الأورطي

المهم ليس أنَّه جريًا، المهم أنَّه كان في أكثر من اتجاه. يكاد يكون في كل اتجاه. لكأنَّه يوم الجري الأكبر. نوع غريب خاص من الجري؛ فهو ليس جري الخائف أو المُستعجِل أو مَن يسرع لإنقاذ .. جري تائهٍ وكأن صاحبه ليبحث عن بقعة يبدأ منها الجري والإسراع، ولهذا فلا أحد يَعرف هدف الآخر أو غايته، إنَّما الكل في حالة ترقب خائف أن يعثر أيُّهم على بدايته التي ربما حدَّدت لهم البداية، ولهذا أيضًا كنت ترى الشخص يجري كالمجنون، وكالمجنون أيضًا يُحاول عبثًا أن يُراقب خطو الآخرين وجريهم. بحيث ما إن يبدو أنَّه قارب العثور على غايته حتى يَندفِع العشرات إلى حيث يكون، على أمل أن يصل الواحد منهم أولًا .. ليكون أول مَن يَنطلِق حتى يتحدَّد الهدف، وحين يُصابون بخيبة الأمل ويجدون أنَّ الذي أسرعوا إليه أكثر منهم حيرة، يندفعون إلى متلكِّئ أو مسرع آخر، علمية كانت البقعة فيها تبدو، إذا نظرت إليها من علٍ أو من بعيد، وكأنَّما تَنبِض، نبضات تجمع مفاجئ يعقبه التفرُّق، نبض يحدث في أكثر من مكان في نفس الوقت حتى ليبدو الميدان وكأنَّما فُرش بقِشرة، لولا تلك النبضات العشوائية الحادثة هنا وهناك، والدالة وحدها على الحياة، لظننتُها قشرة صخر، أو لظننتُ الآدميين المتجمعين كتل ركام مختلف الألوان.

ولا أحد يعرف إن كان هناك ضربٌ أم لا، أنا شخصيًّا أصبت بأكثر من ضربة، ضربة قاصمة موجعة، وكان من المستحيل تحديد الضارب، فأنت بلا جارٍ دائم .. والحركة الدائبة الجارية لا تُتيح لك حتى مجرد التطلُّع إلى العشرات والمئات الذين تمر بهم أو يمرون بك، إنَّما بالتأكيد كان هناك ضرب، وكانت هناك اصطدامات، لا وقت حتى للاعتذار عنها، وكان أناس يسقطون، فجأةً تتصاعد صرخة يعقبها أنين، يظلُّ يخفت كرنين الجرس المعلق حتى تمحوه صرخة أخرى، ولا أحد يتوقَّف ليرى النهاية، ما دمت لست أنا الصارخ، ولا أزال قويًّا سليمًا لم أسقط بعدُ، فما معنى الوقوف، وشيئًا فشيئًا بدأت أدرك أنَّ الحركة كلها ليست تلقائية، وأنَّ هناك حركة أخرى خفية من الصعب، شبه المستحيل، إدراكها، حركة طاردة إلى الخارج، وكان الميدان يتمدَّد وينفجر انفجارًا بطيئًا خفيًّا منتظمًا طاردًا الوسطانيين ليصبحوا أقرب إلى المحيط وإلى الخارج وإلى الشوارع الكثيرة الصابة في الميدان والآخذة منه، حركة لولاها ما كان باستطاعة قوة في الوجود أن تنتشلني من حيث كنت إلى حيث وجدت مجموعة من الناس كنت أجدها تجري بلا سبب آخر سوى الاستمرار اللاإرادي لما كنَّا نفعله في الميدان الكبير، استمرار لا نستطيع حتى لو أردنا إيقافه. وما خفيَ كان أعظم. ومن أين لي أن أدرك أنِّي في اللحظة التالية سألتفتُ إلى جاري، أول جارٍ أستطيع أن ألمحه وأُحدِّق في ملامحه، فأجده لدهشتي الشديدة ولهولي، عبده. وكان إحساسي الطاغي التالي أنَّ النقود معه، وأنَّه لا بد يُخفيها في مكان ما معه، وكدت أموت فرحًا، وأنا بشغف عمره وكأنَّما ألف عام، وبغيظ كالغاز الخانق القاتل الذي يتشبع به الجسد ولا نحس به إلَّا هناك قبل الموت بلحظة، حين تعي لأول ولآخر مرة أنَّه خنقك وقتلك. أجل الغيظ، أبشع أنواع الغيظ، حين تستأمن أو تثق ثم ترى الخديعة عيني عينك ودون أيِّ اكتراث، حين ينسل الشخص الذي تعرف ومتأكد تمامًا أنَّه في يدك أردته وأنَّى أردته في