الفصل التاسع

الابتكار والتكيُّف والتعافي

في يناير من عام ١٩٩٩، أثناء عملي باحثًا ما بعد الدكتوراه بمعهد سانتا في، كنت ألقي خطابًا على ممثلين من شبكة الشركات التي يتصل بها معهد سانتا في، وهي مجموعة من الشركات التي تقدم الدعم المالي للمعهد. كان تشاك سابيل من بين الحضور، وهو أستاذ قانون بجامعة كولومبيا التقيت به مرة أو اثنتين، لكن السبب الرئيسي لمعرفتي به هو اشتهاره بشخصيته المشاكسة. سبق لي آنذاك إلقاء الكثير من الخطب عن مسألة العالم الصغير، وأثناء إلقائي خطابي المعهود كان جُلُّ ما أتمناه ألا أتسبب في ضجر الحضور؛ لذا أدهشني كثيرًا أن رأيت تشاك يهرول نحوي، بينما كنت أهُمُّ بالرحيل بعد انتهائي من الخطاب، ملوحًا بيديه إليَّ ومصرًّا على ضرورة أن نتحدث معًا. حسب ما كنت أدركه آنذاك بشأن عمل تشاك، فقد كان معنيًّا بتطور العمليات التجارية والصناعية الحديثة، ومن ثم لم يكن لعمله علاقة بي، هذا فضلًا عن أنني لم أتمكن من فهم كلمة واحدة مما كان يقوله؛ فمع أن تشاك — كما اكتشفت لاحقًا — كان صاحب فكر مثير للاهتمام للغاية، فقد كان أسلوبه أسلوب شخص مثقف انفعالي تدرب بجامعة هارفارد؛ يزخر حديثه بمفردات مهيبة ومنطق معقد واستنتاجات مجردة. إن الاستماع إلى تشاك وهو يفكر يشبه شرب الخمر من خرطوم إطفاء الحرائق؛ فالمذاق طيب، لكنك قد تختنق إن عببت منه عبًّا.

بعد دقائق قليلة من التحدث معه، وعيناي توشكان أن تدمعا، تمكنت من الفرار بأن ناولته مخطوطة كتاب كنت أعمل على تأليفه آنذاك، متوقعًا أن تكون تلك المرة الأخيرة التي أسمع فيها منه، لكن كان ذلك قبل معرفتي به، فبعدها بأيام قلائل دق جرس الهاتف، وكان المتصل هو تشاك، وكان متحمسًا أيما حماسة. إنه لم يقرأ المخطوطة المعقدة فحسب (وهو على الطائرة)، بل صار مقتنعًا آنذاك بأن ما أملاه عليه حدسه المبكر كان صحيحًا، وأنه علينا أن نلتقي في وقت لاحق من ذلك العام للتعاون في العمل على مشروع ما. لم تكن لديَّ أي فكرة عما كان يتحدث عنه، لكن غمرني حماسه لدرجة جعلتني أوافق. وبحلول شهر أغسطس، قَدِم تشاك إلى سانتا في، وتسلل الفزع إلى صدري. كيف سيتسنى لي قضاء شهر كامل في العمل مع شخص لا أعرفه تقريبًا، على مشروع لا أفهمه تقريبًا أيضًا؟ بدأت أنظر إلى الموقف برمته كخطأ مؤسف، لكن عندئذٍ أخبرني تشاك بقصة ظلت تستهويني منذ ذلك الحين.

(١) أزمة تويوتا-آيسين

في ثمانينيات القرن العشرين، كانت صناعة السيارات اليابانية مثار حسد العالم؛ لقد مثلت الشركات اليابانية، كتويوتا وهوندا، صورة مصغرة لمفهوم الشركات الحديثة التي تحقق أقصى استفادة ممكنة مما لديها من موارد، وذلك من خلال إتقانها لمجموعة من عمليات الإنتاج، مثل أنظمة التخزين الآني، والهندسة المتزامنة (التي تعين فيها الخصائص التصميمية للمكونات المرتبطة بعضها ببعض على نحو متزامن وليس متعاقب)، والرقابة المتبادلة. وعمد الخبراء الإداريون إلى الاستشهاد بشركة تويوتا، على وجه التحديد، أمام العالم أجمع باعتبارها نموذجًا ملهمًا للامتزاج المتناغم بين الكفاءة الشديدة والمرونة الإبداعية. وعامًا بعد عام، أفقدت تويوتا ديترويت هيبتها، وذلك بإنتاجها عددًا كبيرًا من أفضل السيارات في العالم من الناحية الهندسية، التي أذهلت الجميع بما في ذلك منافسوها الأوروبيون.

قد يكون من المثير للدهشة، إذن، أن يتضمن الصرح الصناعي الذي ينتج سيارات تويوتا وشاحناتها أكثر من شركة واحدة بكثير. في الواقع، إنه مجموعة مكونة من نحو مائتي شركة يجمعها اهتمامها المشترك بإمداد شركة تويوتا بكل شيء؛ بدءًا من المكونات الإلكترونية وصولًا إلى أغطية المقاعد، وأيضًا يجمعها ما يُعرَف ﺑ «نظام إنتاج تويوتا». يتمثل هذا النظام في مجموعة من بروتوكولات التصميم والتصنيع نفسها التي تبنَّتها معظم الشركات الصناعية اليابانية (والأمريكية حاليًّا)، ومن ثم فهي ليست بالأمر المميز جدًّا. إن ما يجعل هذا النظام فريدًا حقًّا هو الالتزام الشديد بتطبيقه داخل مجموعة تويوتا؛ فالشركات في المجموعة، بما في ذلك الشركات التي يتنافس بعضها مع بعض للعمل مع تويوتا، تتعاون إلى حد يكاد يبدو معارضًا لمصالحها، فتتبادل الموظفين فيما بينها باستمرار، وتتشارك الملكية الفكرية، ويعاون بعضها بعضًا على حساب ما لديها من وقت وموارد، كل ذلك دون الحاجة لعقود رسمية أو الاحتفاظ بسجلات مفصلة. وتتبع هذه الشركات نهجًا، في العديد من النواحي، أشبه بالإخوة وليس الشركات، باذلةً أقصى ما لديها من جهد لتحظى باستحسان شركة تويوتا، التي تراقبها عن كثب كما لو كانت أمًّا تحرص على التوافق بين الجميع مثلما تهتم بالأداء.

قد يبدو هذا أسلوبًا جيدًا لإدارة أسرة، لكن ليس من الواضح على الإطلاق أنه أسلوب جيد لصناعة السيارات، ومع ذلك، فمنذ ثمانينيات القرن العشرين بدأت الشركات الأمريكية؛ بدءًا من مصنِّعي السيارات وصولًا إلى مصنِّعي المعالجات الصغيرة وأجهزة الكمبيوتر وبرامجه، في تبنِّي أساليب الإنتاج الياباني وأعرافه، واجتاحت التوجهات المستوحاة من اليابان الصناعات، واحدة تلو الأخرى، مع تمتع كلٍّ من نظم التخزين الآني وإدارة الجودة الشاملة وإعادة الهندسة بالشهرة لبعض الوقت، وكانت النتيجة النهائية لهذه الثورة أن الشركات الأمريكية في أواخر تسعينيات القرن العشرين صارت لا تشبه كثيرًا السلاسل الهرمية المتكاملة عموديًّا التي قامت عليها صناعة السيارات، مثل هنري فورد وألفريد سلون في عشرينيات القرن العشرين، وظلت تمثل الشكل النموذجي لتنظيم الشركات منذ ذلك الحين، لكن مع المحاولات الجادة لشركات السيارات الأمريكية العملاقة للتغير، لم تتمكن أبدًا من أن تواكب نظيراتها اليابانية في أدائها، لكن منذ أعوام قلائل واجهت تويوتا أزمة كبيرة أصابت صناعة السيارات العالمية بالذهول؛ ففي النهاية، لم يُعرِّض نظام إنتاج تويوتا الثوري الشركة لمشكلة عويصة وحسب، بل أخرجها منها بالسرعة نفسها أيضًا.

من أهم الشركات المكونة لمجموعة تويوتا وأكثرها موثوقية شركة آيسين سيكي. صارت آيسين شركة مستقلة، بعد أن كانت جزءًا من شركة تويوتا نفسها في الأساس، وذلك في عام ١٩٤٩، لينصبَّ تركيزها بالتحديد على صناعة مكونات الفرامل. تنتج آيسين بالتحديد فئة من المعدات تُعرَف باسم الصمامات بي، وهي تُستخدَم في جميع المركبات التي تصنعها شركة تويوتا لتساعد في منع الانزلاق، وذلك عن طريق التحكم في الضغط الواقع على الفرامل الخلفية. ليست الصمامات بي، التي لا يتجاوز حجمها حجم علبة السجائر، بالأمر المعقد على الإطلاق، لكن نظرًا لدورها المحوري للغاية في مسألة الأمان، لا بد من تصنيعها بدقة، ومن ثم فهي تُنتَج في منشآت عالية التخصص باستخدام مقاييس ومثاقب مصممة خصيصًا لهذا الغرض، ونظرًا لما تمتعت به شركة آيسين من تاريخ مشرف من حيث الأداء، صارت بحلول عام ١٩٩٧ المورِّد الوحيد للصمامات بي لشركة تويوتا. ولأسباب تتعلق بالكفاءة اختارت شركة آيسين إقامة خطوط إنتاجها للصمامات بي في مصنع واحد؛ المصنع رقم ١ في مدينة كاريا، الذي بلغ إنتاجه بحلول ذلك الوقت ٣٢٥٠٠ صمام يوميًّا. وأخيرًا، نظرًا لنجاح نظام الإنتاج الآني لشركة تويوتا، فلم تكن تحتفظ بمخزون يومين من الصمامات بي؛ لذا كان الإنتاج بمصنع كاريا عنصرًا شديد الأهمية لسلسلة الإمدادات بشركة تويوتا؛ فدون المصنع، لا صمامات بي، ودون صمامات بي، لا فرامل، ودون الفرامل، لا سيارات.

في الصباح الباكر ليوم السبت الأول من فبراير عام ١٩٩٧، اشتعلت النيران بمصنع كاريا وسوَّته بالأرض، حدث الأمر على نحو مباغت؛ فبحلول الساعة التاسعة صباح ذلك اليوم، دُمرت جميع خطوط إنتاج الصمامات بي، إلى جانب خطوط إنتاج أسطوانات القابض والأسطوانات الترادفية، ومعظم الأدوات ذات الأغراض الخاصة التي استخدمتها شركة آيسين للصناعة ومراقبة الجودة. وفي غضون ما لا يزيد عن خمس ساعات، تلاشت السعة الإنتاجية لشركة آيسين تمامًا، وتطلب إحياؤها شهورًا. شهورًا! كانت تويوتا تصنِّع آنذاك ما يزيد عن خمسة عشر ألف سيارة يوميًّا بنحو ثلاثين خط إنتاج، لكن بحلول يوم الأربعاء، ٥ فبراير، توقف الإنتاج تمامًا، ليسفر ذلك عن تعطل ليس فقط مصانع تويوتا نفسها، بل أيضًا المنشآت والعاملين بالكثير من الشركات التي قام عملها على إمداد تويوتا بمستلزماتها، وخيَّم الصمت على أضخم المصانع بجميع أرجاء منطقة تشوكيو الصناعية، مع سقوط مجموعة تويوتا المنيعة جراء انهيار إحدى لبناتها الأساسية. كان ذلك بلا شك كارثة مروعة، لا يضاهيها أي شيء، بما في ذلك الزلزال العنيف الذي ضرب مدينة كوبه اليابانية قبل ذلك الوقت بعامين.

إلا أن ما تلا ذلك لم يقلَّ في تأثيره عن الكارثة نفسها؛ ففي استجابة منسقة تنسيقًا مذهلًا من أكثر من المائتي شركة، ودون إشراف مباشر يُذكَر من أيٍّ من آيسين أو تويوتا، أُعيد إنتاج ما يزيد عن مائة نوع من الصمامات بي في غضون ثلاثة أيام بعد الحريق، وما إن حلَّ يوم الخميس الموافق ٦ فبراير، حتى أُعيد فتح اثنين من مصانع تويوتا. ويوم الاثنين التالي، أي بعد ما يزيد عن الأسبوع بقليل من وقوع الكارثة، عاد الإنتاج لقرابة أربعة عشر ألف سيارة يوميًّا، وبعد ذلك بأسبوع عاد الحجم اليومي للإنتاج إلى مستواه قبل الكارثة، ومع ذلك، فقد قدَّرت وزارة الصناعة والتجارة الدولية في اليابان أن الخسارة في الإنتاجية الناجمة عن الحريق قد بلغت ١ / ١٢ من إجمالي صناعة وسائل النقل اليابانية في شهر فبراير.

