الفصل الثاني

أصول علم «جديد»

(١) نظرية الرسوم البيانية العشوائية

منذ نحو أربعين عامًا اتبع عالم الرياضيات بول إيردوس أسلوبًا بسيطًا للغاية في دراسة شبكات الاتصالات. كان إيردوس شخصًا غير عادي يبدو بجواره غريبو الأطوار أفرادًا طبيعيين تمامًا. وُلِد في بودابست يوم ٢٦ مارس عام ١٩١٣، وعاش مع والدته حتى سن الحادية والعشرين، ثم قضى ما بقي من حياته المتميزة مسافرًا. لم يمكث في أي مكان فترة طويلة، ولم يشغل أي وظيفة دائمة، اعتمد إيردوس على حسن ضيافة زملائه المخلصين، الذين كان يسعدهم إكرامه سعادة غامرة في مقابل تمتعهم بصحبة عقله شديد الذكاء دائم البحث، وقد اشتهر بنظرته لنفسه كآلية لتحويل القهوة إلى نظريات، ولا يعني ذلك أنه تعلم قط إعداد القهوة أو أيًّا من المهام اليومية العديدة الأخرى، مثل الطهي والقيادة، التي ينظر إليها عامة البشر الأقل شأنًا كأمور بسيطة تمامًا، لكن فيما يتعلق بالرياضيات، اتسم إيردوس بقوته الشديدة، فنشر نحو ألف وخمسمائة بحث على مدار حياته (بل نُشِر بعضها بعد وفاته أيضًا)، وهو ما يتجاوز ما نشره أي عالم رياضيات في التاريخ، ربما باستثناء أويلر العظيم.

ابتكر إيردوس أيضًا، بالاشتراك مع معاونه ألفريد ريني، النظرية الأساسية للرسوم البيانية العشوائية، و«الرسم البياني العشوائي»، كما يوحي اسمه، هو شبكة من نقاط التلاقي تصل بينها روابط على نحو عشوائي تمامًا. حسب تشبيه عالم الأحياء ستيوارت كوفمان، تخيل إلقاء ملء صندوق من الأزرار على الأرض، ثم اختيار أزواج منها عشوائيًّا وربطها معًا بخيوط ذات أطوال مناسبة (الشكل ٢-١). إذا كانت لدينا أرضية كبيرة للغاية، وصندوق أزرار ضخم، ووقت فراغ طويل، فما الشكل الذي ستئول إليه هذه الشبكات؟ وتحديدًا، ما السمات التي يمكننا إثبات أن كل هذه الشبكات لا بد أن تتسم بها؟ إن كلمة «إثبات» هي ما يجعل نظرية الرسم البياني العشوائي صعبة، بل شديدة الصعوبة، فليس كافيًا تجربة بضعة أمثلة فحسب، وملاحظة ما سيحدث، بل يحتاج المرء إلى التفكير فيما يمكن أن يحدث وما لا يمكن أن يحدث في كل ظرف محتمل الحدوث، وما الشروط التي يجب التمسك بها للتأكد. لحسن الحظ، كان إيردوس أستاذًا في الإثبات، وفيما يلي إحدى النتائج العميقة التي توصل إلى إثباتها مع ريني.
fig4
شكل ٢-١: رسم بياني عشوائي مُتخيل يصور مجموعة من الأزرار المربوطة معًا بخيوط. تتصل أزواج من نقاط التلاقي (الأزرار) معًا عشوائيًّا عن طريق روابط أو صِلات.

بالعودة إلى تشبيه الأزرار، تخيل أننا ربطنا عددًا من الخيوط بأزرار — أي عدد نشاء — ثم التقطنا زرًّا عشوائيًّا، على أن نعد جميع الأزرار الأخرى التي ترتفع معه من على الأرض. تُعَد كل هذه الأزرار الثانوية جزءًا من «المكون المتصل» للزر المُختار. وإذا كررنا هذا التمرين بالتقاط واحد من الأزرار المتبقية، فسنجد مكونًا متصلًا آخر، ويمكننا الاستمرار على هذا النحو حتى لا يتبقى أي زر على الأرض. ما الحجم الذي سيكون عليه أكبر هذه المكونات؟ سيعتمد ذلك على عدد الخيوط التي ربطتها، لكن كيف سيعتمد على ذلك «بالضبط»؟

إذا كان لديك ألف زر، وربطت خيطًا واحدًا فقط بين زرين، فسيحتوي أكبر مكون على زرين فحسب، وهو ما تقترب قيمته من الصفر نسبةً إلى الشبكة الكاملة. على الجانب الآخر، إذا ربطت كل زر بكل زر آخر، فمن الواضح أيضًا أن أكبر مكون سيتضمن الأزرار الألف جميعها، أو الشبكة بأكملها. لكن ماذا عن جميع الحالات الممكنة بين هاتين الحالتين؟ يعرض الشكل ٢-٢ مخططًا لجزء من الشبكة، أو رسمًا بيانيًّا عشوائيًّا يشغله أكبر مكون متصل في مقابل عدد الروابط الموجودة. كما هو متوقع، عندما يكون عدد الروابط قليلًا للغاية، لا يرتبط أي شيء بأي شيء آخر، ونظرًا لأننا أضفنا الخيوط على نحو عشوائي تمامًا، فدائمًا ما سنربط كل زر منفصل بآخر، وإن كان أحد هذه الأزرار متصلًا بخيط بالفعل، فمن المرجح ألا يؤدي هذا الخيط إلا إلى مجموعة صغيرة من الأزرار الأخرى.
fig5
شكل ٢-٢: اتصالية الرسم البياني العشوائي. يتغير عدد نقاط التلاقي المتصلة في مكون واحد فجأة عندما يتجاوز متوسط عدد الروابط لكل نقطة تلاقيًا واحدًا.
لكن شيئًا غريبًا يحدث بعد ذلك، عندما نضيف عددًا كافيًا من الخيوط بحيث يتصل بكل زر خيط واحد في المتوسط، تصعد نسبة الرسم البياني التي يشغلها المكون الأكبر مما يقترب من الصفر إلى حوالي واحد على نحو مفاجئ وسريع. وبلغة الفيزياء، يُعرف هذا التغير السريع باسم «التحول الطوري»؛ نظرًا لحدوث تحول من مرحلة مفككة إلى مرحلة متصلة، والنقطة التي يبدأ فيها حدوث ذلك (حيث يصعد الخط لأول مرة في الشكل ٢-٢) تسمى «النقطة الحرجة». وتحدث التحولات الطورية، مثلما سنرى بعد ذلك، في الكثير من الأنظمة المعقدة، وقد استُخدمت لتفسير شتى الظواهر؛ مثل المغنطة، وتفشي الأوبئة، وانتشار الصيحات الثقافية الحديثة. في هذه الحالة بالتحديد، يحدث التحول الطوري عن طريق إضافة عدد صغير من الروابط بالقرب من النقطة الحرجة بما يعمل على الربط بين الكثير من التكتلات شديدة الصغر في مكون واحد ضخم يمتد بعد ذلك ليشمل جميع نقاط التلاقي الأخرى حتى يصير كل شيء متصلًا. فسَّر إيردوس وريني وجود هذا التحول الطوري وطبيعته في عام ١٩٥٩.

لِمَ نهتم بذلك؟ ببساطة لأنه إذا لم تشكِّل نقطتا تلاقٍ جزءًا من المكون نفسه، فلن يمكنهما الاتصال أو التفاعل أو التأثير إحداهما على الأخرى، يمكن أيضًا أن تكونا في نظامين مختلفين، بحيث لا يمكن لسلوك إحداهما التأثير بأي شكل على سلوك الأخرى، من ثم، فإن وجود مكون ضخم يعني أن أي شيء يحدث في موقع واحد من الشبكة لديه القدرة على التأثير على أي موقع آخر، وعلى النقيض، فإن غيابه يقتضي ضمنًا أن الأحداث المحلية لا يمكن الشعور بها سوى محليًّا. استهل إيردوس وريني عملهما المبدئي عن طريق التفكير في شبكات الاتصالات، وتساءلا عن عدد الروابط التي يجب أن توجد بين مجموعة من الأجهزة قبل أن يتمكن واحد منها، اخْتِير عشوائيًّا، من الاتصال بالجزء الأكبر من النظام، ومن ثم يعد الخط الفاصل بين الانعزال والاتصال حدًّا مهمًّا لتدفق المعلومات والأمراض والأموال والابتكارات والصيحات الثقافية والأعراف الاجتماعية وكل شيء آخر نهتم به في المجتمع المعاصر. إن حدوث الاتصال العالمي، لا على نحو متزايد تدريجيًّا، بل بقفزة فجائية مثيرة، يعني وجود شيء عميق وغامض بشأن هذا العالم، على الأقل إذا صدقنا أن الرسوم البيانية العشوائية تمثل العالم تمثيلًا جيدًا.

