الفصل السابع

القرارات والأوهام وجنون الجماهير

لم يمضِ وقت طويل على تركي الطقس الرائع لسانتا في إلى أمطار كامبريدج بولاية ماساتشوستس وصقيعها (وصلت هناك وسط إعصار فلويد بالضبط) حتى بدأت في التساؤل هل الدروس التي تعلمتها أنا ومارك من دراساتنا لانتشار الأمراض يمكن أن تُطبَّق على مشكلة العدوى في الأسواق المالية أم لا. كنا في خريف عام ١٩٩٩ وفقاعة الإنترنت تصل إلى ذروتها، كانت أموال رأس المال المُخاطر تتدفق بحرية إلى أي شخص لديه خطة عمل مقبولة بعض الشيء، وفي مسكني المؤقت بكلية سلون للإدارة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لم يُطِق الطلاب صبرًا للتخرج وتكوين ثرواتهم؛ ارتفعت حمى بدء المشروعات، حتى إن شركة «ميريل لينش»، التي تُعَد واحدة من أكبر الشركات التي توظف خريجي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، باتت تهدد بإلغاء عملية التوظيف السنوية التي تجريها؛ لأنه ما من أحد يحضر عروضها التقديمية!

في خضم كل هذه الإثارة، اقترح آندرو لو، وهو عالم اقتصاد مالي والشخص الذي كنت أسترشد بنصائحه آنذاك، أن أطلع على كتاب عنوانه «أوهام شعبية استثنائية وجنون الجماهير» بقلم تشارلز ماكاي، وكما يوضح عنوان هذا الكتاب الجذاب، فهو دراسة للعديد من صور الجنون، بدءًا من محاكمات الساحرات وصولًا إلى الحملات الصليبية، التي ينتهي فيها المآل عادةً بأشخاص مثقفين إلى انتهاج سلوكيات يصعب فهمها فيما بعد. والجنون، كما يوضح ماكاي، ليس له صديق أفضل من المال. وبعد مرور عام واحد وانفجار فقاعة الإنترنت، صار واضحًا أن كل هؤلاء الحاصلين على ماجستير إدارة الأعمال (العاطلين عن العمل حاليًّا)، ناهيك عن العديد من المحللين ببورصة وول ستريت، تملكتهم بالفعل «أوهام استثنائية».

لكن ربما يخامر المرء أيضًا شعور بأن الهلاوس واسعة الانتشار عن القيمة الوهمية — ولا يقتصر ذلك فحسب على الولع بالتكنولوجيا الذي انتشر في أواخر تسعينيات القرن العشرين، بل ينسحب أيضًا على أزمة قروض ومدخرات تكساس في ثمانينيات القرن نفسه، وانهيار سوق الأوراق المالية في أكتوبر ١٩٨٧، وأزمة البيزو المكسيكي، واقتصاديات الفقاعات في اليابان، ثم في كوريا وتايلاند وإندونيسيا — هي سمة حديثة نسبيًّا للمناخ المالي الذي تتزايد غلظته وغدره بشكل دائم، وقد نظن بالطبع أنه قبل ظهور نظم التجارة الأوتوماتيكية والأسواق العاملة على مدار الساعة وتدفقات رأس المال الدولية دون انقطاع — بل قبل ظهور الهاتف والتلغراف والسكك الحديدية العابرة للقارات أيضًا — كان الانتشار السريع لمعتقد عارٍ من الصحة، ومسارعة رأس المال لدعمه، أمرًا مستحيلًا، على الأقل على نطاق واسع، لكن هذا ليس صحيحًا، فقد نُشِر كتاب «أوهام شعبية استثنائية وجنون الجماهير» في عام ١٨٤١، وحينئذٍ كان موضوع ماكاي قديمًا بنحو قرنين من الزمان.

(١) اقتصاديات التيوليب

لا تقل الأزمات المالية في قِدمها — كما علمتُ من آندي بعد فترة قصيرة — عن عمر الإمبراطورية الرومانية، لكن المثال الأول عليها في العصر الحديث، وإحدى القصص المشوقة التي رواها ماكاي في كتابه، يُعرَف بفقاعة التيوليب الهولندية؛ ففي عام ١٦٣٤، الذي بدأت فيه تلك الأزمة، كانت زهور التيوليب قد وصلت لتوها إلى أوروبا الغربية من موطنها الأصلي؛ تركيا، ومن الواضح أنها جلبت معها قدرًا كبيرًا من الطابع الاجتماعي لذلك الموطن؛ ارتفع سعر بصيلات التيوليب ارتفاعًا هائلًا بالفعل في سوق الأزهار بأمستردام نتيجة لزيادة الرغبة في تلك الأزهار؛ نظرًا لطبيعتها الرقيقة والصعبة بوجه عام، لكن قبل أن يمر وقت طويل تدخَّل المضاربون و«سماسرة الأوراق المالية» المحترفون ليرفعوا أسعار بصيلات التيوليب على نحو مفتعل بنيَّة إعادة بيعها في وقت لاحق مقابل أسعار أعلى. اشترك الجميع — بما في ذلك المواطنون العاديون — في ذلك الجنون، لحدٍّ وصل إلى هجر الأعمال الاقتصادية الروتينية تقريبًا، وكان سبب ذلك افتتان الناس بوعد الغنى الفوري واطمئنانهم للتدفق الهائل لرأس المال من المستثمرين الأجانب. ويقول ماكاي إن البصيلة الواحدة من نوع «فايسوري» النادر كانت تُستبدَل في أوج تلك الأزمة ﺑ «حوالي ألفي كيلوجرام من القمح، وأربعة آلاف كيلوجرام من الجاودار، وأربعة ثيران سمان، وثمانية خنازير سمينة، واثني عشر خروفًا سمينًا، وبرميلين من النبيذ، وأربعة أطنان من الجعة، وطنين من الزبد، وخمسمائة كيلوجرام من الجبن، وسرير كامل، وطقم من الملابس، وكأس شراب فضي». وإذا بدا ذلك منافيًا للعقل، فقد كان أفضل أنواع التيوليب المعروف باسم سيمبر أوجستس يصل سعره إلى أكثر من ضعف ذلك. ليس ذلك شيئًا أختلقه.

مع استثمار هذا القدر الكبير من الأموال الفعلية في سلعة بمثل هذه القيمة الموضوعية المنخفضة للغاية، كان من الطبيعي أن يبدأ الهولنديون في التصرف بشكل لا يمكن وصفه إلا بأنه غريب؛ فكانوا في بعض الحالات يبيعون سبل رزقهم بالكامل في مقابل أن يمتلكوا واحدًا أو أكثر من جذور زهرة قيَّمة، وصار من اليسير شراء الأصول العينية التي لم يعد لها قيمة نسبيًّا، ومن ثم صار كلٌّ من البيع والشراء والاقتراض والإنفاق غزيرًا. ويقول ماكاي إن هولندا أصبحت لفترة قصيرة مركزًا لتكوين الثروات. وبالطبع، لم يكن ممكنًا أن تظل كذلك للأبد؛ ففي نهاية الأمر، زهرة التيوليب هي زهرة تيوليب، وأكثر الهولنديين خبلًا لا يمكن أن يدَّعي غير ذلك للأبد، فحدث الانهيار الحتمي في عام ١٦٣٦؛ انخفضت أسعار التيوليب إلى أقل من ١٠ بالمائة مما وصلت إليه من قِيَم مرتفعة قبل ذلك بشهور فقط، مما أدى إلى مزيد من الجنون بين الحشود التي غلب عليها الغضب آنذاك وصارت تبحث دون جدوى عن أكباش فداء، وسعوا للتخلص من دَينهم المتزايد على نحو سريع.

بعد عدة عقود — لكن قبل أكثر من قرن من نشر كتاب ماكاي — أصيبت اثنتان من الدول الاستعمارية الكبرى، وهما فرنسا وإنجلترا، بشكل متزامن تقريبًا بفقاعات مالية تشابهت مع أزمة التيوليب، ليس فقط في أصولها ومسارها الرئيسي، بل أيضًا في مستوى السخف الذي أثارته في مواطنيها، كانت المضاربة هذه المرة على أسهم شركتين، وهما شركة «ساوث سي» في إنجلترا وشركة «مسيسيبي» في فرنسا، اللتان كانتا تبشران بعائدات ضخمة بفضل وصولهما إلى حدود جديدة غير مستغلة (جنوب المحيط الهادئ للشركة الإنجليزية، والمستعمرات الجنوبية لما سيعرف بالولايات المتحدة الأمريكية للشركة الفرنسية)، وكما كان الحال مع التيوليب، تهافت المستثمرون على المضاربة وارتفعت أسعار الأسهم ارتفاعًا هائلًا، الأمر الذي أدى إلى مزيد من المضاربة ومزيد من الطلب ومزيد من الضغط المتصاعد على الأسعار، وغمرت إنجلترا وفرنسا، شأنهما شأن هولندا، النقود الورقية التي كانت تُستبدَل بالمزيد من الأصول الفعلية، فنتج عن ذلك أوهام بثروة هائلة واستمرار للارتفاع المتزايد غير المستقر للأسعار، ومثلما حدث مع الهولنديين، ومستثمري شركات الإنترنت في نهاية تسعينيات القرن العشرين، وعدد كبير من الحمقى وما أنفقوه من أموال بين الفترتين، انفجرت الفقاعة في النهاية، لتتبدد أوهام وثروات أفراد كانوا غارقين في الأحلام السعيدة.

