الفصل الخامس

الصراع والتعاون

أتحول الآن إلى القصة الأساسية وأتناول الحالة التي تتألف فيها القوائم من عناصر استراتيجية، والتي سأُطلق عليها الآن أفعالًا، مثل تقديم عطاء مرتفع أو منخفض في مزاد. هذا هو إطار نظرية الألعاب. غير أن تركيزِي منصبٌّ بالأساس على الكيفية التي تختار بها وحدك بعقلانية، على عكس نظرية الألعاب التي تركِّز على الكيفية التي يمكن بها لكلٍّ منا الاختيار بطريقةٍ تفيد الجميع بشكل مشترك.

(١) الموقف

في إطار استراتيجي، يتعين عليك اختيار فعلٍ ما، مع العلم بأنني أيضًا بصدد اختيار فعل، بشكل مستقل، وأن النتيجة سوف تعتمد على ما يختاره كلٌّ منا.

قبل أن نبدأ، نحتاج لتدبُّر مفهوم المعرفة العامة. تختلف المعرفة العامة عن المعرفة المشتركة؛ فالشيء يكون بمنزلة معرفة مشتركة لك ولي إذا كان كلٌّ منا يعرفه، فيما يكون معرفةً عامةً إذا كان كلٌّ منا يعرفه، وكلٌّ منا يعرف أن كلًّا منا يعرفه، وكلٌّ منا يعرف أن كلًّا منا يعرف أن كلًّا منا يعرفه، وهكذا. وكتوضيح للفارق بين المعرفة المشتركة والعامة، هبْ أنك وأنا توزَّع علينا ورقتا لعبٍ. كلُّ ورقة لعب من مجموعة حمراء، ولكن لا نعلم هذا؛ فكلٌّ منا لا يرى سوى ورقته الخاصة. يسأل موزِّعُ الأوراق كلًّا منا ما إن كان يعلم لون مجموعة الآخر، وبالطبع يجيب كلٌّ منا بلا. بعد ذلك يخبرنا الموزِّع بأن إحدى الورقتين على الأقل من مجموعة حمراء ويكرر السؤال، ومرة أخرى تأتي إجابتي بلا، ولكنك تدرك، لدى سماع هذا، أن إجابتي تعني ضمنًا أن مجموعتي لا يمكن أن تكون سوداء؛ ومن ثم تستنتج أن مجموعتِي حمراء وتجيب بنعم. المغزى من هذه القصة أن إجابتك تتغير، من لا إلى نعم، نتيجة إخبارك بشيء تعرفه بالفعل، وهو أن ورقة واحدة على الأقل من المجموعة حمراء. والسبب في هذا أن المعلومات التي تتلقاها تحوِّل المعرفة المشتركة إلى معرفة عامة.

وكل التفاصيل المتعلقة بأية مشكلة استراتيجية تُعدُّ معرفة عامة: الأفعال التي يمكن لكلٍّ منا أن يختارها، والنتائج المترتبة عليها، والمنافع التي يعيِّنها كلٌّ منا (اعتمادًا على نتائج الفصل الثالث) لهذه الأفعال. ويعد من قبيل المعرفة العامة أيضًا أن كلًّا منا يختار بشكل عقلاني.

وكمثال لمشكلة استراتيجية، افترضْ أنك وأنا بصدد تقديم عطاء في مظروف مغلق في مزاد لنوع من النبيذ يقدِّر كلٌّ منا قيمته ﺑ ١٠٠ دولار. لتبسيط الأمور، لا يُسمح بتقديم سوى عطاءَينِ فقط: عطاء مرتفع قيمته ٩٦ دولارًا، وعطاء منخفض قيمته ٩٤ دولارًا. بعد أن قدَّم كلٌّ منا عطاءه، يقوم مسئول المزاد بفتحهما ويمنح النبيذ لصاحب العطاء الأعلى، الذي يقوم بَعْدها بدفع مبلغ العطاء الذي قدَّمه لمسئول المزاد. إذا كان عطاء كلٍّ منا واحدًا، يَمنح مسئول المزاد نصف النبيذ لكلٍّ منا، ويدفع كلٌّ منا لمسئول المزاد نصف مبلغ العطاء الذي قدَّمناه. من الواضح أن مكسبك من كل عطاء محتمل يعتمد على العطاء الذي أقدمه، والعكس بالعكس. فإذا كان عطاؤك مرتفعًا وعطائي منخفضًا، يكون مكسبك ١٠٠ دولار − ٩٦ دولارًا؛ أي ٤ دولارات؛ وإذا كان عطاؤك منخفضًا وعطائي مرتفعًا، يكون مكسبك صفرًا؛ نظرًا لعدم قبول عطائك. أما إذا كان عطاء كلٍّ منا مرتفعًا، فيكون مكسبك ٠٫٥ × ٤ دولارات، أو ٢ دولار؛ وإذا كان عطاء كلٍّ منا منخفضًا، فإن مكسبك يساوي ٠٫٥ × ٦ دولارات، أو ٣ دولارات، ومكاسبي مشابهة لمكاسبك؛ ومن ثم عليك أن تختار ما إذا كنتَ ستقدم عطاءً مرتفعًا أم منخفضًا.

النتائج المحتملة للمزاد موضحة أدناه؛ حيث النتيجة «٤ دولارات،٠ دولار» هي تلك التي تربح فيها ٤ دولارات فيما لا أربح أنا شيئًا، وهكذا.

عطائي المرتفع عطائي المنخفض
عطاؤك المرتفع «٢ دولار، ٢ دولار» «٤ دولارات، ٠ دولار»
عطاؤك المنخفض «٠ دولار، ٤ دولارات» «٣ دولارات، ٣ دولارات»

يعيِّن كلٌّ منا منافع عددية لهذه النتائج. على سبيل المثال، قد نعين المنافع:

النتيجة أنت أنا
«٠ دولار، ٤ دولارات» ٠ ٣
«٢ دولار، ٢ دولار» ١ ١
«٣ دولارات، ٣ دولارات» ٢ ٢
«٤ دولارات، ٠ دولار» ٣ ٠

ومن ثم تقوم بتعيين المنفعة صفرًا للنتيجة التي يكون مكسبك فيها صفر دولار، ومكسبي ٤ دولارات، وهكذا.

