الزوَّار

ما كاد آخرُهم يَخرج، ويفرغ العنبر محتوياته المكتظة كالقطار المزدحم حين يصل إلى محطة النهاية، حتى التفتت «مصمص» (وهو ليس اسم دلع ولكنه اسمها الحقيقي) إلى سكينة التفاتةً حادة، وقالت بصوت عالٍ: بقى اسمعي يا …

واحتارت قليلًا هل تقول لها يا بت يا سكينة، أم سكينة فقط .. وسكينة كان اسمها سكينة وهي سكينة فعلًا. وهو اسم قد يبدو ريفيًّا، ولكنَّها لم تكن ريفية النشأة أو الملامح. كانت من مدينةٍ ما، واحدة من عشرات مدننا أنصاف الكبيرة، مؤدَّبةً جدًّا، خجولة جدًّا ورقيقة أيضًا. وكانت تحتل السرير المجاور لمصمص المرأة الضخمة الكبيرة الصدر والثديين التي يميل لونها إلى السمرة، ودائمًا ترتدي قميص نومٍ أبيض.

والسريران كانا في عنبرٍ واحد من العنابر الكبيرة التي تحفل بها مستشفياتنا العامة والمركزية والجامعية والصدرية، العنبر المعهود ذو الاثنين والعشرين سريرًا .. عنبر الحريم، يُسمُّونه .. له تومرجية سليطة اللسان ومنفوخة الجسد مكوَّرة كالبطة. وتومرجي أعمش مفروض أن لا يدخل العنبر وأن يَقتصر عمله على المطبخ ودورة المياه، ولكن أحدًا لم يُعلن يومًا هذا المفروض وأحدًا لم ينفذه.

وكانت سكينة الضعيفة الرقيقة الحنونة تحسُّ إذا أطلْتَ النظر إليها أو عمَّقته أنَّ هناك فعلًا أناسًا ضعفاء محتاجين إلى الشفقة، كانت مريضةً بمرض مزمن، ولها في المستشفى ثلاثة أشهر، وأمنيتها الكبرى أن تغادره وتخرج، ولكنَّهم لا يُخرِجُونها ولا يُصرِّحون لها بالخروج، ولا يفعلون هذا بعنفٍ أو بحزم كما قد يَعتقِد البعض، إنَّهم يفعلونه بأنصاف الابتسامات أحيانًا وبهز الرءوس والطبطبة أحيانًا أخرى .. وأحيانًا بمجرد القول: حالًا .. إن شاء الله تخرجي .. أمَّا سبب بقائها أو إبقائها فهو أنَّ مرضها من نوعٍ غريب يحلو للأستاذ أن يُحاضِر طلبته وأطباءه الصغار عليه .. وأن يُريه لزملائه الكبار، كما لو كان يريهم قطعةً نادرة ضمن مجموعة أصداف أو طوابع بريد يقتنيها.

وسكينة لم تكن مقطوعةً من شجرة .. كان لها إخوة. في الحقيقة أخٌ واحد غير شقيق وأختان. وكان لها خالات وعمات وقريبات كأيِّ إنسان منَّا وكل إنسانٍ. ولكن رغم هذا كله فلم يكن لها زوَّار بالمرة. طوال الأشهر الثلاثة التي مكثتهم بالمستشفى لم يَزُرها أحد .. من يوم أن أتى بها أخوها وأودعها العنبر لم ترَ وجهَه. تلك حقيقةٌ تعرفها هي .. ويعرفها حتى الجميع، التومرجية السليطة اللسان تعرفها .. وقد تكون مشكلة الخروج تلحُّ على سكينة في أحيانٍ كشيء لا بدَّ منه ولا بدَّ من حدوثه ولا بدَّ أن تُكلِّم الطبيب الكبير بشأنه، ولكن مشكلتها الأكثر حدةً في الواقع أن يزورها أحد .. أن تُغمض عينيها وتفتحهما فتجد يدًا تُوقظها من النوم أو الغفوة وتقول لها: قومي يا سكينة .. جالك زوَّار.

