الورقة بعشرة

كان صلاح زوجًا، وكانت له ابتسامةٌ، ليست كالابتسامات الحيَّة تُولد طفلة طازجة وتتفتَّح فجأةً على الوجه ثم تزول، ابتسامة كانت لا تظهر ولا تختفي ولا تُولد أو تموت، ولكنَّها محنطة على وجهه كالمومياء. وكانت بالضبط تُعبِّر عن حياته فهو الآخر يحيا كالمومياء المحنطة، أو على الأقل كان هذا رأيه في نفسه؛ فهو زوجٌ، وهو كمعظم الأزواج ساخطٌ على الزواج، يحسُّ أنَّ حياته المملة الرتيبة تقتله، تميت فيه الحياة بالتدريج.

ولهذا كانت أمانيه.

وهزَّ رأسه وحسرات كثيرة تتبعثر من فمه ومن قلبه. مستحيل. كيف يحتفل بعيد زواجه من روحية. وكيف يَهديها شيئًا هي التي لم تفكر في إهدائه إلَّا الكلمات السامة المنتقاة، والشخطات التي لا رحمة فيها ولا عاطفة.

وهكذا لم تَطُل حسراته؛ فقد أعاد العشرة جنيهات إلى الخزانة، وأغلق أدراجه، وكان موعد الانصراف قد حان، فأخذ طريقه إلى الباب، والشارع؛ ومن ثَم إلى البيت وهو يحسُّ بمغصٍ حادٍّ يَنتاب قلبه، ومرارة تملأ نفسه، وكأنَّه ذاهب لقضاء بقية اليوم في السجن المؤبد الذي عليه أن يقضي بقية عمره فيه.

ولكنَّه طوال الطريق كان يُفكِّر في الورقة ذات العشرة جنيهات، والإهداء الذي كتبه عليها ويقول لنفسه: نعم .. لا بد أنَّ هناك حياةً أخرى .. حياة مليئة بالهدايا، والحفلات، والبسمات.

ومع أنَّه كان فاقد الأمل في حياته تلك وزوجته، إلَّا أنَّه لم يمنع نفسه من تمنِّي شيء: أن تكون روحية قد تذكَّرت المناسبة وأعدَّت له مفاجأة، أو على الأقل استعدَّت لتحتفلَ بالعيد.

غير أن المفاجأة التي كانت تنتظره، أنه لم يفاجأ بجديد. فما أن فتح الباب حتى طالعة صراخ الأولاد، وحتى طالعته روحية نفسها واقفة في وسط الصالة، وشَعرها واقف أيضًا، وهي تُحاول أن تضرب ابنه الأصغر، والولد يصرخ، وهي تصرخ والجدران تَتهاوى وتستغيث، والأبواب تتخبط، ورائحة القلي والطبيخ يتعلَّقون برجليه ويتعثر في أرجلهم، وألف مشكلة وكارثة ومطالبة لا بد تنتظره.

إنَّها خانقة، تلك الحياة، وتلك الزوجة.

ألا تعرف ما هو اليوم؟

أجل، اليوم، اليوم يوم عشرة واللبَّان لم يأخذ نقودَه، وبائع الثلج والأولاد جننوني، ولا شيء آخر؟ لا شيء إلَّا الهم والغم والدروس التي يجب أن تأخذها بنتك قبل الامتحان لتنجح. إنَّه يكرهها. إنَّها لم تعد امرأة يشتهيها، ولا حتى صديقة يأنس إليها. ما الذي يربطه بها وكل ما بينهما حربٌ مستعرة مستمرة، وخلاف يتجدَّد في كل ثانية. كل يوم يفكر عشر مرات في طلاقها أو الانتحار، وكل يوم لا يطلقها ولا ينتحر، وكل يوم يفكر في حياة جديدة وزواج جديد، وكل يوم لا يُنفِّذ حرفًا واحدًا من القرارات الحازمة الباتِرة التي اتخذها! كل يوم يفكر حتى في خيانتها، وكل يوم لا يخونها. ما الذي يربطه بها، حتى الأولاد، إنه يكرههم من أجلها ويكرهها أكثر من أجلهم، ومع هذا لا يتركهم جميعًا و«يهجُّ»، ولا يتركونه، ما الذي يُبقي هذه العائلة السخيفة مُتماسكة، وكل ما فيها يتنافر مع كل ما فيها. الخلاف البسيط يؤدي إلى نقار، والنقار إلى شجار، ثم يتطوَّر الأمر ويُغادر المنزل غاضبًا، وحين يصل السلالم تخرج منه الزوجة، وتقطع الشجار وتقول: إياك تنسى تشتري البزازة؟

