رواية «محور السياسة»

تأليف حافظ أفندي نجيب بالفرقة المصرية١
fig13
غلاف مخطوطة مسرحية «محور السياسة» عام ١٩٢٠.
fig14
الصفحة الأولى من الفصل الأول لمخطوطة مسرحية «محور السياسة».

المقدمة

(غرفة نوم في منزل)

(تدخل سيدة متنكرة تتجسس، ثم تعود وتدعو سيدة أخرى فتدخلان معًا، وترتمي الثانية على مقعدٍ منهوكة القوى، وتقول للأولى.)

أسما : لقد تَبِعْتُكِ يا بنيتي حرصًا على سلامتك أكثر من إطاعتي لرغبتك؛ لأنني كنت أخشى إذا منعتك أن تفعلي في خفاءٍ عني ما أَقْدَمْتِ على فِعْلِه الليلة في حراستي، وقد وعدتِ أن تكشفي لي سِرَّ هذه الأعمال الغريبة؛ خصوصًا دخولنا المنزل دخول اللصوص، ها أنا مصغية إليك.
إحسان (تتقدم إلى أمها وتُقَبِّلها) : أشكر لك يا أمي هذا الحرص، وما كنت لِأُقْدِم على دخول هذا المنزل مع أي مخلوق غيرك، فما دخلَتْه أنثى إلا وخلفت فيه أثمن ما تحرص عليه المصونة العفيفة، وما وطئتْه قدم حسناء إلا ووقعتْ في أعمق هوات السقوط الأدبي!
أسما : إذن … لماذا جئت بنا إلى هذا الجحيم؟! وكيف تُطَوِّع لك الجرأةُ أن تطرقي هذا المكان؟!
إحسان : فَعَلْتُ بدون وجلٍ؛ لأنني جئت في حراسة ملاك الوقاية والصون، فهل تظنين أن شيطان الغواية يحاول شيئًا أمرًا في وجودك؟ أو يبلغ إلى وطره وأنا في كنفك؟ لو علمتُ أن له هذه القوة، أو عرفْتُ أن لي ذلك الضعف النسائي، لنزعت قلبي من صدري بيدي وطرحته للكلاب!
أسما : كل هذا لم يشرح لي سر مجيئك الليلة إلى هذا البيت متلصصة!
إحسان : السر المريع الذي تنتظرين مني الإباحة به هو سر كل فتاة في طور الشباب، وأول ربيع الحياة، أنا أحب يا والدتي، وهذا البيت هو للشاب الذي علقه قلبي، وعقدت العزم على اختياره رفيقًا لحياتي!
أسما : ما هذا الجنون يا بنية، وهل بلغ بك الطيش إلى المجيء بي إلى موعد غرامك؟ رباه! إنني أكاد أفقد صوابي من الروع والكيد!
إحسان : معاذ الله يا أمي أن أهوى إلى مثل هذا السفه، إن الشاب لا يزال يجهل أمري، ولو بحت له بحبي قبل أن تغريني عليه ما كنت جديرة بعطفك ولا بكرامة البيت الذي أنتسب إليه!
أسما : إذن ماذا أردْتِ بالحضور إلى منزل رجل لم يأذن لك بدخول منزله! وليست بينكما أية علاقة؟! وكيف وصلْتِ إلى معرفة هذه الدار؟! وحصلت على مفاتيح الأبواب! وأنت لا تفارقين دارنا إلا برفقتي!
إحسان : عهدت إلى خادمنا، فتجسس أحوال الشاب أكثر من ثلاثة شهور، ثم اصطنع مفاتيح الأبواب بَعْد أن أَخَذْتُ أنا طَبْعَتَها من المفاتيح الأصلية!
أسما : وما عسى أن تفعلي هنا!
إحسان : جئت لأمرين؛ الأول: أن أقف على شيء من أسرار قلب الفتى، والثاني: لأحمل إليه أول رسالة من رسائلي إليه.
أسما : ويلاه مما يغري به طيش الصبا ونزق الشباب! هل تظنين يا ابنتي أنني أُقِرُّكِ على هذا التصرف المستهجَن؟ أنا لا أجد غرابة في تطرق الحب إلى قلبك، فإنك كسائر المخلوقات، لك عواطف وشعور، ولا بد لك من الخضوع لناموس الطبيعة … اليوم أو غدًا، إنما الغرابة في كَوْنِك تقصدين إلى غرضك في الخفاء وعلى غير السبيل المشروع!
إحسان : لو كان الذي أحببْتُه يا أمي على مثال غيره من الشبان لمددْتُ يدي إليه في جهر بعد العزم على الاقتران به، أما وهو في شذوذ مريب فإنه يعوقني عن خطب يده، وعن القطع باختياره زوجًا لي، فربما أتحول عن عزمي وأرجع عن اختياره لنفسي!
أسما : أنا في حيرة تُضَاعِف غرابتي وارتباكي! فبينما أنت يدفعك الحب الجائر إلى جرأة الاقتحام والمجازفة، إذا بك تخافين العاقبة لريبةٍ في نفسك من أطوار من علق به قلبك، فمن هذا الذي عبث بك كل هذا العبث!
إحسان : هو الساحر بوداعته، الخلاب بعذوبته، الفنان بسكونه، المغرى بوجومه، هو ذلك الشاب الذي تتجاذبه كل فاتنات باريس، وترتمي عليه العقيلات كما ترتمي على النور الفراشات، آه يا أمي! أنا أعترف لك بكل صراحة؛ لأنني في خطر عظيم من الحب، فإذا وقع نظري على ذلك الشاب ينجذب إليه فؤادي كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس، ويدفعني الهوى فأكاد أرتمي على صدره … أبوح له بأمري … أو أقع عند قدميه … أتذلل له أن يرحمني لولا حزم ورثته عنك، يردني إلى ثبات الكبر وحياء العفة، ويعصمني عن التبذل والصَّغار!
أسما (تضم إحسان إلى صدرها) : أراك في عذاب عظيم من مغالبة النفس والقلب الضعيف؛ فكم لك في هذا العناء يا ابنتي!
إحسان : عام طويل يا أمي، بدأ الحب يتسرب إلى نفسي بباعث الغيرة في حفلة الرقص التي شهدناها في قصر السيدة دي لامول، ألا تذكرين؛ إنني طلبت إليك الرجوع إلى البيت قبل انتهاء الحفلة!
أسما : أتَذَكَّرُ تلك الحادثة … ولكن لِم أخفيتِ عني أَمْرَكِ إلى الآن؛ فربما كنت أتمكن من معالجة الداء قبل تمكُّنه من نفسك.
إحسان : منعني الحياء، وظننت لنفسي قوةً من الجلد والحكمة أدفع بها الطارئ المزعج فخاب ظني. آه يا أماه لو تعلمين ما قاسيتُ وما عانيتُ من وقر الآلام البارحة ولوعة الوجد المضني! إذن لرثيتِ لحالي ولرَقَّ قلبكِ لي.
أسما : لا باعث أبدًا للألم والشقاء إذا كان الذي علقه فؤادك حقيقة بيدك؛ فأنت في حسن تحسدك عليه أجمل فاتنات هذه المدينة … وفي أدب وعلم لا يقل عن مثل ما بلغَت إليه أرقى متعلمة في المتحضرين … ولك ثروة تأمنين معها الفقر ويطمع بها كل شاب، فما الذي يبعثك إذن على خشية الفشل والخيبة؟
إحسان : الشاب على جانب عظيم من كرم الأخلاق وأدب النفس؛ بل إن له من المبادئ والصفات ما يندر وجوده في السواد الأعظم من النبلاء، ولو أنه أحس بما في نفسي أو عرف شيئًا من سرِّ هذا الحب لانطرح عند قدمي يطلب يدي، ولكن الذي أخشاه هو المغامرة والمجازفة؛ فإن اندفاع الفتاة في الحب واستسلامها لأول فزة من فزات النفس قد تندم عليها كلَّ أيام حياتها!
أسما : يسرني أن تكوني حكيمةً إلى هذا الحد يا ابنتي … حريصة على هناء الحياة حرصك على كرامة بيتك وشرف نفسك، ولكنني في حيرة من أمرك؛ فبينما أنت تذكرين محاسن الفتى وصفاته إذا بك تنكمشين ريبة وحذرًا! فهل تعرفين له صَغارًا يُنْفَر منه وعيبًا تَتَعَذَّر معالجته؟!
