيكتور المجروحة في اشتباك مع الإغريق وجبهته الطفولية السليمة، ولكن هذا ليس هو الاتجاه الذي يأخُذ شكسبير الوصف التصويري إليه. بدلًا من ذلك نجِد أنَّ المُقارَنة التي يَعقِدها هي بين «ثَديَي» هيكوبا وجرح هيكتور؛ بين لبن الأُم، وإخراج اللبن في الرضاعة والدم الذي «يُبصَق» من وجه هيكتور. قد يكون جمهور الحاضرين قد تَذكَّر مصير هيكتور، ليس فقط من القصص القديمة وإنما أيضًا من مسرحية توماس كيد «المأساة الإسبانية»، التي تحكي مصيره في «الميادين العسكرية» للحياة الأُخرى، «حيث يعيش هيكتور الجريح في ألمٍ دائم» (الفصل الأول، المشهد الأول، السطران ٤٧-٤٨). لبن الأم هو صورةٌ أدنى من الدم المُتدفِّق الذي يُحافظ على الإمبراطورية.

ما لا تذكُره فولومنيا، ولكن ينبغي أن جمهور شكسبير وقُراءه كانوا يعرفونه (وخاصةً لأن هيكتور كان واحدًا من «الأبطال التسعة»، المشهورِين من العصور الوسطى)، هو أن هيكوبا في «الإلياذة» تتوسَّل إلى ابنها ألَّا يُقاتل آخيل. وكما كانت تخشى، يقتُله آخيل بالفعل وبعد ذلك يسحب جثَّتَه خلف عجلته الحربية تحت أسوار طروادة إلى أن يلتقِيَه بريام بنفسه من أجل أن يفتدي جثمان هيكتور المُنتهَك ويُعيده إلى طروادة ليُدفن دفنًا لائقًا. ربما أيضًا يتذكَّر جمهور الحِقبة اليعقوبية أنَّ شكسبير نفسه كان قد جسَّد سابقًا لوعة هيكوبا في كلٍّ من مسرحيتي «اغتصاب لوكريس» و«هاملت». إنَّ أُمومة هيكوبا هي قصةٌ مأساوية عن الفقد والخراب، ولكنها أيضًا ليست إلَّا مُقدِّمةً للحدث الجَلَل وهو الدمار الملحمي لطروادة في النهاية.

ثَمَّةَ إشاراتٌ إلى هذه المأساة تكمُن في استعداد فولومنيا للتضحية بابنها، وهي الإشاراتُ التي تُستهَلُّ بتخيُّل، مُتعلق بسِفاح المحارِم، عمَّا كانت ستشعُر به لو أنها كانت مكان فيرجيليا: ««لو كان ابني زَوجي»، لأبحتُ لنفسي أن أفرَح بغيابٍ يكسِب فيه الشرَف أكثر ممَّا أفرح بعِناقه في فِراشٍ يُظهِر فيه غاية الحب» (الفصل الأول، المشهد الثالث، الأسطر ٢–٥، أقواس التنصيص الداخلية من عندي). لا شك، بما أنها أُمُّه، وليست زوجته، في أنَّ صبغة سِفاح المحارم التي اصطَبغَت بها هذه الفِقرة مُقيَّدةٌ نوعًا ما؛ فهي تُفضِّل أن يظفر بالشرَف على أن تُمارِس العلاقة الحميمية معه (ثَمَّةَ تَخفِيف للأمر). هذا هو تفصيل شكسبير فيما يتعلَّق بتلميح بلوتارخ القائل بأنه عند كوريلانوس، كانت أُمُّه دومًا أهمَّ من زوجته: «بناءً على رغبتها اتَّخَذ زوجةً أيضًا، أنجب منها طفلَين، ومع ذلك لم يترُك منزل أُمِّه أبدًا.»51

يبدو أنَّ مصدر وأصل مأساة كوريلانوس يكمُن في أُمِّه. غير أن كوريلانوس يُبدي تفضيلًا لعلاقاته بالرجال على علاقاته بالنساء في لحظاتٍ محورية في المسرحية؛ ففي حين تُوصَف ليلةُ الزفاف مرَّتَين في المسرحية بأنها الصورة المُصغَّرة عن النعيم، فإنها تُذكَر في كِلتا الحالتَين فقط لإظهار أنَّ علاقةً مع رجلٍ تفُوق حتى هذا التطلُّع إلى متعةٍ جنسية مع امرأة:

آه! دعني أعانقُك
بذراعَين سليمتَين كيوم تزوَّجتُ،
وبقلبٍ مرِحٍ كما كان حالُنا عندما انتهى يوم زفافنا،
وخفَتَ لهبُ الشموع مُعلنًا عن مجيء ميعاد النوم!
(الفصل الأول، المشهد السادس، الأسطر ٢٩–٣٢)
ثَمَّةَ مِثليةٌ جنسية لا مَفَرَّ منها في الحقيقة التي مُؤدَّاها أن هذه الأسطُر مُوجَّهة إلى رجلٍ آخر. بالمِثل، في الفصل الرابع، يُؤنِّث أوفيديوس غريمه السابق،52 ويُلمِح إلى أن كوريلانوس، وليست زوجته، هو الحبُّ الكبير في حياته:
يجب أن تعلَم
أنَّني أحببتُ العذراء التي تزوَّجتها، وما نبس
رجلٌ قَطُّ بكلامٍ أصدقَ مِنِّي، ولكن برؤيتك هنا،
أيها الجوهر الكريم، فإنَّ قلبي المُنتشي ليَرقُص أكثر
ممَّا فعَل حين رأيتُ لأول مرةٍ عروسي الحبيبة
تخطو فوق عتبَتي.
(الفصل الرابع، المشهد الخامس، الأسطر ١١٧–١٢٢)
إنَّ القياس هنا هو قياس ينطوي على دلالات، وتتعاظَم العلاقة الجسدية بين الرجُلَين أكثر فأكثر بناءً على الطلَب التالي: «دعني ألُفَّ ذراعيَّ حول جسمك» (الفصل الرابع، المشهد الخامس، السطران ١١٠-١١١). وحتى العراك الفعلي بين كوريلانوس وأوفيديوس لَهو تلاحُمٌ شِبهُ جنسيٍّ يَعتلي فيه كوريلانوس أوفيديوس ويُمسِكه من عُنقِه. التصوير هنا هو تصويرٌ لمباراة مُصارعة، بيْد أنَّ اتصالهما هو، مع ذلك، أكثرُ حميميةً بكثير، وأكثر حسيةً وعمقًا بكثير من أي علاقةٍ أخرى في المسرحية:
ورحتُ كلَّ ليلة …
أحلُم بالمُجابهات بيني وبينك.
لطالَما تصارَعْنا معًا على الأرض في منامي
نُسْقِط الخُوذ، ويَلْكمُ كِلانا حَنجرةَ الآخر،
ثم أُفيق خائر القُوى على لا شيء.
(الفصل الرابع، المشهد الخامس، الأسطر ١٢٦–١٣٠)

لفظ «لا شيء» يكاد يكون دومًا توريةً جنسية، والإيحاءات هنا هي إيحاءات احتِلامٍ لَيلِي وإفراغٍ جنسي.