في ظل معدل الخسارة المروع هذا، لا يمكن تصور العواقب التي كانت ستنجم عن توقف العمل شهورًا، بل أسابيع، ومن ثم، من الجلي أن كل شركة في مجموعة تويوتا كان لديها دافع قوي للتعاون، سواء عن طريق استعادة إنتاجيتها ببساطة أو التودد للحصول على مزيد من الأعمال المستقبلية مع تويوتا، لكن حتى أقوى الدوافع ليست كافية وحدها، وهذا ما أوضحه توشيهيرو نيشيجوشي وألكساندر بوديه في تقريرهما المفصل عن مساعي تحقيق التعافي، فبصرف النظر عن عدد الشركات في مجموعة تويوتا التي رغبت في المساعدة، كان من الضروري أن تملك هذه الشركات «القدرة» على ذلك. من الجدير بالذكر أنه لم يكن لدى الاثنتين وستين شركة التي تولت إنتاج الصمامات بي في تلك الحالة الطارئة، أو الشركات التي فاق عددها ١٥٠ شركة وشاركت في الأمر بشكل غير مباشر كمورِّدين، أي خبرة سابقة في صناعة الصمامات، هذا فضلًا عن عدم تمتعها بإمكانية الوصول لأدوات متخصصة كتلك التي قضى عليها الحريق. كانت شركة براذر إندستريز مثلًا إحدى الشركات التي ساهمت في جهود التعافي، وهي شركة تعمل في تصنيع ماكينات الخياطة، ولم يسبق لها تصنيع أجزاء السيارات من قبل على الإطلاق! ومن ثم فالسؤال المثير هنا ليس لماذا عمل الجميع بهذا الكد لتحقيق التعافي، وإنما: كيف؟

قبل أن تخمد الحرائق شرع المهندسون بشركة آيسين في العمل؛ فأخذوا في تقييم الخسائر وتحديد ما يجب فعله بالضبط، وقد أدركوا على الفور أن مهمة التعافي — لكي تتم سريعًا بما فيه الكفاية لتفادي الهلاك الوشيك آنذاك — تفوق إمكاناتهم كشركة منفردة وإمكانات مورديهم الحاليين. تطلب الأمر مزيدًا من الجهد، وهو ما لا يملكون التحكم فيه تحكمًا مباشرًا. في وقت لاحق من صباح اليوم نفسه بعثت شركة آيسين، التي كانت قد أقامت مراكز للاستجابة لحالات الطوارئ، رسالة استغاثة تحدد فيها المشكلة باستخدام أكثر المصطلحات الممكنة شمولًا، وتطلب المساعدة، واستجابت الشركات المكوِّنة لمجموعة تويوتا، كما لو كانت طائرات مقاتلة تنتظر إشارة الانطلاق.

ومع ذلك، في هذا الموقف على وجه التحديد، لم يكن تقديم العون أمرًا يسيرًا؛ فنظرًا لافتقار الشركات التي ساهمت في جهود التعافي للأدوات والخبرات الخاصة بإنتاج الصمامات بي، تعيَّن عليها الابتكار على الفور، واستحداث إجراءات التصنيع، حتى تحل مشكلات التصميم والإنتاج في آنٍ واحد. وما زاد الطين بلة أن خبرة آيسين تعلقت في المقام الأول بما تجريه من عمليات تخصها، ومن ثم لم تكن مفيدة كثيرًا في التغلب على العوائق الفنية، وأخيرًا، في خضم الأزمة، صار من العسير للغاية الاتصال بشركة آيسين، وحتى بعد تركيب الآلاف من خطوط الهاتف الإضافية، تدفق قدر هائل من المعلومات الصادرة والواردة على صورة استفسارات واقتراحات وحلول ومشكلات جديدة، الأمر الذي حال في كثير من الأحيان دون الوصول للشركة، وهو ما جعل الشركات المشاركة في عملية الإنقاذ تعتمد على نفسها بالأساس.

لكن في مثل هذه الظروف تظهر نتائج التدريب؛ فبعد أعوام من الخبرة بنظام إنتاج تويوتا، أصبح لدى جميع الشركات المشاركة في عمليات التعافي فهم مشترك لكيفية التعامل مع المشكلات وحلها، فكانت عمليات التصميم والهندسة الفورية نشاطًا يوميًّا في هذه الشركات، ونظرًا لأن شركة آيسين كانت على علم بذلك، تمكنت من تحديد متطلباتها بأقل قدر ممكن من التفصيل، مما أتاح للموردين المحتملين أقصى قدر ممكن من الحرية بشأن كيفية متابعة العمل، والأهم هو أنه بينما كان الموقف في حد ذاته غير مألوف، لم يكن التعاون كذلك؛ فنظرًا لأن الكثير من الشركات المشاركة في جهود التعافي سبق لها تبادل الموظفين والمعلومات الفنية مع آيسين، وبعضها مع بعض أيضًا، تمكنت من الاستفادة من خطوط الاتصال وموارد المعلومات والروابط الاجتماعية القائمة بالفعل بينها؛ صار بينها فهم متبادل وثقة مشتركة، الأمر الذي يسَّر ليس فقط الانتشار السريع للمعلومات (بما في ذلك أيضًا وصف الأخطاء التي يقعون فيها)، بل أيضًا تعبئة الموارد وتخصيصها.

وصل الأمر ببعض الشركات إلى إعادة تنظيم أولويات إنتاجها بالكامل للمساعدة في جهود التعافي، فاختارت ما بين الحد من المهام الأخرى أو العهد بالمهام الأقل تعقيدًا من الناحية الفنية لمورديها الخارجيين، واستحوذت شركات أخرى على المثاقب والمقاييس من جميع أنحاء البلاد، ومن واجهات المتاجر، بل من الولايات المتحدة أيضًا، دون وضع اعتبار للتكاليف، ومن ثم تمكنت الشركات في مجموعة تويوتا فعليًّا من إنجاح اثنين من جهود التعافي على نحو متزامن، فأعادت؛ أولًا: توزيع الضغط الناجم عن عطل رئيسي من شركة واحدة على مئات الشركات، ومن ثم قلصت حجم الخسائر التي تتكبدها أي شركة بمفردها في المجموعة. وثانيًا: أعادت مزج الموارد لهذه الشركات نفسها في تكوينات متعددة متميزة ومبتكرة لتحقيق ناتج مماثل من الصمامات بي. وقد فعلت ذلك دون التسبب في أي أعطال أخرى، وبقدر بسيط من التوجيه المركزي، وفي غياب تام تقريبًا للعقود الرسمية، وكل ذلك في ثلاثة أيام فحسب.

بفضل باحثين مثل نيشيجوشي وبوديه، أصبح لدينا سجل معقول للأحداث التي أدت إلى أزمة آيسين، والتي تلتها، ومن ثم عرفنا بصورة ما كيف حُلَّت هذه الأزمة، وما الذي اتسمت به شركات مجموعة تويوتا كي تتمكن من حلها، لكن مثلما لم تتمكن سلسلة الأعطال وحدها التي أصابت شبكة نقل الطاقة من توضيح السبب وراء سرعة تأثر النظام بمثل هذه السلسلة في المقام الأول، أو عدم كشف السرد التاريخي لإحدى الصيحات الثقافية عن سبب تفضيل مجموعة كاملة من الأفراد لشيء عن آخر فجأة، لا يمكن لهذا السجل أيضًا أن يخبرنا بما مكَّن النظام من النجاة من مثل هذه الصدمة الهائلة.

وكما هو الحال في مثال شبكة الطاقة، كان لعطل مكوِّن واحد في نظام ضخم أصداء عامة أدت إلى عطل كارثي واسع الانتشار، لكن حالة آيسين تختلف في أن النظام استعاد عافيته فيما بعد بالسرعة نفسها تقريبًا التي انهار بها، وبقدر ضئيل من التحكم المركزي. يبدو ذلك كما لو أن شبكة الطاقة، بعد تعرضها للعطل المتسلسل ذاته الذي أدى إلى تهاويها في أغسطس ١٩٩٦، قد وقفت على قدميها من جديد في غضون ساعات قليلة، في حين ظل المراقبون في حالة ذهول بشأن ما يحدث. ليست الأنظمة «ذاتية المعالجة» سوى أمل بعيد في عينَي أي مهندس، لكن في عالم المؤسسات يبدو أنها موجودة بالفعل. ما الذي يمكننا تعلُّمه إذن من أزمة آيسين ويمكن أن يساعدنا على فهم تصميم النظم القادرة على التعافي حتى من الأعطال التي ربما تكون مدمرة؟ على نحو أشمل، ما الذي يمكن لمجموعة تويوتا أن تعلمنا إياه بشأن بنية المؤسسات الصناعية الحديثة؟ وبعبارة أخرى، كيف يرتبط أداء الشركات — أي قدرتها على تخصيص الموارد والابتكار والتكيف وحل المشكلات، سواء الاعتيادية أو الجوهرية — ببنيتها التنظيمية؟

(٢) الأسواق والهياكل الهرمية

تُعَد المؤسسات الصناعية، في الواقع، موضوعًا قديمًا للغاية؛ إذ نمت هذه المؤسسات من رحم الحراك الاقتصادي والاجتماعي الشديد الناتج عن الثورة الصناعية. وفي الواقع، كان موضوع المؤسسات الصناعية هو ما افتتح به آدم سميث كتابه المتميز «ثروة الأمم». يناقش سميث بالتحديد «تقسيم العمل»، وهو المبدأ الذي استدل عليه في الأصل من ملاحظاته للعمال في المنشآت الصناعية، الذين اتسم أداؤهم دائمًا بالتحسن عند تقسيم المهمة الجماعية المنوطة بهم إلى مهام فرعية متخصصة، وكان النموذج الذي استخدمه لشرح هذا المبدأ، من بين كل المنتجات الأخرى، هو إنتاج المسامير؛ فمع أن صناعة المسمار تبدو أمرًا تافهًا، فهي تنطوي على ما يزيد عن عشرين خطوة مستقلة، مثل سحب الأسلاك وشحذ الأطراف وطرق الرءوس وقطع السلك … إلخ. عند وضع سميث لكتابه في أواخر القرن الثامن عشر، لم يكن بإمكان الحِرَفي الماهر نفسه، عند العمل وحده، سوى صنع حفنة فقط من المسامير يوميًّا، لكن سميث لاحظ أنه عند تقسيم العمل على فريق مكون من عشرة أفراد، كلٌّ منهم يؤدي خطوة أو خطوتين، ويستخدم أدوات متخصصة، كان بالإمكان إنتاج آلاف أضعاف هذه الكمية.

تعد فكرة أنه يمكن لفرق من العاملين أداء خطوات متخصصة لمهمة معقدة وإنتاج أضعاف ما ينتجه العدد نفسه من العاملين عند أداء كلٍّ منهم المهمة بالكامل، نتيجة أساسية للتعلم البشري في واقع الأمر. تنص قاعدة عامة، تُعرَف باسم «التعلم بالممارسة»، على أنه كلما تكرر فعلنا لشيء ما أجدناه، وإذا قلَّ عدد المهام المنوطة بنا، ومن ثم صار بإمكاننا أداء كلٍّ منها أكثر من مرة، فستكون النتيجة أنه عند أدائنا خطوة واحدة فحسب من عملية الإنتاج، سنؤديها على نحو أكثر إتقانًا مما إذا تحتم علينا أداء جميع الخطوات الأخرى أيضًا، وتسمى الفائدة التي يجنيها كل عامل من تعلم أداء مهمة واحدة بكفاءة «عوائد التخصص». ومن خلال توزيع مكونات عملية معقدة على العديد من الأفراد المختلفين، الذين يعملون بالتوازي، تسخِّر عملية تقسيم العمل عوائد التخصص مرارًا وتكرارًا.

ومن ثم، من منظور تقسيم العمل، كلما زادت وظيفة المرء تخصصًا، كان ذلك أفضل. على سبيل المثال، عند صناعة سيارة، ستتوافق المهام الفرعية الواضحة مع المكونات الرئيسية للمركبة؛ البدن والمحرك وناقل الحركة والهيكل الداخلي، لكن كل مكوِّن من هذه المكونات يمثل مهمة معقدة في حد ذاته، ومن ثم يتطلب مزيدًا من درجات التخصص. على سبيل المثال، يمكن تقسيم المحرك إلى جسم المحرك ومصدر الوقود ونظام التبريد ونظام الكهرباء، وهي العناصر التي قد يتطلب كلٌّ منها مزيدًا من التقسيم، وهكذا، حتى «تتجزأ» المهمة المعقدة الكاملة إلى مجموعة من الخطوات الأساسية، ونظرًا لأن كلًّا من هذه الخطوات ينتج عنها عوائد التخصص، فالمكاسب الكلية في الكفاءة ستكون هائلة.