هناك ثلاثة جوانب لتعيين المنفعة هذا تستدعي التعليق؛ الأول: أن كلًّا منا يعين منافع للنتائج كاملة، وليس فقط لمكاسبنا الخاصة؛ قد تتمنى لي الخير؛ ومن ثَمَّ، في ظل تَساوي الأمور الأخرى، تعين منفعة أعلى للنتائج التي يزداد فيها ربحي، أو تتمنى لي الشر، أو لا تعبأ بي بشكل أو بآخر. الجانب الثاني: أن المنافع، بوصفها عددية، تشتمل بالفعل على توجهات نحو المخاطرة. وعليه فلو كان لديك، على سبيل المثال، خيار الرهان الذي يعطي النتيجتين «٢ دولار، ٢ دولار» و«٤ دولارات، ٠ دولار» باحتمالية متساوية، لَكُنت على الحياد، في ظل تعيين المنافع السابق، بين هذا الرهان والنتيجة «٣ دولارات، ٣ دولارات» المضمونة؛ إذ إن منفعتك (المتوقعة) في كل حالة ستكون ٢. أما الجانب الثالث، فيتمثل في عدم وجود أي إيحاء بأن منافعي ومنافعك يمكن مقارنتها بأي شكل؛ فكلٌّ منا يعين منافعه باستقلالية.

يمكننا دمج المعلومات المتضمنة في هذين الجدولين للحصول على «مصفوفة عائد» لإشكالية المزاد. وعلى وجه التحديد، نستبدل بالنتيجة «٢ دولار، ٢ دولار» زوج المنافع المرتبط بها؛ أي ١ لي و١ لك، وهكذا. وتوازي صفوف مصفوفة العائد أفعالك الممكنة فيما توازي الأعمدة أفعالِي الممكنة. والمدخل لكل صف وعمود هو النتيجة، في نسق معين، بحيث تأتي منفعتك يتبعها منفعتي، إذا اخترتَ فعل الصف واخترتُ أنا العمود. يمكننا الآن إعادة سرد مثال «المزاد» على النحو التالي.

(١-١) مثال المزاد

على كلٍّ منا أن يقدم عطاءً مرتفعًا بشكل فلكي، أو عطاءً منخفضًا للغاية في مزاد بالمظاريف المغلقة، وتكون مصفوفة العائد كما يلي:

أ ب
أ ١ : ١ ٣ : ٠
ب ٠ : ٣ ٢ : ٢

تعد إشكالية «المزاد» مكافئة لإشكالية «معضلة السجينين» المعروفة. في هذه الإشكالية، اتُّهمنا أنا وأنت بارتكاب جريمة، وقيل لنا إنه لو أنكر كلانا الجريمة، فسوف يُدان كلانا بتهمةٍ أقلَّ ونحصل على حكم مخفَّف، وإذا اعترف كلانا، فسوف يحصل كلانا على حكم متوسط، وإذا اعترف واحد منا فقط، فسوف يُطلق سراحه ويستعان به كشاهد ضد الآخر، الذي سيحصل على حكم مشدد. وقبل أن نتمكن من التواصل، نوضع في زنزانتين منفصلتين، وعلينا أن نختار ما بين الاعتراف أو الإنكار. افترضْ أن كلًّا منا لا يهتم إلا بأحكامه فقط، وأن كلًّا منا يعين منفعة قيمتها صفر للحكم المشدد، و١ للحكم المتوسط، و٢ للحكم المخفف، و٣ للإفراج. من السهل إذن أن ترى أن مصفوفة العائد لهذه الإشكالية، بعيدًا عن تغيُّر الأسماء، هي نفسها مصفوفة العائد في مثال «المزاد».

(٢) الأفعال العقلانية

تأمَّلِ المثال التالي (لن أحاول إنشاء قصة لهذا المثال أو لبعضٍ من الأمثلة التالية).

(٢-١) مثال الشجرة

على كلٍّ منا أن يختار شجرة؛ يمكنك أن تختار شجرة الدردار، أو الزان، أو الكستناء، ويمكنني أن أختار الدردار أو الزان، وتكون مصفوفة العائد كالتالي:

أ ب
أ ٠ : ٠ ٣ : ١
ب ٢ : ١ ٢ : ٢
٣ : ٢ ٠ : ٣
fig14
شكل ٥-١: لعبة الداما: الجائزة تقبع في المنتصف (ماتيا بريتي، عام ١٦٣٥ تقريبًا).

بالطبع أنت لا تعرف أي فعل أو أفعال سوف أختار، أو حتى بأي احتمالية سوف أختار كل فعل، غير أنك لو أُخبرت بهذه الاحتمالات، لصار اختيارك سهلًا؛ إذ كنت ستختار الفعل الذي يُعظِّم منفعتك المتوقعة بالنظر إلى هذه الاحتمالات. وهذا الفعل هو «استجابتك المثلى» لهذه الاحتمالات. هبْ أنك، في هذا المثال، قد نما إليك أنني سوف أختار (أ) باحتمالية ٠٫٥ (و(ب) خلاف ذلك). حينها إذا وقع اختيارك على (أ)، فسوف تكون منفعتك المتوقعة (٠ × ٠٫٥) + (٣ × ٠٫٥)، أو ١٫٥؛ وإذا اخترت (ب) فسوف تكون ٢؛ وإذا اخترت (ﺟ) فسوف تكون ١٫٥. وعلى هذا الأساس تختار (ب)؛ وهو ما يعني أن (ب) هي استجابتك المُثلَى لهذه الاحتمالات.

افترض الآن أنك لم تعلم إلَّا ﺑ «أفعالي المحتملة»؛ أي الأفعال التي قد يقع اختياري عليها. إن تعيين احتمالات مختلفة لهذه الأفعال سوف يسفر، بشكل عام، عن استجابات مثلى مختلفة. على سبيل المثال، إذا علمت في المثال الوارد أعلاه أنني سوف أختار (أ) باحتمالية ٠٫٢ وليس ٠٫٥، فسوف تتغير استجابتك المثلى إلى (أ)، وإذا علمت أنني سأختار (أ) باحتمالية ٠٫٨، إذن فسوف تتغير استجابتك المثلى إلى (ﺟ). إن «استجاباتك المنطقية» لأفعالي المحتملة هي استجاباتك المثلى لبعض الاحتمالات الخاصة بهذه الأفعال، واستجاباتك المنطقية، في هذا المثال، لأفعالي المحتملة (أ) و(ب) هي: (أ)، و(ب)، و(ﺟ).