إحسان : إن التعليم والتربية وكل وسائل التهذيب النظرية لا تحول بين النفس وهواها إذا أَلِفَتْ أمرًا أو اعتادت سبيلًا؛ فكم من كرامِ الكُتاب مَنْ تَسَمَّم جسمه بالأفيون … أو المورفين … أو الكوكايين … أو الخمر … ولم نَرَ أن قوة العلم أو وفرة الأدب منعَتْه عما أَلِفَ من المخدرات مع علمه بأضرارها، فكذلك يا أمي كل هوًى تشبعت به النفس وتسرب إليها ميكروب الاعتياد يتأصل فيها ويتعذر إقلاعها عنه، وأنا أعرف للفتى الذي أحبه شيئًا من هذا الضعف!
أسما : إذن هو من المدمنين المتسممين بالخمر أو المخدرات! معاذ الله يا ابنتي أن تكوني زوجًا لذلك الشاب.
إحسان (تضحك) : … لا تتسرعي يا والدتي؛ فإن عيب الفتى غير تلك العيوب؛ هو لا يشرب الخمر، ولا يتعاطى المخدرات، وإنما نشأ بين الفاتنات، وتقلَّب بين صنوف الهوى، وتنقَّل بين أذرع العاشقات، فهو يخلع مع كل ثوب هوًى قديمًا، ويعرف مع كل ليلة قمرًا جديدًا، ويترك في كل قلب أثرًا؛ هو يحب يا أمي كل الجميلات، وإنما غرامه لحظة، وثباته لمحة؛ فهو كالنحلة تحب الزهور الناضرة، إنما لا تقع عليها إلا لمحة فتمتص عصارتها، ثم تطلب غيرها … فغيرها … ففي هذا البيت يُمَثِّل الحبُّ السفيه في كل ليلة روايةً غرامية جديدة، وتحت هذا السقف تُزْهَق أشرف الأعراض من أجمل وأكرم الفاتنات، فيحق يا أمي بهذه الغرفة أن تُسَمَّى لَحْدَ الفضيلة (تخرج من ثوبها قطعة خشب سوداء، كُتب عليها بالحبر الأبيض «لحد الفضيلة» وتضعها على السرير، ثم تشير إلى خطاب مزخرف بالورد، ملقًى على المائدة) انظري يا أمي! هذه رسالة غرام من حسناء يدفعها الحب إلى السقوط، منعها الحياء أن تُصَرِّح بوَجْدها مشافهة، فوكَّلَتْ بذلك يدها فأودعت أسرارها في قصاصة من الورق، ويعلم الله كم كانت مضطربةً وهي ترسم بقلمها هوة سقوطها، ولكن الرعونة والهوس آتيًا كل الاتيان على قوة إرادتها … وعلى عفافها، فجازفت بكرامتها … تدفنها في هذه البؤرة بثمن حقير … بساعة أنس وتمتُّع بين ذراعي هذا الشيطان الظريف.
أسما (تُقَبِّلها بحرارة) : زادك الله عقلًا وحكمة يا بنيتي، وحماك من رعونة أولئك الطائشات.
إحسان : انظري يا أمي! هذه أربع زهرات من البنفسج أُلْصِقَتْ في ورق الغلاف، هذه زهرات أُخِذَتْ مما كانت تحمله تلك الحسناء في صدرها كل النهار، سول لها جنونُ الحب وحرارة الوجد أن هذه الزهور التي كانت قريبة من قلبها أحسَّتْ بما في ذلك القلب من نار الصبابة، فهي تنقل إلى الحبيب ما لا يستطيع قلبُها التعبير عنه بفصاحة. مسكينة هذه المرأة! فلو علمت كيف يكون حظ خطابها عند ذلك الشيطان لبترَتْ أناملها قبل أن تكتب، ولأزهقت روحها قبل أن يُزْهِق الطيشُ فضيلتها ويذهب بكرامتها وهي سكرى من القُبل الحارة … مستسلمة للذة العناق والحنو … هي ساعة من فجوة الليل … تتبدد لذتها مع وجه النهار … كما تتبدد لذة الأحلام بالرجوع إلى اليقظة، ولكن هيهات بين الحصرتين، فالحلم يأسف في ابتسام الهازي بالوهم، وأما المرأة المنكودة فتبكي بتألُّم بارح عِرْضًا ضاع … وسقطة لا رفعة معها … ولذة لم تَدُمْ ولن تتجدد … ثم تطلب السلوى والعزاء بين ذراعَيْ عاشق جديد … فآخر … فآخر … فآخر …
أسما : رباه! رباه! ما أفظع ما أسمع؟! كيف عَرَفْتِ كل هذا يا ابنتي؟
إحسان : هكذا يا أمي تسقط النساء، وهكذا يا أمي تكون نتيجة كل حب غير شريف … وكل ارتباط يغري به طلب اللذة الحمقاء … وتحدو إليه فزة العواطف الطائشة (تقول هذا وتلقي الخطاب باحتقار على المائدة).
أسما : أراك يا ابنتي في حكمةِ أرقى الحكماء عقلًا … وأصالة رأي الشيوخ، ولم أكن أعرف لك شيئًا من هذه الخبرة؛ خصوصًا في أمثال هذه الأبحاث. فكيف وصلْتِ إلى هذا الحد من حكمة الاختبار؟!
إحسان : لم يكن العالَم في زمانك يا أماه في سفهٍ وخُبْث، أهل هذا العصر … وكل يوم يجيء … يضاعف منحدر الشطط والزيغ … ويبعد عن الفضيلة والمبادئ السامية، وقد لاحظت هذا منذ وصَلْنا إلى باريز؛ لما شاهدته في هذه المدينة من أحوال الجنسين … النشيط واللطيف … في تجاذبهما بباعث الشهوة … وانحدارهما إلى بؤر السقوط الأدبي … على مزالق الدعارة … يخفي شناعتها وفظاعة السقوط حجاب كاذب من عناوين المدنية الخلابة والتحضر الكاذب.
أسما : ولكنني لم أَرَ شيئًا مما تشيرين إليه يا ابنتي، فكيف رأيتِ كل هذا ونحن لا يفارق بعضنا بعضًا خطوة واحدة.
إحسان : لقد نشأتِ يا أمي في حجاب الصونِ وسذاجة الطهر وسلامة التنبه … في حرز من خبث الغواة وتغرير البغاة … كنت بمعزل عن الشر والأشرار وراء حجابك المصون، لهذا فأنت تَمُرِّين بهذه الجماعات وأنت في طور الشيخوخة بباصرة الأجهر وأنف المزكوم، أما أنا، فإنني تنبهت لمجرد وجود التقارير بين من أعرف من أهلي وأفراد هذا المجتمع المبتذل، تنبهت مع الحذر.
أسما : نعم يا ابنتي، إن المرأة التي يتطرق إلى نفسها الظن السيئ ترى ما لا يرى العاقل، وتدرك ما لا يعني بإدراكه اللاهي المتكاسل.
إحسان : ما أصعب الدرس العملي لأول الأمر، أما الآن فإنني بفضل المقارنات المستمرة أصبحت قادرة على تحليل الألفاظ والإشارات والعبرات … وإشارات التحية … ونظرات العيون وذبولها … والابتسامات … وكل ما يبدو على الوجه والفم والعين … ماذا تفهمين من الابتسامة يا أماه؟ لقد اعتدْتِ أن تبتسمي عند انشراح النفس، أليس كذلك! ولكن ابتسامات المرأة في هذا العصر يا أماه قد تكون من ألم الغيرة … وهكذا العين خلقت للنظر، ولكنها الآن تؤدي وظيفة اللسان، فترسل نظرات للسخط أو الرضا … للهزأ أو الإجلال … للميل أو للنفور … للعتاب أو للاستبشار … للوعد أو للوعيد … للمطارحة والمجاذبة أو للمكارهة والمجانبة … وهكذا، كل حركات اليد والرأس والفم وسائر أعضاء الجسد، يستخدمها الإنسان المتمدْيِن للغواية … للعبث بعقل وقلب المرأة!
أسما : لقد ملأتِ قلبي ذعرًا يا ابنتي لأول دخولنا هذا المنزل، أما الآن وأنت عالمة كل العلم بمواطن النقص الأدبي من أحوال الناس … ومن النظر إلى الأمور بعين التمحيص والنقد، فقد صرت في طمأنينة عليك، ولكن يدهشني أن الزمن الذي قضيناه في باريز لم يكن كافيًا لبلوغك هذا الحد من الفهم والإدراك.
إحسان : صدقت يا أماه، لم يكن الزمن كافيًا للتعليم الدقيق، فإن هذه العمليات المنطقية من أسمى ما يبلغ إليه العقل البشري عند تمام نضجه بالتعليم وكماله بالتمرين العملي، ولكن الصدفة خدمتني … أوجدت في نفسي هذا الحب … ثم الغيرة … وهما قوتان لا يُستهان بهما، ألا تذكرين يا أماه شيئًا من جرائم النساء بباعث الغيرة والحب؟!