في الواقع أن قدْرًا كبيرًا من التخيُّل يرتبط بكوريلانوس؛ ففولومنيا تقول: «لقد عشتُ لأرى أُمنياتي تتحقَّق، وكل ما بنيتُ في خيالي» (الفصل الثاني، المشهد الأول، السطران ١٩٤-١٩٥)؛ أي لتري أحلامها من أجل ابنها تتحقَّق كاملةً. بيْد أنها نَشَّأت مُحاربًا، وليس سياسيًّا أو دبلوماسيًّا؛ فحتى مع كون منصب القُنصل على المحك، لا يستطيع كوريلانوس أن يكبت كبرياءه ويسترضي عامَّة الرومان. يتساءل منينيوس في عدم تصديق: «أما كان يستطيع أن يُحسِن القول لهم؟» (الفصل الثالث، المشهد الأول، السطر ٢٦٤). بيْد أنَّ هذه اللغة البلاغية الإقناعية من شأنها، عند كوريلانوس، أن تُشكِّل ضعفًا في الرجولة: «ولتنقلِبَ حنجرتي الحربية … إلى قصبةٍ، رفيعةِ الصوتِ كالخَصِي، أو كصوتِ عذراء، يُهدهِد الأطفال ليناموا!» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، الأسطر ١١٢–١١٥). اللافت للنَّظَر أن المُقارنة تُعقَد مع خَصِي وعذراء، و«ليس» مع صوت أم، ولا يسعُ المرء في الواقع أن يتخيَّل أن فولومنيا غنَّت له أيَّ تهويدات، حتى في أول مرحلةٍ من مراحل طفولته. وفي صورة تنطوي مُجددًا على إحالة إلى حرب طروادة وهيكتور وقتما كان رضيعًا، تنسِب فولومنيا إلى نفسها الفضل في إقدام ابنها: «إن بسالتك كانت مِنِّي، لقد رضَعتَها منِّي» (الفصل الثالث، المشهد الثاني، السطر ١٢٩). بهذه الطريقة، يُضفي شكسبير على قراءته لكتابات بلوتارخ الديناميكية الجَزلة والمُعقَّدة للعلاقة بين الأم والابن في أسرةٍ دون أب.

مع ذلك، مسرحية «كوريلانوس» هي أيضًا مسرحيةٌ سياسية مُعقَّدة تستند، في جانبٍ منها، على التشابُه بين نظام الحُكم في إنجلترا ونظام الحكم في روما وعلى الذاكرة الثقافية الخاصَّة بحقيقة كون بريطانيا القديمة كانت تحت الحكم الروماني لأربعمائة سنة.53 وفي حين أن، في إيطاليا في زمن شكسبير، كان المزيد والمزيد من فن وآثار الحضارة الرومانية يجري اكتشافه كل يوم،54 بقِيَت آثارٌ مادية قليلة للحكم الروماني في إنجلترا، وعوضًا عن ذلك، كانت المعرفة المتعلقة بالماضي الكلاسيكي القديم مُتاحة بصفة أساسية من خلال الكتب. ففي مسرحية «كوريلانوس»، درس شكسبير جيدًا ترجمة نورث لكتاب بلوتارخ ليَبْتَدِع، في آخر أعماله التراجيدية، بطلًا يُمكن القول بأنه عَين نقيضه هو نفسه، حتى وهو يشبع رغبة أولئك من جمهوره ممَّن «يُفضِّلون رؤية السيوف وسماع الطبول» على الاطلاع على كتاب.