يمكن استخدام الاستجابات المثلى والمنطقية لاستكشاف العقلانية. والمثال على اختيار لا يبدو عقلانيًّا هو اختيارك (ب) في مثال «المزاد». إن ما يعيب هذا الاختيار هو أن (ب) ليست استجابة منطقية لأيٍّ مِن فعليَّ المحتملين. وبغض النظر عما إذا كنت قد أُخبرتَ أنني سوف أختار (أ)، أو سوف أختار (ب)، أو قد أختار أيهما، فإن استجابتك المنطقية الوحيدة هي (أ).

إليك مثالًا أكثر تعقيدًا لاختيار لا يبدو عقلانيًّا.

(٢-٢) مثال الزهرة

على كلٍّ منا أن يختار زهرة؛ يمكن لكلٍّ منا اختيار البيش، أو الحوذان، أو زهر الربيع العطري، وتكون مصفوفة العائد كالتالي:

أ ب
أ ١ : ٠ ١ : ٠ ٢ : ١
ب ٢ : ١ ٢ : ٢ ١ : ٣
١ : ٠ ٠ : ٢ ٠ : ١

هبْ أن اختيارك، في هذا المثال، يقع على (ب). إن الإشكالية هنا أقل وضوحًا؛ فاختيارك، في ظاهره، يبدو لا بأس به؛ فالاختيار (ب) يعد استجابة منطقية لاختيارِي إما (أ) وإما (ب)، ولكن لا بد أن تسأل نفسك ما إن كنتُ، في الواقع، سأختار (أ) أم (ب). بالطبع لم أكن لأختار (أ) لكونها استجابة غير منطقية بالنسبة لي لأي شيء قد تختاره. إذن هل يمكن أن أختار (ب)؟ لو أنني فعلت، إذن لصرت مضطرًّا للاعتقاد بأنك لن تختار (ﺟ)؛ إذ إن اختياري (ب) ليس استجابة منطقية لاختيارك إما (أ) وإما (ب)، ولكنني أعلم أنك لم تكن لتختار (ﺟ)؛ لأنها ليست استجابة منطقية لأي شيء قد أختاره؛ ومن ثَمَّ ينبغي أن تعلم أنني لن أختار (أ) أو (ب)؛ ومن ثم سوف أختار (ﺟ)، ولكن اختيارك (ب) ليس استجابة منطقية لاختياري (ﺟ)؛ ومن ثَمَّ لن يبدو اختيار (ب) أمرًا عقلانيًّا بالنسبة لك.

إن «الفعل العقلاني» هو الفعل الذي يمكن تبريره باستخدام سلسلة من حجج الاستجابة المنطقية، كما في المثال أعلاه. في أية إشكالية استراتيجية، لا يكون لديك علم بما سوف أختار، غير أنك قد تستنتج شيئًا بشأن أفعالي في ظل علمك بأنني لن أختار سوى استجابة منطقية. وعلى وجه التحديد، قد تستنتج أن أي شيء قد أختاره سوف يكون استجابة منطقية لأي شيء قد أستنتج أنك قد تختاره. علاوة على ذلك، في ظل علمك بأنني أعلم بأنك لن تختار سوى استجابة منطقية فقط، ينبغي أن تتوقع أنني سأتوصَّل لاستنتاج مماثل. وبالفعل، ينبغي أن تتوقع أنني سوف أتوقع أنك ستتوصل لاستنتاج مماثل، وهكذا. وأي فعل عقلاني هو ذلك الذي ينبثق من هذه السلسلة من الاستنتاجات؛ ففعلك يكون عقلانيًّا إذا كان استجابة منطقية لاستجاباتي المنطقية لاستجاباتك المنطقية لاستجاباتي المنطقية … لاحظ أن العقلانية هي بالأساس مفهوم فردي؛ ففي مثال «المزاد»، سيكون كلانا أفضل حالًا إذا اختار كلٌّ منا (ب) وليس (أ)؛ فما يعد عقلانيًّا على المستوى الفردي قد لا يكون عقلانيًّا على المستوى الجمعي.

ويمكن توضيح هذه السلسلة من الاستنتاجات في مثال «الزهرة» بواسطة جدول. كلُّ صف في هذا الجدول يعطي اختيار الشخص، والأفعال المحتملة للشخص الآخر، والتي يواجهها الشخص القائم بالاختيار، والاستجابات المنطقية للشخص القائم باختيار هذه الأفعال.

القائم بالاختيار الأفعال المواجهة الاستجابة
أنت أ ب ﺟ أ ب
أنا أ ب
أنت أ
أنا أ

تصل السلسلة إلى منتهاها حيثما لا تتغير استجاباتك أو استجاباتي المنطقية مع استمرار عملية الاستنتاج. وسيكون هذا هو الحال — بشكل واضح — إذا وصلنا إلى نقطة يختار فيها كلٌّ منا فعلًا واحدًا فقط، كما ينطبق هنا. وينبغي أن نشير إلى أننا قد بدأنا باستجاباتك وليس استجاباتي، غير أنه من السهل أن ترى أننا نحصل على نفس النتيجة إذا ما بدأنا باستجاباتي. وعليه، يكون فعلك العقلاني هو (أ) (وفعلي العقلاني هو (ﺟ)).

يبدو من الواضح أنه سيكون لديك دائمًا فعل عقلاني. ومع ذلك، فمن الممكن أن يكون لديك أكثر من واحد، مثلما يتبين من المثال التالي (الذي تُعرف النسخة الأصلية منه باسم «لقاء في نيويورك»).

(٢-٣) مثال اللقاء

قام كلانا بالترتيب للقاء معًا، ولكن أغفلنا الاتفاق على ما إذا كان اللقاء سيكون عند «المرساة» أم عند «الرصيف». ولما كان كلٌّ منا يرغب في اللقاء، ولكن لا نعبأ بالمكان، يمكننا صياغة مصفوفة العائد كما يلي:

أ ب
أ ١ : ١ ٠ : ٠
ب ٠ : ٠ ١ : ١

لو علمت أن احتمالية أن أختار (أ) أكبر من ٠٫٥؛ فإن استجابتك المثلى ستكون (أ)، وإذا علمت أن هذه الاحتمالية أقل من ٠٫٥؛ فإن استجابتك المثلى ستكون (ب). وعلى ذلك، ولما كانت استجاباتك المنطقية هي استجاباتك المثلى لبعض الاحتمالات؛ فإن استجاباتك المنطقية لأفعالي المحتملة، سواء (أ) أو (ب)، هي (أ) و(ب). ولما كانت استجاباتي المنطقية مماثلة، فلا بد أن تكون الأفعال المنطقية بالنسبة لكلٍّ منا هي (أ) و(ب) على حدٍّ سواء (مثلما ينبغي أن نكون قد توقعنا من تطابق المثال).