هذه، بالطبع، هي المشكلة؛ فمع ما تتسم به نظرية الرسوم البيانية العشوائية من تعقيد (وهي معقدة على نحو محير)، فإن كل شيء نعرفه تقريبًا عن الشبكات الحقيقية، بدءًا من الشبكات الاجتماعية وصولًا إلى شبكات الخلايا العصبية، يشير إلى أنها ليست عشوائية، أو على الأقل ليست كالرسوم البيانية العشوائية التي وضعها إيردوس وريني. لماذا؟ حسنًا، تخيل أنك اخترت أصدقاءك عشوائيًّا بالفعل من بين سكان العالم الذين يزيد عددهم عن الستة مليارات، إن احتمالية مصادقتك شخصًا بقارة أخرى أكبر من احتمالية مصادقتك شخصًا بمدينتك أو مكان عملك أو مدرستك. تبدو هذه فكرة سخيفة، حتى في عالم تطغى عليه الاتصالات الإلكترونية والرحلات الدولية، لكن بالتمادي في هذه الفكرة، فإنه إن كان لديك نحو ألف صديق، وكلٌّ منهم لديه ألف صديق بدوره، ففرصة معرفة أيٍّ من أصدقائك بالآخر لن تتجاوز نسبتها واحدًا في الستة ملايين! ومع ذلك، فإننا نعرف من واقع خبرتنا اليومية أن أصدقاءنا يمكن أن يكونوا على معرفة ببعضهم البعض بالفعل، ومن ثم لا يمكن أن تكون الرسوم البيانية العشوائية تمثيلًا جيدًا للعالم الاجتماعي الحقيقي. ومع الأسف، كما سنرى لاحقًا، ما إن نبتعد عن الافتراضات شديدة المثالية عن العشوائية التامة التي يعتمد عليها واضعو نظريات الرسوم البيانية، حتى يصير من الصعب للغاية إثبات أي شيء على الإطلاق، ومع ذلك، إذا أردنا فهم سمات شبكات العالم الواقعي وسلوكها، فسوف نواجه في النهاية قضية البنية غير العشوائية.

(٢) الشبكات الاجتماعية

من الظلم إلى حد ما وصف علم الاجتماع بأنه فرع المعرفة الذي يحاول تفسير السلوك البشري، وليس البشر؛ ففي حين يهتم علم النفس للغاية بفهم ما يفعله الناس وفقًا لسماتهم وخبراتهم الشخصية، بل وفقًا لفسيولوجيا أجسامهم أيضًا، ينظر علم الاجتماع إلى السلوك — أو الفعل — البشري على أنه مدفوع، بل محدد، بالأدوار التي يلعبها الناس داخل المؤسسات الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي تحدد بيئتهم الاجتماعية، أو كما قال ماركس: «يصنع البشر تاريخهم، لكنهم … لا يصنعونه في ظل ظروف من اختيارهم.» ومن ثم فإن الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع هو البنية، وعليه، فقد لا يكون من المدهش أن نظرية تحليل الشبكات، التي انبثقت من علم الاجتماع (وفرع المعرفة المرتبط به، ألا وهو علم الإنسان)، كان لها دائمًا طابع بنيوي قوي.

إذا ما اختصرنا خمسة عقود من الفكر في بضع صفحات، فسنجد أن محللي الشبكات الاجتماعية طوروا أسلوبين شاملين للتفكير في الشبكات؛ يتناول الأسلوب الأول العلاقة بين «بنية الشبكة» — مجموعة الروابط الواضحة التي تربط أعضاء مجموعة بشرية معينة، مثل شركة أو مدرسة أو منظمة سياسية — و«البنية الاجتماعية» المناظرة التي يمكن على أساسها التفريق بين الأفراد وفقًا لانتمائهم إلى أدوار أو مجموعات مختلفة اجتماعيًّا. ظهرت مجموعة كبيرة من التعريفات والأساليب على مدار الأعوام تحمل أسماء من قبيل: نماذج الكتل، والتكتل الهرمي، والتدرج متعدد الأبعاد، لكن جميعها وُضِع أساسًا لاستخلاص المعلومات عن المجموعات المختلفة اجتماعيًّا من بيانات شبكية ارتباطية تمامًا، سواء عن طريق قياس مباشر «للمسافة الاجتماعية» بين الفاعلين، أو تجميع الفاعلين في مجموعات حسب مدى تشابه علاقاتهم مع الفاعلين الآخرين في الشبكة، ووفقًا لهذه الرؤية، تُعَد الشبكات العلامة المميزة للهوية الاجتماعية، فيمثل نموذج العلاقات بين الأفراد مخططًا لسمات الأفراد أنفسهم وتفضيلاتهم.

أما الأسلوب الثاني، فيحمل طابعًا أكثر آلية؛ إذ يُنظَر هنا إلى الشبكة كوسيلة لنشر المعلومات أو إحداث تأثير، وموقع الفرد في النموذج الكلي للعلاقات يحدد المعلومات التي يمكن لهذا الفرد الوصول إليها، أو الأشخاص الذين يمكنه التأثير عليهم. لا يعتمد، إذن، دور الشخص الاجتماعي على المجموعات التي ينتمي إليها فحسب، بل يتوقف أيضًا على موقعه داخل هذه المجموعات، وكما هو الحال مع الأسلوب الأول، وُضِع عدد من المقاييس لتحديد المواقع التي يحتلها الأفراد داخل الشبكة، والربط بين قيمها الرقمية والاختلافات المرصودة في الأداء الفردي.

يُستثنى من هاتين الفئتين العامتين المفهوم المعروف باسم «الرابط الضعيف»، الذي قدمه عالم الاجتماع مارك جرانوفتر، وهو يشكل تمهيدًا لبعض النماذج التي سنتناولها في مشكلة العالم الصغير. بعد إتمام جرانوفتر لدراسة مكثفة لمجتمعَيْن في بوسطن أثمرت محاولتهما لحشد الرأي ضد تهديد التنمية الحضرية إلى نتائج مختلفة تمام الاختلاف، توصل جرانوفتر إلى نتيجة مدهشة، وهي أن التنسيق الاجتماعي الفعال لا ينشأ من روابط «قوية» شديدة التشابك، بل من وجود روابط ضعيفة عرضية بين الأفراد الذين لا يمتُّون في أغلب الأحيان بصلة قوية بعضهم لبعض، أو ليس لديهم الكثير من الأمور المشتركة فيما بينهم، وقد أطلق جرانوفتر على هذا التأثير في بحثه الهام، الذي أصدره عام ١٩٧٣، «قوة الروابط الضعيفة»، وهي عبارة جميلة ومنمقة دخلت منذ ذلك الحين في قاموس علم الاجتماع.

أوضح جرانوفتر فيما بعد أن ثمة علاقة ارتباط مماثلة بين الروابط الضعيفة من ناحية، وتوقعات الأفراد بالحصول على وظيفة من ناحية أخرى؛ فالبحث عن وظيفة، حسبما اتضح، لا يتعلق فحسب بوجود صديق يمهد لك الطريق، لكن طبيعة هذا الصديق لها أهمية كبيرة. لكن المفارقة هنا هي أن من ستجني من ورائهم أقصى فائدة لن يكونوا الأصدقاء المقربين! فنظرًا لأن هؤلاء الأصدقاء يعرفون الكثير من معارفك، ويمكن أن يحصلوا على المعلومات نفسها، نادرًا ما يكونون هم من يمكنهم مساعدتك في الانتقال إلى بيئة جديدة مهما كانت رغبتهم في ذلك، لكن غالبًا ما يكون المعارف غير المقربين هم من يفيدونك؛ نظرًا لقدرتهم على منحك معلومات ما كان بإمكانك أبدًا الحصول عليها بطريقة أخرى.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتبار الروابط الضعيفة حلقة وصل بين التحليل على مستوى الأفراد وعلى مستوى المجموعات؛ إذ إن الأفراد هم من ينشئونها، لكن وجودها يؤثر على حالة وأداء ليس فقط الأفراد الذين «يملكونها»، بل أيضًا المجموعة الكاملة التي ينتمون إليها، ومن ثم، زعم جرانوفتر أنه يمكن تحديد هل الروابط قوية أم ضعيفة عن طريق النظر إلى البنية على مستوى المجموعات فقط؛ أي ملاحظة البنية التي ينتمي إليها الأفراد. ومع أننا سنرى أن العلاقة بين ما هو خاص (الأفراد) وما هو عام (المجموعات والمجتمعات والتجمعات وما إلى ذلك) أكثر دقة إلى حد ما مما وصفه جرانوفتر منذ ثلاثين عامًا، فإن عمله يمثل تنبؤًا ملفتًا للنظر بعلم الشبكات الحديث الآن.