أسما : أذكر كثيرًا يا ابنتي، فإن الغيرة إذا تسرَّبَتْ إلى نفس المرأة دفعَتْها إلى عمل المدهشات … وحتى إلى ارتكاب الجرائم (إحسان تفتح درج مكتب، وتخرج منه عدة صور فوتوغرافية، ثم تأخذ تتفرس فيها واحدة واحدة).
إحسان : لقد صدقَتْ كل ظنوني، ووجود هذه الصور في الدرج جاء آخر دليل على صدق نظري وصحة استنتاجي
أسما : وما شأن هذه الصور يا ابنتي!
إحسان (تضحك) : هذه صور فاتنات باريز، ونخبة من كرام العقيلات؛ سقطن جميعًا في شراك الهوى، وساقهن السفه إلى هذه البؤرة واحدة بعد الأخرى، فبقي فيها ظلهن كما ترين، فما من واحدة من هؤلاء إلا وَلَهَا في الهيئة الاجتماعية لقب ضخم وجاه وعظمة، وما منهن إلا من ظَنَّتْ أنها امتلكت عنان ذلك الشيطان بفتنة حسنها وندرة جمالها … وبما امتازت به من الكياسة والظرف، والحال أنها في ضلال الغرور … وسفه الغرام الأحول، كل هؤلاء عَرَفْتُ أسرارهن، كل واحدة بدورها من بدء قصة الغرام إلى آخر صفحة منها، وكُلَّمَا رأيت انكماش العاشقة بعد اندفاعها، وكآبتها بعد انشراحها، وكلما توهمْتُ دمعة الحسرة والأسف ترقرق بين جفنيها لأوَّلِ تنبُّهِها بعد الكبوة؛ كُلَّمَا تيقنْتُ أن المأساة في فصلها الأخير، وأن تلك الدمعة مثال ما يضعه الكاتب في ختام القصة.
أسما : وهل أحب الفتى كل هؤلاء؟! وهل وسع قلبه كل هذه الصور؟
إحسان : وسعها يا أمي كما وسعها هذا الدرج. انظري! هذه صورة كونتس … وهذه دوقة … وهذه بارونة … وهذه راقصة … وهذه عاملة في محل تجاري … وهذه برنسيس … وهذه مغنية … حشرهن جميعًا في درج واحد، بدون عناية وبدون تمييز بينهن، مع اختلافهن في المراتب الاجتماعية.
أسما : ربما فعل ذلك بسبب الاستخفاف أو الإهمال.
إحسان : إن صاحبات الصور متفاوتات في درجات الحسن ومظاهر العظمة؛ شأن كل طبقات الهيئة الاجتماعية، فمنهن الماركيزة … والبارونة … والأميرة … واللادي والكونتس … وبينهن الأرملة … والمتزوجة … والآنسة … والمغنية … والممثلة … ولكن الفتى لم يحفل بمراتب الاجتماع المزيفة، وزجَّهُن جميعًا في لحد واحد، هل تعرفين لماذا؟
أسما : لا يا ابنتي!
إحسان : لأنهن تساويْنَ جميعًا في عمل واحد؛ هو السقوط الأدبي وفقدان العفة والكرامة.
أسما (تُقَبِّلها) : ليت أولئك النسوة يسمعن ما ترسلين من آيات الحكمة يا بنية؛ إذن لكفَّرْن عن الخطيئة والسقوط بالأسف الطويل، والتوبة مع الرغبة في النهوض.
إحسان : هل تظنين هذا ممكنًا يا أمي، إن الحجر الذي يسقط من قمة الجبل لا بد أن يهوي في سقوطه على المنحدر حتى يبلغ آخر الأعماق … فكذلك الإنسان … إذا زلقت نفسه واختل مركز توازنه الأدبي بضياع العفة والاعتصام بالطهر، فإنه لا يزال في انحداره حتى يبلغ أبعد درجات السقوط، فالمخمور تحلو له الخمر وهو يبتسم لها ويفقد إنسانيته، والباغي ينساق مع هوى النفس الساقطة حتى يبلغ أسفل الدرجات.
أسما : ولكن الضمير يتنبه فيبعث على الندم.
إحسان : إنَّ تنبُّه الوجدان بعد الكبوة الأولى يبعث حقيقة إلى الندم ويفيض دموع الأسف والتحسر، ولكنه تنبُّه شبيه بتنبُّه الميت قبل الاحتضار، فإنه نشاط تعقبه ضجعة الموت التام والسكون الأبدي، فكذلك تبكيت ضمير المرأة الساقطة … لا يطول أمره … يزول سريعًا بإغراء شيطان الفُجر … تطلب المرأة الغواء في ذهول الغرام الكاذب ونشاط الشهوة العمياء.
أسما : صدقتِ … صدقت يا ابنتي، ولكن من أين لك كل هذه الأفكار الناضجة السامية.
إحسان (تتناول وردة من الأرض) : هذه الوردة كانت يانعة في الصباح، ناضرة على غصنها قبل أن تُقْطَف، فكانت محاسنها واتساق شكلها بواعثَ أغرت الفتى لقطفها، كانت لهذه الزهرة قيمة في نظره ومعزة في نفسه، فلما تمتَّعَ بها قاطِفُها وملَكَتْها يده زالت تلك القيمة وطُرِحَت الوردة في مواطئ النعال، فهكذا يا أمي شكل المرأة الحسناء في نظر العاشق الفاسق … تزول قيمتها من نظره بعد البلوغ إليها … والتمتع بها (تخرج خطابًا من جيبها وتعطيه لأمها) اقرئي يا أماه هذا الخطاب، هو أول رسائلي إلى هذا الشيطان (تأخذ الأم الخطاب وتقرأه بينما تقوم إحسان بوضع اللوحة المكتوب عليها لحْد الفضيلة إلى جانب السرير).
أسما : ما دام الشاب غير ثابت على حبٍّ واحد، وغير حريص على مودَّةِ من تشتري حبه بعِرْضها وكرامتها، وتضحي من أجله الشرف وعزة النفس، فإنه غير حقيقٍ بالعناية به ولا الالتفات إليه.
إحسان : هذا صحيح يا أمي، لو كان الفتى يحب المرأة ثم يتحول عنها، ولكني واثقة من أن قلبه لم يخفق إلى هذه اللحظة بعاطفةِ حبٍّ صحيح، وهو يحتقر المرأة التي تسقط، فكيف تريدين منه أن يحفظ عهدها مع تحقُّقه من خيانتها.
أسما : صدقْتِ، ولكني إلى الآن لم أعرف اسم ذلك الشيطان الذي عبث بقلبك وأزعج راحة بالك؟!
إحسان : هو أعز الناس لديك يا أمي، هو مُعلمي حافظ!
أسما (تضرب صدرها بيدها) : تَصِفِين حافظ الوديع الساكن بكل ما نسبت إليه من الطيش والانهماك على اللذات؟! ألا تكونين ظالمة يا ابنتي؟!
إحسان (تضحك) : إن الوداعة والظرف … وعذوبة اللفظ … والكلمات الرقيقة … والمعاني السامية … هي الوسائل الفعالة في سحر العقول وجذب القلوب.
أسما : إذن أنا التي عرضتكِ لأعظم الأخطار باختيار الفتى لتعليمك، آه يا ابنتي! لقد خلعْتِ قلبي من صدري.
إحسان : معاذ الله أن أتهمه بفرية يا أمي، إنه يراني بعين الاستخفاف … ويعاملني معاملة طفلة … فسحق قلبي ونال من كبريائي، فأضمرْتُ له حربًا ضروسًا تطرحه عند قدمي ذليلًا باكيًا في قلبه أحر نيران الوجد، وفي نفسه أبرح آلام الحب واليأس.
أسما : إذن تريدين غوايته؟!
إحسان : سأحاول فتنته والعبث بعقله وعواطفه، عبثًا يشفيه ويجعله يحس الآلام التي أَوْجَدَها بقسوته في قلب كل امرأة عرَفَتْه، سأنتقم لبنات جنسي بقهر السلطان الجائر، سأجعل صدره موقد العواطف المتأججة … والآلام المتعاظمة … لا تُفرج عنها الزفرات … ولا تُلطفها العبرات (تأخذ الخطاب من أمها، فتضعه في الغلاف، وتضعه في كتاب، ثم تضع الكتاب في مكانه. ثم تسمع دق جرس الباب).
إحسان : تعالي، تعالي يا والدتي بسرعة، فقد جاء الشيطان (تأخذها وتخرج).