(٣) الأفعال غير المحكومة

لتوصيف العقلانية، نحتاج إلى مفهوم التحكم. يتحكم أحد أفعالك في فعل ثانٍ إذا كنت تفضِّل الأول، أيًّا كان اختياري أنا. بالمثل، تكون منفعتك من الأول أكبر من منفعتك من الثاني. على سبيل المثال، في مثال «المزاد» يتحكم فعلك (أ) في فعلك (ب). هناك أيضًا شكل أكثر دقة من التحكم. تخيَّلْ أنه بدلًا من اختيار فعل معين، يمكنك أن تختار مزيجًا من الأفعال، أو على نحو مساوٍ، اختيار رهان على أفعالك. وهذا يعني أنه إلى جانب اختيارِ إما (س) وإما (ص)، يمكنك اختيار الرهان «س باحتمالية ٠٫٥، و(ص) خلاف ذلك». ومن شأن رهانٍ ما على أفعالك التحكُّم في فعلٍ ما إذا كانت منفعتك المتوقعة من الرهان أكبر من منفعتك من هذا الفعل، أيًّا كان اختياري. تأمَّل المثال التالي.

(٣-١) مثال الحشرة

على كلٍّ منا أن يختار حشرة؛ يمكنك أن تختار «النملة» أو «النحلة» أو «اليرقة»، فيما يمكنني أن أختار «النملة» أو «النحلة». وعلى ذلك تكون مصفوفة العائد كما يلي:

أ ب
أ ٠ : ٠ ٣ : ١
ب ١ : ١ ١ : ٢
٣ : ٢ ٠ : ٣

في هذا المثال يتحكم رهانك «(أ) باحتمالية ٠٫٥، و(ﺟ) خلاف ذلك» في فعلك (ب)؛ وأيًّا كان الفعل الذي يقع اختياري عليه، فإن منفعتك المتوقعة من الرهان تبلغ ١٫٥، ومنفعتك من الفعل (ب) تُساوي ١. وكما يتبين من هذا المثال، يمكن لمجموعة من الأفعال أن تتحكم في فعلٍ ما حتى لو لم يكن محكومًا بأيٍّ من عناصرها؛ ففعلك (أ) غير متحكم به من (أ) أو (ﺟ).

يكون الفعل «غير محكوم» إذا لم يكن متحكَّمًا فيه من أية مجموعة من الأفعال (بما في ذلك أي مجموعة فردية؛ بمعنى أي فعل). بعبارة أخرى، يكون فعلك غير محكوم إذا لم يكن هناك فعل يمنحك منفعة (متوقعة) أعلى، أيًّا كان الفعل (أو مجموعة الأفعال) الذي يقع اختياري عليه. وكما قد تتوقع، لا بد ألَّا يكون أي فعل مُتحكَّمًا فيه إذا كان له أن يصبح استجابة مثلى. ولما كان لا بد أن يكون استجابة مثلى إذا كان له أن يصبح عقلانيًّا، فإن هذا يعني أن الفعل كي يكون عقلانيًّا لا بد أن يكون غير محكوم، غير أن العكس ليس صحيحًا؛ فقد يكون الفعل غير محكوم ولكنه ليس عقلانيًّا.

ولإدراك هذا، عدْ إلى مثال «الشجرة»، والذي كانت فيه مصفوفة العائد:

أ ب
أ ٠ : ٠ ٣ : ١
ب ٢ : ١ ٢ : ٢
٣ : ٢ ٠ : ٣

هنا لا يخضع فعلك (ﺟ) للتحكم، ولكنه، كما من السهل أن ترى، ليس عقلانيًّا.

والسبب في عدم عقلانية الفعل (ﺟ) في مثال «الشجرة» هو أنه على الرغم من كونه ليس محكومًا، فإنه (١) يصبح مُتحكمًا فيه إذا تم حذف فعلي (أ) من الإشكالية، و(٢) من المنطقي أن تحذف فعلي (أ)؛ لأنه محكومًا (من قبل فعلي ب). وهذا يعني أن الفعل (ﺟ) لا يتحمل الحذف التكراري للأفعال المحكومة؛ أي ليس «غير محكوم تكراريًّا». بعبارة أخرى، لا يتحكم في فعلك أفعالٌ لي ليست محكومة بأي أفعال لك ليست محكومة بأي أفعال لي ليست محكومة بأي أفعال لك …

ولتوضيح الحذف التكراري، عدْ إلى مثال «الزهرة» الذي كانت فيه مصفوفة العائد كالتالي:

أ ب
أ ١ : ٠ ١ : ٠ ٢ : ١
ب ٢ : ١ ٢ : ٢ ١ : ٣
١ : ٠ ٠ : ٢ ٠ : ١

في هذا المثال، يمكننا حذف الأفعال بشكل تكراري كما في الجدول الآتي؛ فكل صف في هذا الجدول يعطي اختيار الشخص، وأفعال الشخص الآخر التي يواجهها القائم بالاختيار، والأفعال التي يحذفها القائم بالاختيار في هذه المرحلة.

القائم بالاختيار الأفعال المواجهة الحذف
أنت أ ب ﺟ
أنا أ ب أ ب
أنت ب
أنا أ
أنت

تصل العملية إلى منتهاها حينما لا يقوم أيٌّ منا بحذف المزيد من الأفعال. وفي هذا المثال يكون الفعل (أ) هو فعلك الوحيد المتبقي (والفعل (ﺟ) هو فعلي الوحيد المتبقي). لاحظ أنه في أول مرة أختار فيها، أقوم بحذف كلٍّ من (أ) و(ب)، ومن السهل أن ترى أننا نتوصل لنفس النتيجة، وإن كان بمزيد من الخطوات، إذا حذفت (أ) فقط أو (ب) فقط في هذه الخطوة. من السهل أيضًا أن ترى، تمامًا كما في العملية المستخدمة لإيجاد الأفعال العقلانية، أننا نتوصل إلى نفس النتيجة إذا بدأنا بمحذوفاتي وليس بمحذوفاتك.