ويخرج وهو مصمم على ألَّا يعود ولا أن يشتري البزازة. ولكنَّه ما إن يلمح أجزخانة حتى يتوقَّف، ثم يتصوَّر خيبة أملها حين يعود بلا بزازة؛ فيدخل ويشتريها.

لماذا يشتريها؟ ولماذا — وكل ما بينهما حرب — يُراعي شعورها، وتراعي — أحيانًا — شعوره؟ ما كُنه تلك العلاقة الغريبة التي تجمعهما.

لماذا يستسلم لتلك الحياة، لماذا لا يبدأ حياةً جديدة، لماذا لا يبدؤها فورًا والآن؟

ولكنه لم يبدأ شيئًا أبدًا، فقد دخل كالعادة، وحلَّ بعض المشكلات، وعقَّد بعضها، وتبُودلت بضع زغرات وتلميحات وشتائم، وتغدى، وكالعادة نام، وحين استيقظ بعد الظهر؛ كان قد نسيَ كل شيء عن ١٠ مايو وعيد زواجه، وعشرة الجنيهات وكلماته المكتوبة فوقها بخطٍّ أنيق.

•••

ومرَّت الأيام، وهو لا يحسُّ بمرورها. فمن يوم أن تزوج لم يعد يحس بالزمن، وكأنَّما فقد ذاكرته، حتى إنَّه لا يذكر ماهية نفسه قبل الزواج، وكأنَّما وعى فوجد نفسه زوجًا.

مرَّت الأيام وهو دائب الإحساس، أنَّه يذوب ويذوب، ويفقد ذاته ونفسه، حتى فوجئ ذات يوم بشيء استغرب له جدًّا.

كان يفحص مبلغًا واردًا إلى البنك، وإذا به يعثر على ورقة من ذات العشرة مكتوب على دائرتها البيضاء: إلى زوجتي العزيزة .. بمناسبة عيد زواجنا الخامس.

ولم يكن الخطُّ خطَّه.

واحتجز الورقة، وظلَّ يقرؤها ويضحك من أعماقه.

كان أحدهم — لا ريب — قد ساقت إليه الصدف الورقة التي كتب عليها الإهداء، فظنَّ أن أزواجًا صالحين يُهدون زوجاتهم أورقًا كتلك في أعياد زواجهم، ففعل مثلهم، وكانت النتيجة هذه الورقة.

ظلَّ يضحك ويلعن الزوج المغفَّل الذي صدَّق النكتة.

وبعد أن انقشعت موجات ضحكه أحس بشيء قليل من الندم. فقد أدرك أنَّه بطريقة أو بأخرى قد خدع ذلك الزوج، وأنَّه قطعًا مسئول إلى حدٍّ ما عن تلك الخديعة.

•••

غير أنَّه بمرور الأيام تضاعف ضحكه وتضاعف تأنيبه لنفسه، فقد تبيَّن أنَّه لم يضحك على زوج واحد فقط، ولكنَّه خدع كثيرين، فقد وجد إهداءات كثيرة مكتوبة على أوراق بنكنوت من ذوات العشرة والخمسة والخمسين، وأحيانًا المائة. ولم يعدْ يستطيع كتمان الأمر عن زملائه، فأطلعهم على الأوراق، وحكى لهم القصة، وهو لا يتمالك نفسه. وطبعًا ضحك الزملاء كثيرًا. وتبادَلُوا الضربات على الأكتاف، وقال أحدهم إنَّ أعظم زوجة في العالم لا تساوي قرش صاغ واحد، فما بالك بعشرة أو بخمسة أو بخمسين جنيهًا.

وأصبحت المسألة مصدرًا لا ينضب للضحك، فما يكاد يرد إلى صلاح ورقة عليها إهداء؛ حتى يُشير بالورقة إلى زملائه من بعيد، وكأنَّما يقول: وآدي مغفل جديد.