(٣) للديناميكيات أهمية

إن فهم محللي الشبكات الاجتماعية العميق للبنية يفتح الباب أمام مجموعة كاملة من الأسئلة البعيدة تمامًا في جوهرها عن النظرية المجردة للرسوم البيانية، لكن لا تزال ثمة مشكلة رئيسية فيما يتعلق بتحليل الشبكات الاجتماعية، ألا وهي «غياب الديناميكيات»؛ فبدلًا من التفكير في الشبكات ككيانات تتطور تحت تأثير القوى الاجتماعية، تعامل معها محللو الشبكات غالبًا كتجسيد جامد لتلك القوى، وبدلًا من النظر إلى الشبكات كقنوات ينتشر من خلالها التأثير حسب قواعدها الخاصة، نُظِر إلى الشبكات نفسها كتمثيل صريح للتأثير. ووفق أسلوب التفكير هذا، يُعتقَد أن بنية الشبكة، التي يُنظَر إليها كمجموعة ثابتة من المقاييس، تجسد جميع المعلومات المتعلقة بالبنية الاجتماعية؛ تلك المعلومات ذات الصلة بسلوك الأفراد وقدرتهم على التأثير على سلوك النظام. كل ما يتطلبه الأمر هو جمع البيانات الخاصة بالشبكة، ثم قياس السمات الصحيحة، وسيتضح كل شيء على نحو مذهل.

لكن ما الذي يجب قياسه؟ وما الذي سيتم استيضاحه بالضبط؟ يمكن أن تعتمد الإجابات هنا اعتمادًا كبيرًا على نوع التطبيق المحدد الذي يتعامل معه المرء؛ على سبيل المثال، لا يتشابه بالضرورة تفشي مرض ما مع انتشار أزمة مالية أو ابتكار تكنولوجي. إن السمات البنائية للشبكة التي تمكِّن أي مؤسسة من جمع المعلومات بفعالية يمكن أن تختلف عن تلك التي تمكِّنها من معالجة المعلومات التي تمتلكها بالفعل أو التغلب على كارثة غير متوقعة. إن الدرجات الست التي تفصل المرء عن رئيس الولايات المتحدة يمكن أن تمثل مسافة قصيرة أو طويلة، ويعتمد ذلك على ما يبتغي المرء فعله. أوضح جون كلاينبيرج (الذي سنتعرض لعمله الملهم في مسألة العالم الصغير في الفصل الخامس) ذلك ذات مرة لأحد الصحفيين، فقال له إنه اشترك مع أحد الباحثين بجامعة كاليفورنيا، بيركلي، في كتابة بعض الأبحاث، وكان ذلك الباحث قد سبق له التعاون مع من أصبح بعد ذلك الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، وعلَّق كلاينبيرج على ذلك قائلًا: «للأسف، لا يجعل لي ذلك تأثيرًا كبيرًا على بيل جيتس.»

نظرًا لأن القياسات الثابتة والبنيوية الخالصة لبنية الشبكات لا تفسر أي نشاط يحدث في الشبكة، فإن تلك الأساليب لا توفر أي وسيلة منهجية لترجمة مردودها إلى عبارات ذات معنى حول النتائج. مثال على ذلك، تدبَّر ادعاء إحدى كليات الإدارة بأن القيادة مهارة عامة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وتنطبق قواعدها في أي سياق؛ فإن ما تدعو إليه هذه الكلية واضح، وهو: تعلَّم كيفية «الإدارة» وسيُمكِنك إدارة أي شيء، بدءًا من شركة ناشئة، مرورًا بمنظمة غير ربحية، وصولًا إلى فصيلة عسكرية، لكن من الناحية العملية لا تسير الأمور بهذه البساطة؛ فالقيادة اللازمة في وحدة مشاة مقاتلة — على سبيل المثال — مختلفة تمامًا عن تلك اللازمة في مكتب حكومي، والقائد الذي يحسن البلاء في إحدى البيئات يمكن أن يكون أداؤه ضعيفًا للغاية في غيرها. ولا يعني ذلك أنه لا توجد مبادئ مشتركة على الإطلاق، لكن لا بد من تفسير هذه المبادئ في ضوء ما تحاول المؤسسة على وجه التحديد تحقيقه، وفي ضوء أنماط البشر الذين يعملون فيها. يسري الأمر نفسه على التحليل البنيوي؛ فبدون نظرية مماثلة عن السلوك — الديناميكيات — لن يمكن تفسير نظرية بنية الشبكات على الإطلاق، ومن ثم لن تكون ذات فائدة عملية تذكر.

تُعد «المركزية» أحد الأمثلة الهامة على ما يسفر عنه تناول الشبكات بمنهج بنيوي خالص من تبني كثير من المحللين لنظرة مطمئنة — لكنها مضللة تمامًا — عن العالم. يتمثل أحد أكبر الألغاز المتعلقة بالنظم الكبيرة الموزعة — بدءًا من المجتمعات والمؤسسات وصولًا إلى العقول والنظم البيئية — في الكيفية التي يمكن أن يظهر بها نشاط متسق على نحو كلي في غياب رقابة أو سلطة مركزية. عادةً ما يتم تجنب مشكلة التنسيق اللامركزي عن طريق إدماج مركز تحكم واضح، وذلك في النظم التي صُممت وأُعدت خاصة لفرض التحكم؛ كالنظم الديكتاتورية وشبكات أجهزة الاستدعاء التي تعمل بالقمر الصناعي، لكن في كثير من الأنظمة — عادةً تلك التي تطورت أو ظهرت طبيعيًّا — يكون مصدر التحكم غير واضح على الإطلاق. تحظى المركزية بقدر كبير من الجاذبية بطبيعتها، وهو ما دفع محللي الشبكات إلى التركيز بشدة على ابتكار تدابير لها، سواء للأفراد داخل الشبكة أو للشبكة بالكامل.

يقتضي هذا المنهج ضمنًا أن الشبكات التي تبدو لامركزية هي في حقيقة الأمر ليست كذلك على الإطلاق، فإذا تأملنا بإمعان بيانات الشبكات، فسيتضح لنا أنه حتى الشبكات الكبيرة المعقدة تعتمد على مجموعة ثانوية صغيرة من الفاعلين المؤثرين، ووسطاء المعلومات، والموارد الهامة، وتمثل هذه العناصر مجتمعةً المركز الفعال الذي يعتمد عليه أي شخص آخر. قد لا يكون هؤلاء الفاعلون الرئيسيون واضحين — وقد يبدون غير مهمين بالمقاييس التقليدية للمكانة أو السلطة — لكنهم موجودون دائمًا، وما إن يُحدَّدوا حتى تتضح الأمور، ويصير أمامنا نظام له مركز. شاعت مفاهيم المركزية شيوعًا كبيرًا في دراسات الشبكات، ومن السهل إدراك السبب وراء ذلك؛ فالنظرية قابلة للاختبار والتحليل، وتؤدي إلى نتائج قابلة للقياس، بل مدهشة في بعض الأحيان (مثل أن يُكتشَف أن أكثر مجموعات النفوذ تماسكًا في أي شركة هم المدخنون الذين يتجمعون بالخارج عدة مرات في اليوم، أو أن مساعد المدير، وليس المدير نفسه، هو وسيط المعلومات الرئيسي)، لكنها في الوقت نفسه لا تجبرنا على استيعاب أي مفاهيم شديدة الصعوبة أو منافية للبديهة. للعالم دائمًا مركز، ويعالج هذا المركز المعلومات ويوزعها، ويُحدِث الفاعلون المركزيون أثرًا أكبر من الفاعلين الهامشيين.

لكن ماذا إذا لم يكن هناك أي مركز؟ أو ماذا إذا كان هناك الكثير من «المراكز» التي ليس من الضروري أن تكون متسقة أو حتى متفقة؟ ماذا إذا لم تنشأ الابتكارات المهمة في قلب الشبكة، بل في أطرافها التي ينشغل وسطاء المعلومات عن الانتباه إليها؟ ماذا إذا انتشرت الأحداث البسيطة في أماكن غير واضحة عن طريق الظروف العرضية والمصادفات العشوائية، لتؤثر بذلك على عدد كبير من قرارات الأفراد، التي يتخذونها في غياب أي خطة كبرى، لكنها تتجمع على نحو ما في صورة حدث بالغ الأهمية لا يتوقعه أحد، بما في ذلك الفاعلون أنفسهم؟

في مثل هذه الحالات، فإن مركزية الأفراد في الشبكة، أو أي مركزية من أي نوع، لن تخبرنا بالكثير أو بأي شيء على الإطلاق بشأن النتيجة؛ وذلك لأن «المركز لا يظهر إلا كنتيجة للحدث نفسه». لهذه العبارة تبعات مهولة فيما يخص فهمنا للشبكات. في عدد وافر من النظم، من الاقتصاد إلى الأحياء، لا تنبع الأحداث من أي مركز موجود من قبل، بل من التفاعلات بين الأنداد، فلتتذكر آخر مرة كنت فيها وسط جمهور كبير بإحدى الحفلات الموسيقية، ووسط التهليل الفوضوي بدأ الجمهور بأكمله في التصفيق بإيقاع واحد معًا، هل فكرت من قبل كيف يتمكن الجميع من الاتفاق على إيقاع واحد؟ ففي نهاية الأمر، يصفق الكثير من الناس طبيعيًّا بإيقاعات مختلفة، ولا يبدءون جميعًا في اللحظة ذاتها بالضبط. فمَن الذي يختار لحظة التصفيق؟ في بعض الأحيان يكون الأمر سهلًا؛ تتوقف الموسيقى، ويصفق الجميع مع إيقاع الطبلة الجهير، أو يبدأ المغني الرئيسي تصفيقًا بطيئًا من فوق المسرح ليحث الجمهور على البدء في التصفيق، لكن عادةً لا توجد مثل هذه الإشارة المركزية، وفي هذه الحالات لا يلتقط أحد أي إشارة على الإطلاق.