(٢) الخوف والطمع والعقلانية

لماذا لم نتعلم الدرس إذن؟ بعد ما يقرب من أربعمائة عام، ما الذي تتسم به الفقاعات المالية ويجعل الفقاعة التالية لا تبدو وكأنها ستنفجر إلا بعد فوات الأوان؟ الإجابة السوداوية هنا هي أن الجشع والخوف سمتان غير محدودتين بمكان أو زمان، شأنهما في ذلك شأن أي سمات بشرية أخرى، وما إن يُثِرهما أي شيء، حتى لا يمكن للتحليل العميق، بل الخبرات السابقة أيضًا، أن تقف أمامهما، فلولا الاحتمال المُبشِّر بجني ثروة شخصية هائلة، ما كان المحامون الناجحون سيهرعون للعمل لمصلحة شركة ناشئة تبيع البقالة على الإنترنت، وما كان أي هولندي عاقل سيبيع شقته في أمستردام مقابل بصيلة تيوليب، ولولا الفزع الذي لا يتسبب فيه سوى شك راسخ بانعدام تام للقيمة، ما كان الانهيار المفاجئ والمتزامن تقريبًا لعدد هائل من الشركات المرتبطة بالإنترنت — كان من الممكن لبعضها أن يستحق البقاء في أجواء أكثر وعيًا — ليحدث، لكن هذا التفسير، شأنه شأن أغلب التفسيرات السوداوية، لا يفيد كثيرًا، فهو يحكم علينا بأن نعيش المكافئ المالي لفيلم «عيد فأر الأرض» لكن بدون النهاية الهوليوودية (تعلم بيل موراي الدرس أخيرًا). يدَّعي المتشائمون أنه ليس بإمكاننا تغيير الناس، وقد يكون ذلك صحيحًا، لكن هذا الادعاء لا يخبرنا بأي شيء فيما يتعلق بآليات حدوث الأزمات المالية فعلًا، أو كيف تختلف كل أزمة عن الأخرى، أو كيف يمكننا تصميم «مؤسسات» تساعد على الأقل الناس على التعايش بسلام مع مخاوفهم.

تُعَد النظريات الاقتصادية التقليدية لصنع القرار أقل فائدة في هذا الصدد. تذكر أن الاقتصاد هو نقيض السوداوية؛ فهو يدعي أن الناس يتسمون بالأنانية، لكنهم «عقلانيون» أيضًا، ومن ثم تخفف المعرفة من وطأة الجشع ولا يكون هناك خوف على الإطلاق، والنتيجة — كما جاء في نبوءة آدم سميث الشهيرة — هي أن العقلانيين، في سعيهم لتحقيق أقصى قدر ممكن من مصالحهم الأنانية، «ستقودهم يد خفية» إلى نتيجة جمعية جيدة، والحكم — الذي يمكن القول إنه لا يقتصر على الحكومة فحسب، بل يشمل أيضًا المؤسسات واللوائح والقيود المفروضة من الخارج بكافة صورها — لا يؤدي إلا إلى اضطراب العمل السليم للسوق، ومع أن سميث كان يكتب بوجه خاص عن الاقتصاد السياسي للتجارة الدولية، فإن منطقه طُبِّق بعد ذلك على جميع أشكال الأسواق، بما في ذلك الأسواق المالية التي من الطبيعي ألا يكون بها أي أزمات.

إن القاعدة التي تقوم عليها وجهة النظر المتفائلة هذه هي أنه من منظور التجار، باعتبارهم أفرادًا عقلانيين يسعون إلى ما هو أمثل، لا يمكن للفقاعات أن تحدث دون مضاربين مزعزِعين يدفعون إليها، ومن المفترض عدم وجود مثل هؤلاء المضاربين المزعزِعين. لماذا؟ لأنهم يبيعون ويشترون الأصول ليس وفقًا لأي قياس لقيمتها «الحقيقية»، لكن باتباع اتجاهات الأسعار، فيشترون مع انتعاش السوق ويبيعون مع ركوده، وبناءً عليه، يُعرَف هذا النوع تحديدًا من المضاربين عادةً ﺑ «مُتبِع الاتجاهات»، على النقيض من «مستثمر القيمة» الذي لا يشتري أي أصل إلا عندما يدرك أن سعره أقل من قيمته (ويبيعه عندما يكون سعره أعلى من قيمته)، وهكذا، إذا ارتفع سعر أحد الأصول عن قيمته الفعلية لسبب ما، فسيندفع متَّبعو الاتجاهات ويشترونه، ومن ثم سيدفعون في هذا الأصل أكثر مما يستحقه بالفعل، وسيسفر ذلك بلا شك عن رفع السعر بقدر أكبر، وعن طريق بيع الأصل بهذا السعر الأكثر تضخمًا، يأمل هؤلاء الأفراد في تحقيق ربح ما، لكن، في مقابل كل متَّبِع اتجاهات يبيع لتحقيق ربح ما، يجب أن يوجد شخص آخر يشتري (لأنه ما من مستثمر قيمة سيهتم بالأمر)، ومن ثم سيرتكب خطأ أكبر من سابقه.

وأخيرًا، يتحتم أن تكون هناك نهاية لسلسلة الحمقى هذه، وهي المرحلة التي تنخفض فيها الأسعار، ويخسر بعض متبعي الاتجاهات المال. وإذا انخفضت الأسعار بما فيه الكفاية، كأن تصل إلى ما هو أقل من قيمتها الحقيقية، فسيأتي مستثمرو القيمة ثانيةً ويبدءون في الشراء من جديد، ليجنوا بذلك ربحًا على حساب متبعي الاتجاهات. بصرف النظر عن عدد متبعي الاتجاهات الذين يحققون أرباحًا، فإن هذه الأرباح لا يمكن جنيها إلا على حساب متبعي اتجاهات آخرين، ومن ثم فإن متبعي الاتجاهات بوجه عام سيخسرون دائمًا المال ليربحه مستثمرو القيمة، ونظرًا لأن التحول النهائي للثروة من متبعي الاتجاهات إلى مستثمري القيمة سمة جوهرية للمضاربة، فما من شخص عقلاني سيختار أن يكون من متبعي الاتجاهات، ومن ثم يتحتم أن تعكس أسعار السوق دائمًا القيم الحقيقية للأصول المناظرة، وبلغة المال، يجب أن تتسم الأسواق «بالكفاءة» دائمًا. لكن ماذا إذا كان الناس أغبياء وحسب؟ تحمل النظرية إجابة لهذا الاعتراض أيضًا: فحتى إن كان الناس أغبياء، فستدفعهم في النهاية حقيقة خسارتهم للمال إلى الخروج من السوق، على نحو أشبه بالانتخاب الطبيعي الذي تنص عليه نظرية داروين. يحصل مستثمرو القيمة على المال من متبعي الاتجاهات حتى يفلس هؤلاء المتبعون ويرحلوا، وعلى المدى الطويل، لن يتبقى سوى مستثمري القيمة، وينتصر النظام؛ لا مضاربة، لا إفراط في المتاجرة، لا فقاعات.

مع أن الانتصار الحتمي للعقلانية يبدو منطقيًّا، فإنه في الواقع يكشف عن تناقض في عمل الأسواق المالية؛ فمن ناحية، يكون على المستثمرين العقلانيين تمامًا في سوق يعمل بكفاءة أن يتفقوا على سعر لكل أصل يعكس على نحو صحيح قيمته الحقيقية، وذلك من خلال استغلال جميع المعلومات المتاحة، ويجب ألا يتخذ أي شخص قرارات بناءً فقط على تحركات السعر نفسه، وإن حاول ذلك، فسوف يُدفَع في النهاية خارج السوق. من ناحية أخرى، إذا تصرف الجميع بعقلانية، فسوف تتبع الأسعار القيم دائمًا، ومن ثم لن يجني أحد أي أرباح، بما في ذلك مستثمرو القيمة، ولن تكون النتيجة اختفاء الفقاعات فحسب، بل لن تكون هناك أي تجارة أيضًا! وثمة إشكالية تحملها هذه النتيجة فيما يتعلق بنظرية الأسواق؛ فبدون تجارة لا يكون أمام الأسواق سبيل لتعديل الأسعار لتصل إلى قيمها «الصحيحة» في المقام الأول.