يدك، فجأة تجده أمامك يذوب ويختفي، وتلتهب غيظًا وغضبًا ومجهودًا ولا تستطيع منعه. عبده، بيدي الاثنتين أطبقت على رقبته. كل خوفي أن يذوب مرة أخرى، ويختفي .. وكل ضيقي أنِّي لا أستطيع التهامه .. الوحش فينا لا يزال هناك، وحين نتشاجَر لا نعض كي نؤلم الخصم، إنَّما نعضُّه لأننا فعلًا نريد، كالأجداد الوحوش، التهامه. الأجداد الذين كانوا يُهاجمون الخصم ويلتهمونه غيظًا كي يستطيعوا إخفاءه وإخفاء وجوده داخل العدو وتستمد بناءها، نحن الآدميين الذين فقط نعض عن عجز، ونحقد ولا نستطيع التنفيس عن حقدنا بالطريقة الطبيعية، فيزيد حقدنا، فتنهشه كالأنياب المسمومة إلى داخلنا ينهشنا نحن ويُقوِّضنا، وبالضبط هنا ما كنتُ أحسُّه وأنا أطبق على عبده، وأتمنى لو كان باستطاعة عواطفي أن تنطلق فتنشه وتدشدشه وتمضغه وأحس بأنيابي تلوك لحمه وأجزاءه وتشفي غليلها وتطحنه بكل ما تملك من قسوة وشراهة، وربما الأصل في الطعام أن يأكل الإنسان بناء على غيظ وبنية إخفائه عن الوجود واحتوائه تمامًا والقضاء عليه، ولهذا يستفيد الوحش من طعامه الفائدة القصوى، بينا يمرض الإنسان الآن بطعامه ويشقى.

ولكن، حتى كطعام، كان عبده لا يدفع إلَّا للاشمئزاز وقتل الرغبة فقد كان نحيفًا غلبانَ، ما حفلت عيناه بنظرة تحد ولا واجه أحد مرة بنية إثبات الوجود أو الدفاع عنه، كان طيبًا، ذلك النوع الباهت السلبي من الطيبة، مُصابًا بفتق مزدوج، ويُغنِّي في خلوته، مواويل عذبة، وكأنَّه أنَّى يحلُّ غريب، لم يعثر له أبدًا على وطن، وإذا فاض الحال بكى، امتلأت عيناه فجأة بدموع لا يُصاحبها أي احمرار، إنَّما يتجمَّع الاحمرار في أنفه، فيبدو وكأنَّما تورم وحفل بالإفراز، ويصعب عليك فقط لأنَّه عبده، وإنما لأنَّه وهو الرجل، كالأطفال والنساء يبكي، بكاءً لا ليونة أو طفولةَ فيه ولا يستدر العطف، إنَّما الكارثة أنَّه بكاء رجال يستدر الاشمئزاز. حرامي قروش لا يأخذها إلا مضطرًّا، وبأقل مقدار، وإذا ضبطته ارتبك وتلعثم وأقسم أيمانات كاذبة، وحذار أن تُشدِّد عليه وإلَّا بكى وأصابك باشمئزاز يستمر معك اليوم كله وربما لبضعة أيام. ثلاثة أيام بأكملها بلياليها، وبساعاتها الطويلة، ومغاربها وعصاريها، وأنا أبحث عنك يا عبده، أرفع أرصفة مصر وأقلبها، واقتحم البيوت، وأوصى، وأواعد وأستجير، ولا أترك شارعًا أو زقاقًا أو حارة، وحين يهدني التعب أنام وأستيقظ على روحي تكاد تطلع بالغيظ والحنق يأسًا من العثور عليك، وحلمي وكابوسي وألم يقظتي ومنامي، أن ألتفت مرةً لأجدك يا عبده، أين كنت يا عبده وأين أخفيت النقود. والغريب المذهل ما قاله. قال إنَّه ما إن غادر المنزل يومها، حتى أمسكته فرقة من التي تبحث عن المرضى لتأخذهم عنوة إلى المستشفيات «تمامًا كفِرَق الشفخانات التي تأخذ الحيوانات المريضة بالقوة!» وأنَّهم أخذوه معهم إلى المستشفى مُشتبهين في أمره، وهناك كشف عليه الباشحكيم بنفسه، وقرَّر أنَّه مريض بمرض خطر، يُهدِّد أن يعدي المصريين جميعًا به وأن لا علاج له إلَّا بعملية جراحية يجرونها له في الحال، ويقطعون بها الأورطي له، وفعلًا عملوا له العملية، وقطعوا له الأورطي، ورقد لثلاثة أيام ثم أخرجوه اليوم فقط، بعدما منحوه عكازًا ليستعين به في السير، أمَّا النقود، فمن لحظة أن دخل المستشفى وهو لا يدري ما حلَّ بها.