كانت عوائد التخصص التي رصدها سميث عميقة للغاية؛ فقال إن تقسيم العمل هو إحدى السمات الفارقة الأساسية للمجتمعات المتحضرة؛ ففي المجتمعات التي تفتقر للعمل المتخصص، يتحتم على كل أسرة توفير جميع حاجاتها، بما في ذلك المأكل والملبس والمسكن وكافة المصنوعات المستخدمة في الحياة اليومية. في مثل هذا العالم يكون البقاء الشغل الشاغل للبشر، ويكون كل جيل مرغمًا على البدء من النقطة نفسها بالضبط التي بدأ عندها السابقون. ولا يكون من الممكن ظهور المدارس أو الحكومات أو الجيوش المتخصصة أو التصنيع أو الإنشاء أو النقل أو الصناعات الخدمية. لكن ومع جوهرية تقسيم العمل للمؤسسات الصناعية من وجهة نظر سميث، فإنه لم يحدد فعليًّا قط الآلية التي يجب تجميع المهام الفرعية بها لتصبح كيانًا كاملًا معقدًا. في كتاب «ثروة الأمم» تجنَّب سميث هذا الموضوع، قائلًا فقط إن الحد الذي يمكن أن يصل إليه التخصص يعتمد على «حدود السوق»، وقد عَنى بهذه العبارة أنه كلما زاد عدد المستهلكين المحتملين، زادت كمية الموارد التي يمكن للشركة تحمُّل تكاليفها للاستثمار في بناء منشآت الإنتاج، وتصميم الماكينات المتخصصة وتشييدها، وتوظيف العاملين، ومن ثم تستفيد من اقتصاديات الحجم الكبير، لكن هذا الوصف لا يحدد لماذا يجب أن تكون الكيانات الرسمية التي تُدعَى «الشركات» هي المسئولة عن الإنتاج، لا المقاولين المستقلين أو العاملين المؤقتين أو المستشارين مثلًا.

أيضًا لا يقتضي تقسيم العمل ضمنًا بالضرورة أن الشركات، عند وجودها بالفعل، يجب أن تشبه هياكل السلطة الهرمية التي تشكِّل الصورة التي في مخيلتنا عن التصنيع في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وفكرة أن المهام يمكن إنجازها على نحو أكثر كفاءة من خلال تقسيمها، بشكل هرمي، إلى مكونات فرعية أكثر تخصصًا، لا تقتضي ضمنًا «وحدها» حتمية تنظيم الشركات بالطريقة نفسها. مع ذلك، ونظرًا لأن الكثير من الشركات بعد الثورة الصناعية كانت منظمة بالفعل بهذه الطريقة، فقد أجمعت النظريات الاقتصادية على مدار أغلب القرن الماضي على أن الصورة المثالية للمؤسسة الصناعية، ومن ثم البنية الداخلية لأي شركة تجارية، هي التسلسل الهرمي.

اختصارًا لقصة طويلة (للغاية)، أجمعت أكثر النظريات الاقتصادية المتعلقة بالمؤسسات الصناعية والمُتَّفَق عليها عمومًا على تقسيم العالم إلى هياكل هرمية وأسواق. تنص هذه النظريات على أن الشركات تظهر للوجود؛ لأن الأسواق على أرض الواقع تعاني مجموعة من العيوب التي يطلق عليها عالم الاقتصاد الحاصل على جائزة نوبل، رونالد كواس، «تكاليف المعاملات». فإذا تمكن كل شخص من اكتشاف عقود قائمة على الأسواق وإبرامها وتنفيذها مع الآخرين كافة (أي إذا تمكنا جميعًا من أن نكون مقاولين مستقلين مثلًا)، فإن المرونة الهائلة التي تتمتع بها قوى السوق ستلغي فعليًّا الحاجة إلى الشركات تمامًا، لكن في العالم الواقعي، وحسبما شهدنا في عدد من السياقات، يعد اكتشاف المعلومات أمرًا مكلفًا ومعالجتها أمرًا صعبًا، بالإضافة إلى ذلك، يكون الاتفاق بين أي طرفين — وإن بدا فكرة جيدة في وقت ما — عرضةً للشك بشأن الظروف المستقبلية والاحتمالات غير المتوقعة، وإذا أُبْرِم عقد بين طرفين ثم بدا في وقت ما لأحد هذين الطرفين فجأة أنه فكرة سيئة، فقد يقرر هذا الطرف نقض الاتفاق، مما يتسبب على الأرجح في خسارة للطرف الآخر. وتنفيذ العقود أمر صعب ومكلف في عالم يمكن فيه للغموض والظروف غير المتوقعة أن تطغى على أكثر النوايا وضوحًا.

لذا كانت الفكرة الرئيسية التي دعا إليها كواس هي أن الشركات تظهر للوجود من أجل إزالة كافة التكاليف المرتبطة بمعاملات السوق، وذلك من خلال استبدال عقد توظيف واحد بها. بعبارة أخرى، داخل الشركات، تتوقف الأسواق عن العمل، ويتم التنسيق بين مهارات موظفيها ومواردهم ووقتهم من خلال هيكل سلطة صارم. ومع أن كواس نفسه لم يحدد مطلقًا ما يجب أن يبدو عليه هذا النوع من هياكل السلطة، فقد أجمعت النظريات الاقتصادية اللاحقة على أنها يجب أن تكون هياكل هرمية. في الوقت نفسه تستمر الأسواق في العمل بين الشركات، حيث يكون الحد بين الشركة والسوق هو الموازنة بين «تكلفة تنسيق» تنفيذ وظيفة محددة داخل الشركة وتكلفة عملية إبرام عقد خارجي، وإذا صارت العلاقة بين شركتين متخصصة يومًا ما لدرجة سمحت لإحداهما بالتلاعب بالأخرى، فمن المفترض أن تُحَل المشكلة عن طريق الاندماج أو الاستحواذ، ومن ثم تنمو الشركات عن طريق عملية «الدمج الرأسي»؛ إذ يذوب أحد الهياكل الهرمية فعليًّا في هيكل آخر، مما يؤدي إلى تكوُّن هيكل هرمي أكبر «متكامل رأسيًّا». وعلى العكس من ذلك، عندما تقرر شركة ما أن إحدى المهام الداخلية بها مكلفة للغاية، فإما أن تفصل هذا الفرع من التسلسل الهرمي لتنشئ فرعًا متخصصًا، أو تزيله تمامًا عن طريق العهد بالمهمة لشركة أخرى، وفي جميع الأحوال تظل الشركات في صورة هياكل هرمية (لا يتغير سوى حجمها وعددها)، وتستمر الأسواق في العمل بين الشركات.

إنها نظرية أنيقة حقًّا، وتحمل من المعقولية ما جعلها تسود الفكر الاقتصادي بشأن الشركات لما يزيد عن نصف قرن، لكن في عام ١٩٨٤ دق كتاب ثوري وضعه اثنان من أساتذة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — أحدهما عالم اقتصاد والآخر عالم سياسي — نواقيس الخطر الأولى لما أصبح صراعًا متزايد التعقيد حول الطبيعة الفعلية للمؤسسة الصناعية ومستقبل النمو الاقتصادي. حمل ذلك الكتاب عنوان «التقسيم الصناعي الثاني»، وكان العالم السياسي الذي شارك في تأليفه يدعى تشارلز فريدريك سابيل، وهو نفسه تشاك سابيل الذي بادرني بالحديث في معهد سانتا في بعد خمسة عشر عامًا.

(٣) التقسيمات الصناعية

من منظور علماء الاقتصاد، ربما تكون النقطة الأكثر إثارةً للجدل (إن لم تكن الأهم) التي أشار إليها تشاك والمؤلف الذي شاركه تأليف الكتاب، مايكل بيور، هي أن نظرية الشركات ظهرت بعد أن صار الأمر واقعًا بالفعل؛ فلم يشرع علماء الاقتصاد في وضع نظرية عن الشركات إلا بعد أن استقر نظام التصنيع واسع النطاق بالفعل على نموذج التكامل الرأسي وما يتصل به من اقتصاديات الحجم الكبير، ومن ثم لم يحاول هؤلاء العلماء شرح سوى نوع واحد من الشركات — ذات التسلسل الهرمي الكبير المتكامل رأسيًّا — كما لو أنه ما من نظرية أخرى عن المؤسسات الصناعية يمكن أن تكون منطقية، لكن بالعودة إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما ظهرت الصورة المعاصرة للشركات الصناعية للمرة الأولى، أوضح بيور وسابيل أن التسلسل الهرمي لم يكن الشكل الوحيد الناجح للمؤسسات الصناعية، ولم يعتمد تميزه النهائي بالضرورة على مبادئ اقتصادية عامة.

لم يصبح التكامل الرأسي، بالطبع، الشكل السائد للمؤسسات الصناعية بالصدفة، بل كان الخيار الأمثل آنذاك لعدة أسباب، لكن ما قاله بيور وسابيل هو أن الأشكال المؤسسية قد ظهرت كحل لمشكلات بعضها اقتصادي والبعض الآخر اجتماعي وسياسي وتاريخي، وأبلغ دليل على اعتماد القرارات الاقتصادية على أمور غير اقتصادية هو أن التاريخ التكنولوجي يواجه بين الحين والآخر نقاطًا فرعية؛ تُعرف باسم «التقسيمات»، وهي النقاط التي تُتخَذ عندها القرارات من بين الحلول المتباينة لمشكلة عامة، وما إن يُتخذ أحد القرارات حتى يستقر الحل الفائز في التفكير المعاصر والتاريخي على حد سواء، فينسى العالم تمامًا أنه كان له بديل.

أشار بيور وسابيل إلى أن التقسيم الصناعي الأول كان الثورة الصناعية نفسها؛ ففي أثناء تلك الثورة تفوق النموذج المتكامل رأسيًّا للمصانع الضخمة وخطوط الإنتاج عالية التخصص والأيدي العاملة غير الماهرة بوجه عام، على نظام الحِرَف السائد قبل ذلك والمتمثل في الحرفيين المهرة الذين يديرون ماكينات وأدوات ذات أغراض عامة، بل قضى عليه أيضًا. وعلى مدى قرن بعد تلك الفترة اتبعت المؤسسات الصناعية نموذج التسلسل الهرمي، ومثلما ركَّز الباحثون على نموذج علمي معين، افترض علماء الاقتصاد وقادة الأعمال التجارية وصانعو السياسات ببساطة أنه ما من شكل آخر للمؤسسات يمكن تصوره، واعْتُبِرَ أن مفاهيم تقسيم العمل والمؤسسة الصناعية والتكامل الرأسي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعضها ببعض.

لكن مع أواخر سبعينيات القرن العشرين، شرع العالم في التغير، فبدأ النمو السريع للنظم الاقتصادية الصناعية في العالم لفترة ما بعد الحرب في الوصول إلى حدود طلبات الأسواق الاستهلاكية المحلية، وتطلَّب المزيد من النمو عملية عولمة ضخمة لكلٍّ من الإنتاج والتجارة. في الوقت نفسه تقريبًا، وللسبب ذاته جزئيًّا، بدأ نظام سعر الصرف الثابت الذي نصت عليه اتفاقية بريتون وودز لعام ١٩٤٤ في الانهيار، وظهرت الصدوع الأولى في جدران الحماية التجارية التي التجأت خلفها الكثير من استراتيجيات التعمير لفترة ما بعد الحرب التي تبنَّتها الكثير من الدول. وما أدى إلى تفاقم هذه التغيرات الهائلة في الاقتصاد العالمي كان سلسلة من الهزات الاقتصادية والسياسية — أزمتان بتروليتان سريعتا التعاقب، والثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩، ومزيج من البطالة والتضخم المتناميان في الولايات المتحدة وأوروبا — وهي الأمور التي محت جميعها رؤية العالم الصناعي لمستقبل باهر ممتد بلا نهاية. وفي خلال عقد من الزمان صار العالم مكانًا أكثر قتامةً والتباسًا، ولزم على قادة الأعمال التجارية البدء في التفكير خارج إطار المعرفة الاقتصادية التقليدية لكي يتمكنوا من البقاء، ومع أنه كان من الواضح لأي شخص مهتم بمتابعة الأمر أن رخاء ما بعد الحرب قد ولى، فلم يبدُ أن أحدًا قد أدرك أن النظام الاقتصادي القديم نفسه سقط، وأن العالم كان يدخل، في الواقع، التقسيم الصناعي الثاني له.

وهكذا، كان التقسيم الصناعي الثاني في جزء منه تعبيرًا عن ضرورة التفكير المستقل بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، وجزء منه محاولة للتوصل إلى وجهة نظر بديلة أفضل. لم يختفِ تمامًا نظام الحِرف، الذي أشار إليه بيور وسابيل؛ فظل قائمًا في المناطق الصناعية في شمال إيطاليا، بل في بعض الأجزاء من فرنسا وسويسرا والمملكة المتحدة، ويرجع أحد أسباب استمرار هذا النظام في تلك المناطق إلى ما تتمتع به من تاريخ متميز، وشبكات اجتماعية بين نظم الإنتاج التقليدية القائمة على الأُسر، والتركيزات الجغرافية للمهارات المتخصصة التي تمثلها، لكن الإنتاج الحِرفي استمر أيضًا لما يتمتع به هو نفسه من مزايا؛ إذ تفوق في أدائه على اقتصاديات الحجم الكبير المتكاملة رأسيًّا في الصناعات سريعة التغير التي لا يمكن التنبؤ بها؛ كصناعة الأقمشة التي تعتمد في مكسبها على عالم الأزياء دائم التغير.