ولكن عدد المغفلين كثُر بشكل أفقد المسألة ما كانت تثيره من ضحكات، بل كثر بشكل أزعج صلاح نفسه، لقد قرأ يومًا إهداءً وكان موجهًا من زوجة إلى زوجها.

وأصبح تأنيب الضمير على الخدعة التي ابتكرها لا يكفي، أصبح لا بد من التفكير، ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ وهل هي مجرد محاكاة لما فعله، أم لا بد أنَّ في المسألة سرًّا خطيرًا لا يدريه؟

وكان عليه لكي يكشف السر، إن كان هناك سرٌّ، أن يُجرِّب .. وبهرته الفكرة، وأحسَّ لها بحماس شديد.

•••

كان يوم ۱۰ مايو قد اقترب، وعام جديد قد أُضيف إلى عمر زواجه، فلماذا لا يفعلها ويُجرِّب؟

أجل، فليُجرِّبها في عشرة جنيهات. ولكن تفكيره ما إن حوَّم حول الرقم حتى هبط حماسه في التو. عشرة جنيهات؟! إنَّها تكاد تبلغ ثلث مرتبه أو نصفه. إذا كان لا بد من التجربة فليجربها في جنيه مثلًا. ولكن، أيصح أن يُهدي زوجته جنيها واحدًا في عيد زواجها. المسألة حتى من الناحية الشكلية مُحرِجة، ولكنَّه إذا نظر إليها من الناحية الأخرى، فإنَّه لا يُمكنه أن يُهديها عشرة جنيهات مرةً واحدة. فهو لا يُهدي زوجته، إنَّه يُهدي غريمه، فلتكن خمسة إذن. تكفي خمسة .. إنَّها كافية جدًّا.

وهكذا جاء يوم ١٠ مايو، وجاءت الساعة الثامنة منه، وصلاح عائد إلى البيت وفي جيبه الورقة والإهداء على دائرتها البيضاء حبرُه لم يجفَّ بعد، وكل ما يحسُّه هو الفرحة لأنَّه مُقْبل، في حياة قاتلة الملل، على تجربة جديدة، وحب استطلاعه يكاد يطلُّ من عينيه إذ ترى ماذا ستفعل روحية؟ وهل يُغمى عليها.

وكالعادة فتح الباب، وواجه سوق روض الفرج المعتاد، وبعد أن تمَّ الغذاء والحساب والعتاب، ناداها على حدة في غرفة النوم، ومع هذا أصرَّ ابنه المتوسِّط على عدم مغادرة الحجرة، وأمسك بروب أمه واستمات عليها. وظلَّ صلاح يتعثر نصف ساعة في كلمات لا معنى لها، ثم أخرج الورقة ذات الخمسة جنيهات، ووضع الدائرة البيضاء أمام عينيها لترى الإهداء.

وبدت الصدمة واضحة على ملامحِها، وظلَّت واقفةً في مكانها لا تتحرك، كان لسانها أول ما تحرك فيها، وأول ما فعله اللسان أن فتح له محضرًا طويلا عريضًا. وراحت تسأله وتُضيِّق عليه الخناق لتعرف مِنْ أين جاء بالخمسة جنيهات وميزانيته كلها تعرفُها بالمليم والصلدي. وقال لها إنَّه استلفها لتُخصم على شهرين من مرتبه. ومعنى هذا أن ينقص إيرادهم في الشهرين القادمين. وهكذا شبَّت النار، وبعد لحظات قصار أصبح الحديث اتهامات متبادَلة، وشتائم وتهديدات، وأيمانات مغلَّظة، خرج على إثرها صلاح من الحجرة غاضبًا لاعنًا تاركًا الجنيهات الخمسة تنعي مَن أهداها.

وجلس في الصالة يغلي وينفخ .. لا فائدة على الإطلاق. إنَّها حرب لا هوادة فيها. إنَّه عسكري في جيش وليس زوجًا في بيت، إنَّه لا عمل له إلَّا الدفاع عن نفسه، والحرب أدابته وهدته، وأتت عليه. حتى العسكري يحظى بهدنة وراحة، أمَّا هو فمعركته لا تتوقف.