إذن، ثمة منظور آخر للتعامل مع منطق العقلانية — وهو المنظور الذي يقترحه التاريخ بلا شك — وهو أن هذا المنطق لا ينطبق إلى حدٍّ بعيد على أيٍّ مما يحدث في الأسواق المالية الواقعية. نعم، يحاول الناس تحقيق أقصى ربح ممكن، ونعم، كثيرًا ما يخسر المضاربون المال، وربما يكون صحيحًا أيضًا أنه على مدار فترات زمنية طويلة بما فيه الكفاية، يخسر جميع المضاربين كل شيء في النهاية، بما في ذلك من يحققون أرباحًا مذهلة، فكما هو الحال مع المقامرين في نوادي القمار، قد يربح بعض الناس لفترة من الوقت، لكن في النهاية يكون الرابح الحقيقي الوحيد هو النادي (وهو، بالمناسبة، ما يفسر الاستمرار في بناء مثل هذه النوادي). مع ذلك، يستمر الناس في المضاربة، مثلما يستمرون في المقامرة.

لكن إذا لم يكن البشر عقلانيين تمامًا بالمعنى الاقتصادي البحت للكلمة، فهم أيضًا لا يخضعون بالكامل لمشاعرهم الجامحة، فحتى أكثر المضاربين تحمسًا، ينطوي جنونهم على منطق ما، أما بقيتنا، ففي أغلب الوقت نحاول ببساطة تدبر الأمر بتحقيق أقصى فائدة من المواقف التي نمر بها وتجنب المشكلات قدر الإمكان. لا يبدو ذلك مزيجًا شديد التقلب، وصراحةً هو ليس كذلك معظم الوقت. في الواقع، بينما تستقطب الفقاعات والانهيارات كل الاهتمام، كثيرًا ما يكون سلوك الأسواق المالية هادئًا للغاية، حتى في مواجهة الأحداث الخارجية، كالتغيرات التي تطرأ على الحكومة والهجمات الإرهابية، التي قد يتوقع المرء أن يكون رد فعل هذه الأسواق مبالغًا فيه تجاهها. إذن، الأمر المحير حقًّا بشأن الأسواق المالية لا يتعلق بما إذا كانت عقلانية أم لا، بل بكونها تتسم بالسمتين معًا، أو لا تتسم بأيٍّ منهما. في الحالتين، عندما تجتمع أعداد كبيرة من الأشخاص العاديين معًا، يتصرفون «معظم» الوقت على نحو عقلاني، لكن ينتهي بهم الحال «بين الحين والآخر» إلى التصرف كالمجانين، والأزمات المالية ليست سوى مثال واحد على السلوك العقلاني المعتاد، لكن غير العقلاني أحيانًا، الذي يمكن أن يصدر عن المجموعات والعامة والجماهير، بل المجتمعات ككل.

(٣) القرارات الجمعية

قبل الشروع في دراسة أصول الأزمات المالية بفترة ليست بالطويلة، كنت أبحث في موضوع آخر أثار اهتمامي، ألا وهو تطور السلوك التعاوني. إن التعاون سمة سلوكية بشرية واسعة الانتشار إلى حد يجعل البعض يعتقد أحيانًا (خطأً) أنها أحد العوامل الأساسية التي تميز البشر عن الحيوانات، لكن مصدر السلوك التعاوني غير الإلزامي يمثل في الحقيقة تناقضًا عميقًا شغل أجيالًا من المفكرين، بدءًا من الفلاسفة ووصولًا لعلماء الأحياء، ويتمثل هذا التناقض، بإيجاز، في التساؤل عن السبب الذي يجعل الأفراد المدفوعين بمصالحهم الشخصية يتصرفون على نحو غير أناني في عالم يكون فيه فعل الصواب أمرًا مكلفًا، ويجعل الفرد عرضة لاستغلال الآخرين له.

تصور الخروج لتناول العشاء في مطعم لطيف مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء بافتراض أنكم في نهاية الليلة ستتقاسمون جميعًا قيمة الفاتورة، تحتوي القائمة على مجموعة كبيرة من الخيارات، بدءًا من طبق مكرونة رخيص وبسيط، وصولًا إلى شريحة لحم باهظة الثمن. إذا طلب الجميع وجبة فاخرة، فستكون ليلة باهظة التكلفة على الجميع، ومن ثم من الطبيعي أن تسدي الجميع معروفًا إذا طلبت المكرونة. على الجانب الآخر، إذا اخترت شريحة اللحم، في حين طلب أصدقاؤك المكرونة، فستحظى بوجبة رائعة بنصف الثمن تقريبًا، والأهم من ذلك أنك إذا لم تطلب شريحة اللحم، في حين فعل أصدقاؤك ذلك، فستدفع في النهاية قدرًا كبيرًا من المال في مقابل طبق بسيط من المكرونة. السؤال هنا بالطبع هو: بينما تجلسون في ذلك المطعم تفكرون فيما ستختارونه، إلى أي مدى ستهتم بمتعتك الشخصية في مقابل سعادة أصدقائك؟

مع أن هذه اللعبة قد تبدو طريفة في البداية، فإن أزمة تناول العشاء — كما أسماها عالما الفيزياء برناردو هوبرمان وناتالي جلانس، اللذان قدما ذلك المثال — هي في الواقع نموذج مُعتاد لما يطلق عليه «المعضلات الاجتماعية». تتعلق المعضلات الاجتماعية، التي تُعرَف أيضًا باسم «ألعاب الصالح العام»، بمنافع جماعية، كخدمات إعادة التدوير أو نظام نقل عام، ويتطلب وجودها عددًا ضخمًا من الأفراد للمساهمة في المنفعة على الرغم من وجود بدائل أسهل أو أكثر ربحًا أو أكثر إشباعًا للمتطلبات الأنانية (مثل القيادة بدلًا من ركوب الحافلة). ولإدراك الصعوبة المتأصلة في المعضلة الاجتماعية، فكر في الضرائب؛ إن وجود خدمات حكومية، كالمستشفيات والطرق والمدارس والمطافئ والشرطة والأسواق جيدة الأداء والمحاكم القانونية، بل سيادة القانون نفسها، كل ذلك يعتمد (في أغلب الدول) على عائدات الضرائب. وبقدر ما قد نشكو من عدم كفاءة الحكومة، لم يتمكن مجتمع قط من أن يحيا لفترة طويلة من الزمن في غياب بعض من هذه الخدمات العامة الرئيسية على الأقل؛ لذا من الواضح أن دفع الضرائب يصب في مصلحة الجميع، ويصل ذلك إلى الحد الذي يصبح فيه عدم دفعها ضربًا من الجنون، لكن كما أوضح هوبرمان وجلانس، لا يعد دفع الضرائب في أيٍّ من دول العالم عملًا تطوعيًّا.

ألا يمكن الوثوق بنا لفعل هذه الأمور التي من الواضح أنها في مصلحتنا (الجمعية)؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال هي: نعم، لا يمكن الوثوق بنا، وذلك وفقًا ﻟ «مأساة المشاع»، وهي نظرية مؤثرة طرحها العالم السياسي جاريت هاردن في سبعينيات القرن العشرين. لنتخيل قرية على طراز عصر ما قبل الصناعة مُقامة حول قطعة من الأرض كبيرة ومركزية ومشتركة تُسمى «المشاع»، يستخدم سكان القرية هذه الأرض في الغالب لرعي الأغنام والماشية، التي يجزون أصوافها فيما بعد أو يحلبونها أو يذبحونها للحصول على الغذاء أو تحقيق مكسب ما، ونظرًا لأن الأرض «المشاع» لا يملكها أو يحكمها أحد، فمن حق الجميع استخدامها، لكن الأرباح الناتجة عن رعي رأس إضافية من الغنم أو الماشية فيها لا تذهب إلا إلى القروي الذي يملك هذا الحيوان، ومن ثم يكون لدى كل الأشخاص حافز لزيادة عدد قطعانهم من الحيوانات، مما يؤدي إلى تحقيق قدر أكبر من الأرباح دون زيادة النفقات العامة.

يمكنك أن ترى إلى أين يتجه هذا الأمر؛ ففي النهاية، تتعرض الأرض «المشاع» لإفراط في الرعي إلى الحد الذي تصبح فيه غير قادرة بعد ذلك على تحمل رعاية أي حيوانات على الإطلاق، وتنهار سبل عيش الجميع. لو كان أهل القرية قد نهجوا نهجًا معتدلًا، ما كانت لتحدث مشكلة على الإطلاق، ولتمكنت الأرض من الحفاظ على مواردها، وظل لدى الناس ما يكفي للعيش عليه بشكل دائم، لكن إن افترضنا أن قرية ما في مكان ما تمكنت من تحقيق هذا التوازن المثالي بالصدفة، فسيفتقر إلى الاستقرار بطبيعته. عندما يكون الجميع سعداء بفعل الصواب، يكون لدى كل قروي تدفعه المصلحة الذاتية (وجميعهم كذلك) دائمًا حافز لإضافة حيوان آخر إلى قطيعه، وما من أحد سيمنعه أو يتذمر، لن يكلفه الأمر شيئًا، بل سيزداد ثراءً ويصبح أكثر قدرةً على إطعام أسرته. ستظل الأرض «المشاع» كما هي، ولن يلاحظ أحد رأسًا زائدًا من الغنم في المرعى، فلم لا؟

لم لا بالفعل؟ وهذه هي المأساة، بمفهوم شكسبير للهلاك المحتوم. لا يفعل أحد أي شيء جنوني، ومما لا شك فيه أنه بالنظر إلى ما يعرفه أي شخص عن العالم، سيكون من الحماقة (أو على الأقل عدم العقلانية) فعل أي شيء مختلف، وبصرف النظر عن الكارثة المحدقة، يستمر الأفراد في السير بخطى حثيثة نحو الهلاك، تدفعهم مصلحتهم الشخصية بلا هوادة إلى مصيرهم الجماعي المشئوم. تقدم نظرية هاردن — كما هو واضح من اسمها — نظرة قاسية للعالم، لكنها نظرة يصعب تجاهلها أيضًا؛ إذ إنها تُذكر بالعديد من المآسي الحقيقية في العالم؛ كالحروب طويلة الأمد التي لا مبرر لها، والرسوم الجمركية الأبدية البغيضة، وتآكل البيئات التي لا بديل لها. ومع أننا نرغب في تجنب هذه الأمور إن تمكنا، فالحقيقة المحزنة هي أنها نتاج ما تصنعه أيدينا بإرادتنا. تعبِّر مأساة المشاع، كمعضلة تناول العشاء، عن المعضلة الحتمية التي يعيشها الأفراد الذين تدفعهم مصالحهم الشخصية من الداخل والقادرين على التحكم في قراراتهم، لكن يتعين عليهم أن يتعايشوا أيضًا مع نتائج قرارات الآخرين.