طوال أيام الجُمع والاثنين، والحقيقة طوال أيام الأسبوع، يفد العشرات والمئات والآلاف على المُستشفى ويوزَّعون على عنابره ثم على أسرَّته، وقد يخص كل سرير زائر أو خمسة أو عشرة .. ما عدا سريرها هي، لم يكن يُهوِّب ناحيته أحد، أو للدقة كان زوَّار جارتها مصمص يتخذون سريرها كأريكة يجلسون عليها، وهي من خجلها لا تعترض أو تأتي بحركة تسبب حرجًا لأحد، كانت تُغادر الفراش نهائيًّا وتذهب تتمشَّى في الطرقة أو تخرج إلى شرفة العنبر القَذِرة هناك، حيث تُتَّخذ مستودعًا لأكوام الزبالة وقشر البرتقال والموز واليوسفندي الآتي لا بدَّ مع كل زيارة.

وهناك .. في تمشيها هذا، كانت سكينة تحزن وتنقبض وتحسُّ أنَّها مظلومة، وأن لا بد ثمة خطأ في الكون جعلها تبقى بغير زوَّار .. إنَّ أخاها باستطاعته أن يُخطئ مرةً ويزورها، وكم زارتْ هي أخوتها وبنات خالاتها وكان واجبهم في هذه الحالة أن يردُّوا الزيارة. ماذا حدث حتى جمد قلوبهم، وقساها؟ ماذا حدث حتى نسيها الجميع هكذا، ونسوا أنَّها في مستشفى! ماذا حدث حتى تنقطع صلتها هكذا بعائلتها وأقربائها وحتى بصديقاتها وبالدنيا كلها؟ لم تكن تدري، حتى مجرد إرسال خطابٍ، ما أرسل لها أحد خطابًا أو بعثَ بسلامٍ!

إحساسٌ لم يكن يشاركها فيه أحد .. كانت أعمق أعماق قلبها هي التي تَكتئب وتحزن فقط .. أمَّا كل ما على السطح من وجه وملامح فقد كان يلتف دائمًا بابتسامة لا فرق بينها وبين مئزر الصوف الذي تتلفَّع به.

وطالت المدة ثلاثة أشهر .. وأربعة وخمسة، والمرضى يتغيَّر معظمهم حتى لم يبقَ من القدامی سوی جارتها مصمص، والوضع على ما هو عليه، وضع عجيب غريب. فهي صحيح ضيقة بالمستشفى والبقاء فيه، تريد بشقِّ النفس أن تخرج وتغادره. ولكنَّها في نفس الوقت، وإذا ما سألت نفسها لا تَعرف أبدًا لمَن وإلى أين تذهب وماذا بالضبط ستفعل .. لقد كانت قبل دخولها تحيا مع أخيها تخدمه، في انتظار أن يتزوَّج هو، أو يأتيها هي عريس، ولكنَّها مرضت وكانت تقضي الليل كله تنهج وتكح حتى ضاق بها الأخ وانتهزَ أول فرصة أدخلها المستشفى، ربما كي لا تُعالج بقدر ما يتخلَّص منها ومن حشرجات أنفاسها. بل إنَّها سمعت أنَّه بعد دخولها المستشفى تزوَّج وعزَّل من البيت .. وشقيقاتها كلهنَّ متزوجاتٌ، وهي ليست جميلةً حتى يُرحِّب بها زوج أيِّ أخت، بل لقد ذبلت وكبرت حتَّى على الزواج، فإلى مَن تذهب وإلى أين؟

وضعٌ عجيب غريب، فهي ضيقة بالمستشفى ضيقًا لا حدَّ له، ومستسلمة لهذا الضيق والحياة في المستشفى استسلامًا لا حدَّ له أيضًا، كالسجين الذي يتوق إلى الخروج من السجن إلى الحياة والحرية، ولكنَّه حين يجد أنَّه إذا خرج فلن يعرف ماذا ولا كيف يفعل بحريته تلك، يستسلم للسجن. يضيق به ويستسلم له ويكاد يُجنُّ بين الضغطين.