(يدخل حافظ شاب متفرنج، فيلقي القبعة ويخلع جاكيته، ويعمل تواليت، ويجلس للمطالعة فيجد الجواب الأول.)

حافظ : ما شاء الله! خطاب حمله البريد إليَّ … غرام ليلة … امرأة تريد أن تسقط … (يلقيه على المائدة) لا تتعجلي، غدًا أطالع رسالتك؛ فإنني منهوك القوى في هذه الليلة، وقد سئمت النساء (يجلس ويأخذ الرواية للمطالعة فيقع الخطاب) ما هذا؟ (يتناول الخطاب من الأرض) خطاب بعنواني، هذا كتاب لم يحمله البريد! كيف وصل إلى هنا؟! كيف وُضع في الكتاب الذي أطالعه قبل النوم؟! طبعًا أَدْخَلَهُ خادمي، ويل لهذا الأحمق، كيف استطاع أن يؤدي هذه الخدمة مع أني منعْتُه من ذلك! (يدق الجرس بعنف … يدخل الخادم)(بغضب) كيف وصل هذا الخطاب إلى غرفتي؟! وكيف وُضِعَ في كتابي؟!
الخادم : لا أدري يا سيدي!
حافظ (يقبض عليه بفظاعة) : لا أدري يا سيدي؟ ومن يدري إذن؟ أنا! (يدفعه بقسوة) قل … تكلم … من الذي جاء بهذا الخطاب … تكلم … تكلم … اعتَرِفْ أيها الشيطان، ألم أمنعْك من أمثال هذه الخدمات الصبيانية … تكلم أو أقتلك، من جاءك بهذا الخطاب؟
الخادم : سيدي … عنقي … دعني … أكاد أموت.
حافظ : الخطاب من جاء به؟ لماذا وضعْتَه في كتابي؟
الخادم : سيدي … صدقني … أنا لم أَرَهُ ولم أَضَعْهُ (يفلت من يده فيجري ويقع حافظ وراءه حتى يخرج من الباب ثم يعود غاضبًا).
حافظ : الويل لهذا الشيطان، سأطرده من بيتي شر طردة، أنا لا أريد أن يتدخل الخادم في شئوني … أبدًا … أبدًا … مَنْ هي صاحبة هذا الخطاب … أغوت خادمي … أغرته على وضْع الخطاب في كتابي … سأنتقم منها … سأهمل هذا الكتاب ولا أطالعه أبدًا (يلقيه تحت قدميه).
الخادم (يطل برأسه من الباب) : صدقني يا سيدي أنني لم …
حافظ (يجري وراءه) : اذهب من أمامي أيها الأحمق الكذاب (ثم يخلع ثيابه) ولكن … لماذا لا أطالع الخطاب وأعرف كاتبته لأسحق قلبها فأنتقم منها على هذه القِحَة (يأخذ الخطاب ويفتحه ويبحث عن الإمضاء) ولكن الخطاب بغير إمضاء (يقرأ الخطاب ويضحك) هذه مداعبة فظيعة، هل تظنين أيتها الحمقاء أن إنكار الإمضاء يخفيكِ عني؟! أنت ساذجة، أنت بلهاء، عواطفك المتفزِّزة دفعَتْك إلى الكتابة وإلى الاتفاق مع خادمي، وتلك العواطف هي التي تفضح الأمر، وتجيء بك ذليلة متلمسة إلى هذه الغرفة … إلى هذا السرير (يشير إلى السرير فيجد اللوحة) لحد الفضيلة … ما هذه القِحَة … ما هذه الجرأة … تُهِينُني في مكاني … في بيتي … في غرفتي … تبًّا لتلك المرأة … ويل لهذا الخادم (يدق الجرس فيدخل الخادم) أنت لا تدري من وضَعَ الخطاب في كتابي؟ وهذه اللوحة من وضعها على سريري؟
الخادم : أي لوحة يا سيدي؟
حافظ : هذه يا نسْلَ الشيطان … يا ابن الأبالسة … هذه … هذه … هذه (يضربه بها) ألا تراها هذه … هذه … هذه!
(ستار)