لكن الأهم كثيرًا من استمرارية نظام الحِرف نفسه هو أن السمة الأساسية له، التي أطلق عليها بيور وسابيل اسم «التخصص المرن»، قد تبناها بتمهل عدد وافر من الشركات، حتى في أقوى الصناعات القائمة على اقتصاديات الحجم الكبير. على سبيل المثال، تخلَّت صناعة الصلب الأمريكية على مدار الثلاثين عامًا الماضية عن تقنية أفران صهر المعادن التقليدية لمصلحة المصانع المصغرة الأكثر مرونة والأصغر حجمًا، ويعد التخصص المرن نقيض التسلسل الهرمي المتكامل رأسيًّا من حيث استغلاله لاقتصاديات «المجال» بدلًا من اقتصاديات الحجم؛ فبدلًا من إنفاق كميات كبيرة من رأس المال على منشآت إنتاجية متخصصة تنتج فيما بعد خطًّا محدودًا من المنتجات على نحو سريع ومنخفض التكلفة، يعتمد التخصص المرن على الماكينات ذات الأغراض العامة والعاملين المهرة في إنتاج مجموعة متنوعة من المنتجات على دفعات صغيرة.

تذكر أن عوائد التخصص تنشأ من التكرار الدائم لنطاق محدود من المهام، ولا يكون التكرار ممكنًا إلا في حالة عدم تغير المهام نفسها؛ لذا، في البيئات بطيئة التغير، التي تروق فيها المنتجات العامة لعدد كبير من المستهلكين ويكون فيها نطاق الخيارات المتنافسة محدودًا، تكون اقتصاديات الحجم الكبير هي الخيار الأمثل، أما في أواخر القرن العشرين، حين اتجه العالم نحو العولمة على نحو متسارع، وعلقت الشركات بين التنبؤات السياسية والاقتصادية المبهمة من جانب، وأذواق المستهلكين متزايدة التفاوت من جانب آخر، اكتسبت اقتصاديات المجال مزية هامة. بعبارة أخرى، رجح كلٌّ من الشك والغموض والتغير السريع كفة المرونة والقدرة على التكيف على الحجم الضخم، وعلى مدار عقدين من الزمان منذ أن أوضح سابيل وبيور هذه النقطة للمرة الأولى، لم يَزِد عالم الأعمال إلا غموضًا.

طرحتُ مؤخرًا على تشاك سؤالًا عن رأيه بشأن تعطل ظهور الأفكار التي أوضحها في كتابه لمدة عشرين عامًا تقريبًا منذ تبشيره بها للمرة الأولى. هل ثبت أنه وبيور كانا على حق؟ حسنًا، نعم ولا. نعم، لأن هيمنة ما يُعرَف بالأشكال المؤسسية الحديثة على التسلسلات الهرمية التقليدية المتكاملة رأسيًّا صارت الآن أمرًا غير قابل للنقاش على الإطلاق (خلا في الدوريات الاقتصادية الأكثر تحفظًا ربما). ونعم، من حيث الاتفاق بوجه عام على أن السبب وراء هذا التحول هو الزيادة الحادة في الشك، والتغير المرتبط ببيئة العمل العالمية في العقود القليلة الماضية، في الأقسام الرئيسية للاقتصاد القديم، كالأنسجة والصلب والسيارات والبيع بالتجزئة، بالإضافة إلى صناعات الاقتصاد الحديث، المتمثلة في التكنولوجيا الحيوية وأجهزة الكمبيوتر، لكن لسبب ما، وبخاصة على مدار العشر سنين الماضية، رأى تشاك أن حل التخصص المرن الذي اقترحه هو وسابيل كان غير كامل على نحو خطير.

(٤) الغموض

تتمثل الفكرة القائم عليها التخصص المرن في أن المهام اللازم إنجازها في إحدى الشركات الحديثة — سواء أكانت صناعة سيارة، أم ابتكار قماش جديد لكتالوج الربيع، أم تصميم نظام تشغيل الكمبيوتر التالي — تكون عرضة للتغير السريع وعدم إمكانية التنبؤ بها على الإطلاق. وفي ظل هذه الظروف، بدلًا من إغراق كميات كبيرة من رأس المال في منشآت الإنتاج المتخصص، تتبنى الشركة منهج اقتصاد المجال، بحيث تضم فرق عمل منظمة تنظيمًا مرنًا من العاملين ذوي المهارات العالية الذين يمكنهم إعادة مزج مهاراتهم المتخصصة على نحو سريع ومتكرر لإنتاج دفعات صغيرة من مجموعة عريضة متنوعة من السلع. قد تبدو هذه معادلة قوية، وهي كذلك بالفعل، لكنها تخفي نوعًا ثانيًا من الغموض، وهو نوع ذو طبيعة أعمق جوهريًّا؛ فالشركات لا تواجه شكًّا فحسب بشأن المهمة المحددة التي يطالبهم بها السوق الخارجية، بل أيضًا لا تكون على يقين بشأن ما يجب عليها فعله لإتمام أي مهمة، أو ما يمكن أن تكون عليه معايير النجاح المكافئة.

يكمن في أعماق هذا اللغز — وهو ما يتضح في جميع نظريات الشركات تقريبًا — الافتراض القائل إنه إذا كان إنجاز مهمة معقدة عملية لامركزية تتطلب جهودًا منسقة متزامنة يبذلها الكثير من العاملين المتخصصين، يكون تصميمها مركزيًّا بطريقة ما، ومفروضًا إلى حدٍّ ما «من أعلى». وما تمكن تشاك من إدراكه على مدار السنوات منذ «التقسيم الصناعي الثاني» هو أن هذا الافتراض ليس سوى وَهْم مريح، أما في الواقع، عندما تباشر إحدى الشركات مشروعًا جديدًا كبيرًا، فإن المشتركين فيه فعليًّا لا يعلمون كيف ينفذونه. وفي الصناعات سريعة الحركة بدءًا من برامج الكمبيوتر وصولًا إلى السيارات، نادرًا ما تكون التصميمات نهائية قبل بدء التصنيع نفسه بالفعل، بالإضافة إلى ذلك، لا يتحدد دور الشخص في المخطط الكلي على وجه الدقة مسبقًا أبدًا، بل يبدأ كل فرد بمفهوم عام حول ما هو مطلوب منه، ويصقل هذا المفهوم عن طريق التفاعل فحسب مع الآخرين ممن يحلون المشكلات (الذين يفعلون، بالطبع، الأمر نفسه). بعبارة أخرى، لا يتمثل الغموض الحقيقي لعمليات الأعمال العصرية في أن البيئة تحتم إعادة التصميم المستمر لعملية الإنتاج، بل أيضًا في أن التصميم نفسه، إلى جانب الابتكار واستكشاف الأخطاء وإصلاحها، يعد مهمة واجبة الأداء، ليس فقط في وقت مهمة الإنتاج نفسه، بل أيضًا على النحو اللامركزي ذاته.

عند تراجع «الغموض البيئي»؛ أي عندما يحدث التغيير ببطء ويكون المستقبل قابلًا للتنبؤ به، يختفي غموض هذه المهمة الرئيسية، مما يسمح على نحو فعال بإتمام مرحلتَي التصميم/التعلم والإنتاج على نحو منفصل، وفي عالم بطيء التغير بما فيه الكفاية، يكون أمام الأفراد المشاركين حتى في أعقد المهام الوقت الكافي لتجاوز مرحلة التعلم والاستقرار في أعمال الإنتاج الروتينية، وتكون النتيجة أن تقسيم العمل بين الأفراد المكونين للشركة يعكس التقسيم الهرمي للمهمة ذاتها، ومن ثم صورة التسلسل الهرمي الثابتة للشركات.

لكن ما إن تزيد البيئة من معدل التغيير اللازم للوصول إلى أداء تنافسي حتى يجب إعادة تقسيم المهام المعقدة، وإعادة توزيع رأس المال البشري المتاح وفقًا لها. وفي غياب مراقب ذي إمكانات مطلقة، ينبغي حل هذه المشكلة المتعلقة بإعادة التقسيم على يد الأفراد أنفسهم الذين يجب عليهم أداء مهمة الإنتاج، وتكون النتيجة، في الشركات الناجحة، دوامة مستمرة من نشاط حل المشكلات، وتفاعلات دائمة بين من يحلون المشكلات، الذين يكون لدى كلٍّ منهم معلومات تتعلق بحل مشكلة معينة، لكن ما من أحد لديه معرفة كافية بشأن كيفية التصرف وحده، ولا يعلم أي فرد بالضبط من على علم بماذا، ومن ثم لا يكون حل المشكلات هو تكوين تشكيلة ضرورية من الموارد فحسب (هذا ما تدور حوله فكرة التخصص المرن)، بل يتعلق كذلك بالبحث عن هذه الموارد واكتشافها في المقام الأول.

ليس لهذه العملية أي أساس علمي على الإطلاق، لكنها قابلة للتنفيذ. على سبيل المثال، في مصانع سيارات هوندا، تُحَل المشكلات، بما في ذلك مشكلات التصنيع المعتادة نسبيًّا، على يد فرق عمل مؤقتة تتكون حسب الحاجة من أفراد ينتمون إلى جميع الأقسام في المصنع، وليس فقط المنطقة المحددة التي لوحظت فيها المشكلة للمرة الأولى، وتتضمن هذه الفرق عمال خطوط التجميع والمهندسين والمديرين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن المشكلات — بما في ذلك تلك التي تبدو واضحة — قد يكون لها جذور عميقة، ومن ثم يمكن أن تتطلب نطاقًا عريضًا على نحو مذهل من المعرفة المؤسسية لحلها. على سبيل المثال، قد ينتج عيب بسيط بالطلاء يُلاحَظ في مراحل الفحص النهائية في الإنتاج من صمام معيب، ربما يكون قد توقف عن العمل نتيجة للتحميل الزائد باستمرار على إحدى محطات الرش، أو لأن محطة رش أخرى لا تعمل على الإطلاق، أو لأن محطة الرش هذه تعاني مشكلة في آلية التحكم فيها بالكمبيوتر نتيجة لتثبيت خاطئ لبرنامج الكمبيوتر بها، الأمر الذي يمكن تعقبه وصولًا إلى مدير أنظمة منهك يستغرق وقتًا طويلًا في مساعدة المديرين في حسابات البريد الإلكتروني الخاصة بهم … إلخ. ليس بوسع فرد واحد معرفة كل ذلك، لكن شركات مثل هوندا وتويوتا اكتشفت أنه في وجود مجموعة متنوعة على نحو كافٍ من المشاركين، يمكن التعرف سريعًا على السلاسل، بما في ذلك السلاسل السببية المعقدة.

بدا لتشاك أن نشاط حل المشكلات المعتاد يعد سمة مميزة للشركات الحديثة، استجابةً منها لبيئة عمل دائمة الغموض، من ثم كان من الأهمية بمكان فهم كلٍّ من البنية المعقدة للمؤسسات الصناعية، كمجموعة تويوتا، وقدرتها على التعافي من حالات الفشل الخطيرة، كأزمة آيسين، لكن نظرية الشركات الرسمية لم تُجارِ الظاهرة المتغيرة نفسها، وقد عزف علماء الاقتصاد — مع تحمسهم لإقامة نماذج صارمة من الناحية التحليلية — عن الاعتراف بالغموض المتأصل في المؤسسات الصناعية الحديثة أو تضمينه فيما يضعونه من نظريات، ومن ثم ظلت النظرية الاقتصادية عالقة بالضرورة في عصر انقسام السوق/التسلسل الهرمي، وهي النظرة التي تجاهلت تمامًا حل المشكلات والفشل. في الوقت نفسه كان علماء الاجتماع ومحللو الأعمال التجارية أكثر ارتياحًا لمفهوم القوة والقابلية للتكيف، لكنهم لم يكونوا قادرين على إدخال عنصر التحليل في نماذجهم على النحو الذي يمكنهم من تقديم بديل ملزم من الناحية النظرية للمثالية الظاهرية التي تتسم بها الأسواق والتسلسلات الهرمية. بدا واضحًا لتشاك أن هناك حاجة لمنهج آخر.