هوامش

(1) Lily B. Campbell, ed., The Mirror for Magistrates (Cambridge: Cambridge University Press, 1938), p. 112.
(2) E.K. Chambers, William Shakespeare: A Study of Facts and Problems, 2 vols (Oxford, Clarendon Press, 1930), Vol. 2, pp. 326-7. For a comprehensive historical account of the play’s relation to the Essex Rising, see Paul E.J. Hammer, “Shakespeare’s Richard II, the Play of 7 February 1601, and the Essex Rising,” Shakespeare Quarterly 59 (2008): 1–35.
(3) All references to Richard II are from William Shakespeare, King Richard II: The Arden Shakespeare, ed. Charles R. Forker (London: Thomson Learning, 2002).
(4) David Scott Kastan, Shakespeare after Theory (New York: Routledge, 1999), pp. 110-11.
(5) William Shakespeare, King Richard II: The Arden Shakespeare, ed. Peter Ure (New York: Methuen, 1982), p. xix.
(6) See Forker, ed., Richard II, pp. 515-6; Hammer, “Shakespeare’s Richard II,” pp. 1–3; Cyndia Susan Clegg, “‘By the Choise and Inuitation of al the Realme’: Richard II and Elizabeth Press Censorship,” Shakespeare Quarterly 48 (1997): 432–48; David M. Bergeron, “Richard II and Carnival Politics,” Shakespeare Quarterly 42 (1991): 33–43; Janet Clare, “The Censorship of the Deposition Scene in Richard II,” Review of English Studies 41 (1990): 89–94; and J. Leeds Barroll, “A New History for Shakespeare and His Time,” Shakespeare Quarterly 39 (1988): 441–64, esp. 444–9.
(7) All quotations in this chapter are taken from Barbara Hodgdon, ed., The First Part of King Henry the Fourth: Texts and Contexts (Boston: Bedford Books, 1997). In his edition of the play, David Scott Kastan suggests that the second part was probably written only after the first had achieved success. William Shakespeare, King Henry IV Part I (Arden, third series, London: Thompson Learning, 2002), ed. David Scott Kastan, p. 21.
(8) See Phyllis Rackin, Stages of History: Shakespeare’s English Chronicles (Ithaca: Cornell University Press), p. 37.
(9) Ovid’s Metamorphoses: The Arthur Golding Translation 1567, ed. John Frederick Nimms, with a new essay, “Shakespeare’s Ovid,” by Jonathan Bate (Philadelphia: Paul Dry Books, 2000), 15.911.
(10) See Raphael Lyne, Ovid’s Changing Worlds: English Metamorphoses, 1567–1632 (Oxford: Oxford University Press, 2001), p. 269.
(11) See Stephen Greenblatt, Shakespearean Negotiations: The Circulation of Social Energy in Renaissance England (Berkeley: University of California Press, 1988), pp. 40–57.
(12) William Shakespeare, The Second Part of King Henry IV, ed. A.R. Humphries (London: Methuen, 1981).
(13) Ovid, Metamorphoses, trans Charles Martin (New York: Norton, 2005).
(14) Barbara Hodgdon ed., Henry the Fourth: Texts and Contexts, p. 211.
(15) For a discussion of the problems of reformation and redemption, see Jonathan Crewe, “Reforming Prince Hal: The Sovereign Inheritor in 2 Henry IV,” Renaissance Drama New Series 21 (1990): 225–42.
(16) Harry Berger, “Food for Words: Hotspur and the Discourse of Honor” in Harold Bloom ed., William Shakespeare Histories, Bloom’s Modern Critical Views (New York: Chelsea House Publishers, 2009), p. 152.
(17) There have been a number of important discussions of carnival in the play, including Michael Bristol, “The Battle between Carnival and Lent,” in Carnival and Theatre: Plebian Culture and the Structure of Authority in Renaissance England (London: Methuen, 1985) and David Ruiter, Shakespeare’s Festive History: Feasting, Festivity, Fasting and Lent in the Second Henriad (Burlington VT: Ashgate, 2003), ch. 3.
(18) Jean Howard and Phyllis Rackin, Engendering a Nation: A Feminist Account of Shakespeare’s English Histories (New York: Routledge: 1997), pp. 160–76.
(19) On the complexities of the mythological imagery here, see Jonathan Bate, Shakespeare and Ovid (Oxford: Clarendon Press, 1993), p. 125.
(20) See Peter J. Gillett, “Vernon and the Metamorphosis of Hal,” Shakespeare Quarterly 3 (Summer, 1977): 351–3 at 353.
(21) All references to Hamlet are from William Shakespeare, Hamlet, ed. Ann Thompson and Neil Taylor (London: Methuen, 2006).
(22) All references to Henry V are from William Shakespeare, Henry V, ed. T.W. Craik (New York: Routledge, 1995).
(23) See Craik, ed., King Henry V, p. 218.
(24) This was a shorter quarto version, and was reprinted in 1602 and 1619. This text differs markedly from the longer version that appeared in 1623 in the First Folio.
(25) The character’s name is spelled Katherine.
(26) June 1566, in Sir James Melville, Memoirs of His Own Life (1827 edn).