الفصل الأول

المنظر الأول

(غرفة في منزل إحسان … والوقت عصر)
خالد : يجب أن تُذْعِن لإرادتي … يتحتم عليها أن تطيعني … أن تعمل بمشيئتي.
أسما : سيدي البيه يعلم أنها عصبية المزاج، وأنها متعلمة تعليمًا راقيًا لم تصل إليه فتاة مصرية، تربَّتْ في الأستانة وتعلمت في باريس، فمثلها لا تُكْرَه على قبول زوج يختاره لها أهلها.
خالد : وهل التربية والتعليم يمنعان الابنة من إطاعة والدها؟ … ما أحسن ما تَصِفِين به العلم والتربية!
أسما : ربما لم أُحْسِن التعبير عن غرضي، أردت أن أقول: إن الفتاة المتعلمة لا تُكْرَه إكراهًا على الإذعان، تذعن بسهولة إذا اقتنعت بفائدة ما يُطْلَب منها وبلزومه.
خالد : كأنك تُشَجِّعين إحسان على رَفْضها التزوج برمزي بك.
أسما : أبدًا، أنا لا أشجعها، ولا أخاطبها بمثل هذه اللهجة، إنما اختصصتك بها حتى لا تعمد إلى الوسائل القهرية كما فعلْتَ أمس؛ فإن الإكراه يثير نفسها ثورة حمقٍ وتعنُّت فترفض بتاتًا وتعانِدْ.
خالد : أسحق رأسها بقدمي إذا لم تذعن.
أسما : إن سحْق رأسها بقدمك لا يتمم الزواج؛ بل يمنعه، وأنت في أشد حالات الارتباك، وبحاجة ماسة إلى المال.
خالد : لهذا أريد أن أُتَمِّم الزواج … أريد أن يتم العقد وأقبض المال الذي وعدني به رمزي بك … أريد أن أسدد بعض الديون … وأمنع تردُّد المُدَايِنِين على بيتي … أريد أن أحفظ كرامتي في نظر الناس.
أسما : أنا واثقة من أنك لم تجد وسيلة للحصول على المال إلا اتفاقك مع رمزي بك على إعطائه ابنتك، وإحسان لا تحب رمزي ولا تعرفه، وأنت تتعجل وتريد إكراهها على القبول، ففطنت إلى غرضك وعَرَفَتْ أنك تبيعها بالمال لذئب من ذئاب البشرية، دَعْكَ من وسائل الإكراه، وعد إلى الملاينة، أَقْنِع ابنتك تُذعن لإرادتك.
خالد : لم يعد لنا من متاع غير هذا البيت، وهو مرهون أكثر من مرة، وإذا لم ينقذني رمزي بك من المُدَايِنِين انتزَعوه منا وألقَوْنا في الشارع.
أسما : أنا لا أجهل ظروفك المحرجة … ولهذا أُلحُّ عليك بملاينة إحسان … بدلًا من إكراهها وقهرها (يدخل الخادم).
الخادم : حضر يا سيدي المَعلم حسنين الجزار … وكاتب المخبز … وحضر البقال.
خالد : قل لهم إنني غائب في العزبة.
الخادم : قلت ذلك لفريق منهم فذهبوا، ولكن البقال سمع صوتك وهو يُلِحُّ في طلب مقابلتك.
خالد : قل له يعود إليَّ غدًا فإنني مريض اليوم.
الخادم : سَمِعُوا هذه الأعذار مئات من المرات، وعَرَفوا أنها غير صحيحة، فهي لا تقنعهم ولا ترضيهم.
خالد : اصرف الرجل الآن بما شئت من الوسائل.
الخادم : والله يا سيدي أنا غلبت في توزيع الناس، وكل ما وزع واحد يجي بدله أربعة.
خالد : لكل شيء آخر، وسأدفع قريبًا كل ما عليَّ من الديون.
الخادم : ربنا يسمع منك، لأن المُدَاينِين ما يعرفوش حد غيري، سعادتك بتهرب وتسيبني لهم ياكلوا في وشي ويسمعوني كلام زي السم.
خالد : ربنا يخلصنا منهم يا حسن.
الخادم (وهو خارج) : آمين يا بيه.
خالد : هل رأيتِ يا أسما ما وصلت إليه الحال؟
أسما : رأيتُ يا عزيزي، ولكن هذا خطؤك وحدك؛ لأنني منعتك عن المقامرة فلم تُصْغِ إليَّ … وعن الإسراف فلم تحفل بقولي … لقد بعت كل شيء، وها أنت تبيع آخر ما تظنه ملكًا لك … تبيع ابنتك.
خالد : أنا لا أبيعها، وإنما أُزَوِّجها من رجل غني وجيه متعلم.
أسما : أنت تُرْغِمها على قبول الزواج للحصول على المال، ترغمها على معاشرة رجل لا تحبه ولا تعرفه، وتسمع عنه أنه مبذر … سفيه … مدمن على الخمر … لا يفارق غُرف المقامرة … ولا بيوت الفساد.
خالد : ألا تريد تلك الشريرة أن تنقذني من هذه المآزق المحرجة؟ ألا تريد أن تُضَحِّيَ شيئًا من أجل أبيها؟ أنا واثق من أن رمزي بك يحبها إلى حد الجنون، فإذا صارت زوجًا له تستطيع أن تتحكم في قلبه وفي ماله.
أسما : رمزي بك يحبها حقيقة، وإنما حب الرجل الفاسق للصَّبِية الحسناء، اندفاع الرغبة القوية بباعث الاشتهاء وحب التمتع حب لا يدوم إلا لمحة … حب يتلاشى بعد الفزة البهيمية الأولى.
خالد : إن خراب بيتنا متوقف على رَفْض هذا الزواج.
أسما : هذا صحيح، ولكنك تنظر إلى مصلحتك المفردة، وتضحي في سبيلها سعادة ابنتك وهناءها، تلقيها بين ذراعي فاسق فاسد الأخلاق … وارث ثروة … يبددها إسرافًا وسفهًا في كل موارد الفسق والفساد.
خالد : أنت واهمة يا عزيزتي، والوهم يَبْعُد بك في المغالاة ومضاعفة وجوه السوء.
أسما : إحسان في منزلة ابنتي، ولوالدتها المرحومة أفضال عليَّ … وعلى بيتي … فمن المروءة ألا أغفل عن تنبيهك إلى وجوه الخطأ فيما أنت عازم عليه … أشير عليك … ثم أترك لك حرية العمل.
خالد : أنا واثق من إخلاصك يا عزيزتي أسما.
أسما : وهذا الذي يشجعني على مصادمة أفكارك؛ لأنك لا تنسب عملي لغاية ولا لغرض.
خالد : معاذ الله أن يتطرق إليَّ هذا الظن.
أسما : فاحذر إذن نتيجة ما أنت قاطع بإتمامه، وأؤكد لك أن إحسان لن ترضى به زوجًا مهما كانت الظروف والأحوال، ومهما أغضَبَكَ امتناعها ورفضها.
خالد : يجب أن ترجع عن هذا الرفض وإلا أثارت غضبي، وأرغمتني على القسوة والإرهاق.
أسما : احذر يا خالد بك أن تمد يدك إليها بغلظة؛ فإن إحسان تدافع عن مستقبلها بحكمة وجرأة، وقد استدْعَتْ إليها رمزي بك أمس لتباحثه في هذا الأمر.
خالد : رمزي بك شاب ظريف، وأنا الذي أكرهتها على مقابلته، عسى أن يؤثِّر في نفسها جمال الشاب وكياسته، فعهدي به عظيم التأثير في النساء؛ ينتصر بسرعة وفوزه محقق.
أسما : لرمزي بك مجال محدود، فتأثيره في بيئات الفساد على ساقطات مبتذلات راجع إلى تماثُل في الأخلاق، وإلى إسرافه المشهور عنه، فلا تتوهَّمْ له مثل هذا الفوز مع فتاة حكيمة رشيدة كإحسان.
خالد : أؤكد لك أنه سيفوز عليها ويجذب قلبها إليه.
أسما : وأنا أؤكد لك أنه أخفق، وأنها ملأت نفسه يأسًا وأقصَتْه حتى لا يعود.
خالد : يا للشقية! هذا الذي منع رمزي بك من إرسال النقود إليَّ في هذا اليوم، يا لتلك الجرأة والقحة! ستدفع إحسان ثمن هذه المنغصات (يدق الجرس فيدخل الخادم).
خالد : عليَّ بإحسان (يخرج الخادم).
أسما : أنا لا أسمح لك أبدًا بالاعتداء على هذه الفتاة، إنها ملاك يا خالد بك، وأنت في حال من الجنون لا تعرف معها ما الذي تعمل.
خالد : إن ملائكة السماء وشياطين الأرض لا يُنْجُونها من العقاب، سترضخ طوعًا أو كرهًا لمشيئتي، ستذعن لإرادتي، ستكون زوجة لرمزي بك رَضِيَتْ أم لم تَرْضَ (تدخل إحسان بعد أن سمعت العبارة الأخيرة).
إحسان : أبدًا يا والدي، خير لي أن أكون عاملة تربح خبزها بالكد والجهد من أن أكون زوجًا لفاسق مقامر.
خالد : برغم أنفك ستكونين.
إحسان : مهما كنت قاسيًا يا والدي … ومهما كنت مستبدًّا … ومهما كانت أحوالك سيئة … فإن لك إنسانية الآدمي ورحمة الوالدين، فإذا ركعت عند قدميك بتذلل واسترحام أتوسل إليك ألا تلقيني في بؤرة ذلك الذئب فإنك ترحمني ولا تفعل.
خالد : ماذا قلت لرمزي بك؟
إحسان : قلت له إنني لا أحبه، قلت له إن صفاته لا ترضيني، وإن ماله لا يغويني.
خالد : أُرْغِمُك على قبول هذا الزواج.
إحسان : أتوسل إليكَ ألا تفعل، لا تهدم أماني في المستقبل، لا تهدم سعادتي وهنائي، واتق الله في ضعفي فإنك والدي.
خالد : في هذه الليلة سيَعْقِد عليك رمزي بك، لا جدال ولا مناقشة، هذه إرادتي وكفى.
إحسان : ترغمني يا والدي على العصيان، لا تدفعني إلى العقوق، لقد بلغت رشدي، وأمري في يدي.
خالد : بَلَغَتْ بك القِحَة إلى هذا الحد أيتها الشريرة الحمقاء … تغالبي إرادتي … تمنعين مشيئتي … ويل لك أيتها الشقية (يرفع عصاه ويجري وراءها).