ولم تأتِ المسألة فجأةً .. بل وإلى الآن لم تفكر فيها سكينة تفكيرًا جديًّا أو تدبَّرت ما فعلت، ولكنَّها هكذا جاءت .. مصمص كانت زوجة أحد المعلمين الكبار الذين لا يقلُّ عدد أقربائهم وأنسبائهم وأولادهم ونسائهم وبناتهم عن المئات بأي حال من الأحوال، ولهذا كان لا يمر يوم دون أن يزور مصمص لا أقل من خمسة أو ستَّة زوَّار.

يوم العطلات والأعياد يرتفع الرقم حتى يصل إلى الخمسين .. وكان يبدو على مصمص أنَّها في الوقت الذي تعتب فيه على فلانة الفلانية لأنَّها لم تزرها، ما يكاد الزوار يغادرونها حتى تلهث تعبًا وحتى تغمغم ببرطمة لا يُفهم منها سوى الضيق الشديد بالزيارة والزوار، والمسألة بدأت بأن راحت سكينة تسأل مصمص عن الزوار إذا قدموا، مَن هم، وما هي درجة قربهم لها، وماذا يشتغلون. ولم يكن الأمر مجرَّد سؤال. دأبت سكينة على ملاحظتهم بدقة ومعرفتهم بالاسم، حتى لتطفح السعادة من وجهها حين تقول لمصمص بعد خروج زائرٍ: مش ده كان مصطفى ابن خالتك اللي بيشتغل في السكة الحديد؟

فتُبهت مصمص وتقول: الله .. وانتي إيه اللي عرَّفك؟

حينئذ تحس سكينة الناحِلة الهادئة الساكنة بسعادة داخلية لا حدَّ لها .. غير معقول بالمرة أو مقبول فقد أصبحت لمجرَّد أنَّها عرفت من الزائر وخمَّنته وجاء تخمينها بالضبط مطابقًا للحقيقة.

ولكن هذه السعادة، بالتكرار، لم تعد تحدث. ووجدت سكينة نفسها مدفوعةً إلى خطوة أخرى كي تحسَّ بنفْس سعادتها السابقة. فبدأت تُقدِّم مساعداتٍ، وتُسرع مثلًا وتُحضر كراسي لزوَّار مصمص، أو إذا أرادت الأخيرة أن تعزم عليهم بالقهوة أو الشاي أو الغازوزة أسرعت سكينة إلى البوفيه .. تُحضِر الطلبات بنفسها .. وكانت مصمص تأخذ الأمر في أوله باعتبار أنَّه نوع من الطيبة من سكينة لا أكثر، ولكنَّها بدأت تعجب فعلًا وقد راحت سكينة تقوم بأعمال غير معقولة أبدًا؛ تأخذ الأطفال من الأمهات الزائرات وتداديهم أو تذهب بهم إلى دورة المياه، وتلعب مع الأبناء الكبار وتقول لهذا الزائر .. والنبي وحياتك ابقى سلِّم على فلانة وفلان وكأنَّهم أقرباؤها هي!

بدأت مصمص تستعجب، ومصمص لم تكن سهلةً ولا طيبة ولا مسكينة أبدًا، إنَّها جهنم الحمراء إذا انفتحت، وإذا رأت في الأمر ما يُريب .. وكانت سكينة قد زودتها في نظرها كثيرًا وبشكلٍ أصبح لا تفسير له ولا تبرير، تجلس مع الأقرباء والأصهار طوال الزيارة. ولا تُغادرهم للحظةٍ وكأنَّها منهم وعليهم. يتحدَّثون عن أدق أمورهم العائلية الخاصة فلا تخجل ولا تبتعد. بل أكثر من هذا بها وتناقشها مُناقَشة المتحمِّس الغيور، وتبدأ الآراء أيضًا .. وتنتظر مصمص على أحر من الجمر أن «تحس» سكينة مرةً فتقوم أو تغادر الفراش، أو على الأقل تُولِّي انتباهها إلى الناحية الأخرى بلا فائدة، إذ كانت سكينة لا تفعل شيئًا من هذا أبدًا، بل تظل طوال الجلسة بأكملها، وبعد الجلسة أيضًا، تتحدَّث وتُعقِّب وتحاول أن تدخل مع مصمص في أخص الشئون وفي الغويط. ومصمص، تكظم وتكظم. فصحيح أنَّ سكينة تتدخَّل، ولكنَّها تفعل هذا وهي راقِدة في نفس فراشها لا تغادره. بالعكس إنَّ زوَّارها هم الذين يجلسون على فراش سكينة، وبهذا يعطونها الفرصة للاندماج والتدخُّل.