(٥) الطريقة الثالثة

عندما التقيت بتشاك، كان مقتنعًا ليس فقط بأن الغموض وحل المشكلات سمتان أساسيتان لسلوك الشركات، بل أيضًا بأنه من خلال الإطار الرياضي الصحيح، يمكنه أن يتفهم كيفية حدوث ذلك، وقد قال لي ذات مرة: «أعرف ما يجب أن تكون عليه الإجابة، وإن كنتُ عالم رياضيات لتمكنت من تدوينها، لكنني لست كذلك.» تفسر كل هذه الأمور حماسه ذلك اليوم في معهد سانتا في؛ فأثناء الساعة التي كان يستمع فيها إلى حديثي عن شبكات العالم الصغير، أدرك أن النماذج التي طورتها أنا وستيف تتناول بعض السمات التي شعر أنها مهمة. في الشركات، كما هو الحال في الشبكات الاجتماعية بالضبط، يتخذ الأفراد قرارات بشأن من يتصلون به، ومع أن هذه القرارات تقوم على أفكار الأفراد المحلية عن الشبكة، فقد يكون لها نتائج عامة. وما أثار اهتمام تشاك، على وجه الخصوص، هو التأثيرات الهائلة لإعادة التوصيل العشوائية: حين يشارك الأفراد المنتمون إلى فرق (تكتلات) قوية الارتباط في عمليات بحث لحل المشكلات من شأنها توصيلهم بأجزاء من المؤسسة كانت بعيدة في السابق (طرق مختصرة عشوائية)، ومن ثم تعزيز إمكانية التنسيق في الشركة بوجه عام (طول مسار مصغر). وقد بدت أوجه التشابه بين المسألتين مذهلة، وظننا أن شهرًا واحدًا سيكفي لتصنيف الاختلافات الدقيقة بينها، لكن مع تحول الأسابيع إلى شهور، والشهور إلى أعوام، سلَّمنا في النهاية بأن الاختلافات كانت أكثر أهمية وإثارةً للحيرة مما كنا نتوقعه.

قررنا في النهاية أننا بحاجة إلى بعض المساعدة، وقد جاء ذلك في الوقت الذي انتقلتُ فيه إلى نيويورك للالتحاق بقسم علم الاجتماع في جامعة كولومبيا، بعد إقامتي المؤقتة مدة عامين في سانتا في وبوسطن. تصادف في تلك الأثناء أيضًا أن انتقل صديق لي، وهو عالم رياضيات يدعى بيتر دودز (الذي ذُكِر باقتضاب في الفصل الخامس من هذا الكتاب)، إلى نيويورك. أما عن تصادف وجودي أنا وبيتر في المكان والوقت نفسيهما، فيشير في حد ذاته إلى صغر العالم الذي نعيش فيه. كان بيتر، الأسترالي الأصل مثلي، قد هاجر إلى الولايات المتحدة بعد هجرتي إليها بعام واحد، لدراسة الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مع ستيف ستروجاتس نفسه، ولسوء حظ بيتر، كان ستيف يستعد للانتقال الأسبوع التالي لبدء وظيفته في جامعة كورنيل، وأذكر عندما بدأت العمل مع ستيف أنه ذكر لي بالفعل أن أستراليًّا آخر كان قد وصل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بينما كان على وشك الرحيل، وكان محبطًا للغاية لرحيله، لكن لم يخطر ببالِ أيِّنا قط أننا سنسمع عنه أي أخبار ثانيةً.

بعد عامين، كنت أتناول عشاء عيد الشكر في إيثاكا مع بعض الأستراليين الآخرين، وشرعنا في التحدث عن بحث العالم الصغير الذي كنت قد بدأته لتوي. حضر العشاء شقيق طالب آخر بجامعة كورنيل كان في زيارة من جامعة هارفارد، وبعد الاستماع إليَّ مدة من الوقت، ذكر أن صديقه بيتر سيهتم حقًّا بهذا الموضوع، وأنه قد جاء إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للعمل مع هذا الشخص الذي يدعى ستيف — ولم يتذكر اسمه الأخير — الذي ما لبث أن رحل إلى كورنيل. قلت له حينها: «إنه مرشدي.» وظل الأمر على هذا الحال إلى أن مر عامان. أخبرني أحد زملائي بالمكتب في معهد سانتا في، ويدعى جيفري ويست — وهو بريطاني مغترب وعالم فيزياء متميز — أنه قد دعا أحد أبناء بلدي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتعيينه في منصب باحث ما بعد الدكتوراه، وجاء ردي: «حقًّا! دعني أخمن … يُدعَى بيتر، أليس كذلك؟» وكان هو بالتأكيد. وأخيرًا، التقيت ببيتر، لكنه لم يقبل بالوظيفة مفضلًا البقاء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للعمل مع المشرف على رسالة الدكتوراه الخاصة به؛ دان روثمان (الذي كان صديقًا لستيف، على نحو لا يدعوك للدهشة كثيرًا). مع ذلك، فقد زار دان معهد سانتا في أيضًا، بعد بيتر بفترة قصيرة، وهكذا التقيت بدان، وتلقيت دعوة لإلقاء خطاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعد ذلك ببضعة شهور، والتقيت بآندي لو، وحصلت على وظيفة بالمعهد، وصرت أنا وبيتر أصدقاء أخيرًا. بعد ذلك بعام حصل كلانا على وظيفة في جامعة كولومبيا وانتقلنا إلى نيويورك الواحد تلو الآخر بفاصل زمني يقدر بأسابيع.

كان من المنطقي تمامًا بعد أعوام من دخول كلٍّ منا عالم الآخر بفضل الاهتمامات والخلفيات المشتركة، بل الأصدقاء المشتركين أيضًا، أن نعمل معًا، فأخبرت بيتر بشأن المسألة التي كنت أعمل عليها مع تشاك، ولمَّا كان بيتر قد أجرى رسالته عن البنية المتفرعة لشبكات الأنهار، كان على علم بالدراسات الرياضية التي تتناول موضوع الشبكات، لكن تركيزه كان منصبًّا آنذاك على علم الأرض والأحياء، فعزف قليلًا عن الإلقاء بنفسه في عالم الاقتصاد والاجتماع الغريب عليه. مع ذلك، ما إن التقى بيتر بتشاك وبدأ في تقدير حجم المشكلة حتى تملَّكه الفضول، وصار أحد أفراد فريق العمل. استغرق الأمر منا بعض الوقت قبل أن نحرز أي تقدم، لكن أثناء ذلك بدأنا في رؤية بعض الارتباطات بين المسألة المحددة التي «ظننا» أننا كنا ندرسها — دور الغموض وحل المشكلات في الشركات — والمسألة الأعم المتعلقة بالقوة في النظم المتصلة بشبكات، كالإنترنت؛ تلك الشبكات التي تحتاج للبقاء والعمل في وجه الأعطال غير المتوقعة وأنماط طلبات المستخدمين.

(٦) التكيف مع الغموض

اتضح لثلاثتنا، أخيرًا، أن مشكلة موضوع الغموض تتمثل في أنه … «غامض»، فكيف يمكن تعريف الغموض بدقة، في حين أن طبيعته نفسها — أي سبب كونه مشكلة يتحتم التعامل معها في المقام الأول — هي أن تحديده أمر شديد الصعوبة؟ مع ذلك، فنحن بحاجة لتحديده، وإلا فلن يمكننا تعيين كيف يمكن لشكل تنظيمي محدد أن يتكيف معه على نحو أفضل من شكل آخر. توصلنا إلى أن مفتاح اللغز يكمن في تناول الغموض تناولًا غير مباشر عن طريق التركيز على «آثاره» بدلًا من أصوله، فعند حل مشكلات معقدة في بيئات يكتنفها الغموض، يعوض الأفراد معرفتهم المحدودة بالاعتماد المتبادل بين مهامهم المختلفة وعدم يقينهم بشأن المستقبل بتبادل المعلومات — المعرفة والنصائح والخبرة والموارد — مع آخرين ممن يحلون المشكلات داخل المؤسسة نفسها. بعبارة أخرى، يحتم الغموض التواصل بين الأفراد الذين يوجد اعتماد متبادل بين المهام المنوطة بهم؛ بمعنى أن يمتلك كل فرد معلومات أو موارد ذات صلة بالآخرين، فعندما تتغير البيئة سريعًا، تشهد المشكلات تغيرًا سريعًا أيضًا، ومن ثم تصبح الاتصالات المكثفة ضرورة دائمة.

وبناءً عليه، تتساوى مشكلة التكيف مع الغموض البيئي المزمن مع مشكلة تشوش الاتصالات؛ فالشركات التي لا تجيد تيسير الاتصالات المشوشة لا تجيد أيضًا حل المشكلات، ومن ثم لا تجيد التعامل مع الشك والتغيير؛ لذا تمثلت استراتيجيتنا في التفكير في المؤسسات كشبكات من «معالجي المعلومات»، حيث يتمثل دور الشبكة في التعامل مع كميات كبيرة من المعلومات بفعالية ودون تحميل زائد على المعالجين «الفرديين». ظاهريًّا، بدت هذه المشكلة مشابهة كثيرًا للمشكلات التي سبق لنا مواجهتها في هذه القصة؛ فكثير من مشكلات الشبكات تكمن في الأساس في نقل المعلومات داخل النظم المتصلة بشبكات، سواء كنا ندرس انتشار أحد الأمراض أو أحد الأعراف الثقافية، أو كنا نبحث عن هدف بعيد، أو نحافظ على الاتصال في مواجهة الإخفاقات.

لكن ثمة اختلافًا جوهريًّا بين الشبكات المؤسسية ونماذج الشبكات سبق توضيحه في فصول سابقة من هذا الكتاب؛ أن المؤسسات تتسم في جوهرها بطبيعة هيكلية هرمية، قد تكون النظرة التقليدية للشركة كتسلسل هرمي متكامل رأسيًّا غير كاملة على نحو بالغ، لكن ذلك لا يجعلها غير مناسبة، ومع أن الهياكل الهرمية — كما سنرى — تتجاوب تجاوبًا ضعيفًا مع الغموض والفشل، فإنها تعد بِنى رائعة لممارسة الضبط. والضبط سمة مركزية للشركات التجارية والنظم البيروقراطية الحكومية على حد سواء. قد يعمل الأفراد تحت قيادة العديد من الرؤساء، أو يتبعون رؤساء مختلفين في أوقات متباينة، لكن حتى في أكثر الشركات الاقتصادية الحديثة حرية في الهيكل الوظيفي، لا يزال كل شخص تابعًا لرئيس ما.

هذا فضلًا عن أن الهياكل الهرمية لا تقتصر على تنظيم الأفراد داخل الشركة؛ فكثير من المؤسسات الصناعية كبيرة الحجم — بدءًا من المجموعات الصناعية كتويوتا وصولًا إلى بنية النظم الاقتصادية الكاملة — تقوم على مفهوم الهيكل الهرمي، بل إن الكثير من الشبكات المادية تكون مصممة على مبادئ هيكلية هرمية (مع أنها ليست هياكل هرمية صرفة تمامًا، كما سنرى). يشكِّل الإنترنت — على سبيل المثال — شبكة تجميع لمراكز ضخمة، تهبط نزولًا عبر طبقات من المزودين الأصغر حجمًا على نحو متعاقب وصولًا إلى المستوى النهائي للمستخدمين الأفراد، وشبكة الخطوط الجوية شبيهة كثيرًا بذلك؛ لذا بقدر ما نحتاج للابتعاد عن وجهة نظرة مقتصرة على الهيكل الهرمي للشركات، لا يعد هذا الهيكل سمة راسخة في الأعمال التجارية الحديثة فحسب، بل سمة مهمة أيضًا. وفكرة أن الأغلبية العظمى من نماذج الشبكات إما تجاهلت الهياكل الهرمية تمامًا أو تجاهلت أي شيء آخر دونها يتركنا مرة أخرى في منطقة مجهولة تمامًا.

من السمات الأخرى للشبكات المؤسسية — التي تميزها عن الأنواع الأخرى من الشبكات التي تناولناها من قبل — القيود المفروضة على الأفراد فيما يتعلق بكم العمل الذي يمكنهم تنفيذه، ولهذه القيود تبعات خطيرة فيما يتعلق بكلٍّ من مهام الإنتاج ومعالجة المعلومات التي يلزم على المؤسسات الحديثة أداؤها. من ناحية الإنتاج تتطلب الكفاءة أن تضع المؤسسة قيودًا على الأنشطة غير المثمرة للعاملين فيها. فكر في الأمر وكأن روابط الشبكات مكلفة من ناحية الوقت والطاقة، ونظرًا لأن الأفراد يتمتعون بمقدار محدود من كليهما، كلما زاد عدد العلاقات التي يحافظ عليها المرء بفعالية في العمل، تراجع حجم العمل الفعلي المرتبط بالإنتاج الذي يمكن للمرء أداؤه. إن الكفاءة الإنتاجية، في الواقع، هي السبب وراء هيمنة الهياكل الهرمية على المؤلفات الاقتصادية التي تتناول موضوع الشركات، ومن خلال إضافة المزيد من المستويات عن طريق التكامل الرأسي، يمكن لشبكة ذات هيكل هرمي صِرف أن تنمو لتصبح ضخمة دون أن يضطر فرد واحد فيها إلى الإشراف على أكثر من عدد ثابت من المرءوسين المباشرين، وهو القيد الذي يُعرَف في علم الاقتصاد باسم «نطاق التحكم».