المنظر الثاني

(الوقت نهار … منزل)
بكر : لا تلمني يا صديقي على هذا الضعف؛ فالحب قوة دونها كل قُوَى الإنسان حتى الحازم الجلود.
خليل : كلمات عقيمة، تقال للدفاع عن نفس ناكبة فارغة.
بكر : بل حقيقة يحسها كل الناس، تدركها العقول الرشيدة، إنما يُنْكِرها من لم يجرب الحب، ومن يتصدى للإرشاد اعتباطًا.
خليل : العقل الحكيم! ماذا تدلي إليَّ حكمة العقل؟ هل تقول بأن سلطان العقل مسيطر على العواطف؟ هل تدَّعِي أن قوة الإرادة تدفع قوة الحب وتصادم تأثير الغرام في القلب؟ نظرية قديمة طال فيها البحث والجدل، ولا قيمة للنظريات حيال الواقع المُحس الملموس.
بكر : من الذي يُنْكِر أن العواطف هي القوة المفردة ذات النفوذ على العقل والإرادة؟ قوة الإرادة يا عزيزي واحدة من قوي النفس؛ فإذا كانت هذه خاضعة لقوة الحب الغاشمة فجزئياتها — ومنها العقل والإرادة — خاضعة ضمنًا، وبطبيعة الحال لا يكون لها حولٌ ولا نفوذٌ، والمرء بغير عقله وإرادته ضعيف مذعن للقوة ذات السلطان المهيمنة على كل مشاعره ووجدانه.
خليل : ما شاء الله! فلسفة … اسمع يا شيخ بكر، أنا لا فيلسوف أناقشك … ولا عالم أخلاقي أباحثك، ماشي على المثل البلدي: على أَدِّ لحافك مِدِّ رجليك، فأنا على أَدِّ عقلي أفهم، أنا بأقول لك: الرجل الذي يضعف للحب رجل ضعيف الإرادة … طائش أرعن … منحوس الطالع.
بكر : وهل تظن الحب عارًا على الرجل.
خليل : مجرد الحب ليس هو العار، وإنما العار ما يغري به الحب … ما يسوق إليه … العار ذلات الرجل في سبيل الحب، وباعث تأثيره في نفس المرء وأطاشئها.
بكر : إذن أنت لا تُنْكر الحب، وإنما تُنْكر على المحبِّين نزعات الطيش والزلل بباعث الحب. الحمد لله، لقد كِدْتُ أن أربح الدعوى منك.
خليل : تربح الدعوى مني؟! عشمك عشم إبليس في الجنة.
بكر : ولِمَ يا أخي.
خليل : لأنك في هذه اللحظة ستسخط على الحب … وعلى المحبين … وتقلع عن حبك … وتلعن الحب والحبيب … وتهدم كل ما بنيت من نظريات الحب … وتنظر إلى المرأة نظرك إلى العقرب … والحَوَّى الأفعى.
بكر : لِمَ أفعل كل هذا يا عزيزي؟ أنا راضٍ بحالي … قانع به … متلذذ بالحب، فإن آلامه أشهى وأطيب على نفسي من هنائه ونعيمه.
خليل : وهل تثبت على هذا الرأي ولا تتحول عنه.
بكر : نعم.
خليل : مهما حدث.
بكر : نعم، مهما حدث.
خليل : أنت مخطئ، انظر! هذه ورقة صغيرة، فيها طلسم عجيب، إذا قرأته انتزع الحبَّ من قلبك، وبغَّضَكَ فيمن تحب كل البغض.
بكر (يضحك) : يا لك من أبله! هل أنت ممن يؤمنون بالطلاسم والسحر وخرافات المخرفين؟! ما شاء الله.
خليل : قالوا: الجَمل طلع النخلة … قال آدي الجَمل وآدي النخلة. خذ هذه الورقة واقرأ ما فيها من الطلاسم، فإذا لم تؤثِّر فيك وتنتزِع الحبَّ من قلبك وتبدل كل أحوالك في هذه الدقيقة أكون رجلًا أبله كذَّابًا … سخيف العقل … خذ … خذ يا عزيزي … جرب فربما تؤمن (يعطيه الورقة … يأخذها بكر بتهكم).
بكر : بعد التعليم العالي … وبعد الدرس والتجاريب … لا زلْتَ تؤمن بالخرافة!
خليل : يا سيدي اقرأ وكَذِّبْني.
بكر (يفتح الورقة ويقرأ) : «رمزي بك المحترم، رأيت أن أقابلك للبحث في موضوع زواجنا بعد أن أذن أبي بهذه المقابلة، لهذا أنتظرك في منزلي في الساعة الرابعة بعد ظهر الغد، وتقَبَّل يا سيدي الاحترام … إحسان» … ماذا قرأت! رباه … هذا خطها … هذا توقيعها … هذا تاريخ أمس … من هو رمزي الذي تكتب إليه إحسان؟ إحسان … إحسان حبيبتي تكتب إلى رجل آخر؟! إحسان خطيبتي تباحث خطيبًا جديدًا في أمر الزواج؟! إحسان أملي في الحياة … نصيبي من نعيم العالم … إحسان حبيبتي روحي وقوَّتي واغتباطي ولذتي … تكتب لرجل تباحثه في أمر الزواج؟! رباه ماذا قرأت؟! ماذا رأيت؟! دليلًا على عدم الوفاء … برهانًا على الخيانة … آه ما أشد آلامي! (يرتمي على المقعد) لا، أنا لا أريد أن أصدق. لا … ابدًا … حاشا للملاك أن يكون شيطانًا … حاشا لتلك الروح السامية والأخلاق الوديعة أن تكون إلا أفعى قاتلة بخيانتها (يلقي الورقة) سحقًا ليدٍ كَتَبَتْكِ … لقلم زوَّرَ هذه السطور … حاشاك يا إحسان أن تكوني صاحبة هذا التوقيع … ولكن لا … هذا خطها لا ريبة ولا شك … ورقة وصلت ليدي … أم صاعقة قَذَفَتْها عليَّ السماء … رباه … قصاصة من الورق … قطرة من الحبر … سطور سوداء تنتزع قلبي من صدري انتزاع الحرير من الشوك … ما أضعف المرء حيال الطوارئ! ما أظلم النفس باطمئنانها للهناء! ما أتعس الرجل باستسلامه بعواطفه وسكونه لمظاهر الحسناء! خدعتني إحسان … سلبت قلبي … عبثت بعقلي … أضاعت رشادي … أضعفت قوتي … أوهنت جَلَدي (يقول لقلبه) لا تختلج أيها الخفاق النزق … أيها الأعمى المغرور … كفاك خفقانًا بين جوانحي … كفاك اضطرابًا وجزعًا وإلا انتزعْتُك من صدري بيدي وطرحتك للكلاب.
خليل : لو كنْتُ أثق يا أخي بالمرأة … لو كنت أومن بوفائها وثباتها … ما نغَّصَتْ عليك هناءك الوهمي واغتباطك بعزة النفس وانتعاشها بالحب.
بكر : لقد صدمتني صدمة! زعزعت قوتي يا خليل، وخلعت قلبي خلعًا عنيفًا.
خليل : مِن هذا كنت أخشى، إلا أنني لم أُحْجِم عن ردك عن شطط، ما دام البرهان المقنع قد وصل إلي.
بكر : وكيف وصل هذا الكتاب ليدك؟
خليل : رمزي بك رجل من معارفي ولي دلال عليه، قابلته اليوم في حديقة الأزبكية جالسًا يطالع الصحيفة الأخيرة من رواية، ولشدة إعجابه بها أهداها إليَّ لأطالعها، وبعد رجوعي إلى البيت بدأت المطالعة، ولسوء حظك … أو لحسن حظك … وجدت هذه الورقة في الكتاب، فعرفت خط إحسان ودُهِشْتُ لأول الأمر.
بكر : ربما كان الخط لغيرها، وربما كان الإمضاء لإحسان غير التي أحبها.
خليل : كان هذا أول خاطر لي يا أخي؛ خصوصًا وأن الفتاة تربَّتْ تربية عالية، وتهذبت تهذيبًا صحيحًا، وتعلمت علمًا راقيًا، فكان من الصعب عليَّ جدًّا … أن أصدق أنها غير وفية … بعد التضحيات التي ضحتها من أجلك … وبعد كل ما كتبت إليك.
بكر : وما الذي جعلك تعدل عن الشك وتتحول إلى التصديق.
خليل : لم أحتمل أبدًا البقاء على الشك، وأردت معرفة الحقيقة؛ خصوصًا وأنني أجهل أن رمزي يعرف إحسان، فقصدت شبرًا وانتظرت قريبًا، إلى أن دنا الموعد المحدد في الخطاب، فرأيت رمزي بك بعيني يدخل بيتها متهللًا فرحًا.
بكر : آه ما أقساك يا خليل! إنك ترسل إلى قلبي الطعنة أثر الطعنة … تمزق صدري … وتأتي على صبري … آه … آه.
خليل : عهدي بك رجلًا يا صديقي، وليست هذه الصدمة أول الصدمات، ولا آخر المزعجات، الألم يتلطف بمرور الأيام حتى يزول، وحبٌّ تردُّك عنه خيانة المرأة يندثر ويزول.
بكر : هل رأيت الرجل بعينيك؟
خليل : نعم بعيني، على خطوات مني.
بكر : ربما خَدَعَكَ النظر يا خليل.
خليل : ربما تُحَاوِل أن تتظاهر بالغباوة لضعف إرادتك وقلة نخوتك، قلت لك هذا خطها، ورمزي صديقي رأيتُه في الموعد يدخل بيتها، هذا ما رأيتُ وعرفتُ، حملتْنِي الصداقة على إطلاعك عليه؛ حتى لا تبقى مخدوعًا، فتصرَّفْ بَعْدَ هذا كيف شئتَ، وافعل ما توحيه إليك رجولتك (يخرج).
بكر : أليس بينهن وفيَّة؟! علم وتأديب تربية وتهذيب. تَحَوَّلَ الشيطانُ لطُهْر الملائكة وبراءتهم! فكيف لم تُمنع إحسان عن عمل الشياطين؟! لماذا أغرتني … لماذا أغوتني … عاهدتني … فلِمَ خانتني … أحيت نفسي بالأمل … قتلتها باليأس … المرأة … المرأة … ملاك إذا أخلصت … وأنى لها الوفاء والإخلاص … بنانها الناعم أخشن من أصبع الشيطان وأقوى من اليأس، وعينها الذابلة أحدُّ من السيف وأفتك من السحر … الشمس ترسل شعاعها النير لكل ذي بصيرة، والحسناء تبتسم لكل رجل حفاز، تخلع مع كل حذاءٍ هوًى قديمًا، وتلبس مع كل ثوب حبًّا جديدًا، آه من المرأة! خدعتني تلك الساذجة … قتلتني تلك الضعيفة، يا لقلبي من الألم! (يرتمي على مقعد يبكي … تدخل إحسان).
إحسان : أسعد الله مساءك أيها العزيز. لماذا لا تجيبني يا حافظ؟ أنائم أنت؟!
بكر : من أسمع؟! من أرى؟! رباه الآن!
إحسان : تنام مبكرًا هكذا قبل الغروب؟! يا لك من كسلان! ألا تسرع إليَّ لتقبلني؟
بكر : أقبلك؟
إحسان : ما لك يا حبيبي! أراك مضطربًا، أراك في غير حالك المألوفة!
بكر : صدَقْتِ، ألمي أعظم وأقوى من أن يخفِيَه التصبر.
إحسان : ماذا ألمَّ بك، مِمَّ تتألم؟
بكر : بي ألم بارح هنا موضعه (يشير إلى قلبه).
إحسان : عافاك الله من كل ألم يا حبيبي، ليته في قلبي أنا (تجلس إلى جانبه وتجذبه إليها).
بكر (يدفعها عنه) : لا تضاعفي الألم، دعيني. ما الذي جاء بك الآن؟
إحسان : جاءت بي فزة الشوق … والحنين لمرآك … انبعاث الروح إليك.
بكر : انبعاث الروح إليَّ؟! ما أكثر انبعاث المرأة لصور الرجال، عني أيتها الخائنة، عني أيها الشيطان.
إحسان : عنك … خائنة … شيطان … لإحسان تُوَجِّه هذه العبارات؟! رباه ماذا أصابك؟! (تقترب منه فيدفعها بضعف).
بكر : عني أيها الرجس، عني أيتها الأفعى، لا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين.
إحسان : أنا الرجس؟ أنا الأفعى يا حافظ؟ رباه ماذا أسمع؟! أنا يقذفني حبيبي بهذه السهام؟ أنا لا أصدق أن حافظًا يتعمدني بهذه المؤلمات، لا يمكن أن يلفظ هذه الألفاظ وهو في رشده وصوابه، ماذا أصابه؟ حافظ حبيبي، ماذا بك؟!
بكر : رشاش من سفالة … أثر من خيانة … عبث من ماكرة … إليك عني يا خائنة (يدفعها حتى يخرجها من الباب) رباه تقتحم غرفتي … تتمثل أمامي … يا لجرأة المرأة! يا لتلك الوقاحة!
إحسان (ترتمي عليه) : حافظ حبيبي … روحي … أملي في الحياة … ماذا أصابك؟! هل جُنِنْتَ؟! لا يمكن إلا أن تكون جُنِنْتَ، أنا إحسان حبيبتك يا حافظ، انظر إليَّ … ألا تعرفني؟! ألا تتذكرني؟!
بكر : إحسان … إحسان … تلك التي كانت في وداعة الملائكة وطهر الأبرار … إحسان الحبيبة الوفية … إحسان التي سلبت عقلي بحسنها … وقلبي بلطفها … واحتلت سويداء فؤادي بآدابها … أنت إحسان؟ معاذ الله! أنت الشيطان.
إحسان : حبيبي حافظ، ألا ترى أنك لا زلت تذكر إحسان؟ أنا هي يا حبيبي، انظر إليَّ … دع بصرك يقع على وجهي … دع يدك تلمس قلبي … انظر إليَّ … أنا هي إحسان … رباه هل جُنَّ حبيبي؟!
بكر : لا … لا … إنما ارتفع الحجاب عن ريائك … ظهر الدليل على عدم وفائك … قام البرهان على خيانتك … فطردًا أطردك من هذا البيت.
إحسان : قام البرهان على خيانتي؟! أنا يا حافظ؟! في ذمة الله حبي … وما قاسيت من أجلك … في ذمة الله إخلاصي … وما عانيت بسببك (ترتمي وتبكي).
بكر : دموع كاذبة … إيمانُ سفيهة … مظاهر خداعة … ليست لها قوة حيال الحق الواضح (يأخذ الخطاب من الأرض) خذي اقرئي ما كتبَتْ يدك الأثيمة إلى عاشقك الجديد، أيُّنا الخطيب؟ أيُّنا الحبيب؟ ذاك الذي دعي لموعد في بيتك؟! أم أنا الذي تجيئين إلى بيتي؟ هذه اليد كتبتْ هذا الخطاب … ضربتْ ذلك الموعد … صافحتْ ذلك المعشوق، هذه اليد نزعتْ من قلبي الهوى … ومن صدري الرحمة ببني الإنسان، من هذه اليد أنتزع خاتمي — خاتم الخطوبة — لن يبقى في يدك أيتها الخائنة.
إحسان : حافظ … تمهل … تمهل … بربك لا تفعل … لا تأخذ الخاتم … لا تقتلني يا حبيبي.
بكر (يأخذ الخاتم بالقوة) : زالت الصلة … انقطع الأمل … إلى غيري يا خائنة (تصرخ من الألم ويغمى عليها).
(ستار)