ما يحدث هو أنه عندما يقترب الجمهور من المزامنة، يمكن أن يبدأ بعض الناس، بالمصادفة العشوائية، في التصفيق معًا، وهم لا يفعلون ذلك على نحو متعمد ومنعزل، ويمكن أن يستمر ذلك بضع لحظات فحسب، لكنها تكون كافية؛ فنظرًا لأن هؤلاء الأفراد يتكتلون معًا، يكون صوت تصفيقهم أعلى مؤقتًا من أي شخص آخر على مرمى السمع، ومن ثم تزيد احتمالية جذبهم آخرين للمزامنة معهم مقارنةً باحتمالية حيادهم بعيدًا عن المزامنة، ومن ثم ينضم آخرون إليهم على الأرجح، ومن ثم يعززون إشارتهم ويجذبون آخرين إليهم أيضًا، وفي غضون ثوانٍ يصبحون المركز الذي ينتظم حوله الجمهور بأكمله. لكن إذا سأل مراقب من الخارج: مَن بدءوا تلك المزامنة كيف فعلوا ذلك؟ فالاحتمال الأقوى هو أن يندهشوا مثل أي شخص آخر لاكتشافهم وضعهم الخاص هذا. علاوة على ذلك، إذا كرر ذلك المراقب التجربة مع الأفراد أنفسهم في الاستاد، فسيكتشف أن الجمهور سيتآزر حول مركز اعتباطي مختلف آخر.

يمكن أن ينطبق ذلك إلى حد بعيد على العمليات الاجتماعية الأكثر تعقيدًا؛ كالثورات، ففي النهاية، لم تأتِ الإطاحة بالرئيس الصربي الديكتاتور، سلوبودان ميلوسيفيتش، على يد قائد سياسي آخر، أو حتى جيشه، لكن تمثلت القوة الدافعة لسقوطه في حركة طلابية مجهولة ضعيفة التنظيم عُرِفَت باسم أوتبور (وهي كلمة صربية تعني المقاومة)، ولم تحظَ هذه الحركة بقيادة مركزية متماسكة إلا بعد نجاحها في حشد دعم شعبي. إن أي تحليل تقليدي للشبكات الاجتماعية لتلك الحركة الطلابية من شأنه ملاحظة أصحاب الأدوار الرئيسية في الحركة، وتتبُّع ارتباطهم بعضهم ببعض، وبتابعيهم، وبالمنظمات الخارجية أيضًا، ومحاولة تحديد الآليات التي أصبحوا من خلالها العناصر التنظيمية المركزية، لكن كما سنرى في الفصل الثامن، عندما يتعلق الأمر بالعمل الاجتماعي المنسق واسع النطاق، لا يكون تدارس الحدث بعد وقوعه سليمًا تمامًا، بل يمكن أن يكون في الواقع مضللًا للغاية، فبدلًا من أن يرسم القادة الأحداث، يمكن أن يحدث العكس تمامًا؛ فيحدد تسلسل الأحداث وتفاصيل توقيتها مَن يظهرون كقادة. وفي ظل السخط الذي جاش بصربيا في صيف عام ٢٠٠٠، لم يتطلب الأمر سوى بضعة أحداث بسيطة وعشوائية تمامًا لتثور الحركة الطلابية والشعب. عمل الكثير من الأفراد على الإطاحة بميلوسيفيتش، لكن بعضهم وحسب هم من صاروا قادة، وليس بالضرورة أن يكون سبب ذلك أنهم كانوا أكثر تميزًا من الآخرين، أو كانوا يتمتعون بوضع متميز للغاية، لكن تتابع أحداث الثورة نفسها هو الذي حدد مركزها، كما هو الحال بالضبط في حالة الجمهور المصفق أو المكوِّن الكبير في الرسم البياني العشوائي لإيردوس وريني.
كيف ينشأ إذن النشاط العام المترابط من التفاعلات بين الأنداد، دون وجود أي رقابة أو سلطة مركزية؟ تُعَد بنية الشبكة — كما سنرى في الصفحات التالية — أمرًا محوريًّا في هذا الشأن، وكذلك الديناميكيات. على الرغم من استخدامنا السابق لمصطلح الديناميكيات، فهو في الحقيقة يحمل معنيين يلزم التمييز بينهما، لأن كلًّا منهما تمخض عنه فرع كامل لعلم الشبكات الحديث؛ المعنى الأول، الذي سيطغى على مناقشتنا في الفصلين الثالث والرابع، هو ما يمكن أن نطلق عليه «ديناميكيات الشبكة»، ووفقًا لهذا المعنى، تشير الديناميكيات إلى البنية المتطورة للشبكة نفسها؛ أي عملية تكون روابط الشبكة وتفككها. على سبيل المثال، نقابل على مدار الزمان أصدقاء جددًا ونفقد اتصالنا بأصدقاء قدامى، ومن ثم تتغير شبكاتنا الشخصية، وأيضًا البنية العامة للشبكة الاجتماعية التي ننتمي إليها. يمكن النظر إلى البنى الثابتة لتحليل الشبكات التقليدي كلقطات فوتوغرافية الْتُقِطَت أثناء عملية التطور المتواصلة هذه، لكن عند النظر إلى الشبكات من الناحية الديناميكية، يمكن القول إن البنية القائمة لا يمكن فهمها جيدًا إلا من واقع طبيعة العمليات التي أدت إلى ظهورها.

أما المعنى الثاني، الذي سيشغلنا على مدار الفصول من الخامس إلى التاسع، فهو ما يمكن أن نطلق عليه «الديناميكيات القائمة على الشبكة». من هذا المنظور، يمكننا تخيل الشبكة كركيزة ثابتة تربط مجموعة من الأفراد، ويتشابه ذلك مع النظرة التقليدية للشبكات. لكن الأفراد يفعلون أمرًا ما الآن — يبحثون عن معلومات، أو ينشرون شائعة، أو يتخذون قرارات — تتأثر نتيجته بما يفعله جيرانهم، ومن ثم ببنية الشبكة. هذه هي الديناميكيات بالضبط التي كنت أفكر فيها مع ستيف ستروجاتس عندما غيَّرنا مشروعنا عن صراصير الليل منذ عدة أعوام، والتي لا تزال تسيطر على تفكيرنا بشأن العمليات الاجتماعية بصفة دائمة.

يحدث كلا نوعي الديناميكيات طوال الوقت على أرض الواقع، وعلى الفاعلين الاجتماعيين — بدءًا من الثوار وصولًا إلى المديرين التنفيذيين — الاختيار مرارًا وتكرارًا، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية استجابتهم للأحداث حسب إدراكهم لها، بل أيضًا فيما يتعلق بمن يرتبطون به. إذا كان سلوك أحد أصدقائك لا يروق لك، يمكنك أن تحاول تغيير سلوكه أو تقضي وقتك مع شخص آخر. يمكن أن تتغير «بنية الشبكة» استجابةً لسيناريو واحد، لكن يمكن أيضًا أن تتغير التفاعلات التي تجري «على الشبكة». بالإضافة إلى ذلك، يساعد كل قرار — أي كل صورة من صور الديناميكيات — في إرساء السياق الذي يجب صنع القرارات التالية في إطاره. تؤثر سعادتك على شبكتك، وتؤثر شبكتك على سعادتك. إنه أمر معقد، ومن ثم، لتحقيق بعض التقدم، نحتاج أولًا إلى فهم كل نوع من الديناميكيات على حدة، ولحسن الحظ، لدينا ركائز قوية نستند إليها في معالجة هذه المهام.

(٤) الابتعاد عن العشوائية

أناتول رابوبورت عالم رياضيات، لكن ليس بالمعنى التقليدي؛ فعلى مدار مسيرته المهنية المتميزة التي امتدت لأكثر من نصف قرن، قدم إسهامات عظيمة في علم النفس ونظرية الألعاب وتطور التعاون، بالإضافة إلى علم الأوبئة ودراسة الشبكات الاجتماعية. كان رابوبورت يدرس في الخمسينيات من القرن العشرين انتشار الأمراض في التجمعات البشرية باعتباره عضوًا في مجموعة بحثية بجامعة شيكاغو عُرفَت باسم «لجنة الفيزياء الحيوية الرياضية». وفي الوقت الذي كان معظم علماء الأوبئة يركزون على نماذج الأمراض التي تجاهلت الجوانب الاجتماعية للتفاعلات البشرية، أدركت مجموعة شيكاغو البحثية أنه في حالة بعض الأمراض تمثل الشبكة الفعلية عاملًا محوريًّا، وفي أغلب الظروف، يمكن تحديد مدى خطورة انتشار مرض ما من خلال توضيح من يتفاعل مع من.