تشترك عملية الحذف التكراري للأفعال المحكومة بشكل واضح في أمور كثيرة مع العملية المستخدمة لإيجاد الأفعال العقلانية. وليس من قبيل المصادفة أن تتوصل العمليتان في مثال «الزهرة» لنفس النتيجة. وهذا يسري بشكل عام. وهكذا يكون لدينا توصيف متكامل مفاده: أن الاختيار يكون عقلانيًّا إذا، وفقط إذا، كان غير محكوم تكراريًّا.

على الرغم من أنه قد يبدو مستساغًا، فعلينا الحذر من استخدام ما يعرف بالتحكم الواهي محل التحكم. يتحكم أحد أفعالك بشكل واهٍ في فعل ثانٍ إذا: (١) كانت منفعتك من الأول، أيًّا كان اختياري أنا، لا تقلُّ عن منفعتك من الثاني؛ و(٢) كانت منفعتك من الأول، بالنسبة لواحد على الأقل من أفعالي، أكبر من منفعتك من الثاني. تأمَّل المثال التالي.

(٣-٢) مثال الطائر

ينبغي على كلينا اختيار طائر؛ يمكنك اختيار طائر «النكَّات» أو «الشحرور» أو «الغراب»، فيما يمكنني اختيار «النكَّات» أو «الشحرور»، وعليه تكون مصفوفة العائد كالتالي:

أ ب
أ ١ : ١ ٠ : ٠
ب ١ : ١ ٢ : ١
٠ : ٠ ٢ : ١

في هذا المثال يتحكم فعلك (ب) تحكمًا واهيًا (ولكن لا يتحكم تمامًا) في كلٍّ من فعلك (أ) وفعلك (ﺟ).

لا يمكننا حذف نتائج محكومة بشكل واهٍ حذفًا تكراريًّا بنفس الثقة التي أمكننا بها حذف نتائج محكومة بشكل تكراري؛ فالأفعال غير المحكومة بشكل واهٍ، كما يخبرنا توصيفنا للعقلانية، ليست كالأفعال العقلانية. كذلك يشكل ترتيب الحذف أهمية؛ ففي المثال السابق، إذا حذفتَ (أ)، إذن فسوف أحذف (أ)، وسوف تختار إما (ب) وإما (ﺟ) وتحصل على منفعة قيمتها ٢، غير أنك إذا حذفتَ (ﺟ) بدلًا من (أ)، فسوف أحذف (ب)، وحينها سوف تختار إما (ب) وإما (ﺟ) وتحصل على منفعة قيمتها ١. ومع ذلك، إذا كنا قد حذفنا بالفعل جميع الأفعال المحكومة، فقد يكون من المنطقي تجنُّب الأفعال المحكومة بشكل واهٍ.

(٤) الأفعال المستدامة

ثمة سؤال يطرح نفسه عما إذا كان هناك أية صلة بين التصرف بشكل عقلاني والتصرف بأسلوب مُستدام. إذا اختار كلٌّ منا بشكل عقلاني، فهل تكون أفعالنا «مستدامة»؟ وإذا كانت أفعالنا مستدامة، فهل لا بد أن تكون عقلانية بالضرورة؟

كي نبدأَ نحتاجُ لتأملِ معنَى أن تكون أفعالنا مستدامة. سوف أقول إن الأمر يكون هكذا إذا كانت أفعالك هي استجابتك المثلى لأفعالي، وأفعالي هي الاستجابة المثلى لأفعالك (علمًا بأن أية استجابة مثلى لأي فعل هي الاستجابة المثلى للاحتمالية الفردية التي تعطي هذا الفعل). فإذا كان هذا هو الحال، فإن فِعْلَينَا مُستدامَانِ من حيث إن أيًّا منَّا ليس لديه حافز أحادي الجانب للتغيير. ويطلق على زوج من الأفعال المستدامة «توازن ناش»، نسبة لِجون ناش (المولود عام ١٩٢٨)؛ الاقتصادي وعالم الرياضيات الحائز على جائزة نوبل (وموضوع فيلم «عقل جميل»). لاحظ أنه على الرغم من أن بوسعنا التساؤل عما إذا كان فعلك بمفرده يعتبر عقلانيًّا أم لا، فليس بوسعنا التساؤل عما إذا كان يوصف وحده بأنه مستدام أم لا؛ فالاستدامة سمة تنفرد بها أزواج الأفعال، واحد لي وواحد لك.

ولتوضيح الأفعال المستدامة، عُدْ إلى مثال «المزاد» حيث كانت مصفوفة العائد:

أ ب
أ ١ : ١ ٣ : ٠
ب ٠ : ٣ ٢ : ٢

في هذا المثال يعد الفعل (أ) الذي وقع عليه اختيارنا فعلًا مستدامًا؛ إذ إنك إذا علمت أنني سوف أختار (أ)، فسوف تختار (ب)، وإذا علمتُ أنا أنك سوف تختار (أ)، فسوف أختار (أ).

وكما يشير مثال «المزاد»، ومثلما يترتب مباشرة على التعريفات، تعد الأفعال المستدامة عقلانية، غير أن العكس ليس هكذا؛ فليست جميع أزواج الأفعال العقلانية مستدامة. والمثال التالي يوضح هذا.

(٤-١) مثال الحيوان

على كلٍّ منا أن يختار حيوانًا؛ يمكننا اختيار «الحمار» أو «الخنزير البري» أو «البقرة»، وتكون مصفوفة العائد كالتالي:

أ ب
أ ٠ : ٧ ٢ : ٥ ٧ : ٠
ب ٥ : ٢ ٣ : ٣ ٥ : ٢
٧ : ٠ ٢ : ٥ ٠ : ٧

من السهل أن ترى أن الفعلين المستدامين الوحيدين في هذا المثال هما: (ب) الذي اخترتَه أنت، و(ب) الذي اخترتُه أنا، ولكن كلَّ فعل محتمل يُعدُّ عقلانيًّا بالنسبة لك (وأيضًا بالنسبة لي).

والعلاقات بين العقلانية والتحكم والاستدامة موضحة بالشكل.

إن هدفي الأساسي من مناقشة الاستدامة هو فحص الصلة بين التصرف بعقلانية والتصرف بأسلوب مستدام، وليس تناول الاستدامة تفصيليًّا، غير أنني سوف أشير بإيجاز إلى مشكلتين في مفهوم الاستدامة.