(٤) سلاسل المعلومات

لكن ليس من الحتمي أن تنتهي كل معضلة نهاية حزينة؛ فمثلما يمكن أن تحقق الصيحات الثقافية الحديثة نجاحًا في مجتمع من الأفراد غير المكترثين عادة، يمكن أن تتغير المؤسسات والأعراف الاجتماعية أيضًا بين عشية وضحاها في بعض الأحيان، ومع أن إعادة تدوير المواد المنزلية، بدءًا من الزجاجات البلاستيكية ووصولًا للجرائد، تبدو أمرًا مألوفًا حاليًّا، فإنها ظاهرة حديثة نسبيًّا؛ فعلى مدار أقل من جيل واحد، غيَّر العالم الصناعي الغربي أنماط سلوكه اليومية استجابةً لتهديد بيئي بعيد كان يُعتقَد في السابق أنه لا يهم سوى مجموعة صغيرة من غريبي الأطوار المهووسين بالطبيعة. كيف تحولت عملية إعادة التدوير من شيء هامشي للمجتمع إلى شيء راسخ في توقعاتنا عن أنفسنا، شيء لم نعد نتشكك في جدواه مع أنه لا يزال يصيبنا بعدم الراحة؟

ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن التغيير في العادات غير مكلف نسبيًّا، ومن ثم فإن إعادة تدوير بضع علب معدنية بين الحين والآخر لا يسبب قدرًا كبيرًا من الإزعاج، لكن التغير الاجتماعي المفاجئ يمكن أن يحدث، حتى إن كانت المخاطر الفردية التي ينطوي عليها أعلى بكثير، مثل تظاهر مواطني لايبزيج على مدار ثلاثة عشر أسبوعًا مثيرًا في عام ١٩٨٩، عندما نزلوا إلى الشوارع كل اثنين من كل أسبوع — بالآلاف في البداية، ثم بعشرات الآلاف، ثم بمئات الآلاف — للاحتجاج على ما يتعرضون له من ظلم في ظل الحكم الشيوعي لما كان يُعرَف آنذاك بألمانيا الشرقية. ومع أن الناس لا تذكر الكثير عن مسيرات لايبزيج الآن، فيمكن وصفها بنقطة تحول حقيقية في التاريخ؛ فلم تنجح فحسب في إسقاط الحزب الاشتراكي في ألمانيا الشرقية، لكنها أدت كذلك إلى سقوط سور برلين بعد ثلاثة أسابيع فقط، وإعادة توحيد ألمانيا في النهاية. أثبت متظاهرو لايبزيج، إلى جانب الكثير من الثوار الذين يظهرون كل يوم، أن السلوك التعاوني الإيثاري يمكن أن يظهر عفويًّا بين الأشخاص العاديين، حتى لو كانت التكاليف المحتملة — السجن أو الإيذاء الجسدي أو ربما الموت — تفوق التوقعات. في الواقع، بنهاية عام ١٩٨٩، اشتهرت لايبزيج في جميع أرجاء ألمانيا الشرقية باسم «مدينة الأبطال».

كيف يمكن إذن لأعتى النظم المفروضة عنوة، التي تشكل أقسى المعضلات، أن تنهار فجأة؟ وحتى لو كان أكثر الأوضاع الراهنة ثباتًا يمكن أن ينهار على نحو غير متوقع على الإطلاق، فكيف تمكَّن من الاستمرار بجميع الأوقات الأخرى في وجه الصدمات وصور الإزعاج والاضطرابات المستمرة التي قد تكون حاسمة مثل تلك التي أدت إلى انهياره؟ لقد أبهرني، شأني شأن الكثير من الباحثين قبلي، أصل مفهوم التعاون والظروف السابقة عليه كمشكلة في حد ذاتها، لكن ما تكشَّف لي ببطء هو أن كل هذه المشكلات التي كنت أقرأ عنها، بدءًا من الصيحات الثقافية والفقاعات المالية وصولًا إلى الظهور المفاجئ للتعاون، كانت صورًا مختلفة للمشكلة ذاتها.

تُعرَف هذه المشكلة في لغة الاقتصاد الجافة باسم «سلسلة المعلومات»، في هذه السلسلة، يتوقف الأفراد في مجموعة ما عن التصرف بشكل فردي، ويبدءون في التصرف على نحو يشبه المجموعة المتماسكة. في بعض الأحيان، تحدث سلاسل المعلومات سريعًا؛ مثلًا نشأت فكرة مسيرات لايبزيج وتفجرت في غضون أسابيع؛ وفي أحيان أخرى تحدث ببطء؛ على سبيل المثال، يمكن أن تتطلب الأعراف الاجتماعية الجديدة، كالمساواة العرقية وحق التصويت للنساء وتقبُّل المثلية الجنسية أجيالًا لتصبح عالمية، لكن ما تشترك فيه كل سلاسل المعلومات هو أنه ما إن تبدأ إحداها حتى تصبح دائمة للأبد؛ بمعنى أنها تجذب أتباعًا جددًا غالبًا بفضل اجتذابها لغيرهم من قبل، ومن ثم يمكن للصدمة الأولى أن تنتشر في نظام ضخم، حتى لو كانت الصدمة نفسها صغيرة.

نظرًا لأن سلاسل المعلومات كثيرًا ما تكون مذهلة أو ذات طبيعة متميزة، فعادةً ما تؤدي إلى أحداث تستحق أن تتصدر العناوين الرئيسية في الأخبار، مع أن ذلك قد يبدو مفهومًا تمامًا، فإن هذه النزعة تخفي حقيقة أن السلاسل يندر حدوثها فعليًّا، لقد كان لدى الناس في ألمانيا الشرقية الكثير بالتأكيد من الأسباب ليسخطوا على حكامهم، لكنهم ظلوا على هذه الحال مدة ثلاثين عامًا، ولم تحدث أي انتفاضة ملحوظة سوى مرة واحدة من قبل (في عام ١٩٥٣). في مقابل كل يوم يدمر فيه جمهور فريق كرة قدم استادًا ما أو تقضي سوق للأوراق المالية على نفسها، هناك آلاف الأيام الأخرى التي لا يحدث فيها ذلك، وفي مقابل كل فيلم شهير، كهاري بوتر أو بلير ويتش بروجكت، يظهر من حيث لا ندري ليأسر ألباب الناس، هناك آلاف الكتب والأفلام والمؤلفين والممثلين الذين يعيشون حياتهم بالكامل بعيدًا عن أضواء الثقافة الشعبية الحديثة؛ لذا، إذا كنا نرغب في فهم سلاسل المعلومات، فعلينا أن نفسر ليس فقط كيف يمكن للصدمات الصغيرة أن تغير نظمًا بالكامل في بعض الأحيان، بل أيضًا كيف لا تفعل ذلك في أغلب الوقت.

من المهم أن نعي أنه من الناحية الظاهرية، تبدو الصور المتنوعة لسلاسل المعلومات — الصيحات الثقافية والفقاعات المالية والثورات السياسية — مختلفة تمامًا، وللوصول إلى نقاط التشابه الأساسية، يجب استبعاد تفاصيل الظروف وشق طريقنا بين غياهب اللغات غير المتوافقة والمفردات المتعارضة، والتقنيات الغامضة عادةً، لكن ثمة خيطًا مشتركًا بالفعل؛ فبعد أن أنعمت النظر في كل مشكلة، واحدة تلو الأخرى، لعدة أشهر، بدأ إطارها العام المبهم يتكون في عقلي كما لو كانت لوحة للفنان تشاك كلوز تتضح تدريجيًّا من بين النقاط كلما ابتعد المرء عن الحائط المعلقة عليه، لكنها كانت صورة مُحيِّرة، وتطلبت جمع الأفكار من الاقتصاد ونظرية الألعاب، بل من علم النفس التجريبي أيضًا.