سنعود لهذا الموضوع في فصول لاحقة نظرًا لارتباطه ليس فقط بانتشار الأمراض، بل أيضًا بانتشار المعلومات كالشائعات وفيروسات الكمبيوتر. ما يجب ذكره الآن بشأن عمل رابوبورت المبكر أنه مع تناوله مشكلة بنية الشبكات من منظور عالم الرياضيات، فقد تأثر تأثرًا شديدًا بالأفكار المستمدة من علم الاجتماع وعلم النفس والأحياء، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أنه كان كبير السن نسبيًّا — في الثلاثينيات من عمره — حين بدأ دراساته العليا، وذلك نظرًا لخدمته السابقة في الجيش ومشاركته في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم عندما عزم على أن يصبح عالم رياضيات، كان قد شهد بالفعل الكثير من تقلبات الحياة، وربما قرر تضمينها في عمله.

فيما يتعلق بانتشار مرض ما في شبكة اجتماعية محددة، أراد رابوبورت معرفة مدى السوء الذي يمكن أن يبلغه الموقف. بعبارة أخرى، تخيل أن المرض شديد العدوى لدرجة أن كل من يتصل بشخص مريض تنتقل إليه العدوى فعليًّا. كم سيبلغ عدد المصابين في النهاية؟ حسنًا، يعتمد ذلك جوهريًّا على مدى قوة ارتباط المجموعة البشرية. فإذا كنا نتحدث عن إحدى المناطق الريفية في وسط أفريقيا على أطراف غابة مطيرة، حيث يعيش الناس في قرى صغيرة منعزلة نسبيًّا، فقد نتصور أن انتشار المرض في قرية واحدة، مع تأثيره المدمر على هذه القرية، سيظل متمركزًا في مكان واحد، لكن إذا كنا نتحدث عن قارة أمريكا الشمالية التي تحتوي على تجمعات سكانية ضخمة كثيفة ترتبط معًا بشبكة متعددة المستويات من وسائل المواصلات الجوية والبرية والسكك الحديدية، فمن الجلي أن أي شيء خبيث بهذه الدرجة يبدأ في أي مكان سيتفشى تفشيًا بالغًا. ويتساءل رابوبورت: هل هناك مستوى حرج من الاتصالية بين هذين الحدين يتحول عنده البشر من مجموعة من التجمعات المنعزلة الصغيرة إلى كتلة واحدة متصلة؟ ينبغي أن يبدو هذا السؤال مألوفًا؛ فهو السؤال نفسه الذي طرحه إيردوس وريني عن شبكات الاتصالات وأدى إلى نشأة نظرية الرسوم البيانية العشوائية.

وبالفعل، بدأ رابوبورت ومعاونوه عملهم من خلال فحص الشبكات المتصلة عشوائيًّا للأسباب نفسها تقريبًا التي استند إليها عالما الرياضيات المجريان، ومع استخدامهم لأساليب أقل دقةً، فقد توصلوا إلى نتائج مشابهة إلى حد ما (قبل إيردوس وريني بعشر سنوات تقريبًا!) لكن نظرًا لنزعة رابوبورت التطبيقية، فقد أدرك سريعًا الحقيقة الكامنة وراء الجمال التحليلي لنموذج الرسم البياني العشوائي، وحاول معالجة ما رآه عيوبًا فيه. لكن ماذا هناك غير الشبكات العشوائية؟ في الجملة الافتتاحية لرواية «آنَّا كارنينا»، كتب تولستوي متفجعًا: «الأسر السعيدة كلها متشابهة؛ أما الأسر التعيسة، فلكل منها قصتها.» من هذا المنطلق نفسه، فإن الرسوم البيانية العشوائية جميعها متشابهة في جوهرها، لكن غير العشوائية أصعب بكثير في تحديدها. على سبيل المثال، هل أثارت اهتمامك من قبل فكرة أن بعض الصداقات غير متكافئة، بل غير متبادلة أيضًا؟ هل يجب اعتبار بعض العلاقات أهم من غيرها؟ كيف يمكن تفسير تفضيل الناس الواضح للارتباط بمن يشبهونهم؟ هل يمتلك معظم الناس العدد نفسه تقريبًا من الأصدقاء؟ أم هل يمتلك بعضهم عددًا من الأصدقاء أكبر من المتوسط؟ وكيف يمكن تفسير ظهور مجموعات تكون روابط الصداقة داخلها كثيفة، في حين أن العلاقات بين المجموعات نفسها قليلة نسبيًّا؟

أجرت مجموعة رابوبورت عدة محاولات جادة لمعالجة هذه القضية، مع التوسع في دراسة الرسوم البيانية العشوائية لتشمل خصائص بشرية مثل «الانجذاب إلى المثيل»، وهو ما يعبِّر عنه القول المأثور: «الطيور على أشكالها تقع»، الذي لا يصف مجموعات الأخوية في الجامعات فحسب، بل أيضًا هياكل الموظفين في الشركات، وقواعد الزبائن في المحلات والمطاعم، والطبيعة العرقية للأحياء السكنية. تساعد خاصية «الانجذاب إلى المثيل» في تفسير سبب معرفتك لمعارفك — نظرًا لاشتراككم جميعًا في أمر ما — لكن يمكن أن يتساءل المرء أيضًا كيف يمكن للأشخاص الذين يعرفهم الآن أن يحددوا من سيعرفهم في المستقبل، فكَّر رابوبورت في ذلك أيضًا، وقدَّم مفهوم «الإقفال الثلاثي». في الشبكات الاجتماعية، تكون وحدة التحليل الأساسية هي «الزوج»؛ أي العلاقة بين شخصين. لكن أكثر مستويات التحليل التالية بساطة، والأساس لكل بنية المجموعات، هو مثلث، أو ثالوث، يظهر كلما كان للفرد صديقان بينهما علاقة صداقة أيضًا. لم يكن رابوبورت أول من فكر في الثالوث كوحدة أساسية لبنية المجموعة؛ فقد قدم عالم الاجتماع الألماني جيورج سيميل الفكرة منذ ما يزيد عن نصف قرن، لكن الجديد في عمل رابوبورت هو تضمين الديناميكيات. من المرجح أن يتعرف غريبان، لديهما صديق مشترك، أحدهما على الآخر بمرور الوقت؛ بمعنى أن الشبكات الاجتماعية (على عكس الشبكات العشوائية) تتطور على نحو تميل فيه البنى الثلاثية إلى الانغلاق على نفسها.

نظر رابوبورت بوجه عام إلى الخصائص التي كان يُعرِّفها كنزعات؛ لأن كلًّا منها أبعدَ نماذجَه خطوة عن افتراض العشوائية الخالصة دون إغفالها تمامًا. إن العشوائية سمة قوية وراقية تمثل في كثير من الأحيان بديلًا مناسبًا تمامًا للأمور المعقدة والفوضوية وغير المتوقعة التي تحدث في الحياة الواقعية، لكنها تفشل على نحو جليٍّ في إيضاح بعض المبادئ التنظيمية الأكثر قوة التي تتحكم أيضًا في القرارات التي يتخذها الناس. لذا، فكَّر رابوبورت لماذا لا تكون هناك موازنة بين هاتين القوتين في نموذج ما؟ عليك أن تقرر أي المبادئ التنظيمية هي الأهم من وجهة نظرك، ثم تخيل بناء شبكات تستجيب لهذه الخصائص، لكنها دون ذلك تكون عشوائية. وقد أطلق رابوبورت على الفئة الجديدة التي وضعها من النماذج اسم «الشبكات المائلة للعشوائية».

تتمثل قوة هذا المنهج في أنه من خلال تعامله مع الشبكات باعتبارها نظمًا متطورة ديناميكيًّا، تجنَّب العيب الرئيسي في التحليل القياسي الثابت للشبكات، لكن للأسف، أثناء فعل ذلك، واجه هذا المنهج عقبتين لم يمكن تخطيهما؛ إحداهما نظرية والأخرى تجريبية. تتمثل العقبة الأولى في البيانات، ففي عصرنا الحالي، وفي أعقاب ثورة الإنترنت، اعتدنا رؤية بيانات عن الشبكات الضخمة وصور لها، ويشمل ذلك شبكة الإنترنت ذاتها. بل الأكثر أهمية أن التكنولوجيا القادرة على تسجيل التفاعلات الاجتماعية إلكترونيًّا، بدءًا من المكالمات الهاتفية وصولًا إلى الرسائل الفورية وغرف الدردشة على الإنترنت، زادت من حجم بيانات الشبكة أضعافًا مضاعفة في السنوات القليلة الماضية وحدها.