بل تطور الأمر إلى ما هو أكثر، وبدأت سكينة تقتنص زائرًا أو زائرة من الجالسين على فراشها وتنخرط في حديثٍ لا ينقطع معه أو معها، بحيث تنتهي الزيارة وهم لم يتبادلوا كلمةً واحدة مع قريبتهم مصمص، وكأنَّهم جاءوا لزيارة سكينة أصلًا.

ولقد تكرَّر الأمر مرةً ومرة، ومصمص صابرةٌ تكظم، إلى أن كان هذا اليوم الذي قرَّرت أن تنفجر فيه، وهكذا ما كاد آخر زائر في يوم الزيارة يخرج ويفرغ العنبر محتوياته المكتظَّة كقطار وصل إلى محطة النهاية حتى التفتت مصمص إلى سكينة التفاتةً حادة، وقالت بصوتٍ بالغ العلو.

– بقى اسمعي يا …

واحتارت قليلًا .. أتقطع العشم والعلاقة والعيش والملح مرةً واحدةً وتقول يا بت يا سكينة، أم تكتفي بنهرِها وتقول يا سكينة فقط، فإذا قالت لها يا سكينة فكيف تستطع أن تصبَّ عليها بهذه البداية ما يتفجَّر به صدرها الضخم العالي الأسمر من غضبٍ وضيق، احتارت مصمص .. وكالبندقية صوَّبت عينيها إلى سكينة وكأنَّما لتزيد برؤيتها لها جرأتها وعنف انفجارها .. كانت قد قررت أن تُوقفها عند حدِّها، وأن تنذرها بأنَّها إذا استمرَّت في اقتناص زائرٍ أو أكثر من زوَّارها هكذا، فسوف تمرمط الأرض بزوَّارها. زوار سكينة إذا جاءُوا، والعين بالعين والسِّن بالسن والبادي أظلم.

صوَّبت مصمص عينيها إلى سكينة لتجدها راقدةً في سريرها نصف مُغطاة الجسد تحملق أمامها كمَن يجترُّ ذكرى لحظة سعيدة مرَّت .. وفجأةً اكتشفت مصمص الجهنمية أنَّ تهديدها الذي يكاد يفلت من فمها لا معنى له بالمرَّة. أجل هكذا. في وضمة مفاجئة اكتشفت مصمص أن سكينة لا يأتيها زوَّار ولا يُنتَظر أن يأتيها أحدٌ .. وهكذا بعد أن كانت قد استدارت واستدار السرير لاستدارتها وقالت: بقى اسمعي يا …

وحين التفتت سكينة بدهشةٍ ونوع من الذعر تسأل: نعم يا ست مصمص .. لم تُغيِّر مصمص رقدتها ولا رفعت عينَيها عن وجه سكينة .. كل ما في الأمر أن صوتها انخفض فجأةً حتى كاد لا يُسمع.

وقالت: لا .. ولا حاجة .. ده كانت كلمة كدة وعدت!

قالت هذا وهي ترمق الفتاةَ بعينين مشتتتين فوق وجهها. يكاد يطفر منهما الدمع .. وظلَّت مثبِّتةً عينيها فوق وجه سكينة، لا ترفعهما، وكأنَّها تراها لأول مرة .. رفيعة نحيلة مقطوعة من شجرةٍ!

ديسمبر سنة ١٩٦٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