(٥) مؤثرات المعلومات الخارجية

في خمسينيات القرن العشرين أجرى عالم النفس الاجتماعي سولومون آش، الذي تتلمذ على يده ستانلي ميلجرام، سلسلة رائعة من التجارب؛ فبعد وضع مجموعات يتكون كلٌّ منها من ثمانية أفراد في إحدى الغرف الشبيهة بدار سينما صغيرة، عرض معاونو آش على هؤلاء الأفراد سلسلة مكونة من اثنتي عشرة شريحة تعرض قطاعات خطية عمودية ذات أطوال مختلفة تشبه كثيرًا الصورة الموضحة بالشكل ٧-١، وعند عرض كل شريحة، كان القائمون على التجربة يطرحون سؤالًا بسيطًا يُفترَض أن يجيب عنه الخاضعون للتجربة، من قبيل: «أيٌّ من الخطوط الثلاثة الموجودة على اليمين أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار؟» صُممت الأسئلة بحيث تكون الإجابة عنها واضحة (في الشكل ٧-١، الإجابة بوضوح هي أ)، لكن كمنت الخدعة في أن الجمهور كله، فيما عدا واحدًا، كانوا عناصر دسيسة تلقوا تعليمات مسبقة بأن يجيبوا عن السؤال إجابة خاطئة واحدة (ب، مثلًا).
fig42
شكل ٧-١: رسم إيضاحي لسؤال الاختبار الذي استخدمه سولومون آش في تجاربه المتعلقة بصناعة القرار البشري في مواجهة ضغط الجماعة. كان السؤال المطروح بخصوص هذا الرسم الإيضاحي هو: «أيٌّ من الخطوط الثلاثة الموجودة على اليمين أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار؟» وكانت الإجابة الصحيحة مُصممة لأن تكون واضحة (أ في هذه الحالة)، لكن سبعة من بين ثمانية أشخاص تلقوا تعليمات بأن يجيبوا إجابة خاطئة (ب، مثلًا).

وضعت هذه المكيدة الشخص المسكين الخاضع للتجربة في موقف مربك أيَّما إرباك، ويرجع السبب في معرفتي بهذا الأمر إلى أنه أثناء إلقائي محاضرة عن سلاسل المعلومات في ييل، رفع أحد الحضور صوته — وهو عضو بارز الآن بكلية الاقتصاد — ليقول إنه كان في الواقع أحد الخاضعين لتجربة آش أثناء دراسته بجامعة برنستون. من ناحية، كان بإمكان الخاضع للتجربة أن يرى بأمِّ عينيه ما هو واضح وضوح الشمس؛ أن (أ) أقرب في الطول من الخط الموجود على اليسار مقارنةً بالخط (ب)، لكن هناك سبعة أشخاص على القدر نفسه من العقلانية والوعي مثله، يدعون بثقة أن الإجابة هي (ب). كيف يمكن أن يكون سبعة أشخاص مخطئين؟ من الجلي أن الكثير من الخاضعين للتجربة قرروا أنه لا يمكن ذلك، وفي ثلث الحالات وافق الخاضعون للتجربة على الرأي الجماعي، بما يخالف حكمهم الشخصي (جدير بالذكر أن من وقف من بين الحضور في محاضرتي قد تمسك برأيه في التجربة). مع ذلك، فلم تُهزَم الفطرة السليمة للخاضعين للتجربة دون مقاومة؛ فقد أشار آش إلى أنه رأى آثارًا واضحة للانزعاج؛ كالاهتياج والعرق الواضح، على الأفراد الذين كان عليهم الاختيار بين انتهاك يقينهم الشخصي واليقين الظاهري لنظرائهم.

لكن لماذا يجب أن تعتمد آراؤنا إلى هذا الحد على آراء الآخرين في المقام الأول؟ مرة أخرى، يقول لنا علم الاقتصاد التقليدي إن هذا ليس بالأمر الحتمي. يؤكد النموذج المعتاد لصناعة القرار الاقتصادي على أن كل بديل يفكر فيه الفرد يمكن أن يُتوقَّع منه تحقيق ربح أو «منفعة» محددة تعتمد جزئيًّا على تفضيلات هذا الفرد، ومن ثم إذا كان لشخصين التفضيلات نفسها، فسيتفقان فيما يحبان ويكرهان، لكن في حال اختلاف التفضيلات، فقد يحب بعض الناس ما يكرهه آخرون، مع ذلك، يكون من الواضح تمامًا دائمًا مدى رغبة أي شخص في شيء ما، وكل ما يتبقى هو تحديد هل بإمكانه الحصول على هذا الشيء أم لا.

هذا، بالمناسبة، ما تفعله الأسواق تحديدًا؛ إذ إنها تحدد الأسعار على نحو يجعل المعروض من السلع والخدمات يتماشى تمامًا مع الطلب السائد، ومن ثم تضمن حصول الجميع على ما يريدونه إلى الحد الذي يرغبون (أو يتمكنون) معه من الدفع في مقابل الحصول عليه؛ فإذا رغب الكثير من الناس في الشيء نفسه، فسيرتفع سعره، ربما إلى حد بعيد يجعل بعض الناس لا يرغبون فيه مثلما يرغبون في شيء آخر (كنقودهم على سبيل المثال)، لكن — وهذا هو الجزء المهم — رغبات الآخرين لا تؤدي في الواقع إلى زيادة أو نقص «رغبتنا» في شيء ما، ولا تغيِّر أيضًا من فائدته لنا؛ فالتفضيلات تظل ثابتة، وكل ما يحدده السوق هو السعر الذي يمكن تحقيق هذه التفضيلات به. في ألعاب الاستراتيجية يصبح الأمر أكثر تعقيدًا؛ إذ يجب على اللاعبين أخذ تفضيلات الآخرين بعين الاعتبار عند وضع خطة عملهم، ومن ثم فإن ما أختار فعله قد يتأثر بما أعرف أنك تريده، لكن ما أريده سيظل دون تغيير. في مثل هذا العالم المفرط في العقلانية، ما من فائدة لسؤال أصدقائك عن رأيهم في شيء ما؛ لأنه ما من شيء يمكنهم إخبارك به لا تعرفه بالفعل. إن تفضيلاتهم لا يمكن أن تؤثر على تفضيلاتك.

لكن على أرض الواقع يتسم الكثير من المشكلات التي نواجهها بدرجة كبيرة من التعقيد أو الالتباس، فلا نتمكن من تقييم الأفضل من بين البدائل. على سبيل المثال، في بعض الأحيان عند الاختيار ما بين تبني تقنية جديدة معقدة أم لا، أو توظيف مرشح معين لوظيفة ما، نفتقر ببساطة للمعلومات الكافية بشأن الخيارات المتعارضة، وفي أحيان أخرى (كما هو الحال في سوق الأوراق المالية)، قد نكون قادرين على الوصول إلى قدر وافر من المعلومات، لكننا نفتقر إلى القدرة على معالجتها بفعالية. تخيل أنك تسير في أحد شوارع مدينة أجنبية باحثًا عن مكان لتناول الطعام فيه، وأبصرت مطعمين متجاورين لديهما قوائم طعام متشابهة (وغير مألوفة أيضًا)، وأسعار مماثلة، وديكورات متشابهة إلى حد بعيد، لكن أحدهما يعج بالزبائن، في حين هجر الناس الآخر. أيهما ستختار؟ ما لم تكن لديك مشكلة معينة في التعامل مع جموع الناس، أو تشعر بالأسف على النادل الذي يدعوك لدخول المطعم الفارغ، فستفعل ما نفعله جميعًا عند افتقارنا للمعلومات الكافية؛ ستنهج النهج الذي اتبعته جموع الناس. في النهاية، كيف يمكن لهذا العدد الكبير من الناس أن يكون مخطئًا؟

مع أن نتائج آش تجعل الأمر يبدو أشبه بنقيصة ما، فإن الاهتمام بأفعال النظراء ونصائحهم يمثل عادةً استراتيجية يعول عليها للتصرف جيدًا على نحو معقول على الأقل في عالم معقد لا يمكن التنبؤ به. يفضل الكثير من الناس في أمور عدة — بدءًا من اختيار برامج الدراسات العليا وصولًا إلى اختيار الأفلام التي يشاهدونها — الحد من الخطر المحتمل إلى أقصى درجة ممكنة، سواء فيما يتعلق بتوقعاتهم المهنية أو وسائل الترفيه التي يلجئون إليها في الأمسيات، وذلك من خلال ملاحظة تصرفات الآخرين ومحاكاتها، وحتى لو كنا نتحاشى الأغلبية على نحو بيِّن، فنادرًا ما نتصرف كأفراد منفصلين أو معارضين معارضة تامة، بل يشغل تفكيرنا في الغالب أقلية من الأفراد نبتغي بالفعل محاكاتهم، ومن ثم فإن الفرق بين الفاعلين الاجتماعيين التقليديين وغير التقليديين لا يتعلق في الغالب بأن غير التقليديين لا يلقون بالًا للآخرين، وإنما في أن الآخرين الذين تهتم بهم هذه الفئة «يختلفون» عمن يهتم بهم الفاعلون الاجتماعيون التقليديون.