المشكلة الأولى تكمن في احتمال وجود العديد من الأفعال المستدامة المتعارضة، وهو ما يمكن رؤيته في مثال «اللقاء» حيث مصفوفة العائد:

fig11
شكل ٥-٢: خريطة للاختيار الاستراتيجي: الأسهم ذات الرأسين تمثل التكافؤ، والأسهم ذات الرأس الواحد تمثل التبعات الضمنية.
أ ب
أ ١ : ١ ٠ : ٠
ب ٠ : ٠ ١ : ١

في هذا المثال يعتبر الفعل (أ) الذي تختاره والفعل (أ) الذي أختاره مستدامَينِ، لما لم يكن أيٌّ منا سيختار (ب) إذا علم أن الآخر سوف يختار (أ). بالمثل، يعد الفعل (ب) الذي تختاره والفعل (ب) الذي أختاره مُستدامَينِ. وهكذا يكون لدينا أكثر من زوج من الأفعال المستدامة. لم يكن ذلك سيمثل أية أهمية لو كان عنصرك الذي تختاره من زوجٍ ما، وعنصري الذي أختاره من زوج آخر مستدامَين أيضًا، ولكن الأمر ليس كذلك؛ فالفعل (أ) الذي تختاره والفعل (ب) الذي أختاره ليسا مستدامَين.

ثمة تفسير مختلف لمثال «اللقاء» يؤكد على هذه النقطة. أعدْ تفسير (أ) باعتباره القيادة على اليسار، و(ب) باعتباره القيادة على اليمين؛ ستظل مصفوفة العائد ثابتة بلا تغيير. إذن فمِن المستدام بالنسبة لكلٍّ منا القيادة على اليسار، ومن المستدام أيضًا لكلٍّ منا القيادة على اليمين، ولكن إذا قدتُ أنا على اليسار وقدتَ أنت على اليمين؛ فقد لا نظل أحياء لوقت طويل!

لاحظْ أنه لا يوجد أفعال محكومة بشكل واهٍ في أيٍّ من زوجَي الأفعال في هذا المثال؛ فلو كانت موجودة، قد يكون من المنطقي تجنُّبها. لاحظ أيضًا أن مشكلة التعارض لا يمكن أن تنشأ مع الأفعال العقلانية؛ فقد يكون لديك أكثر من فعل عقلاني، وكذلك الحال بالنسبة لي، ولكن أزواج الأفعال ليس لها دور في القصة.

أما المشكلة الثانية في مفهوم الاستدامة، فتكمن في أنه قد لا يكون هناك أفعال مستدامة، وهو ما يمكن رؤيته في المثال التالي (والذي تُعرف النسخة الأصلية منه باسم «تطابق العملات»).

(٤-٢) مثال التطابق

على كلٍّ منا اختيار وإظهار بطاقةٍ تَحْمل صورة ملاك أو وحش؛ فإذا تطابقت الصورتان أدفع لك ١٠٠ دولار، وإذا اختلفتا تدفع لي ١٠٠ دولار. ولما كان كلٌّ منا يحب المال؛ فقد نصوغ مصفوفة العائد على النحو التالي:

أ ب
أ ١ : ٠ ٠ : ١
ب ٠ : ١ ١ : ٠

من الواضح أن اختيار كلٍّ منا لنفس الفعل لا يمكن أن يكون مستدامًا؛ لأنني لو كنت أعلم فِعلك لغيرتُ فعلي. بالمثل، لا يمكن لاختيار كلٍّ منا لفعل مختلف أن يكون مستدامًا؛ لأنك لو كنت تعلم فعلي لغيرتَ فعلك؛ ومن ثَمَّ لا يوجد أي أفعال مستدامة. وهذه المشكلة لا يمكن أن تَظهر مع الأفعال العقلانية؛ فكما رأينا، دائمًا ما يكون لديك فعلٌ عقلانيٌّ ما.

غير أن الأفعال المستدامة، نوعًا ما، يمكن إظهارها من خلال آلية السماح للرهانات وكذا الأفعال الفردية لأن تكون محل اختيار (كما فعلنا في مناقشة التحكم). في هذه الحالة، يصبح لأي زوج مستدام من الأفعال، والذي أحيانًا ما يسمى الآن «توازن ناش» في الاستراتيجيات المختلطة، نفسُ الخصائص كما كان في السابق؛ ففعلي وفعلك يكونان مستدامَين إذا كان فعلك هو الاستجابة المثلى لفعلي، وفعلي هو الاستجابة المثلى لفعلك. وإذا سمحنا للرهانات أن تكون محل اختيار، يَظهر زوج مستدام من الأفعال في مثال «التطابق». من السهل أن ترى أن اختيارك واختياري للرهان «(أ) باحتمالية ٠٫٥، و(ب) خلاف ذلك» مستدام، وهما الفعلان المستدامان الوحيدان في الواقع، بل إننا إذا سمحنا للرهانات أن تكون محل اختيار، فإن جميع إشكاليات الاستراتيجية لها أفعال مستدامة.

ولا تظهر الأفعال المستدامة حيثما لم يكن لها وجود فحسب، بل يمكن أن تظهر أفعال مستدامة جديدة بالإضافة إلى الأفعال القائمة. تذكَّرْ أنه في مثال «اللقاء»، الذي أُعيدُ تفسيره بحيث يكون الرهان (أ) هو القيادة على اليسار و(ب) هو القيادة على اليمين، يوجد زوجان من الأفعال المستدامة؛ فكلٌّ منا يقود على اليسار، وكلٌّ منا يقود على اليمين، ولكن إذا سمحنا للرهانين أن يكونا محل اختيار، يصبح هناك زوج مستدام ثالث. وهذا يتضمن قيام كلٍّ منا، مستقلًّا، بإلقاء عملة والقيادة على اليسار إذا استقرت العملة على وجه الصورة، وعلى اليمين إذا استقرت العملة على وجه الكتابة، فيما يعدُّ وصفة أخرى لإحداث كارثة.

إذا ما فسرنا الاستدامة في هذا الإطار الجديد، تظل الأفعال المستدامة تتصف بالعقلانية. ومرة أخرى، ينبثق هذا بشكل شبه مباشر من التعريفات. كذلك ليست جميع أزواج الأفعال العقلانية مستدامة. ولرؤية هذا، عدْ إلى مثال «الحيوان» حيث مصفوفة العائد:

أ ب
أ ٠ : ٧ ٢ : ٥ ٧ : ٠
ب ٥ : ٢ ٣ : ٣ ٥ : ٢
٧ : ٠ ٢ : ٥ ٠ : ٧

من السهل أن ترى أن اختياري واختيارك للرهان (ب) يظلان الزوجَ المستدام الوحيد، حتى عندما يستطيع كلٌّ منا اختيار الرهانات. ومع ذلك، فكل فعل محتمل يكون عقلانيًّا كما رأينا.