(27) All citations from Macbeth are from William Shakespeare, Macbeth: The Arden Shakespeare, ed. Kenneth Muir (London: Methuen, 1997).
(28) See William Shakespeare, King Richard III: The Arden Shakespeare, ed. James R. Siemon (London: Methuen, 2009), pp. 82-3. All references are to this edition.
(29) Jean E. Howard and Phyllis Rackin observe, “Richard’s identity as a master performer becomes the structural principle of the dramatic action,” Engendering a Nation: A Feminist Account of Shakespeare’s English Histories (New York: Routledge, 1997), p. 111.
(30) In his edition of the play, Siemon points out both that Elizabeth I’s tutor, Roger Ascham, thought that More avoided “flattery and hatred” and did not view Henry VII in an uncritical light. Richard III, ed. Siemon, p. 53.
(31) Excerpted in Henry Norman et al., eds, William Shakespeare: The Complete Works, (New York: 1909), Vol. 1, p. xviii.
(32) Quoted in Richard III, ed. Siemon, p. 38. I have modernized the spelling.
(33) Pauline Croft, “Cecil, Robert, first earl of Salisbury (1563–1612),” ODNB.
(34) See Howard and Rackin, Engendering a Nation, p. 108.
(35) Rosemary Horrox, “Richard III (1425–1485),” ODNB.
(36) Three books of Polydore Vergil’s “English history,” ed. H. Ellis (London: Camden Society, 1844), pp. 29, 224.
(37) Steven Gunn, “Henry VII in Context: Problems and Possibilities,” History 92 (2007): 301.
(38) All references to Julius Caesar are from William Shakespeare, Julius Caesar: The Arden Shakespeare, ed. David Daniell (London: Thomson Learning, 2004).
(39) All references to A Midsummer Night’s Dream are from William Shakespeare, A Midsummer Night’s Dream: Texts and Contexts, ed. Gail Kern Paster and Skiles Howard (New York: Bedford/St. Martin’s, 1999).
(40) All references to Henry V are from William Shakespeare, Henry V, ed. T.W. Craik (New York: Routledge, 1995).
(41) All references to Hamlet are from William Shakespeare, Hamlet, ed. Ann Thompson and Neil Taylor (London: Methuen, 2006).
(42) See Richard Wilson, Secret Shakespeare: Studies in Theatre, Religion and Resistance (Manchester: Manchester University Press, 2004), p. 171.
(43) William Shakespeare, Coriolanus: The Arden Shakespeare, ed. Philip Brockbank (London: Thomson Learning, 1976).
(44) All quotations are from William Shakespeare, Coriolanus, Pelican Shakespeare, ed., Jonathan Crewe (New York: Penguin, 1999).
(45) T.J.B. Spencer, ed., Shakespeare’s Plutarch (1964; London: Penguin, 1968), p. 300.
(46) For a fuller account of Volumnia’s role, see Janet Adelman, Suffocating Mothers: Fantasies of Maternal Origin in Shakespeare, Hamlet to “The Tempest” (New York: Routledge, 1992), ch. 6.
(47) William Shakespeare, 1 Henry IV ed., A.R. Humphries (1960; London: Methuen; 1974).
(48) For an account of how this phenomenon has been important to Shakespeare biography, see Catherine Belsey, A Future for Criticism (Oxford: Wiley-Blackwell, 2011), ch. 3.
(49) William Shakespeare, Cymbeline, ed., Roger Warren (Oxford: Oxford University Press, 1988).
(50) Harold Goddard long ago pointed out that neither of the boys “is a mere passive receptacle for the narrative. Each participates in, contributes to it.” The Meaning of Shakespeare (1951; Chicago: Pheonix Books, University of Chicago Press, 1960), Vol. 1, p. 2.
(51) Spencer ed., Shakespeare’s Plutarch, p. 300.
(52) Alan Sinfield, Shakespeare, Authority, Sexuality: Unfinished Business in Cultural Materialism (New York: Routledge, 2006), p. 106.
(53) Of the play’s politics, Mark Kishlansky notes: “It is the people’s role, and Shakespeare’s attitude toward it, that has so perplexed modern commentators. Certainly, there was nothing democratic about their participation; nor was there anything antidemocratic in Shakespeare’s depiction of it.” Mark A. Kishlansky, Parliamentary Selection: Social and Political Choice in Early Modern England (Cambridge: Cambridge University Press, 1986), p. 6. Oliver Arnold makes the case for Roman politics as the English Parliament in disguise: “There were serious impediments, then, to representing the English Parliament in its proper shape, but the Roman republic was much more than a safely alien screen for Shakespeare’s critique of parliamentary rhetoric and practices.” Oliver Arnold, The Third Citizen: Shakespeare’s Theater and the Early Modern House of Commons (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2007), p. 19.
(54) Leonard Barkan, Unearthing the Past: Archaeology and Aesthetics in the Making of Renaissance Culture (New Haven: Yale University Press, 1999), ch. 1.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