لكن لم يكن هذا هو الحال دائمًا في جمع البيانات، فحتى وقت قريب كمنتصف التسعينيات، وبالتأكيد في الخمسينيات، كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على بيانات الشبكات الاجتماعية هي الخروج إلى الشارع وجمعها يدويًّا؛ يعني ذلك توزيع نماذج استقصاء يُطلَب فيها من الخاضعين للدراسة تذكُّر معارفهم، وذكر طبيعة علاقتهم بهم. ليس هذا بالمنهج الذي يعوَّل عليه تعويلًا كاملًا في الحصول على بيانات عالية الجودة، ولا يرجع ذلك فحسب إلى أن الناس يواجهون صعوبة في تذكُّر معارفهم دون حثهم على ذلك على نحو مناسب، لكن أيضًا لأن وجهة نظر أي اثنين يعرف أحدهما الآخر تجاه علاقتهما يمكن أن تختلف تمامًا من أحدهما للآخر، ومن ثم يمكن أن يكون من الصعب التعبير عن الأمر بالفعل. يتطلب هذا المنهج أيضًا الكثير من الجهد من جانب الخاضعين للدراسة، والباحث بوجه خاص. هناك أسلوب أفضل بكثير، ألا وهو تسجيل ما يفعله هؤلاء الناس بالفعل، ومع من يتفاعلون، وكيفية تفاعلهم معهم. لكن في غياب وسيلة جمع إلكترونية للبيانات، يعد هذا الأسلوب أصعب في تنفيذه عمليًّا من الاستقصاء، ومن ثم فإن بيانات الشبكات الاجتماعية، أينما وُجدَت، تتناول مجموعات صغيرة من الناس، وغالبًا ما تكون قاصرة على عدد معين من الأسئلة التي يفكر الباحث في طرحها مسبقًا، ومن ثم، لم يكن لدى رابوبورت هدف لنماذجه، وإذا لم يكن المرء يعلم كيف يبدو العالم، فمن الصعوبة بمكان معرفة هل نجح في الوصول إلى أي شيء ذي مغزى بشأنه.

لكن رابوبورت واجه أيضًا مشكلة أكثر صعوبة من ذلك، فمع فهمه للمشكلة التي كان «يحاول» حلها، فإنه لم يستطع الهروب من حقيقة أنه في خمسينيات القرن العشرين لم يكن لديه بالفعل سوى قلم رصاص وورقة لأداء عمله، وحتى في عصرنا الحالي أيضًا، مع وجود أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة، يعد تحليل الشبكات المائلة للعشوائية مسألة صعبة، أما حينذاك، فكان الأمر مستحيلًا فعليًّا. تتمثل الصعوبة الأساسية هنا في أنه عند دحض افتراض إيردوس وريني الذي ينص على أن كل اتصال بالشبكة ينشأ مستقلًّا عن أي اتصال آخر، يصبح من غير الواضح ما الذي يعتمد على ماذا. على سبيل المثال، من المفترض أن يؤثر الإقفال الثلاثي على الشبكة على نحو خاص للغاية، عن طريق جعل الدورات الثلاثية (الثلاثيات) أكثر ترجيحًا. يعني ذلك أنه إذا كان (أ) يعرف (ب)، و(ب) يعرف (ج)، فمن المرجح أن (ج) يعرف (أ) أكثر من أي شخص آخر يُختار عشوائيًّا.

لكن ما إن نبدأ في استكمال الثلاثيات حتى نفاجأ بشيء آخر لم نتوقعه، ألا وهو ظهور دورات بأطوال أخرى أيضًا. يوضح الشكل ٢-٣ هذا الاعتماد غير المتوقع؛ فنرى في الإطار الأول منه أربع نقاط تلاقٍ تتصل معًا في سلسلة نفترض أنها جزء من شبكة أكبر. تخيل الآن أن نقطة التلاقي (أ) بحاجة لإقامة ارتباط جديد، لكن لديها ميلًا (نزعة) للارتباط بصديق صديق ما. فمن المرجح أكثر أن ترتبط هذه النقطة بنقطة التلاقي (ج) أكثر من أي نقطة أخرى، لذا لنفترض أن هذا ما سيحدث بالفعل. نصل الآن إلى الإطار الثاني من الشكل، حيث يمكن أن نتخيل أن نقطة التلاقي (د) بحاجة لاختيار صديق جديد. مرة أخرى، تميل النقطة (د) إلى الارتباط بصديق صديق ما، وليس هناك سوى نقطتي تلاقٍ متوفرتين، ألا وهما (أ) و(ب)، فتجري (د) قرعة وتختار (أ)، الأمر الذي ينقلنا إلى الإطار الثالث. ما الذي حدث هنا؟ كل ما حددناه هو تفضيل الارتباط بصديق صديق ما، أو بعبارة أخرى استكمال الثلاثيات — الدورات الثلاثية — لكن أثناء فعل ذلك، أنشأنا أيضًا دورة رباعية (أ ب ج د).

لا تتضمن قاعدتنا أي معلومات عن الدورات الرباعية — إذ تقتصر النزعات على الثلاثيات فقط — لكنها ستظهر حتمًا، بالإضافة إلى دورات بأطوال أخرى تنشأ بالأسلوب المتراكم نفسه. يرجع السبب على وجه التحديد في ذلك إلى أن بناء الشبكة عملية ديناميكية، وإنشاء كل رابط متعاقب يضع في الاعتبار الحالة الحالية للشبكة التي تتضمن كل الروابط التي أُنشئت من قبل. فما كان الاتصال من (د) إلى (أ) ليحدث على الأرجح إذا لم يكن الاتصال من (أ) إلى (ج) قد حدث أولًا. لذا، فإن النزعات المحددة تحديدًا واضحًا للغاية لا تؤدي إلى نتائج غير متعمدة فحسب، بل احتمالية أن يقع أي حدث في أي لحظة أثناء تطور الشبكة يعتمد أيضًا بوجه عام على كل ما حدث وصولًا إلى هذه اللحظة.

fig6
شكل ٢-٣: تطور شبكة مائلة للعشوائية. يؤدي النزوع لإنشاء دورات ثلاثية (نزعة الإقفال الثلاثي) إلى ظهور دورات أطول أيضًا (هنا يندمج كلٌّ من (أ ب ج) و(أ ج د) لإنشاء (أ ب ج د)).

في زمن رابوبورت، كان هذا الإدراك كافيًا لإنهاء البحث، ويمكن ملاحظة إدراك رابوبورت لذلك عند قراءة أبحاثه الأصلية. ربما لو كانت المجموعة البحثية في جامعة شيكاغو تمتلك أجهزة الكمبيوتر التي نمتلكها الآن، لسبروا أغوار المسألة على نحو أكبر، ولكانت نظرية الشبكات قد اتخذت مسلكًا مختلفًا تمامًا. لكنهم لم يملكوها. نظرًا لعدم وضوح الرؤية بسبب نقص البيانات، والتقيد الناتج عن الافتقار للقدرة الحسابية، شقت نظرية الشبكات المائلة للعشوائية طريقها بصعوبة إلى حيث تمكن أنصارها القليلون من الوصول بها بحدسهم الرياضي، ثم اختفت فعليًّا. لقد كانت عن حق فكرة سابقة لأوانها، ومثل كثير من الأفكار المشابهة، كان عليها أن تمر بفترة مخاض عسير.

(٥) دور الفيزيائيين

إن الفيزيائيين، حسبما اتضح، قادرون تمامًا على اقتحام فروع المعرفة الأخرى، ليس فقط بسبب مهارتهم الفائقة، بل أيضًا لعدم إثارتهم لكثير من الجلبة عن المسائل التي يختارون دراستها مقارنة بأغلب العلماء الآخرين. يرى الفيزيائيون أنفسهم سادة الأوساط الأكاديمية، وينظرون إلى أساليبهم على أنها فوق إدراك أي شخص آخر، ويحمون مجال معرفتهم بكل غيرة، لكن الجانب الآخر لشخصياتهم يعكس طبيعة استغلالية؛ فيسعدهم استعارة الأفكار والتقنيات من أي مكان إذا لاحت إمكانية للاستفادة منها، ويسرهم التدخل في مشكلة أي شخص آخر. ومع الإزعاج الذي يمكن أن يسببه هذا السلوك للآخرين، فإن وصول الفيزيائيين إلى منطقة بحثية لم تصل إليها الفيزياء من قبل يبشر غالبًا بمرحلة من الإثارة والاكتشافات العظيمة. يفعل علماء الرياضيات الأمر نفسه من حين لآخر، لكن لا أحد ينقض على البحث بالقدر نفسه من الضراوة وبالعدد الكبير مثل مجموعة تواقة من الفيزيائيين المدفوعين بالإثارة التي تنطوي عليها أي مسألة جديدة.