وبينما هو يغلي وينفخ، كان عقله يعمل ويحلم، أجل، لا بد أنَّ هناك حياة غير تلك، حياة رحبة، لا قتال فيها ولا خناق ولا ملل، حياة مليئة بالبريق وبالرائع الجديد، ولا ينقصها سوى الجريء الذي يُنهي حياته وجبنه وينطلق إليها.

وبوغت حقًّا حين رأى روحية قد خرجت من حجرة النوم ووقفت قبالته على بابها لا تتحرك، والورقة في يدها. ورمقها وهو يلعنها. لا بد أنَّها الآن اطمأنت أنَّ الجنيهات الخمسة لم تضع، وأنَّها على أيَّة حال باقية في البيت. ولكيلا يلعنها، فقد أصبح يُضايقه حتى أن يلعنها، حوَّل وجهه عنها.

غير أنَّها سألته وهي واقفة من بعيد إن كان جادًّا حقًّا في كلامه وإهدائه. وطبعًا زفر ولم يُجب. ولكنها ظلَّت تُلاحقه بالسؤال، ولأنَّه يعرف أنَّها إن صمَّمت على شيء فلا بد أن تعرفه، ولو فرقعت مرارته وحطمت رأسه، فلكي يخلص منها قال لها: أيوه يا ستي هدية بحق وحقيق .. بمناسبة عيد الزفت الزواج.

وفوجئ حين وجدها تنخرط فجأة!! لا ليس فجأة .. فقد حدثت في وجهها تغييرات متوالية مضحكة وانقباضات وانبساطات وتجعيدات، ثم انخرطت في بكاء ضاحك. تضحك وتبكي، وتبكي وتضحك، وشَعرها منكوش، وروبها مفتوح، والولد لا يُغادر مكانه بين ساقيها.

وأخيرًا قالت إنَّها قد أعدَّت له هدية هي الأخرى. إه يا ستي. وناولته الورقة. وتحت إهدائه وجدها قد كتبت: إلى زوجي العزيز الغالي المحب بمناسبة قراننا .. من المخلصة جدًّا زوجتك.

وفرَّت الدموع في الحال من عينيه. لا لأنَّ ما كتبته كان غريبًا ولكن لأنَّه صدر منها وبخطها. ما أروع كلماتها. إلى زوجي العزيز الغالي، حتى أخطاءها الإملائية، حتى إمضاءها، حتى طريقتها الساذجة في التعبير عن نفسها، ولو كانت أجمل امرأة في العالم هي التي كتبت له هذا لما بدا أروع من كلمات روحية، روحية ذات الخرابيش والصوت الحاد اللافح، إنَّه شيء لا يُحتمَل، أبدًا لا يُحتمل.

وأخذها على كتفِه وقبَّلها. واحمرَّ وجهها جدًّا وهي تُقبِّله، وربما كانت هذه أولى قبلاتها له. وربَّت على كتفها، وربتت على ظهره، وبكيا، وتعانقا وكما يُضيء البرق فجأة، تزاحمت الخواطر في عقله. إنَّ حياته معها كره في كره، وخلاف في خلاف، ومواقع إثر مَواقع، هذا صحیح .. ليلة أن صفعها مثلًا وخربشته بأظافرها وتدشدش طقم الشاي، ليلة أن اختلفا حول اسم تامر، ليلة أن اصطدمت بالمرحومة أمه، ألف ليلة وليلة من الألم القاسي الممض.

العجيب أنه لا يحسُّ شيئًا من هذا الألم الآن، وكأنَّ الألم في حينه يُصبح ذكرى بعد حينه فكل، ما يحسه الآن أنَّه كان شابًّا، وأنَّها كانت صغيرة، وأنَّهما كانا طائشين، وما أعذب الطيش حين تمضي أيامه ويُصبح مجرد لحظات تستعاد. إنَّ الخلاف يُنفِّر؛ ولكن العجيب أنَّ خلافاتهما كانت تقربهما أكثر. والخلاف يقولون إنَّه يخرب البيوت، والخلاف عمَّر بيته؛ فقد كان لهما حجرة واحدة والآن عندهما ثلاث، ولم يكن هناك أولاد والآن لهما أربعة، وحين تزوَّجها لم يكن معه إلا التوجيهية والآن معه بكالوريوس، وهي تزوجته وهي مدلَّلة لا تعرف سوى قلي البيض وتخطيط الحواجب، والآن بشهادته أمهر خياطة وطباخة، وكانت بالكاد لا تقرأ إلَّا «حواء» لتعرف الموضة، وهي الآن تُناقشُه في السياسة وتبزه تلك التي يعتبر نفسه ضليعًا فيها.