وهكذا قد يكون مفهوم الاستدامة غامضًا، كما هو الحال عندما يكون هناك أكثر من زوج واحد مستدام من الأفعال، أو قد يكون أجوف، كما هو الحال عندما لا يكون هناك أفعال مستدامة ولا نسمح بالرهانات، أو قد يكون مبهمًا، كما هو الحال عندما تتطلب الأفعال المستدامة الوحيدة المتاحة استخدام الرهانات.

(٥) بعض الإضافات

تتغير الصورة نوعًا ما إذا أصبح للزمن صلة بالأمر. عدْ مجددًا إلى مثال «المزاد» حيث مصفوفة العائد:

أ ب
أ ١ : ١ ٣ : ٠
ب ٠ : ٣ ٢ : ٢

وافترض أن على كلٍّ منا الآن أن يختار في يومين متتاليين بدلًا من مرة واحدة فقط. في اليوم التالي يَعرف كلٌّ منا ما اختاره كلٌّ منا في اليوم الأول. والآن تختار من بين الأفعال الثمانية:

(أ) اليوم و(أ) غدًا إذا اخترت أنا (أ) اليوم
(أ) اليوم و(أ) غدًا إذا اخترت أنا (ب) اليوم
(أ) اليوم و(ب) غدًا إذا اخترت أنا (أ) اليوم

وهكذا (علمًا بأن أفعالي مماثلة). من السهل أن ترى أن فِعْلَيك العقلانيَّين (المتكافئين) الوحيدين هما: «(أ) اليوم و(أ) غدًا إذا اخترت أنا (أ) اليوم» و«(أ) اليوم و(أ) غدًا إذا اخترت أنا (ب) اليوم»؛ أي إنك تختار (أ) اليوم و(أ) غدًا بغض النظر عما اخترته أنا. ومن ثَمَّ، ما من شيء جوهري يتغير.

افترِضِ الآن أن على كلٍّ منا أن يختار على مدى مائة يوم متتالية. قد تشعر حينئذ أن الأمر قد يستحق أن تختار (ب) في بعض الأيام الأولى، على أمل أن يكون هذا من شأنه بناء بعض الثقة بيننا، وأبدأ أنا بالتبعية في اختيار (ب)؛ ما سيصبُّ في صالحنا معًا. غير أنه سيكون من غير الحكمة أن تفعل هذا؛ ففي اليوم الأخير لا تثار مسألة بناء الثقة؛ ومن ثم يختار كلٌّ منا بنفس الطريقة التي كنا سنختار بها لو كنا نختار مرة واحدة فقط؛ أي إن كلًّا منا سيختار (أ). إذن ففي اليوم التاسع والتسعين لا تثار مسألة بناء الثقة في ظل معرفة كلٍّ منا بما سيختاره الآخر في اليوم الأخير. مرة أخرى، سيختار كلٌّ منا (أ). ومع تكرار هذه الحجة، سيختار كلٌّ منا (أ) في كل يوم. ومرة أخرى، لا شيء يتغير. ونفس المنطق يسري إذا اخترنا لأي عدد متناهٍ من الأيام.

غير أن هذا المنطق لا يسري إذا اخترنا بشكل لا متناهٍ؛ إذ لا يكون هناك حينها يوم أخير نبدأ منه عملية الاستدلال، بل إننا إذا اخترنا بشكل لا متناهٍ، فإن اختيارنا للرهان (ب) كل يوم لا يكون عقلانيًّا على المستوى الفردي فحسب، بل أيضًا مستدامًا بشكل مشترك (على الرغم من احتمال وجود نتائج أخرى مستدامة أيضًا). لقد تغيرت الصورة جذريًّا عن الحالة متناهية التكرار، التي هي بالتبعية لا زمنية بالضرورة، والتي يكون فيها اختيار كلٍّ منا للرهان (أ) كل يوم هو النتيجة العقلانية الوحيدة.

وبالتعميم انطلاقًا من هذه النتيجة، يمكن القول بأنه بينما قد لا يكون ما هو عقلاني على المستوى الفردي عقلانيًّا على المستوى الجمعي في موقف متناهي التكرار، فقد يصبح كذلك (وإن لم يكن بالضرورة) في موقف غير متناهي التكرار. وهكذا قد يحوِّل التكرارُ التنافسَ إلى تعاون. وهذه النتيجة جزء من موروث شعبي يُعرف بالنظرية الشعبية. وكما أشار ديفيد هيوم، الذي التقيناه في الفصل الأول:

إنني أتعلَّم أن أُسدى خدمة لشخص آخر دون تحميله أي معروف؛ لأنني أتنبأ بأنه سوف يردُّ لي خدمتي على أمل إسدائه خدمة أخرى من نفس النوع، ومن أجل الحفاظ على نفس التبادُل للمساعي الحميدة معي ومع الآخرين. ومن ثَمَّ، بعد أن أسديه الخدمة ويصبح حائزًا للميزة الناشئة عن فعلي، يصير مدفوعًا لأداء دوره؛ إذ يدرك عواقب رفضه.

وقد أدى التوتر القائم بين ما هو عقلاني على المستوى الفردي، وما هو عقلاني على المستوى الجمعي إلى قدر كبير من الارتباك والحيرة. ويكمن بعضٌ من هذا الارتباك في مفارقة التوائم الظاهرية. يتمثل الادعاء في أنه: بما أن مثال «المزاد» متماثل؛ فمن الممكن التفكير بنا، أنا وأنت، بوصفنا توءمين يختاران بنفس الطريقة. وفي ظل علمك بهذا، سوف تختار تقديم عطاء منخفض؛ فأنت تعلم أنني دائمًا سوف أفعل ما تفعل، وأن يتقدم كلانا بعطاء منخفض خيرٌ من أن يتقدم كلانا بعطاء مرتفع. غالبًا ما تكون محاولات تبرير ادعاء التماثل قائمة على ما يعرف ﺑ «مبدأ هارساني»، نسبة لِجون هارساني (المولود عام ١٩٢٠)؛ الاقتصادي والفيلسوف الحائز على جائزة نوبل. يزعم هذا المبدأ أن أي شخصين لديهما نفس المعلومات ونفس الخبرة سوف يتصرفان بالضرورة بنفس الشكل. وهذا المبدأ، الذي سأعود إليه في الفصل القادم، صحيح بشكل لا يحتاج للتكرار إذا عُرِّفَت الخبرات بحيث تضم كل شيء قد يجعل الإنسان مختلفًا. ولكن ما مدى صلته بالأمر؟ ينبغي أن تتبين رأيك في كلٍّ من هذا المبدأ والمفارقة الظاهرية.