على مدار عقود منذ عهد إيردوس ورابوبورت، وفي الوقت الذي كان علماء الاجتماع يركزون فيه على التفسيرات البنيوية الثابتة للنظم المتصلة بشبكات، تجمع الفيزيائيون حول مجموعة مشابهة من الأسئلة، وإن كان على نحو غير متعمد ومن اتجاه معاكس. فبدلًا من قياس الخصائص البنيوية للشبكات لفهم الأدوار الاجتماعية للأفراد والمجموعات، حصَّل الفيزيائيون معرفة كاملة بخصائص الأفراد، وحاولوا الوصول إلى خصائص المجموعات من خلال وضع بعض الافتراضات البسيطة للغاية بشأن البنية. وكما كان الحال مع علم الاجتماع، كان المنهج الذي اتبعه الفيزيائيون مدفوعًا برغبة لفهم مشكلات محددة (وإن كانت مشكلات فيزيائية، وليست اجتماعية)، والمغناطيسية خير مثال على ذلك.

تعلم معظمنا في حصص العلوم بالمدرسة الثانوية أن كل قطعة مغناطيس تتكون من عدد كبير من قطع المغناطيس الأصغر حجمًا، وأن المجال المغناطيسي المقاس هو في الواقع مجموع جميع المجالات المغناطيسية الأصغر، لكن كل قطعة من قطع المغناطيس الأصغر حجمًا تتكون بدورها من قطع أصغر، وهكذا. أين ينتهي الأمر؟ ومن أين يأتي المجال المغناطيسي أساسًا؟ الإجابة هي أنه يأتي، حسبما اتضح، من تكافؤ عميق بين المجالات المغناطيسية والكهربائية، وذلك ما أوضحه لأول مرة جيمس كلارك ماكسويل في نهاية القرن التاسع عشر. إحدى نتائج توحيد ماكسويل للكهرومغناطيسية هي أن أي جسيم مشحون يدور حول ذاته، كالإلكترون، يخلق مجاله المغناطيسي الخاص، وعلى عكس المجال الكهربائي، يكون لهذا المجال المغناطيسي توجه فطري يحدده اتجاه الدوران، ومن ثم فإن أي مغناطيس يكون له دائمًا قطب شمالي وقطب جنوبي، في حين يكون للإلكترون، مثلًا، شحنة سالبة واحدة فحسب. إحدى النتائج الهامة المترتبة على هذه الحقيقة الفيزيائية الجوهرية هي أن المغناطيس يمكن التعبير عنه الآن رمزيًّا في صورة شبيكة منتظمة مكونة من عدد كبير من الأسهم بالغة الصغر، يتوافق كلٌّ منها مع جسيم مشحون يدور حول ذاته، ويُشار إلى هذا بمصطلح «اللف المغزلي». يمكن النظر الآن إلى المغناطيسية كحالة من النظام يشير فيه كل لف مغزلي (أي الأسهم) إلى الاتجاه ذاته.

تميل اللفات المغزلية المغناطيسية، في ظل تساوي كل شيء آخر، إلى المحاذاة معًا؛ لذلك فإن جعلها تشير جميعًا إلى الاتجاه نفسه قد لا يبدو أمرًا صعبًا، لكن قد يصعب ذلك، ويرجع سبب ذلك إلى أن التفاعلات بين اللفات المغزلية تكون ضعيفة للغاية بحيث يتأثر اتجاه كل لف مغزلي باتجاهات اللفات المغزلية المجاورة له مباشرة فحسب في الشبيكة. على النقيض من ذلك، تتطلب المحاذاة العامة أن «يعرف» كل لف مغزلي بطريقة أو بأخرى اتجاه اللفات الأخرى، بما في ذلك اللفات البعيدة عنه، ومن ثم قد تتحاذى مجموعات من اللفات المغزلية محليًّا، بينما تشير المجموعات المجاورة إلى اتجاهات متناقضة، ولا تمتلك أي مجموعة القوة الكافية لتغير المجموعات الأخرى. ومع أن الحالة المفضلة هي المحاذاة العامة، فإن النظام يمكن أن يعلق في أيٍّ من هذه الحالات «العاجزة» التي لا يمكن الفرار منها إلا بتطبيق مجال مغناطيسي خارجي أو تزويدها بطاقة إضافية. لذا فإن مغنطة قطعة من المعدن تتطلب عادة وضعها في مجال مغناطيس قوي موجود بالفعل، ثم تسخينها أو النقر عليها، لكن إذا كان هناك قدر كبير من الطاقة، فستنقلب اللفات عشوائيًّا مهما يكن اتجاه اللفات المجاورة لها أو حتى المجال الخارجي، ومن ثم، ومن أجل تحقيق محاذاة عامة، من الضروري بدء النظام عند درجة حرارة عالية، ثم تبريده ببطء، ويكون ذلك عادةً في وجود المجال الخارجي.

تتمثل إحدى الانتصارات العظيمة للفيزياء الرياضية في تفهم كيفية عمل التحول إلى المغناطيسية بالضبط. ومن المثير للدهشة أنه عند نقطة التحول الحرجة، تتصرف جميع أجزاء النظام وكأنها تتواصل بعضها مع بعض، مع أن تفاعلاتها محلية تمامًا. والمسافة التي يمكن أن يبدو فيها أن اللفات الفردية تتواصل تُعرف عادةً باسم «طول ارتباط» النظام، ويمكن النظر إلى النقطة الحرجة على أنها الحالة التي يمتد فيها طول الارتباط ليشمل النظام بالكامل. وفي هذه الحالة، التي تُعرف باسم الحالة الحرجة، يمكن للاضطرابات البسيطة — التي من المفترض الشعور بها محليًّا فقط في أي حالة أخرى — أن تنتشر دون حد عبر النظام بأسره، حتى وإن كان نظامًا كبيرًا لا حدود له. ومن ثم يبدو النظام وكأنه يعكس إحدى صور التنسيق العام، لكنه يفعل ذلك في غياب أي سلطة مركزية. فلا حاجة لأي مركز عندما يكون النظام في حالة حرجة؛ لأن كل موقع، وليس فقط المركز، يكون قادرًا على التأثير على كل موقع آخر. في الواقع، نظرًا لأن المواقع جميعها متطابقة، ومتصلة جميعها على نحو متطابق، فما من سبب يجعل أي موقع مسئولًا عن غيره، ومن ثم لا يكون هناك سبب لوجود أي مركز. نتيجة لذلك، لن يفيد أي قياس للمركزية في التوصل إلى السبب الجذري للسلوك المُلاحَظ، لكن، كما كان الحال مع المثالين اللذين استعرضناهما سابقًا عن الرسوم البيانية العشوائية وتصفيق الجماهير، يمكن لسلسلة من الأحداث العشوائية البسيطة — أي الأحداث التي يمكن عدم ملاحظتها في الظروف العادية — عند النقطة الحرجة أن تدفع النظام إلى حالة منظمة بوجه عام، ليبدو بذلك أنه قد وُجِّه إلى هذه الحالة على نحو مقصود.

يبدو كل ذلك غامضًا إلى حد ما، لكنه يمثل أفضل فهم نملكه عن الكيفية التي يمكن للأحداث الواقعة على أحد المستويات أن تؤثر بها على السمات النظامية على مستوى آخر، حتى عندما لا يهتم كل عنصر بالنظام إلا بالعناصر المجاورة له مباشرةً فحسب. أدت الإثارة الناتجة عن هذا الاكتشاف إلى أن أصبحت دراسة «نظم اللفات» نشاطًا رائجًا نتج عنه آلاف الأبحاث. يهتم الفيزيائيون كثيرًا بنماذج اللفات، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنها بسيطة، ومن ثم يمكن توضيحها بسهولة، لكن السبب الأكبر هو أنها وثيقة الصلة بالكثير من الظواهر، مثل النظم المغناطيسية وتجميد السوائل، وغيرها من التغيرات الدقيقة التي تطرأ على الحالة، مثل بدء الموصلية الفائقة. ولا تكون التغيرات التي تطرأ على الحالة ثابتة أو تدريجية، وهذا ما ستلاحظه إذا نظرت إلى كوب من الماء يتجمد أو مشيت عبر خط الثلج في الجبال، ففي لحظة ما تمطر السماء، وفي اللحظة التالية تمطر ثلجًا، والمغناطيس إما ينجذب أو لا ينجذب.

إن التحول عبر النقطة الحرجة هو في الواقع التحول الطوري من وجهة نظر الفيزيائيين، وهو الانتقال الذي يشبه إلى حد بعيد التحول بين المراحل المتصلة وغير المتصلة بأحد الرسوم البيانية العشوائية. إن قدرتنا على المساواة بين اثنين من النظم غير المرتبطة — فيزيائية قطعة المغناطيس وتواصلية شكل رياضي كالرسم البياني — ينبغي أن تعكس شيئًا عن مدى عمق نظرية التحولات الطورية، والظواهر الحرجة بوجه عام. وبصرف النظر عما إذا كنا نناقش المغناطيسية أو تجمد الماء ليصبح ثلجًا — وهي الإجراءات التي تنطوي على عمليات فيزيائية مختلفة تمامًا، بل مواد مغايرة كليةً أيضًا — فقد ثبت أن طبيعة التحولات الطورية المناظرة متماثلة!