ومن ثم فإن ما توصل إليه آش في تجاربه يبدو كآلية راسخة لحل المشكلات يتطلب فهمها التعديل قليلًا من النظرة التي يُنظَر بها إلى العقلانية البشرية مقارنةً بما يتبناه علماء الاقتصاد عادةً؛ ففي النهاية، تفترض العقلانية الاقتصادية الخالصة بعض الافتراضات غير المعقولة تمامًا بشأن إمكانات الفاعلين البشر. على سبيل المثال، من المفترض أن يعرف الفاعلون العقلانيون الاستراتيجيون كل شيء بشأن تفضيلاتهم الشخصية، وأيضًا تفضيلات الآخرين كافة، هذا فضلًا عن أن كل فاعل يعرف أن كل فاعل آخر يعرف ذلك، ويعرف أنه يعرف أنه يعرف … وهكذا، وبالوصول إلى هذا النكوص اللانهائي المتمثل في معرفة الجميع لكل شيء، يكون من المفترض حينئذٍ أن يتصرف الفاعلون العقلانيون على نحو يحقق أقصى منفعة لهم، شريطة أن يفعل كل شخص آخر الأمر نفسه.

بالطبع، لا يؤمن الاقتصاديون أنفسهم بأن الناس على هذا القدر من الذكاء، لكن من المفترض أن يتصرفوا كما لو كانوا كذلك. ويشبه التعليل القياسي هنا إلى حد بعيد الحجة التي تناولناها سابقًا ضد وجود المستثمرين المضاربين؛ فأي شخص لا يتصرف وفقًا للتوقعات العقلانية سيحقق نتائج أسوأ ممن يفعل؛ لذا سواء أكانت الاستراتيجيات المختلفة متعمدة أم لا، فسوف «يتعلم» الناس أن يتصرفوا بعقلانية؛ لأنهم سيلاحظون أن ذلك يؤدي إلى نتائج أفضل، وبناءً عليه، فإن التصرفات الوحيدة التي تحظى بأهمية هي تلك المستمدة من توقعات عقلانية؛ لأن ذلك هو التوازن الذي سيقترب منه النظام حتميًّا، وشأن النظريات المثالية عن السلوك البشري، تتمتع هذه النظرية بجاذبية رائعة مؤكدة. في الواقع، من وجهة نظر جمالية خالصة، يتسم قدر كبير من علم الاقتصاد الكلاسيكي الحديث بأنه جميل للغاية، لكن كما رأينا في حالة المضاربين، عادةً ما لا يبدو العالم الذي يصفه هذا العلم كالواقع المعاش كثيرًا.

في خمسينيات القرن العشرين أشار هيربرت سايمون، الذي تناولنا أفكاره في الفصل الرابع من هذا الكتاب في سياق الحديث عن نماذج النمو التفضيلية، إلى أنه على الرغم من أن الوصول إلى الحد الأقصى العقلاني للمنفعة هو في النهاية نظرية مُختلقَة، ولا يمكن اعتبارها وصفًا جيدًا للسلوك البشري إلا في الحالات المحدودة التي تتحقق فيها النظرية على أرض الواقع، وإذا كانت الأدلة التجريبية، ناهيك عن الفطرة السليمة، تشير إلى أن الناس لا يتصرفون بعقلانية، فلماذا لا توضع إذن نظرية أكثر قابلية للتصديق؟ بعد أن استبدل سايمون الحدس بالملاءمة الحسابية، اقترح أن الناس «يحاولون» التصرف بعقلانية، لكن قدرتهم على فعل ذلك مقيدة بقيود فكرية ووصول محدود للمعلومات. باختصار، يُظهر الناس ما يُعرَف ﺑ «العقلانية المحدودة».

ومن ثم فإن أفضل طريقة لفهم ملاحظات آش عن صناعة القرار البشري هو اعتبارها انعكاسًا دقيقًا للعقلانية المحدودة، فنظرًا لأنه كثيرًا ما تنتابنا الشكوك بشأن السلوك الأمثل الذي علينا اتباعه، ولافتقارنا غالبًا للقدرة على التوصل إلى هذا السلوك بأنفسنا، صرنا معتادين على الانتباه بعضنا لبعض بافتراض أن الآخرين يعرفون أمورًا لا نعرفها، ونحن نفعل ذلك بانتظام، والأمر ينجح على نحو معقول غالبًا، وهو ما يجعلنا نعكس نزعة لاإرادية للاهتمام كثيرًا بتصرفات الآخرين، حتى لو كانت الإجابة واضحة بالفعل.

متى تأثر سلوك الفرد الاقتصادي بأي شيء يقع خارج نطاق المعاملة التجارية نفسها، يطلق علماء الاقتصاد على ذلك «الأثر الخارجي». وبوجه عام، ينظر علم الاقتصاد للمؤثرات الخارجية كما لو كانت استثناءً مزعجًا لقاعدة تفاعلات السوق الخالصة، لكن إذا أخذنا النتائج التي توصل إليها آش على محمل الجد، وإذا آمنا بالخبرات اليومية، بدءًا من اتباع جموع الناس في إحدى محطات القطار وصولًا إلى اختيار إحدى خدمات الهاتف المحمول، فسيبدو أن ما يمكن أن نطلق عليه «المؤثرات الخارجية على القرار» منتشرة في كل مكان. وفي حالات مثل تجارب آش، حيث تنبع المؤثرات الخارجية من الحدود المفروضة على ما يمكن أن نعرفه عن العالم وكيف يمكننا معالجة ما نعرفه بالفعل، يمكننا أن نطلق على هذه المؤثرات — إلى حين التوصل إلى مصطلح أفضل — «مؤثرات المعلومات الخارجية».

(٦) المؤثرات الخارجية القسرية

مع أن الآراء الحقيقية للخاضعين لتجربة آش تأثرت تأثرًا واضحًا بالآراء (الزائفة) لنظرائهم، فإن بعضهم شعر بضغط دفعهم لإبداء موافقتهم، على الرغم من أنهم «في قرارة أنفسهم» لم يتغير رأيهم، وقد أوضح آش لاحقًا أن إدراك هذا الضغط للامتثال لما يراه الآخرون لم يكن وهميًّا؛ في صورة مختلفة من التجربة أُعطيت التعليمات لشخص واحد فقط بأن يجيب إجابة خاطئة، فما كان من الأغلبية — التي لا علم لها بما يحدث — إلا أن سخرت منه فعليًّا؛ لذا فإن المؤثرات الخارجية القسرية قد تظهر في الكثير من مواقف صناعة القرار، شأنها شأن مؤثرات المعلومات الخارجية، وقد يكون من الصعب التمييز بينهما في بعض الأحيان. تُفسَّر، على سبيل المثال، نماذج الجرائم التي تقوم بها العصابات بأن من يرتكبها مراهقون سريعو التأثر بما حولهم، يتعرضون لضغوط من أقرانهم وممن يعدونه مَثَلهم الأعلى لارتكاب أفعال عنيفة أو مخربة؛ ليثبتوا جدارتهم لأن يصبحوا أعضاء بهذه العصابات، لكن في هذا المثال أيضًا، تلعب المعلومات دورًا ما. إذا كانت النماذج الشهيرة للنجاح الاقتصادي والاجتماعي لدى الشاب هي تلك المرتبطة بقيادة العصابات، فعلى الأقل سيكون من المعقول أن يبدو قراره بالسير على نهجهم — وإن كان ثمنه ارتكاب جرائم يدرك أنها غير أخلاقية — طبيعيًّا تمامًا وغير قسري على الإطلاق.

إن تغيير المرء لمعتقداته استجابةً لمعتقدات الآخرين الواضحة لا يقتصر على سريعي التأثر أو ذوي المعلومات المغلوطة من الأفراد فحسب. في دراسة مُبتكَرة أُجريت في ألمانيا الغربية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أثبتت العالمة السياسية إليزابيث نويل-نيومان، أنه قبل دورتين من الانتخابات الوطنية، عكست الحوارات المتعلقة بالسياسة نموذجًا ثابتًا؛ إذ زاد مناصرو حزب الأغلبية من تعبيرهم اللفظي الملح عن آرائهم على حساب الأقلية المُتصورة، لكن كلمة السر هنا هي «المُتصورة»؛ فقد أوضحت نويل-نيومان أن مستويات دعم الحزبين السياسيين، التي يعبر عنها المواطنون الأفراد سرًّا، ظلت ثابتة تقريبًا، لكن ما تغير هو إدراك الأفراد لرأي الأغلبية، ومن ثم توقعاتهم بشأن الحزب الذي سيفوز. ومن خلال ما أطلقت عليه نويل-نيومان «الارتفاع الحاد لمستوى الصمت»، صارت «الأقلية» أقل رغبةً في التعبير عن آرائها علنًا، ومن ثم عززت من وضعها كأقلية، وأضعفت من رغبتها في التعبير عما تراه بشكل أكبر.