ألف خاطر عنَّ له، لو كان قد تزوج مطيعة لا ترفض له رغبة أو طلبًا لما تحرك من مكانه وموضعه، ولما تحركت هي الأخرى. إنَّه مغفَّل. أيكون ما يعيش فيها هو سعادة الواقع وهو لا يَدري؟! إنَّه كان يُفكِّر دائمًا كأحد طرفي الخلاف، ولكنَّه أبدًا لم يُفكر كزوج لا بد له زوجة ولا تتمُّ سعادتهما إلَّا معًا، ولا يسعد الشخصان معًا إلَّا إذا اقتربا، احتكا واختلفا، ونتج عن احتكاكهما موجات من الرضا والغضب، والسخط والألفة، والحب والكره.

أتكون هذه الموجات هي نفسها السعادة التي طال سمعه عنها.

أتكون كالشَّرر لا يحدث إلَّا إذا طرق الحديد بالحديد والحجر بالحجر.

تلك المرأة التي يضمُّها بين يديه الآن، رفيقة العمر، التي صاحبته لحظة بلحظة وساعة بساعة، لا بدَّ أنَّها كانت تُقاسي مثله، وكانت تكرهه مثلما يكرهها، وتحمَّلته مثلما تحمَّلها. وكل ذلك قد مضى، ويمضي، ويُصبِح ذكريات أهم ما فيها أنَّها مرَّت وطعمها الآن، من طعم العمر المولي، ألذ وأطيب وأمتع طعم. إنَّها الآن بين يديه ضعيفة، مستسلمة، قد أسعدتها هديته البسيطة إلى درجة البكاء والنشوة.

ألف خاطر وخاطر، وعاطفة قوية مبهمة تتفجر في نفسه، وإعزاز غريب مفاجئ لروحية يكتشف أنَّه يملأ صدره. أيكون كل ما كان بينهما من خلاف وتعنُّت وكره هو الحب، الحب الأكبر. أكان من حُمقِه يحلم بالحياة السعيدة الأخرى والحياة الأخرى هو فيها، ويفكر في الهجرة إلى دنيا جديدة وهو يغمض عينيه عن دنيا الحقيقة الجديدة، ويقول إنَّ إنهاء حياته الخاملة تلك في حاجة إلى شجاعة، والشجاعة هي أن يَتقبَّل حياته هذه، ويؤمن أنَّ روحية زوجته والأولاد والبيت بيته هو دعامته والمسئول عنه.

ألف خاطر وخاطر، وهما واقفان، بين دهشة الأولاد، متعانقان، وكأنَّهما كانا غائبين لعشر سنوات مضَت، وكل هذا بغلطة، بلفتة، بنكتة، بكلمات قليلة على ورقة.

•••

ولم تكفِ أوراق البنكنوت ذات الإهداءات عن الورود لصلاح، مكتوبة على أوراق من فئة العشرة والخمسة والجنيه والخمسين قرشًا بعض الأحيان. وكلما قرأ صلاح الإهداء، وتأمَّل اللحظة التي لا بدَّ سبقته واللحظة التي أعقبته، كانت سعادة غامرة تملأ جوانحه، وكأنَّه قد اخترع اختراعًا للسعادة البشرية، أو اكتشف اكتشافًا، ولفرط سعادته باكتشافه حاول ذات يوم أن يبدأ في عدِّ الأوراق ذات الإهداءات؛ ليعرف كم من السعادات تسبب فيها وأحدثها.

ولا يزال صلاح إلى الآن يَعُد. ويبدو أنَّه لن يتوصَّل أبدًا إلى معرفة الرقم الصحيح؛ فالأوراق لم تكف أبدًا عن الورود.

يناير ١٩٥٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