لكن الأفراد في المؤسسات القائمة على حل المشكلات لا بد ألا يشرفوا فحسب على مرءوسيهم، بل عليهم أيضًا التنسيق بين أنشطتهم، ومن هذا المنظور (بالغ التبسيط دون شك)، لا «يفعل» المدير الحقيقي في الواقع أي شيء من وجهة النظر الصناعية التقليدية الموجهة نحو الإنتاج. اعتدت التفكير في هذا الأمر بينما كنت أجلس في الحافلة بين بوسطن ونيويورك مستمعًا إلى كل المديرين التنفيذيين والمستشارين وهم يتحدثون بهواتفهم المحمولة باهتياج ليرتبوا لاجتماعات بالغة الأهمية، وتساءلت: «ما الذي ينتجه هؤلاء الأشخاص فعلًا؟» إذا كان كل ما يفعله المرء هو أن يهرع من اجتماع لآخر، فما الذي يساهم به فعليًّا في إنتاجية المؤسسة؟ تتمثل الإجابة — من وجهة نظر معالجة المعلومات — في أن مهمة المدير الرئيسية ليست الإنتاج على الإطلاق، وإنما «التنسيق»؛ بحيث يعمل كمضخة للمعلومات بين الأفراد الذين يؤدون مهمة الإنتاج، ومن هذا المنظور، لا تتعدى الاجتماعات كونها وسيلة مؤسسية لتبادل المعلومات بين أجزاء المؤسسة المختلفة، كما هو الحال مع المؤتمرات السنوية، وفِرق تنفيذ المهام، واللجان التي قد تبدو مضيعة للوقت في نظر أي مراقب خارجي (وأحيانًا في نظر المشاركين أنفسهم)، لكن جميع المضخات، بما في ذلك مضخات المعلومات، لها قدرة محدودة، فحتى أكثر المديرين كفاءةً ونشاطًا لا يمكنه سوى حضور عدد معين من الاجتماعات، وقطع عدد معين من الأميال جوًّا، والاستجابة لعدد معين من طلبات الحصول على المعلومات، وإذا زادت هذه الأمور عن حد قدرته، يعجز في النهاية عن أداء هذه المهام.

لذا فإن شبكة معالجة المعلومات «القوية» هي التي لا توزع عبء الإنتاج فحسب، بل أيضًا عبء إعادة توزيع المعلومات بأكبر قدر ممكن من المساواة، ومن ثم يزيد حجم المعلومات التي يمكن معالجتها دون التعرض لأعطال. وتتسم الهياكل الهرمية بضعفها الشديد في إعادة التوزيع، مع أنها تمثل شبكات توزيع عالية الكفاءة. تخيل — على سبيل المثال — مؤسسة ينبغي فيها مراقبة كل نشاط وتنسيقه والموافقة عليه عن طريق سلسلة رسمية من الأوامر. نظريًّا، مثل هذه المؤسسات ذات الهياكل الهرمية موجودة بالفعل، وربما يكون الجيش أبرز الأمثلة على ذلك، لكن عمليًّا، ما إن يظهر أي غموض في الصورة حتى تُتخَم سلسلة الأوامر على الفور بطلبات معالجة لا حصر لها للمعلومات والإرشادات. للاطلاع على ذلك، اختر إحدى نقاط تلاقي المصدر (ص) عشوائيًّا من الهيكل الهرمي الموضح في الشكل ٩-١، وتخيل أنها ترسل رسالة لإحدى نقاط تلاقي الهدف (ﻫ) الأخرى، وتتمثل الرسالة على الأرجح في طلب معلومات أو مساعدة. في الهياكل الهرمية الخالصة ينبغي تمرير الطلب إلى أعلى سلسلة الأوامر حتى يصل إلى أدنى نقطة تلاقٍ سابقة مشتركة (أ)، وهناك يمكنها أن تنتقل لأسفل وصولًا إلى الهدف. ويعتمد النجاح في نقل الطلب على أن تؤدي كل نقطة تلاقٍ في السلسلة واجبها في معالجة المعلومات، ولكن لا تتساوى كل نقاط التلاقي في قدر العبء الذي تتحمله. مثلما يوضح الشكل ٩-١، كلما كانت نقطة التلاقي بموضع أعلى في سلسلة الأوامر، زاد عدد أزواج نقاط تلاقي المصدر والهدف التي ستمر الرسائل عبرها، ومن ثم عظم عبء معالجة المعلومات المُلقَى عليها. في الهياكل الهرمية الصرفة التي تعمل في بيئة غامضة، يكون عبء معالجة المعلومات موزعًا على نحو غير متساوٍ تمامًا، الأمر الذي يسفر عن فشل هذه الهياكل، إلا إذا اتُّخذ إجراءٌ ما للتوفيق بينها.
fig48
شكل ٩-١: في الهياكل الهرمية الصرفة لا بد أن تعالج سلسلة الأوامر جميع الرسائل بين نقاط التلاقي، الأمر الذي يضطر نقاط التلاقي الموجودة بالقمة إلى معالجة المعلومات التي تمر بين الكثير من أزواج نقاط التلاقي الموجودة بمستويات أدنى. وهنا، تمثل (أ) أدنى نقطة تلاقٍ مشتركة بين ص (مصدر الطلب) وﻫ (الهدف).
في شبكات معالجة المعلومات المادية، كالإنترنت، يمكن تعويض العبء الزائد (وإن لم يكن ذلك على نحو تام) المرتبط بوضع أعلى في التسلسل الهرمي بزيادة قدرة الخوادم ومحولات البيانات ذات الصلة. على سبيل المثال، تتمتع محولات بيانات شبكة تجميع الإنترنت بقدرة معالجة أعلى بكثير من الرابط الذي يصل بين جهاز الكمبيوتر الخاص بك ومزود خدمات الإنترنت الذي تتعامل معه، بل من الرابط الذي يصل بين هذا المزود وشبكة تجميع الإنترنت. يظهر السبب ثانيةً في الشكل ٩-١: حيث يحاول ملايين الأفراد مثلك إرسال رسائل عبر شبكة التجميع، في حين يتشارك معك عدد أقل بكثير من الأفراد في مزود خدمات الإنترنت (يكون مزود خدمة الإنترنت لنقطة تلاقي المصدر (ص) في الشكل ٩-١ هو الأعلى منها مباشرةً في التسلسل الهرمي)، لكن في الشبكات المؤسسية، لا يمكن للمرء ببساطة زيادة حجم مخه وسرعته بسبب كثرة العمل الذي يجب إنجازه فحسب. من الطبيعي أن يعمل بعض الأفراد بمزيد من الكد أو الكفاءة مقارنةً بغيرهم، لكن الحقيقة الراسخة هي أن البشر، خلافًا لأجهزة الكمبيوتر، ليس بوسعهم تعديل حجم أمخاخهم ليتناسب مع المهام المتزايدة، ومن ثم إذا زاد معدل نشاط حل المشكلات أو زاد ببساطة حجم المؤسسة، فإن الضغط الناتج على سلسلة الأوامر ينبغي أن يُخفَّف بصورة ما.
من الأساليب الواضحة لتحقيق ذلك تجاوز نقطة التلاقي ذات العبء الزائد عن طريق إنشاء طريق مختصر، ومن ثم إعادة توجيه الازدحام عبر رابط شبكة إضافي، لكن إنشاء روابط جديدة والمحافظة عليها يقلل من مقدار الوقت المتاح أمام الأفراد للإنتاج، ومن ثم يعد كلٌّ من الازدحام والروابط أمورًا مكلفة. والسؤال هنا: ما أكثر الطرق فعالية للموازنة بين هذين النوعين من التكاليف؟ توصلت أنا وستيف أثناء عملنا على شبكات العالم الصغير إلى أن إضافة طريق مختصر واحد أدى إلى تقليص المسارات بين الكثير من أزواج نقاط التلاقي المتباعدة على نحو متزامن، ومن ثم أدى إلى الحد بفعالية من الازدحام بالعديد من السلاسل الوسيطة الطويلة، ومن خلال الحد على نحو كبير من متوسط الانفصال بين نقاط التلاقي؛ أي جعل العالم صغيرًا، تبدو الطرق القصيرة العشوائية وسيلة فعالة للتخفيف من الازدحام، لكن ثمة مشكلتين كبيرتين تتعلقان تمامًا بهذا التوجه العشوائي؛ أولًا: أنه لا يعكس التقسيم حسب الدرجة الذي تتسم به الهياكل الهرمية. ثانيًا: أن هذا التوجه يفترض أن الطرق المختصرة المعنية تتمتع بقدرة لا محدودة على نقل البيانات، وذلك من خلال السماح لكل طريق مختصر بتقليص المسافة بين كل أزواج نقاط التلاقي على نحو متزامن، لكن — وكما أكدنا من قبل — هناك قيود مفروضة على قدرات الأفراد في المؤسسات، ومن ثم يمكن لأي رابط التخفيف من الازدحام الكلي بقدر محدود فقط، وتكون النتيجة — كما هو واضح من الخط العلوي بالشكل ٩-٢ — أن الإضافة العشوائية للروابط تخفف من العبء الواقع على معظم نقاط التلاقي الأكثر ازدحاما، لكن ببطء، ومن ثم يكون نفعها ضئيلًا نسبيًّا في الحيلولة دون الفشل. إن كون العالم صغيرًا لا يستتبع بالضرورة أنه يتسم بالكفاءة أو القوة.
fig49
شكل ٩-٢: تؤدي إضافة روابط تجاوز للهيكل الهرمي إلى تخفيف العبء الواقع على نقاط التلاقي الأكثر ازدحامًا، بيد أن النتيجة يمكن أن تختلف اختلافًا كبيرًا حسب كيفية إضافة الروابط، فعندما تُضاف عشوائيًّا (الخط العلوي)، يتطلب الأمر الكثير من الروابط للتخفيف من العبء على نحو ملحوظ، لكن عندما تُضاف حسب الطريقة الموضحة في الشكل ٩-٣، يمكن لعدد قليل من الروابط إحداث تأثير كبير.