لكن التصويت نشاط سري، ومن ثم قد يكون التوازن في الخطاب السابق للانتخابات غير مهم، لكن نويل-نيومان اكتشفت أن الأمر ليس كذلك؛ فقد كانت أكثر النتائج التي توصلت إليها إثارة للدهشة أنه في يوم الانتخابات، لم يكن أقوى العوامل التي تتنبأ بالنجاح في الانتخابات هو أي الحزبين يدعمه المرء سرًّا، ولكن أيهما يتوقع أن يحقق الفوز، وبناء عليه، فإن المعتقدات المتعلقة بمعتقدات الآخرين تبدو قادرة على التأثير على صناعة القرارات الفردية، حتى لو كان ذلك في خصوصية حجيرة الاقتراع (أو ربما التأثير على قرار التصويت في الانتخابات من عدمه في الأساس). وكما هو الحال في تجارب آش، وكذلك التوقعات بشأن انتشار الجريمة، تبدو القوى التي تدفع إلى الارتفاع الحاد لمستوى الصمت أو تؤثر على قرار المرء النهائي للتصويت مبهمة قليلًا، مع ذلك، ربما تلعب كلٌّ من المؤثرات الخارجية القسرية ومؤثرات المعلومات الخارجية دورًا في هذا الأمر، ويمكن أن تظهر المؤثرات الخارجية على القرار بطرق أخرى أيضًا.

(٧) مؤثرات السوق الخارجية

أثار علماءَ الاقتصاد الازدهارُ الذي شهدته التكنولوجيا المتقدمة بدءًا من سبعينيات القرن العشرين، فانصبَّ اهتمامهم على المنتجات التي تزيد قيمتها بتزايد عدد مَن يستخدمونها. على سبيل المثال، يعد جهاز الفاكس ماكينة مستقلة بذاتها، كالسيارة أو ماكينة تصوير المستندات؛ فله مجموعة من الخصائص المحددة جيدًا، لكن على عكس السيارات وماكينات تصوير المستندات، يعتمد تحقيق النفع من جهاز الفاكس بشكل محوري على امتلاك الآخرين لأجهزة فاكس بدورهم، فما من جدوى لشراء جهاز فاكس قبل الآخرين، إلا إذا كانت هناك جائزة لأول شخص يقتني أحدث أجهزة الفاكس، لكن مع تزايد عدد مَن يشترون هذه الأجهزة، أصبحت أكثر قيمة، لتتحول في النهاية من طُرفة تكنولوجية إلى ضرورة فعلية.

نظرًا لأن منتجات مثل أجهزة الفاكس تستمد بعضًا من نفعها الذاتي على الأقل من وجود أجهزة أخرى خارجية، فإن قرار شراء أحدها يتأثر بمؤثرات خارجية، لكن المؤثرات الخارجية على اتخاذ القرار المرتبط بشراء جهاز فاكس ليست هي نفسها المؤثرات المعرفية أو القسرية في تجارب آش. مع أنه عند اختيار جهاز معين لشرائه بالفعل، قد نعتمد على النصائح التي يقدمها لنا أصدقاؤنا ذوو الاهتمامات التكنولوجية (ومن ثم نستفيد من مؤثرات المعلومات الخارجية)، فإن القرار المتعلق بشراء جهاز الفاكس أو عدم شرائه هو عملية حسابية اقتصادية تمامًا لا تعتمد إلا على التكلفة والمنفعة. يمكننا إذن التحدث، في حالة منتجات مثل جهاز الفاكس، عن «مؤثرات السوق الخارجية» لنوضح أن المنفعة العائدة من المنتج ذاته — وتكلفته في كثير من الأحيان، التي تنخفض غالبًا عندما تصبح التكنولوجيا أكثر انتشارًا — تعتمد على عدد الوحدات المباعة، ومن ثم حجم السوق. (يفضل علماء الاقتصاد، بالمناسبة، مصطلح «مؤثرات الشبكات الخارجية»، لكن نظرًا لأن جميع المؤثرات الخارجية على قراراتنا تعتمد على شبكات من التأثيرات، يُعَد مصطلح «مؤثرات السوق الخارجية» أقل التباسًا.)

تحظى في كثير من الأحيان مؤثرات السوق الخارجية بدعم غير مباشر مما يطلق عليه علماء الاقتصاد «حالات التكامل»، ويتحقق التكامل بين اثنين من المنتجات (أو الخدمات) عندما يزيد كلٌّ منهما من القيمة المستقلة للآخر. على سبيل المثال، تعد تطبيقات البرامج وأنظمة التشغيل منتجات مُكمِّلة بعضها لبعض، وتتسم مؤثرات السوق الخارجية — خاصةً عندما تعززها حالات التكامل — بقدرتها على إحداث أثر تعقيبي إيجابي يُعرف باسم «العوائد المتزايدة» التي تشبه تأثير متَّى الذي سبق لنا تناوله في الفصل الرابع. فكلما زاد عدد أجهزة الكمبيوتر المزودة بنظام تشغيل محدد، زاد الطلب على تطبيقات البرامج التي تعمل عليه، وكلما زاد عدد البرامج المتاحة لنظام تشغيل معين، زاد الطلب على أجهزة الكمبيوتر التي تعمل بهذا النظام، ويعبر ذلك، في الواقع، إلى حد ما عن كيفية ارتباط سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية على نحو وثيق بنظام ويندوز الذي تقدمه شركة مايكروسوفت. ونظرًا لريادة مايكروسوفت المبكرة في سوق نظم التشغيل (باعتبارها الخيار المفضل لدى شركة آي بي إم)، ولأنها تتمتع طبيعيًّا بميزة معينة مقارنة بأي جهة أخرى في إنتاج البرامج المتوافقة مع نظام التشغيل الذي تنتجه، فقد تمكنت من أن تستأثر بحصص ضخمة في كلٍّ من سوق نظم التشغيل وسوق التطبيقات، وعلى العكس، كان لزامًا دائمًا على شركة آبل شق طريقها بجهد في ظل حقيقة أنها تتحكم في حصة صغيرة نسبيًّا من سوق نظم التشغيل، ومن ثم لم تُتَح أبدًا أمام مستخدمي نظام التشغيل ماكنتوش نفس خيارات تطبيقات البرامج التي يتمتع بها نظراؤهم من مستخدمي نظام التشغيل ويندوز.

(٨) مؤثرات التنسيق الخارجية

بناءً على ما سبق، فإن المؤثرات الخارجية على القرارات يمكن أن تنشأ لأن الشكوك التي تكتنف العالم الواقعي تدفعنا لالتماس المعلومات أو النصائح من نظرائنا (مؤثرات المعلومات الخارجية)، أو الاستسلام مباشرةً للضغط الذي يمارسونه علينا (المؤثرات الخارجية القسرية)، ويمكن أن تظهر كذلك في ظل غياب الشك، ويرجع ذلك ببساطة إلى أن موضوع القرار نفسه عرضة للعوائد المتزايدة (مؤثرات السوق الخارجية)، لكن ثمة فئة متميزة أخرى من المؤثرات الخارجية على القرارات تنبع من بنية ألعاب المنافع العامة، مثل معضلة العشاء ومأساة المشاع.

تذكر هنا أن نجاح هذه الألعاب يكمن في أن «فعل الصواب» — سواء أكان ذلك إعادة تدوير المخلفات البلاستيكية أو الزجاجية، أم عدم الانتظار صفًّا ثانيًا في شارع مزدحم (ولو لبرهة قصيرة فحسب)، أو ملء وعاء القهوة بعد الحصول على آخر كوب به — يكون مكلفًا على المستوى الفردي، لكنه مفيد على المستوى الجمعي؛ فمن وجهة النظر الجمعية، إذا فعل عدد كافٍ من الناس الصواب، فسيصبح الجميع أفضل حالًا؛ فلن تنفد الموارد الطبيعية في العالم، ولن تعاني الشوارع الازدحام المروري، ولن يصبح وعاء القهوة فارغًا أبدًا، أما من وجهة نظر الأفراد، إذا كان الآخرون يفعلون الصواب، فثمة إغراء دائم في الانتفاع مما يبذله هؤلاء الآخرون من جهود؛ أي جني ثمار مورد عام ما دون المساهمة فيه، بل الأسوأ من ذلك أنه إذا لم يكن هناك من يفعل الصواب، فما مغزى المحاولة إذن؟ سيظل الأمر يكلفك القدر نفسه من الجهد، لكن دون أن ينتفع به أي شخص.

يكمن جوهر المعضلة هنا في أن الأفراد هم من يتخذون القرارات، وليس الجماعات؛ لذا فإن معظم الاستراتيجيات التي تهدف للتغلب على المعضلات الاجتماعية تحاول تنظيم الأمور بحيث يكون لدى الأفراد حوافز أنانية لفعل ما هو مرغوب فيه على المستوى الجمعي. تطبق الحكومة ذلك بإصدار مرسوم ما؛ فتضع قوانين تهتم بالمواطنين، ثم تجبر هؤلاء المواطنين على الطاعة بقوة القانون. والأسواق، من جانبها، تحل هذه المعضلة أيضًا، لكن على نحو مختلف تمامًا؛ فمن خلال وضع كل شيء رهن الملكية الخاصة، والسماح للمالكين بالمتاجرة في ممتلكاتهم بحرية، تتمكن الأسواق (كما أشار آدم سميث لأول مرة) من كبح جماح الأنانية الفردية لحساب المصلحة العامة.