وكان مفروضًا أن يحكي عبده قصة ما يُبرِّر بها اختفاءه واختفاء النقود، أمَّا أن يحكي قصة كهذه لا يصدقها طفل أو معتوه، أمَّا أن تكون هناك فِرَق تبحث عن الآدميين المشتبه في مرضهم وتأخذهم بالقوة كي يعالجوا وتُعاملهم هذه المعاملة الحيوانية البشعة، أمَّا أن يكون هناك مرض من الأمراض علاجه قطع الأورطي، أمَّا أن يُقطَع الأورطي، وهو الشريان الرئيس للجسم البشري، الذي يأخذ الدم من القلب ويوزعه على جميع أنحاء الجسد، والذي في سمك العصا التخينة، بحيث أنَّه لو خُدِش يحدث من جرائه نزيف يقضي على صاحبه في الحال، فما بالك أن يُقطع وأن يعيش عبده بعد قطعِه، ليس هذا فقط بل أن يكون باستطاعته أن يسير، لو على عكاز، وأكثر من هذا يَجري مثلما كنَّا منذ دقائق نجري. أمَّا أن يكذب عبده هكذا عليَّ كذبًا واضحًا صفيقًا، لا يحاول حتى أن يُداريَه أو يبحث قصة أخرى أكثر حبكة وقابلية للتصديق، فهو ما أضاع مني كل سعادتي بالعثور عليه، وما جعلني أحس بتعبٍ ساحق أهوج يعتريني، لإحساسي أنَّه يسخر مني بقصته تلك سخرية تفوق الوصف. عصب لا حدود لقسوته ولا حدود لما يدفعك إليه، ولم أكن وحدي، كانت الجماعة التي تجري معي تشهد هذا كله وتسمعه وقد آب جريها إلى سيرٍ بطيء، بل بدأ أفراد آخرون ينضمُّون إلينا ويشعرون تجاه عبده وقصته بنفس ما أشعر، وكلنا بلا استثناء قد أصبح أهم شيء لدينا أنَّ النقود معه، وأنَّه لا بدَّ يُخفيها في مكان ما في جسده، فعبده لا يملك مكانًا آخر في الدنيا يستطيع أن يخفي فيه شيئًا وليس مهمًّا القصة، أي قصة يحكيها، إنَّما المهم هو العثور على النقود، والعثور عليها أمام «عيني عينك»، وفضحه فضيحة علنية أمام الناس كلهم، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، وهكذا تصاعدت الأصوات تصرخ .. فتِّشه فتشه .. ولم أكن في حاجة للصرخات لأمدَّ يدي أنزع عنه جلبابه البلدي الباهت الذي لا يملك سواه، غير أنِّي فوجئت أنَّ الجلباب مُلتصِق بجسده لا يُمكن خلعه عنه، وهذا غريب فعبده كان دائمًا «يلق» في جلبابه الواسع، فكيف به الآن لا يُمكن انتزاعه، وكأنَّه انتفخ فجأة، أو سمن في ثلاثة أيام سمنة غير معقولة، وفي البحث عن حلٍّ لخلع الجلباب عنه، اشترك الجميع في الاقتراحات وقد أصبح حماسهم للنَّيْل من عبده يطغى على حماسي أنا الضحية، حماس كان يعمنا في صمت وبلا اتفاق سافر وبكل جهد وإصرار، وبأعصاب منفعلة وبكثير من الاستمتاع، وكأنَّما نحن متأكدون تمامًا أنَّنا أخيرًا قد عثرنا على بغيتنا، على نقطة كالتي كُنَّا نجري في الميدان نبحث عنها لنبدأ منها الجري .. على مذنب، يحمل الذنب الذي ارتكبه معه، ولا بد أن يَنال جزاءه، ونمتع كل ما فينا من خير بإيقاع القصاص به وتطبيق العدالة، ونمتع كل ما فينا من شر يجعلنا نطبق العدالة بأيدينا وبأنفسنا وبالشر حرًّا طليقًا لديه جواز المرور، نوالي أحداث الضرر تحت شعار العقاب.