(٧) الشبكات متعددة المستويات

إذا لم تُجدِ إضافة الروابط عشوائيًّا وعلى نحو متسق نفعًا في التخفيف من ازدحام المعلومات، فما الذي يمكنه فعل ذلك؟ بوجه عام، هذا سؤال تصعب الإجابة عنه؛ إذ إنه يتطلب توازنًا بين القيود المفروضة على القدرات المحلية والأداء العام (على مستوى النظام). ولحسن الحظ، تسفر الطبيعة الطبقية للتسلسل الهرمي عن استراتيجية محلية بسيطة تقترب على نحو مدهش من المثالية، وهي الاستراتيجية الموضحة في الشكل ٩-٣؛ فنظرًا لأن جميع عمليات معالجة المعلومات تنتجها نقاط التلاقي التي تمرر الرسائل إلى النقاط المجاورة لها مباشرةً في الشبكة، يمكن تخفيف العبء الواقع على أي نقطة تلاقٍ بأكبر قدر ممكن عن طريق ربط نقطتَي التلاقي المتجاورتين اللتين يُرسَل لهما معظم الرسائل. ليس من الجلي تمامًا سبب نجاح هذه الاستراتيجية المحلية تمامًا في الحد من الازدحام العام على نحو أقرب للمثالية، ففي النهاية، لا تُحذَف الرسائل، بل يعاد توجيهها ببساطة، وهذا قد يجعلك تظن أن الازدحام سيزيد في مكان آخر في النظام، لكن نظرًا لأن النظام يختار دائمًا نقطة التلاقي الأكثر ازدحامًا للتخفيف من عبئها، ولأن نقاط التلاقي التي تتصل بها تتناول هذه الرسائل بأي حال (كما يشير الشكل ٩-٣)، يكون الأثر دائمًا هو الحد من الازدحام الكلي دون زيادة العبء الواقع على أي نقطة تلاقٍ فردية.
fig50
شكل ٩-٣: خوارزمية مثالية محليًّا. يتم تجاوز نقطة التلاقي الأكثر ازدحامًا عن طريق إضافة رابط بين النقطتين المجاورتين اللتين يُرسَل إليهما معظم الرسائل (المشار إليهما بالأسهم).
كما يتضح من المنحنى السفلي في الشكل ٩-٢، يبدو أن هذه الخوارزمية المحلية البسيطة لإضافة الروابط تخفف من ازدحام المعلومات بفعالية في ظل العديد من الظروف البيئية، وعلى نحو أكبر بكثير من الأساليب العشوائية تمامًا، لكن نوع «بنية» الشبكات التي تنتجها أثناء العملية يعتمد اعتمادًا كبيرًا على «نوع» حل المشكلات الذي تحتمله البيئة. عندما يكون حل المشكلات محليًّا تمامًا، كالرسائل اللازم تمريرها بين أعضاء فريق العمل نفسه، أو المشتركين لدى مزود خدمة إنترنت واحد، يمكن تخفيف الازدحام بفعالية بالتوازي مع عملية «تكوين الفِرق». يشعر دائمًا المشرفون، الذين يحاولون الإشراف إشرافًا دقيقًا على مرءوسيهم، بالإنهاك كلما واجهت المجموعة إجمالًا مشكلة صعبة. محليًّا، يكون الحل — وهو السماح لأعضاء الفريق بالعمل معًا دون إشراف مباشر — هو نفسه تقريبًا الموضح في الشكل ٩-٣، وفي الوقت ذاته، يعكس الشكل ٩-٤ الصورة العامة التي تظهر نتيجةً لهذه التغيرات المحلية بشكل تخطيطي، وتتكون «الفِرق المحلية» (الزملاء الذين يرأسهم الرئيس المباشر نفسه) الموضحة في هذا الشكل على نحو مستقل في جميع مستويات التسلسل الهرمي.
fig51
شكل ٩-٤: عندما يكون مرور الرسائل محليًّا تمامًا، تتألف بنية الشبكات المحلية من فِرق محلية في جميع مستويات التسلسل الهرمي.
على الجانب الآخر، عندما يقتصر مرور الرسائل على أزواج من الأفراد البعيدين بعضهم عن بعض (في قسمين مختلفين من الشركة، مثلًا)، يتحول أغلب عبء معالجة المعلومات إلى قمة التسلسل الهرمي، ويمكن تقسيم الشبكة الناتجة عن ذلك (على نحو تقريبي) — كما هو موضح في الشكل ٩-٥ — إلى درجتين: «مركز» قوي الاتصال، كالمقر العام أو وحدة المعالجة المركزية، و«محيط» من تسلسلات التوزيع الهرمية الخالصة المكونة من نقاط تلاقي الإنتاج. حين يتحتم على المركز التعامل مع كميات ضخمة من الطلبات، قد يمتد المركز ليشمل أكثر من مستوى واحد من التسلسل الهرمي، ومن ثم يتطلب روابط أفقية ورأسية. وداخل المركز يجب على الجميع مساندة بعضهم بعضًا حتى يواجهوا الضغط الخارجي؛ فيختفي قوام التسلسل الهرمي. في هذا السيناريو ينتج عن النموذج فئة متميزة من مديري المعلومات. يقضي هؤلاء الأفراد — على نحو يشبه إلى حد ما المديرين التنفيذيين الذين استمعت إليهم في الحافلة — وقتهم بالكامل في معالجة طلبات المعلومات التي يقدمها العاملون المعنيون بالإنتاج، ونظرًا لأن واجب المديرين الرئيسي هو توجيه الرسائل على نحو صحيح، فإنهم بحاجة لأن يكونوا على اتصال قوي بالمديرين الآخرين (ومن هنا تأتي كل هذه الاجتماعات).
fig52
شكل ٩-٥: عندما يكون تمرير الرسالة عامًّا تمامًا، يتركز الازدحام في قمة التسلسل الهرمي، مما يؤدي إلى ظهور مركز قوي الاتصال يضم مديري المعلومات، ومحيط من عمال الإنتاج المتخصصين، له شكل التسلسل الهرمي الخالص.

مع أن هذه البنية القائمة على فكرة المركز والمحيط تمثل صورة متطرفة، بل ربما شديدة التطرف للمؤسسة البشرية، فهي تحمل بعض أوجه التشابه مع بنية شبكات التوزيع/إعادة التوزيع؛ كشبكة الخطوط الجوية والنظام البريدي. يتألف هذان النظامان كلاهما من مراكز قوية الاتصال، يعاد توزيع الركاب والخطابات، بالترتيب، في إطارها، وتمتد منها نظم توزيع متفرعة. في شبكة الخطوط الجوية الأمريكية — على سبيل المثال — يمكن الطيران من أي مركز إلى آخر تقريبًا مباشرة، ومن ثم تشكل هذه المراكز قلب الشبكة، ويكون لكل مركز شبكة محلية خاصة به من مطارات الدرجة الثانية والثالثة التي يوزع إليها المسافرين أو يستقبلهم منها. تمثل خدمة البريد الأمريكية نظام توزيع جزئيًّا؛ فهي تجمع البريد من الكثير من النقاط الصغيرة (على سبيل المثال، صناديق مكاتب البريد ومكاتب البريد الفرعية) وتوزعها بدورها على المنازل والشركات، ومن ناحية أخرى، فهي نظام إعادة توزيع أيضًا، لكن وظيفة إعادة التوزيع منفصلة على نحو كبير عن وظيفة التوزيع؛ إذ تتم بالأساس بين مراكز التبادل ومكاتب البريد الرئيسية.

يمكن أيضًا ملاحظة البنية ذاتها القائمة على فكرة المركز والمحيط — وإن كان بقدر أقل — في بنية الإنترنت التي تشتمل على شبكة تجميع قوية نسبيًّا تتصل فيها المحولات بكثير من المحولات الأخرى، وتمتد منها العديد من البُنى المتفرعة، نزولًا بعد ذلك عبر مزودي خدمة محليين، حتى مستوى المستخدمين الأفراد (نقاط التلاقي الفرعية التي تنتهي عندها شجرة التفرع). مع أن الأمر ليس بالوضوح نفسه الذي تتمتع به شبكة الخطوط الجوية، فإن التشابه بين نموذج المركز والمحيط والإنترنت يتسم بالمنطقية؛ إذ تحدث عمليات تبادل البيانات بين المستخدمين المنفصلين انفصالًا كبيرًا، على النقيض من المستخدمين الذين يشتركون في مزود خدمة إنترنت محلي واحد، ومن ثم يكون عبء «إعادة توزيع» المعلومات مركزًا في شبكة التجميع.

مع ذلك، تواجه مؤسسات القطاع العام والشركات الحديثة نوعًا من الغموض أكثر تعقيدًا عما هو الحال عليه مع الحد العام الخالص أو المحلي الخالص. علاوة على ذلك، تكون نقاط التلاقي في هذه الشبكات أفرادًا، وليست محولات إنترنت أو مكاتب، ومن ثم يصعب تبين الفروق البسيطة بين التوزيع وإعادة التوزيع. من النتائج المطمئنة إذن لخوارزمية الحد من الازدحام أن تترتب الملاحظة الثانية على الملاحظة الأولى طبيعيًّا. يبدو أن الغموض الحقيقي يحتم حل المشكلات، ومن ثم التواصل، على جميع مستويات المؤسسة في الحال. نموذجيًّا، يحدث الجزء الأكبر من نشاط حل المشكلات الذي يقوم به الأفراد في البيئات كلها، بما في ذلك البيئات المعقدة سريعة التطور، على النطاق المحلي؛ أي في إطار فريق الزملاء المباشرين، لكن يتواصل ظهور المشكلات غير المعتادة على نحو مفاجئ دائم، وكما سبق وأوضح مثال شركة هوندا الذي تناولناه من قبل، تتطلب هذه المشكلات بحثًا بعيدًا عن إطارها للتوصل إلى المصادر والمعلومات وثيقة الصلة بها. غالبًا ما لا يتجاوز البحث نطاق فريق آخر في القسم ذاته. مع ذلك، ومثلما حدث في مجموعة تويوتا، لا بد أن تمتد عمليات البحث في بعض الأحيان إلى ما هو أبعد من ذلك، متجاوزةً الإدارة نفسها، والقسم نفسه، بل تصل إلى خارج الشركة أيضًا، حيث يقل معدل تكرار البحث المطلوب مع تزايد نطاقها، لكنه لا يختفي تمامًا.

إن ما تشير إليه نتائجنا بالأساس هو أنه عندما تحتاج المؤسسات إلى معالجة المعلومات على العديد من مستويات المسافات في مرة واحدة، يجب أن تكون بنية الشبكة اللازمة لمعالجة الحِمل متصلة على العديد من المستويات أيضًا، ومع أن احتمالية تمتع فردين بمعلومات تتعلق بإنتاجيتهما تقل بانفصالهما في التسلسل الهرمي، يزيد عدد حالات الاعتماد الممكنة هذه، وكما هو الحال في الشبكات الاجتماعية بالضبط، يزيد عدد الأفراد البعيدين عنك في المؤسسات الكبيرة مقارنةً بالقريبين منك، وتكون النتيجة مماثلة لملاحظة جون كلاينبرج في الفصل الخامس، وهي أن كميات كبيرة من المعلومات تتدفق بجميع مستويات التسلسل الهرمي المختلفة، ومن ثم تظهر الحاجة لقنوات التجاوز ليس فقط على مستوى الفِرق المحلية (كما هو موضح في الشكل ٩-٤)، أو على مستوى المؤسسة العام (كما هو موضح في الشكل ٩-٥)، بل على جميع المستويات في آنٍ واحد، لكن نظرًا لأن التسلسل الهرمي يكثف بطبيعته معالجة المعلومات في مستوياته العليا، فإن توزيع الرسائل التي تُمَرَّر وتوزيع روابط التجاوز الناتجة لا يتساويان.
تبدو الصورة البديهية أشبه بالشكل ٩-٦، فبدلًا من مركز واحد قوي الاتصال في القمة، أصبح لدينا الآن روابط تمتد بجميع أرجاء التسلسل الهرمي، لكن على عكس الفِرق شديدة المحلية الموضحة في الشكل ٩-٤، لا بد أن تشتمل المؤسسات المصممة للعمل في بيئات غامضة تمامًا على «فِرق» بالمستويات المختلفة. بالقرب من قاعدة التسلسل الهرمي، يصدِّر الأفراد في الغالب الرسائل بدلًا من معالجتها؛ فيتطلب الأمر عددًا أقل نسبيًّا من روابط التجاوز. في الوقت نفسه لا بد من معالجة الرسائل التي تنتقل بين نقاط التلاقي البعيدة بمستويات أعلى في التسلسل الهرمي، مما يتطلب من المديرين التفاعل ليس فقط مع نظرائهم المباشرين، بل أيضًا عبر المستويات الرأسية. ويؤدي ذلك إلى ظهور «الفِرق متعددة المستويات»، وهي مجموعات موزعة لا تتسم بالاتصال المكثف نفسه الذي يميز الفِرق الأخرى الموضحة في الشكل ٩-٤، أو المركز في الشكل ٩-٥، لكن بإمكانها توزيع عبء معالجة المعلومات على المستويات المتعددة بدلًا من تكثيفها في مستوى واحد فحسب.
fig53
شكل ٩-٦: عند تمرير الرسائل في جميع المستويات، يتطلب الأمر شبكة متعددة المستويات. تعكس الظلال المختلفة كثافة متناقصة للروابط مع تزايد عمق التسلسل الهرمي.

من الآثار المباشرة إذن لهذا «الاتصال متعدد المستويات» أن الفارق بين مدير المعارف وعامل الإنتاج يصبح غير واضح. مع أن نشاط المعالجة يميل عادةً للزيادة (على حساب الإنتاج الخالص) بارتفاع موضع الفرد في التسلسل الهرمي، فعند معالجة المعلومات بجميع مستويات المؤسسة، يتولى الجميع إلى حد ما إدارة المعلومات. يتمثل تفسير هذا الانهيار في الفوارق بين الأدوار في أنه في البيئات المبهمة حقًّا — حيث لا يعرف أحد بالضبط ما ينبغي عليه فعله، أو كيفية فعله — يصبح نشاط حل المشكلات جزءًا لا يتجزأ من مهمة الإنتاج نفسها، ومن ثم ينبغي على كل فرد تولي جزء من كل مهمة بفعالية.

(٨) التعافي من كارثة

يمكن أن يحدث الفشل المؤسسي، شأنه شأن الغموض، في صور وأحجام عدة، مثل مرض الأفراد، أو انهيار المصانع جراء الحرائق، أو تعطل أنظمة الكمبيوتر، أو الحاجة لتسريح عدد كبير من الموظفين. في بعض الأحيان تأتي الكارثة من الخارج، بينما تنبع من الداخل في أحيان أخرى، وفي بعض الحالات، مثل كارثة آيسين، تجمع بين هذا وذاك؛ فكان الحريق حادثًا طبيعيًّا، لكن ما ضخَّم من أهميته هو إنتاج آيسين الحصري لصمامات الفرامل، ونظام تخزين تويوتا الآني، لكن مهما يكن منشأ الكوارث، فإنها تشترك جميعًا في أنها تعطل جزءًا مما كان يُعرَف في السابق بالنظام الكلي الفعال. يتحتم عادةً، وعلى المدى الطويل، إصلاح الجزء المُعطَّل أو استبداله أو الاستعاضة عنه عن طريق توزيع ما يجريه من وظائف على الوحدات الأخرى بصفة دائمة، على سبيل المثال. لكن في عالم الأعمال ذي الإيقاع السريع، وفي العديد من الشبكات المادية، كشبكات الطاقة والإنترنت، لا يكفي البقاء على المدى الطويل؛ فلا بد للنظام من البقاء على المدى القصير أولًا.