لكن لا يمكن لكل شيء أن تنظمه الحكومة أو أن يُقدَّم جاهزًا على نحو يسهِّل المتاجرة فيه، وليس بالضرورة أن نرغب في أن تسير الأمور على هذا النحو؛ ففي ظل غياب حكومة عالمية تملك القوة لإخضاع جميع الدول، ودون اللجوء إلى أي حروب، لا وجود في الحقيقة لما يُسمى معاهدة دولية نافذة (فلا يمكن الزج بدولة بأكملها في السجن ببساطة لامتناعها عن التعاون). ونظرًا لأن الكثير من الاتفاقيات الدولية تُعنى بكيانات غير قابلة للتجزئة بطبيعتها، كالمناخ والمحيطات، كثيرًا ما يستحيل تحقيق التوافق بين المصالح الفردية والجمعية عبر قوى السوق فحسب. بالأحرى، لا بد من التوصل إلى الاتفاقيات الدولية والحفاظ عليها من خلال التعاون بين دول مستقلة ذات سيادة، بحيث تعرض كلٌّ منها منطقها ومصالحها على مائدة المفاوضات. ومعاقبة إحدى الدول الجانحة عن طريق تطبيق عقوبات تجارية، مثلًا، يتطلب تعاون الدول الأخرى من خلال عدم انتهاك هذه العقوبات لتحقيق مصلحة خاصة.

وعلى الرغم من صعوبة تحقيق التعاون الجماعي والمحافظة عليه في غياب حكومة مركزية فعالة أو أسواق ذات أداء فعال، فإنه أمر ممكن، بل يحدث بالفعل، ليس فقط على الساحة الدولية، بل أيضًا على مستوى المجتمعات والشركات والحياة الأسرية، ومع أن الشروط اللازم توافرها لظهور التعاون بين صناع القرار، الذين يتسمون بالأنانية، لا تزال موضوعًا للنقاش، فقد ألقت الدراسات النظرية والتطبيقية على مدار العقدين الماضيين قدرًا كبيرًا من الضوء على هذا الأمر. تقوم كل هذه التفسيرات على متطلبين أساسيين؛ أولًا: ينبغي على الأفراد الاهتمام بالمستقبل، ثانيًا: لا بد أن يؤمنوا بأن أفعالهم تؤثر على قرارات الآخرين. فإذا كنت لا تُعنَى بما يحدث لك أو لغيرك في اللحظة التالية، فسيكون دافعك الوحيد للتصرف هو الأنانية، لكن عندما يكون للمستقبل أهمية، حينئذٍ فقط تكون التضحية قصيرة الأجل التي ينطوي عليها أي فعل يقوم به المرء تجاه الآخرين تستحق ما يُبذَل في سبيلها من جهد، لكن الاهتمام بالمستقبل ليس كافيًا؛ فلن يمنحك المستقبل أي حافز لدعم مصلحة الجماعة، إلا إذا آمنت بأنه من خلال فعل ذلك ستتمكن من دفع الآخرين للانضمام إليك، والسبيل الوحيد — لتقييم قدر الاختلاف الذي يمكنك تحقيقه، وهل هو كافٍ — هو ملاحظة التصرفات الصادرة عن الآخرين. إذا بدا أن عددًا كافيًا من الناس يسيرون على النهج نفسه، فقد تقرر أن الأمر جدير بالمحاولة أيضًا، وإن لم يكن فلن تفعل. نتيجة لذلك، فإن اتخاذ قرار بالتعاون من عدمه يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على ما سنطلق عليه «مؤثرات التنسيق الخارجية».

(٩) صناعة القرار اجتماعيًّا

دائمًا ما ننتبه نحن البشر بطبيعتنا، وعلى نحو حتمي، وأحيانًا بلا وعي، إلى بعضنا البعض عند اتخاذنا القرارات بصورها كافة، بدءًا من التافهة ووصولًا إلى تلك التي تغير مسار حياتنا، وسواء أكان ذلك نابعًا من حاجة لتعويض ما نفتقر إليه من معلومات، أو انصياعًا منَّا لضغوط الأقران، أو استغلالًا لمزايا وسيلة تكنولوجية مشتركة، أو محاولةً منَّا لتنسيق مصالحنا المشتركة، غير أن هذا منظور لا نرتاح تمامًا عندما نرى أنفسنا من خلاله؛ فنحن نفضل النظر لأنفسنا كأفراد مستقلين قادرين على اتخاذ قراراتنا بأنفسنا بشأن ما نراه مهمًّا، وبشأن الكيفية التي نعيش حياتنا بها. لقد اكتسبت فكرة الفرد المستقل، خاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، عددًا كبيرًا من الأتباع المخلصين؛ لتتحكم بذلك في حدسنا ومؤسساتنا، فيجب النظر إلى الأفراد ككيانات مستقلة، والتعامل مع قراراتهم على أنها تنبع من داخلهم، والنتائج التي تنعكس عليهم مؤشرات لما يتمتعون به من مواهب وخصال فطرية.

هذه فكرة جيدة، لا تدل ضمنًا فحسب على المفهوم الجذاب من الناحية النظرية، القائل إنه يمكن للأفراد المستقلين أن يكونوا أشخاصًا يسعون دائمًا، وعلى نحو عقلاني، إلى ما هو أمثل، لكنها تنطوي أيضًا على رسالة ذات بريق أخلاقي تقول إن كل شخص مسئول عن أفعاله. مع ذلك، ثمة اختلاف بين أن يكون المرء مسئولًا عن أفعاله، والاعتقاد بأن تفسير هذه الأفعال مقتصر على الذات وحدها، وسواء أكنا نعي ذلك أم لا، فنادرًا — هذا إن لم يكن مطلقًا — ما نتخذ قراراتنا على نحو مستقل ومنعزل تمامًا عما حولنا، فغالبًا ما تتوقف هذه القرارات على الظروف المحيطة بنا، وماضينا، وثقافتنا. لا يمكننا كذلك عدم التأثر بالكم المذهل من المعلومات المتاحة دائمًا في كل مكان من حولنا، وتقدمها لنا في أغلب الأحيان وسائل الإعلام، وعندما نحدد طبيعتنا كأفراد، والظروف المحيطة بنا في حياتنا، تحدد هذه المؤثرات العامة كلًّا من الخبرة والتفضيلات التي نستحضرها في أي موقف نتخذ فيه قرارًا، لكن عندما نوضع في الموقف ذاته، قد تكون خبراتنا وميولنا غير كافية لحسم قراراتنا بشأن ما نتخذه من قرارات، وهنا تتدخل المؤثرات الخارجية — سواء أكانت معلومات، أم عوامل قهرية، أم متعلقة بالسوق، أم تنسيقية — لتلعب دورًا محوريًّا، وعندما تأتي لحظة الاختيار، فإن البشر كائنات اجتماعية في الأساس، وإذا تجاهلنا دور المعلومات الاجتماعية في عملية صنع القرار — أي تجاهلنا دور المؤثرات الخارجية — فسوف نسيء فهم العملية التي تحدد ما نقوم بفعله.

قرأت حديثًا مقالًا في إحدى الصحف عن الرواج المتزايد لثقب أجزاء من الجسم لوضع الأقراط بها، خاصةً بين المراهقين، ووفقًا لما قاله الشباب المتمردون الذين أُجريت معهم المقابلات، فهم لم يتخذوا القرار بثقب أجسامهم لإغضاب آبائهم غير المواكبين للعصر، أو حتى لأن أصدقاءهم يفعلون ذلك، لكن السبب الوحيد هو إرضاء أنفسهم! قالت إحدى الفتيات: «لأنني أردت ذلك.» حسنًا، ربما يكون الأمر كذلك، لكن هذا التفسير المرتجل لا يفضي في الحقيقة إلا إلى السؤال: ولماذا أرادت ذلك؟ بلا شك ستدَّعي الفتاة المذكورة في ذلك المقال أنه كان اختيارها الحر؛ نظرًا لكون الاستقلالية ميزة يسعى وراءها المراهقون الأمريكيون بصورة خاصة، لكن التكتل الزمني والجغرافي والاجتماعي المدهش لهذه القرارات «الحرة» يوحي بأنها كانت بعيدة كل البعد عن الاستقلالية، فانتشرت النزعة لثقب أجزاء الجسم كالنار في الهشيم، من مدينة إلى مدينة وبين المجموعات الاجتماعية في هيئة سلسلة من القرارات، يتخذها شخص لا يعي الإطار الأكبر الذي ينتمي إليه القرار الذي اتخذه، لكن الإطار موجود، وهو إطار يتشارك فيه عدد وافر من الظواهر الاجتماعية الأخرى، بدءًا من النظم المالية المعاصرة وصولًا إلى الثورات الشعبية، لكن، لفهم هذا الإطار، علينا التوغل أكثر في القواعد التي تتحكم في اتخاذ الأفراد للقرارات، وكيف، في هذه الأثناء، تصبح خياراتنا التي تبدو مستقلة، مرتبطة بعضها ببعض على نحو معقد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