الفصل الثاني

خليل : وهل تظن أن ادعاءك المرض يؤثِّر في الحسناء؟! مغرور أنت؟ إن جمالها شَرَكٌ تصطاد به العشرات أمثالك؟
بكر : لم أتمارض للتأثير بمرضي في نفسها، وإنما لغرض آخر ستكشفه لك الحوادث.
خليل : ولماذا تخفيه حتى الآن ما دامت الحوادث ستكشفه لي.
بكر : لتكون له في نظرك لطف الفكاهة وطلاوة الجديد.
خليل : وهل أنت واثق من الطبيب وكتْم الأمر؟
بكر : أثق به ثقتي بك وأعظم.
خليل : في كل حادث جديد … يظهر لك أصدقاء لم أكن أعرفهم من قبل، فإنك تخفي عني أسرار كثيرة.
بكر : أنت لا تعرف من أسراري إلا النزر اليسير الذي يحتمله عقلك، وكذلك كل واحد من أصدقائي.
خليل : إذن هي عدم الثقة بنا!
بكر : بل هو الحرص يا أخي، فلو أنك عرفت كل شيء؛ استلمتَ قيادي وعِشْتُ تحت رحمتك، أما التكتم وإدارتي شئوني بحكمة وحرص فإنها السبيل الوحيد الذي يضمن لي السلامة، ويجعل الجميع تحت رحمتي.
خليل : وهل يعرف الطبيب أمر حبك لإحسان.
بكر : نعم؛ لأن لعمله مماسًّا بالفتاة.
خليل : وهل تقلع عن حب تلك الحسناء رحمة بنفسك؟
بكر : الحب يا خليل بغير إرادة الإنسان واختياره، وكذلك الكراهة.
خليل : ولكنها تبحث عن زوج غيرك، فماذا تؤمل من حبك؟
بكر : لا أؤمل غير النسيان والترك وشفاء القلب من علته؛ فأمام كتابها إلى رمزي بك … أمام الدليل المُحسِّ يتحتم عليَّ إغفالها، أما عواطفي … وفؤادي … وضميري … فلها غير هذا الشأن.
خليل : ألا زلت في شك من أمرها.
بكر : كثيرًا ما ينخدع العقل بالظواهر الكاذبة، أما الأدلة العقلية فإنها أقوى الحجج وأدمغ البراهين.