كما شاهدنا في أزمة تويوتا-آيسين، في أعقاب أي فشل، يزيد المعدل المطلوب من حل المشكلات ومشاركة المعلومات زيادة عظيمة، وعند فقدان موارد هامة، يكون أهم أصل يمكن لأي مؤسسة امتلاكه هو الوصول اليسير للموارد التي تركتْها. من ثم، وبمفردات الحديث عن الشبكات، يتمثل العنصر الرئيسي للنجاة من كارثة ما على المدى القصير في حفاظ الشبكة على اتصالها، دون أن تجلب على نفسها مزيدًا من الفشل. يعيدنا هذا الأسلوب في صياغة المشكلة إلى طريق مألوف، إلى حد ما. إن التفكير في قوة النظام في ظل اتصالية الشبكة هو النهج الأساسي الذي طرحه باراباسي وألبرت، وصقله لاحقًا دانكن كالاواي، لدراسة قوة شبكات كالإنترنت. حتى هذا الحد، الأمر مألوف، لكن كل هذه النتائج كانت قائمة على افتراض أن الشبكات موضوع الدراسة عشوائية، ولم نعد بالطبع نتحدث عن الشبكات العشوائية.

تعمل التسلسلات الهرمية — كما هو متوقع — على نحو سيئ في حالة الأعطال، وللسبب ذاته الذي يجعلها سريعة التأثر بالتعطل الناتج عن الازدحام (شدة مركزيتها) في حال تعطل أي من نقاط التلاقي الموجودة أعلى التسلسل الهرمي، سوف تعزل هذه التسلسلات أجزاء كبيرة من الشبكة بعضها عن بعض، وهنا يصبح الاتصال على جميع المستويات أمرًا ضروريًّا بحق؛ لأنه في الشبكات متعددة المستويات لا يصبح هناك نقاط تلاقٍ «مهمة» يسفر فقدانها عن تعطيل الشبكة من خلال قطع الاتصال بها. وبما أن هذه الشبكات مصممة خاصة لتكون لامركزية، ليس فقط على مستوى الفِرق، بل أيضًا على مستويات أكبر، يمكنها النجاة من أعطال أكبر حجمًا أيضًا، كأن يتوقف فريق كامل عن العمل. فعليًّا، يمكن إزالة أجزاء بأي حجم تقريبًا من الشبكات متعددة المستويات، وستظل متصلة، وقادرة مِن ثم على الوصول إلى أي موارد لم تُدمَّر تمامًا.

وبناءً عليه، لا يخدم الاتصال متعدد المستويات هدفًا واحدًا فحسب، بل هدفين؛ هما الهدفان المهمان لأداء أي شركة في بيئات يكتنفها الشك، فمن خلال توزيع ازدحام المعلومات المرتبط بحل المشكلات على جميع مستويات المؤسسة، تقل احتمالية الفشل إلى أدنى حد ممكن، وفي الوقت نفسه يقلل الاتصال متعدد المستويات من تأثير الفشل إذا حدث ومتى حدث. وهكذا تفي الشبكات متعددة المستويات بالشرط الموضح في نهاية الفصل الثامن من هذا الكتاب، ألا وهو أن القوة الحقيقية لا تكمن في تجنب الفشل فحسب، بل أيضًا في النجاة منه بأقل قدر ممكن من الخسائر التالية، ونظرًا لأن الشبكات متعددة المستويات تعكس هذه السمة المتمثلة في ضرب عصفورين بحجر واحد، نسميها بالشبكات «ذات القوة المفرطة».

قد تبدو القوة المفرطة أروع من أن تكون حقيقة، لكنها في الواقع منطقية تمامًا، ويكمن السر وراء تطور هذا المفهوم في أن إمكانيات حل المشكلات المعتادة والاستثنائية مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا قويًّا. يؤدي الغموض المعتاد — أي الشك بشأن ما ستفرضه عليك الحياة غدًا — إلى عملية حل المشكلات المعتادة، وتحث هذه العملية بدورها على إنشاء روابط تجاوز للتخفيف من الازدحام المحلي، وهو ما يولد بدوره ازدحامًا للمعلومات في نقاط التلاقي الرئيسية، وعند إعادة توزيع المعلومات على جميع مستويات المؤسسة، تتكون روابط التجاوز على جميع المستويات أيضًا، وما إن تظهر هذه الروابط متعددة المستويات للوجود حتى تتمتع بميزة إضافية، وهي الحفاظ على الاتصال الدائم للشبكة، حتى في حالات الفشل الذريع، فتكون المرونة في مواجهة الصدمات الخارجية نتيجة غير متعمدة لآليات التكيف المحلية التي يستخدمها الأفراد بصفة دائمة.

بناءً على ما سبق، يمكن اعتبار التعافي من الكوارث بمنزلة نشاط لحل المشكلات، لكنه أكثر إثارة من النوع المعتاد الذي تضطر الشركات لمواجهته كل يوم، لكنه لا يختلف عنه في جوهره، ومن ثم فإن القوة المفرطة لا تتعدى في الحقيقة كونها تكيفًا مع الغموض في جميع صوره. يكون الغموض معتادًا في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى متطرفًا؛ كأزمة تويوتا-آيسين، لكن في جميع الحالات، يواجه الأفراد مشكلة غير مألوفة يتحتم عليهم حلها سريعًا. وآليات التكيف العامة التي تنجح مع مشكلة ما عادة ما تنجح مع غيرها، وهكذا يمثل كلٌّ من الابتكار وتصحيح الأخطاء والتعافي من الكوارث صورًا للاستجابة نفسها حيال الغموض.

بالنظر للتعافي المفاجئ الذي شهدته مجموعة تويوتا من هذا المنظور، نجد أن هذا التعافي، حتى وإن لم يكن مُخطَّطًا له، ليس مفاجئًا على الإطلاق. وجد بعض الأفراد أنفسهم فجأة في مواجهة موقف لم يَرِد بمخيلتهم أبدًا، ولم يتوقعوا على الأرجح حله، لكن في ظل عدم وجود أي خيار سوى التعامل مع الواقع المتغير تغيرًا بالغًا، تمكنوا من حله على أي حال، ومن ثم عكسوا بشكل جمعي قدرة مؤسسية لم يدركوا أبدًا أنهم يتمتعون بها. كانت لديهم هذه القدرة بالفعل، بيد أنها لم تظهر في الأحوال العادية. كان أداء العاملين في مجموعة تويوتا متميزًا في وجه أزمة كبرى، لكنه لم يكن سحريًّا، فلم تكن الأزمة التي واجهوها سوى صورة مكثفة لاستجاباتهم المعتادة للمشكلات اليومية لا أكثر.

في التحليل النهائي لا يزال الغموض ذا طبيعة مبهمة، لكن صار بالإمكان الآن تعريفه وفهمه؛ فمن ناحية، يُعَد الغموض البيئي المزمن مصدرًا للكثير من المشكلات التي تواجهها الشركات، الأمر الذي يؤدي دائمًا إلى اضطراب الأعمال الروتينية المعروفة ويجعل الحلول الحالية عتيقة لا قيمة لها، وعلى الجانب الآخر، ومن خلال جعل عملية حل المشكلات نفسها نشاطًا معتادًا، ودفع الشركات لإقامة هياكل قادرة على معالجة كميات ضخمة من المعلومات دون تعطل — يمثل الغموض المعتاد صديقًا حميمًا للشركات؛ فعن طريق التكيف مع الغموض اليومي، تُطوِّر الشركة قدرتها على إنقاذ نفسها في حال وقوع كارثة غير متوقعة. تحقق عملية حل المشكلات المعتادة كلًّا من توزيع عبء معالجة المعلومات على الأفراد بجميع أنحاء المؤسسة، وتهيئة الظروف التي يمكن حل المشكلات الاستثنائية في ظلها.

لا تزال «الآلية» المحددة التي تولد بها استجابة الشركة للغموض المعتاد القوة المفرطة لغزًا غامضًا، لكنها تحمل تشابهًا قويًّا مع السمة التي تتمتع بها الشبكات؛ سمة القابلية للبحث، التي تناولناها في الفصل الخامس. والآلية، وفقًا لما نفهمه، أشبه بما يأتي: تحاول الشركات اتباع مبادئ التسلسل الهرمي في تصميم هيكلها من أجل حل مشكلة التحكم، لكن في البيئات التي يكتنفها الغموض يؤدي ازدحام المعلومات المرتبط بأنشطة حل المشكلات إلى إثقال كاهل الأفراد، وبخاصة من يحتلون المراكز العليا في التسلسل الهرمي، ويكون رد فعل هؤلاء الأفراد على المستوى المحلي هو توجيه مرءوسيهم لحل المشكلات بأنفسهم عن طريق إجراء أبحاث موجهة.
يعتمد المرءوسون، نظرًا لافتقارهم إلى دليل مركزي للمعرفة والموارد المؤسسية، على ما لديهم من معارف غير رسميين داخل الشركة (أو ربما في شركات أخرى) لتحديد أماكن المعلومات ذات الصلة، وكما سبق أن أوضحنا في الفصل الخامس، تتسم استراتيجية البحث الاجتماعي هذه بالفعالية؛ فيتمتع الباحثون بالقدرة على النجاح مع أنهم قد لا يكونون على وعي بالأسباب والكيفية التي ينجح من خلالها ما يتبعونه من أساليب، وبذلك تتغير كلٌّ من بنية الهيكل الهرمي ووظيفته؛ فبدلًا من مكافأة الأداء الإنتاجي فحسب، تكافئ سلسلة الأوامر الآن الأداء البحثي كذلك، فلا يمتلك الأفراد القدرة على تحديد أماكن المعلومات ذات الصلة فحسب (قدرة خفية)، بل أيضًا الحافز لفعل ذلك. ومن النتائج المباشرة لذلك ابتعاد البنية الداخلية للشركة عن التسلسل الهرمي الخالص بفضل الروابط الجديدة التي تتكون وتتعزز على مدار الكثير من عمليات البحث المتكررة.
تكون هذه العملية في حالة توازن في الشبكة متعددة المستويات، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الازدحام الفردي — ومن ثم الضغط لإنشاء اتصالات جديدة — لا يقل إلا عند اتصال الشبكة عبر العديد من المستويات، ومثلما أوضحنا في الفصل الخامس، يؤدي وجود الروابط بمستويات عدة إلى تعزيز إمكانية البحث في الشبكة، ومن ثم أصبحت المستويات المتعددة أمرًا يفرض نفسه. وعند وقوع كارثة ما، تبدو سمات الشبكة كالقابلية للبحث وتخفيف الازدحام أمورًا مفاجئة، لكنها نتيجة طبيعية للاستجابات المحلية للمشكلات المعتادة في البيئات التي يكتنفها الغموض على نحو مزمن.

إذن العلاقة بين قابلية البحث والقوة علاقة دقيقة، تتجسد على صورة حالة وسط بين تفسيرنا المدفوع اجتماعيًّا عن البحث اللامركزي في الشبكات وتفسير جون كلاينبرج، وفي حين يتسم حل كلاينبرج بكونه «مصممًا» خاصة حتى يتمكن المهندسون من تصميم لوحات الدوائر الكهربائية من الصفر، تنشأ المؤسسات الحقيقية بوجه عام نتيجة لعمليات بحث فردية وقرارات مدروسة محليًّا، لكن على عكس الشبكات الاجتماعية الخالصة، لا تنشأ المؤسسات على نحو تلقائي تمامًا أيضًا. يُعَد التسلسل الهرمي، في الواقع، العلامة المميزة للحل المصمم من أجل التنظيم الداخلي للشركات، وهو حل قاصر في ظل حالة الغموض، لكنه — كما رأينا — حل قابل للتعديل لينجح في العديد من الظروف المتنوعة.

هكذا تستغل الشركات التجارية الحديثة القدرة على البحث اللامركزي الكامنة في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية عن طريق فرض بنية التحفيز المتأصلة في التسلسلات الهرمية عليها، ومع أننا لم نصل بعد إلى فهم كامل للمشكلة، فيبدو أن الاستراتيجية الجيدة لإقامة مؤسسات قادرة على حل المشكلات المعقدة هي تدريب الأفراد على التعامل مع الغموض عن طريق البحث في شبكاتهم الاجتماعية، بدلًا من إجبارهم على إنشاء قواعد بيانات وأدوات مصممة مركزيًّا والمساهمة فيها بهدف حل المشكلات. تتمثل الفائدة الكبرى لهذا الأسلوب في أنه من خلال فهم كيفية بحث الأفراد اجتماعيًّا، يمكننا أن نطمح في تصميم «إجراءات» أكثر فعالية نتمكن من خلالها من إنشاء مؤسسات قوية دون الحاجة لتحديد التفاصيل الدقيقة للبناء المؤسسي ذاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