ولم تكن هناك طريقة لخلع الجلباب عنه إلَّا بسلخه كما يُسلخ جلد الأرنب عنه، ولكي نسلخ الجلباب لا بد أن يكون معلقًا. وأصبحت المشكلة أين وكيف نعلقه، وتصاعد اقتراح، والتفتْنا فوجدنا الجزار قريبًا، وتحركت المجموعة وعبده في وسطها، لا تزال يدي مُستميتة عليه إلى حيث دكان الجزار، وتولَّى أربعة رفع عبده، بينما أخذ الجزار الشاب البدين على عاتقه مهمَّة تعليقه في الخُطَّاف الذي تُعلق عليه الذبائح من «قبة» صديريه وملابسه الداخلية. وهكذا عُلِّق عبده في الخُطَّاف وأصبح مرتفعًا هناك، لا حول له ولا قوة، مثله مثل الذبائح والخرفان المسلوخة المعلقة على بقية الخطاطيف. وامتدَّت أكثر من يد ترفع ذيل الجلباب إلى أعلى وتسلخه عنه وهو معلَّق صامت لا ينطق بحرف. وما كاد الجلباب يُخلع عنه حتى أدركنا السبب جعله يلتصق بجسده هذا الالتصاق الشديد، فحول بطنه وصدره كانت تلتف أشرطة بيضاء كثيرة. وكأنَّه فعلًا قد أجرى عملية وتلك أربطتها، ولكنِّي أدركت على الفور هدفه الخبيث من هذه الأربطة الكثيرة، فلا بد أنَّه أكثر منها ليستطيع إخفاء النقود في أيَّة طية من طياتها دون أن يستطيع أحد الشك أو التنبؤ بمكانها. وكان لا بد أولًا، ولمجرد الروتين، فحص محفظته. ومدَّ الجزار يده السمينة المدربة، وأزاح طيات الشريط قليلًا، وأخرج المحفظة من جيب صديريه، وكانت أول مرة أرى فيها محفظة عبده، ولم أكن أتصور أنَّها بهذه الضخامة؛ فقد كانت أضخم محفظة ممكن أن تراها في حياتك، وقد تولَّيت بنفسي تفتيشها وإفراغ محتوياتها. وكما توقعنا، لم يكن بها غير خمسة قروش فكَّة، أحدهما معضوض صدئ لا يصلُح للتداول. ومرة أخرى دفع الجزار البدين يده في جيب الصديري نفسه، وكالمتوقع لم تخرج بشيء، كلها إجراءات شكلية. فقد كنَّا جميعًا ندرك أنَّ النقود هناك، مخبأة لا بد في طية من طيات الشريط. وبذلك التحفز النهم للفضيحة، ولإدراكنا أنَّنا حالًا، وعيني عينك، سنضع يدنا على ذنب المذنب، وأمامه سنُخرج من جسده نفسه الجريمة، وننتشي النشوة الكبرى ونحن نستعدُّ لنرى وجهه لحظتئذٍ ونسمع ما يقوله. بذلك التحفُّز امتدَّت يدي ويد الجزار تفك عنه الشريط، غير آبهين لصرخاته واستغاثاته، وقوله إنَّ فك الشريط عنه معناه موته؛ إذ الشريط هو الذي يُمسك الأورطي المقطوع في مكانه. صرخات لم تفعل أكثر من أنَّها أثارت الضحكات والتعليقات الساخرة، وحفَّزتنا نحن القائمين بفك الشريط إلى اللحظة القصوى لحظة اكتشاف النقود، وفككنا بعض الأشرطة، وصراخ عبده قد آب إلى سكوت يائس، بينما امتلأت عيناه بالماء الدامع الذي لا يُصاحبه أي احمرار، وحتى لو صدقناه واعتبرنا أنَّهم عملوا له عملية ما فمن الواضح أنَّه يكذب، فالأشرطة كانت بيضاء نظيفة، ليست فيها بقعة دم واحدة ولا آثار جرح، ولهذا مضينا نفك، وإنَّما بحرص مخافة أن تسقط منا النقود لدى اللفة التالية. فقد كنَّا جميعًا واقفين ومشاركين، وكأنَّما عبده هو الآخر ينتظر ظهور النقود لدى اللفة التالية، وكنت ألُفُّ من ناحية وأسلم الشريط إلى الجزار البدين ليفكه من ناحيته ويعود ليسلمني إياه، ويبدو أنَّنا كنا استغرقنا في العملية إلى درجة أنِّي مددتُ يدي أتسلَّم منه الشريط مرةً فلم أجده؛ إذ كان قد انتهى. وقبل أن أنظر إلى عبده، أحسست بشعور غريب ما يعتري الواقفين، وحين اتجهت ببصري إليهم وجدتهم جميعًا، وقد خيَّم عليهم صمت كامل مريب، بينما عيونهم كُلَّها مُصوَّبة إلى جسد عبده، جامدة لا تطرف، وكأنَّها عيون موتى. ونظرت إلى حيث ينظرون .. كان عبده عاريًا تمامًا، وكان هناك جرح طويل جدًّا يمتد من صدره إلى آخر بطنه، وكان صدره وبطنه فارغَين، وكأنَّما انتُزعت منها كل ما تحويه من أجهزة، وكان الأورطي يتدلَّى من صدره من مكان القلب كمزمار غاب سميك، طويلًا وشاحبًا ومقطوعًا، يتأرجَح داخل بطنه كالبندول.

مايو ١٩٦٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