يُشار بوجه عام إلى قدرة النظم المختلفة تمام الاختلاف على إظهار نقاط تشابه جوهرية ﺑ «العمومية»، وتمثل الصحة الواضحة لهذا المفهوم أحد أعقد وأقوى ألغاز الفيزياء الحديثة. ويرجع هذا إلى عدم وجود سبب واضح يفسر وجود أي شيء مشترك على الإطلاق بين النظم المختلفة؛ مثل الموصلات الفائقة وقطع المغناطيس الحديدية والسوائل المتجمدة ومستودعات البترول تحت الأرض، أما القوة، فترجع بالتحديد إلى وجود شيء مشترك بينها بالفعل، الأمر الذي يوضح لنا أنه يمكن على الأقل فهم بعض سمات النظم شديدة التعقيد دون معرفة أي شيء عن قواعدها الحاكمة أو بنيتها التفصيلية. تُعرَف فئات النظم التي يمكن تجاهل الكثير من تفاصيلها ﺑ «فئات العمومية»، ومن خلال معرفة جميع فئات العمومية لنوع معين من النماذج، يمكن للفيزيائيين الخروج ببيانات قوية للغاية بشأن ما يمكن وما لا يمكن أن يحدث في الأنواع المختلفة من النظم الفيزيائية، وذلك من خلال معرفة حقائقها الجوهرية وحسب. هذه رسالة واعدة للغاية لأي شخص مهتم بفهم السلوك الناتج عن النظم الاجتماعية والاقتصادية المعقدة؛ كشبكات الصداقات والشركات والأسواق المالية، وحتى المجتمعات.

إحدى العقبات الرئيسية التي تقف في طريق بناء نماذج بسيطة لوصف هذه الأنظمة هي عدم فهم الكثير عن القواعد الأساسية التي تدفعها. قال أينشتاين ذات مرة إن الفيزياء تتعامل مع المشكلات السهلة. لا يعني ذلك أن الفيزياء سهلة، لكن الفيزيائيين يبدءون عادةً وهم يملكون فكرة منطقية عن المعادلات الحاكمة للموضوع المدروس، حتى وإن كان ذلك مع أكثر المشكلات صعوبة وعدم قابلية للحل؛ مثل اضطرابات السوائل والجاذبية الكمية، وقد لا يتمكنون من حلها، أو حتى فهم جميع تبعات الحلول التي يمكن أن يتوصلوا إليها، لكنهم على الأقل يمكن أن يتفقوا على ما سيتم حله في المقام الأول. يواجه علماء الاقتصاد والاجتماع مستقبلًا أكثر ظلمةً؛ فبعد قرنين من الجهود الشاقة، تظل القواعد الحاكمة للسلوك الاقتصادي والاجتماعي الفردي غير محسومة.

قد تكون أنجح المحاولات الهادفة للوصول لنظرية عامة لصناعة القرار في العلوم الاجتماعية هي ما يُعرَف ﺑ «نظرية التوقعات العقلانية»، أو «العقلانية» فحسب، وبعد أن تطور مفهوم العقلانية على يد علماء الاقتصاد والرياضيات، بهدف إضفاء بعض الصلابة العلمية على المناقشات الدائرة عن السلوك البشري، أصبح مفهوم العقلانية هو المعيار الفعلي الذي يجب مقارنة جميع التفسيرات الأخرى به، ومع الأسف — وكما سنرى في فصول لاحقة من هذا الكتاب — تضع العقلانية عددًا من الافتراضات المخزية للغاية بشأن القدرات المعرفية والميول البشرية، ويتطلب الأمر سنوات عديدة من التدريب على النظرية الاقتصادية لأخذ هذه الافتراضات على محمل الجد. وما يزيد الأمر سوءًا هو أنه لا يبدو أن أحدًا قد توصل إلى أي شيء أفضل من ذلك.

في خمسينيات القرن العشرين، اقترح هيربرت سايمون وآخرون صيغة تبدو أكثر منطقية لمفهوم العقلانية، تُعرف باسم «العقلانية المحدودة»، تخفف من وطأة بعض الافتراضات بعيدة الاحتمال للنظرية السابقة دون التخلي عن أساسها الأكثر منطقية. ومع اتفاق معظم علماء الاقتصاد على أن إحدى صور العقلانية المحدودة لا بد أن تكون صحيحة في الواقع، ومع حصول سايمون على جائزة نوبل تكريمًا له على أفكاره، فالمشكلة تكمن في أنه ما إن يبدأ المرء في انتهاك افتراض السلوك المنطقي تمامًا، فلا سبيل لمعرفة متى يجب التوقف. ومثلما لا توجد وسيلة وحيدة لجعل الرسوم البيانية العشوائية غير عشوائية، يوجد الكثير من الوسائل لتحديد العقلانية، الأمر الذي لن يجعلنا واثقين أبدًا من أننا نستخدم الوسيلة الصحيحة.

على هذا تكون فكرة العمومية مغرية للغاية؛ لأنها تزعم أننا لسنا في الواقع بحاجة إلى معرفة القواعد المفصلة للتفاعل والسلوك على المستوى الدقيق؛ فعلى الأقل هناك بعض الأسئلة التي يمكننا الإجابة عنها دون هذه القواعد. وهذه فكرة واعدة حقًّا، فما المشكلة إذن؟ إننا نتفهم العمومية منذ عقود، إلى جانب أن نظرية الظواهر المهمة التي نشأت حول تطبيقات مثل المغناطيسية والموصلية الفائقة تعد أحد مجالات الفيزياء الناضجة. لماذا إذن لا نفهم الأوبئة وأعطال الطاقة وانهيارات أسواق الأوراق المالية؟

تتمثل المشكلة الرئيسية في أن الفيزيائيين طوروا أدواتهم للتعامل مع مسائل الفيزياء، وليس المسائل الاقتصادية أو الاجتماعية، وأحيانًا يمثل هذا الأمر عائقًا. على سبيل المثال، اعتاد الفيزيائيون التفكير في التفاعلات بين الذرات في إطار شبكي واضح؛ لذا، عندما يحاولون تطبيق أساليبهم على التفاعلات البشرية، يفترضون عادةً أن الناس يتفاعلون مثلما تفعل الذرات بالضبط، وتكون النتيجة أن المنهج يبدو مثيرًا للإعجاب، ويؤدي إلى الكثير من النتائج الرائعة، لكنه لا يحل المشكلة الفعلية؛ وذلك لأنه غير مرتبط بالمشكلة الفعلية. ومهما تكن جميع الجوانب الرائعة للعمومية، فإن بعض التفاصيل لها أهمية بالفعل، وهنا يأتي دور أشخاص مثل علماء الاجتماع؛ فنظرًا لقضائهم حياتهم في دراسة العالم الاجتماعي، فهم يعرفون بالفعل بعض الأشياء عن كيفية عمله، وتمثل رؤاهم عنصرًا لا غنى عنه في أي نموذج مفيد.

مع ما تبدو عليه هذه النقطة الأخيرة من بديهية، فإنها تثير دائمًا دهشة معظم الفيزيائيين الذين نادرًا ما يشعرون بحاجة لاستشارة أي شخص آخر قبل الاستئثار بالمسألة التي يدرسونها، ومن الضروري أن يتغيَّر ذلك لتحقيق أي تقدم حقيقي. يتسم الأكاديميون بعنادهم؛ فنادرًا ما ينزعون إلى تخطي حدود فروع المعرفة التي يتخصصون فيها، لكن في عالم الشبكات، يكون لدى علماء الاجتماع والاقتصاد والرياضيات والكمبيوتر والأحياء والمهندسين والفيزيائيين شيء ما يقدمونه بعضهم لبعض والكثير ليتعلموه، فليس هناك فرع واحد من المعرفة، أو توجُّه واحد يحكِم قبضته على علم الشبكات الشامل، وليس من المحتمل حدوث ذلك. وأي فهم عميق لبنية الشبكات الحقيقية لا يمكن أن يحدث إلا من خلال تزاوج فعلي للأفكار والبيانات المتناثرة بجميع أنحاء المجال الفكري، التي يمثل كلٌّ منها جزءًا من الأحجية بما تحمله من تاريخ وتصورات، لكن دون أن يكون أيٌّ منها مفتاحًا لحل الأحجية نفسها، وكما هو الحال في أحجية الصورة المقطعة، يتمثل مفتاح الحل في الطريقة التي تتداخل بها جميع الأجزاء لتكوِّن صورة واحدة متحدة، وهذه الصورة — كما سنرى في الفصول التالية — بعيدة كل البعد عن الكمال، لكن نظرًا لجهود الكثير من الباحثين في العديد من المجالات، والمحاولات الفكرية العديدة التي يمكن البناء عليها، بدأت ملامح الصورة أخيرًا في الظهور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