في الفصل الرابع، تناولتُ ما إذا كان بوسعنا معرفة أي شيء عن عدالة التوزيع من آلية ستار الجهل. والآن أتحول إلى آلية مشابهة؛ وهي «ستار الشك». تمثل آلية ستار الجهل غيابًا مزعومًا للمعرفة بشأن حقائق محددة بالفعل، مثل مَن أنت. أما ستار الشك فيمثل غيابًا حقيقيًّا للمعرفة بشأن أحداثٍ لم تقع بعدُ، مثل مَن سيجد النفط. هبْ أنني وأنت نُنَقِّب عن النفط، ويبدأ كلٌّ منا بثروة قيمتها صفر. إذا وجد كلانا النفط، أو لم يجد أيٌّ منا النفط، فسينتهي كلٌّ منا بنفس الثروة؛ ومن ثَمَّ لا تكون مسألة التوزيع أمرًا مثيرًا في كلتا الحالتين. تأمَّل بعد ذلك حالة يجد فيها واحد منا فقط، لا نعرف مَن هو، النفطَ دون الآخر؛ في تلك الحالة سوف يحوز واحد منا ٢ مليون دولار، والآخر لا شيء.

سوف أفترض أن كلًّا منا لا يعبأ إلا بمكاسبه فقط، ومتجنِّبٌ للمخاطرة. ولإضفاء طابع واقعي للمناقشة، سوف أفترض أن كلًّا منا يعين المنافع التالية:

٠ دولار ٠
مليون دولار ٤
٢ مليون دولار ٦

قبل أن نبدأ؛ أيْ خلف ستار الشك، يمكننا بشكل مستقل اختيار قبول اتفاق لإعادة التوزيع مفاده: أنَّ أيًّا منَّا يجد النفط سوف يقتسم العائدات بالتَّساوي مع الآخر. إذا فعلنا هذا، إذن، وهو الأمر المشروط بعثور أحدنا على النفط، فسوف يمتلك كلٌّ منا مليونَ دولار بشكل مضمون؛ ومِن ثمَّ منفعةً قيمتها ٤. وإذا لم نقبل اتفاقًا كهذا، وهو ما سيكون عليه الحال إذا انسحب أيٌّ منَّا من الاتفاقية، إذن، ومرة أخرى شريطة عثور أحدنا على النفط، فسوف يملك كلٌّ منَّا إما مليونَي دولار وإما لا شيء باحتمالية متساوية؛ ومن ثَمَّ منفعةً قيمتها ٣. وهكذا تكون مصفوفة العائد لهذه الإشكالية هي:

أ ب
أ ٤ : ٤ ٣ : ٣
ب ٣ : ٣ ٣ : ٣

يبدو واضحًا أن من العقلانية أن تختار إما (أ) وإما (ب)، ومن الواضح — بنفس الدرجة — أن اختيار كلينا ﻟ (أ) هو اختيار مستدام، كما في اختيار كلينا ﻟ (ب)، غير أن (أ) تتحكم بشكل واهٍ في (ب) بالنسبة لكلٍّ منَّا؛ ومن ثَمَّ قد يكون منطقيًّا لكلينا اختيار (أ)؛ ومن ثم القبول باتفاق إعادة التوزيع.

أحيانًا ما يُزعم أن حقيقةَ أنه خلف ستار الشك سوف يَختار الجميع الدخولَ في اتفاق لإعادة التوزيع تَدعم إعادة التوزيع الإجباري للثروة بمجرد رفع هذا الستار، غير أن هذا الادعاء يبدو إشكاليًّا. وثمة تفسير بديل لهذا الادعاء هو أنه فقط يعبِّر عن الفكرة البديهية التي تقضي بأن الأشخاص المتجنبين للمخاطرة سوف يختارون طوعًا التأمين بشروط عادلة. وينبغي لك أن تصنع تفسيرك الخاص.

(٦) ملخص

يتضمن الاختيارُ الاستراتيجي الاختيارَ بين أفعال تعتمد نتائجها على اختياري وكذلك اختيارك.

استجابتك المثلى حيال بعض الاحتمالات المتعلقة بأفعالي المحتملة، أيْ تلك المتعلقة بالأفعال التي قد أختارها، هي الفعلُ الذي يعظِّم منفعتك المتوقعة في ظل هذه الاحتمالات؛ فاستجاباتك المنطقية بشأن أفعالي المحتملة هي استجاباتك المثلى لبعض الاحتمالات الخاصة بهذه الأفعال.

يكون فعلك عقلانيًّا إذا كان استجابة منطقية لاستجاباتي المنطقية لاستجاباتك المنطقية لاستجاباتي المنطقية …

يكون فعلك غير محكوم إذا لم يكن هناك فعل آخر يمنحك منفعة (متوقعة) أعلى، أيًّا كان الفعل (أو مجموعة الأفعال) التي أختارها، ويكون غير محكوم تكراريًّا إذا لم يكن محكومًا بأي أفعال لي ليست محكومة بأي أفعال لك ليست محكومة بأي أفعال لي ليست محكومة بأي أفعال لك …

يكون الفعل عقلانيًّا إذا، وفقط إذا، كان غير محكوم تكراريًّا.

أيُّ زوج من الأفعال، واحد لي وواحد لك، يكون مستدامًا بشكل مشترك إذا كان فعلك هو استجابتك المثلى لفعلي، وفعلي هو استجابتي المثلى لفعلك.

إذا كان زوجٌ من الأفعال مستدامًا بشكل مشترك، فإن كل مكون من مكوناته عقلاني، ولكن كل مكون قد يكون عقلانيًّا دون أن يكون الفعلان مستدامَين بشكل مشترك.

قد يكون هناك الكثير من الأزواج المتناقضة من الأفعال المستدامة بشكل مشترك، أو لا يوجد أيٌّ منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