(الخادم يدخل خادم أخرس ويشير إشارات يُفْهَم منها حضور مبرقعة.)

خليل : شذوذ حتى في اختيار الخدم! يا ألله! ما هي الفائدة من اختيارك الخادم الأخرس؟! لو كان ناطقًا لوَفَّرَ عليك عناء الانتقال لفهم ما يشير إليه.
بكر : خرس الخادم نأمن معه فلتات لسانه في الطريق، وصممه يُبْعِد عنه سماع ما يُحْكَى هنا وما يقال، اذهب أيها الأحمق وانظر مَن الزائرة (يخرج خليل ويقول وهو خارج).
خليل : لعنك الله لعنة أبدية، ولعن كل زائريك وخدمك، والشياطين التي تمر ببيتك.
بكر : من يدعي المرض عليه التمارض، وعليه أن يحسن آهات الألم وأنات العليل، وإلا نمَّتْ عليه العافية، وفضَحَ سرَّه الجهل (يرقد على السرير).
خليل (من الخارج) : هذه خطيبتك الآنسة إحسان هانم، شق عليها أن تكون مريضًا ولا تزورك (يدخل ومعه إحسان).
إحسان : حافظ … أمريض أنت؟! إن مقاطعتك لا تمنعني من زيارتك وأنت مريض، فإن عهد حبنا أبديٌّ لا تلاشيه إرادتك.
خليل : المريض في شدة العلة وبارح الألم، والانفعالات النفسية تؤذيه، فاتركي العتاب يا سيدتي لوقت آخر.
إحسان : صدقتَ يا أخي، إنما لم أتمالك عواطفي أمام هذا المشهد المؤلم (تقترب من السرير) حافظ حبيبي ألا تسمعني؟ ألا تراني؟
خليل : إنه لا يسمع … ولا يفهم … ولا يدرك … ولا يرى … فهو فاقد الصواب في هذيان الحمى، ودنوُّك منه خطر عليك، تعالي … تعالي بعيدًا عن خطر العدوى.
إحسان : رباه؟! هل هو مريض إلى هذا الحد المزعج؟
خليل : طحنه المرض، وإنه لتكاد تودي به الحمى.
إحسان : وماذا أصابه يا سيدي؟
خليل : لا أدري يا سيدتي سوى كَوْنه مريضًا وكَوْن الطبيب يعالجه. هذا مَبْلَغُ علمي.
إحسان (تقترب من السرير) : ومتى يجيء الطبيب؟
خليل : قلت لك لا تقتربي من فراشه؛ فإن الطبيب يمنع ذلك.
إحسان : إذن هو لا يشعر بوجودي الآن.
خليل : ولا بوجودي أنا الآخر (يدير حافظ أنظاره في نواحي المكان بدون أن يرى أو يعرف إحسان).
إحسان : رفقًا به يا رب … يا إله السماء … بل رفقًا بي أنا … رفقًا بقلبي المعذب … هذا كل أملي في الحياة … ونُشْدَتي من العالم … فلا تفجعني به … وارْثِ لآلامي وللذي تعرفه من أمري (تبكي … يدخل الطبيب).
الطبيب : كيف حال الشيخ بكر اليوم يا خليل (يفحص المريض).
خليل : حاله كما ترى يا سيدي الدكتور، يئن بغير إدراك.
الطبيب : والدواء.
خليل : أعطيه له في المواقيت المعيَّنة بكل دقة.
الطبيب (يكشف على القلب بالسماعة) : ومَنْ هذه السيدة؟ ولِمَ دخلت هذه الغرفة؟ ألم أَقُلْ لك إن الحمى معدية.
خليل : هذه خطيبته إحسان هانم، ولم أجد مناصًا من السماح لها بالدخول حذرًا من أن ترتاب في قصدي إذا منعْتها.
الطبيب : إحسان هانم التي يهزي بها المريض في بُحْران الحمى؟! يلوح لي يا سيدتي أن لشأنه معك سببًا في المرض الذي يكاد يقتله.
إحسان : صدقت يا سيدي، فإنه طردني وأهانني لخاطر غير صحيح.
الطبيب : إن وجودك في غرفته الآن خطر عليه، فإذا تَنَبَّهَ وعَرَفَكِ بعد ما كان بينكما من الشقاق يؤثِّر مرآك في نفسه تأثيرًا سيئًا يقتله في الحال، فالضرورة تحتِّم يا سيدتي أن تغيبي عن عينيه.
إحسان : سأفعل يا سيدي الطبيب مُكْرَهة، فإني أفديه بحياتي، إنما بربِّكَ طمئنِّي عليه.
الطبيب : لا أكتمك الحقيقة، الرجل أُصِيبَ فجأة بمرض في القلب، ولم يكن هنالك أمل محقَّق بشفائه، أمَّا وقد حدثت بعض المضاعفات وجاءت الحمى أيضًا فإنه تحت رحمة الله، ولا شأن للطب معه.
إحسان : إذن أنت ترجِّح وفاته.
الطبيب : بل أؤكد يا سيدتي الوفاة إذا لم يتداركه الله بعنايته.
إحسان : يا ألله … ماذا أسمع … يموت … أبدًا … أبدًا … أنا لا أريد أن يموت (ترتمي على حافظ في السرير والطبيب يمنعها بالقوة).
الطبيب : لا … لا تقتربي من المحموم، إنك ترتمين في أحضان الموت.
إحسان (تتملص منه) : دعني يا سيدي أموت بين ذراعيه، دَعِ الموت ينتزع روحين معًا تآلفا في الحياة (ترتمي على المريض) حبيبي … روحي … حياتي … لا يطيب لي العيش بعدك.
الطبيب (يدفعها) : لست مجردًا من العواطف يا سيدتي، ولكن الرجل الحازم من يدوس عواطفه في سبيل الواجب؛ لهذا أحتم عليك الخروج من هذه الغرفة؛ رحمة بك وحرصًا على حياتك.
إحسان : دعني يا سيدي أموت إلى جانبه.
الطبيب : عافاك الله من الموت، فإنك في زهرة الصبا وريعان الشباب، والأسف لا يدوم، والحزن لا يقتل. (لخليل) لا تدعها تدخل ثانيًا.
إحسان : دعوني إلى جانبه، دعوني أؤدي واجبي.
الطبيب : لا يا عزيزتي … لا … لا … قلت لك لا.
إحسان (تدفع الطبيب) : دعوني أودعه.
الطبيب : خطر عليك الاقتراب منه، اخرجي يا سيدتي (يخرجها ويخرج معها خليل).
الطبيب : لا تأذن لها بالدخول هنا أبدًا، (لحافظ) أظن أن الفتاة تحبك جد الحب يا حافظ.
بكر : إذا كانت هذه الظواهر هي التي تحملك على الاعتقاد بأنها تحبني؛ فإن الخطاب الذي اطلعتُ عليه تدعو فيه رجلًا آخر لمفاوضته في أمر الزواج دليل على أنها تحب أكثر من رجل.
الطبيب : ألا يكون الخطاب مزورًا عليها.
بكر : ثبت أن الخطاب بخطها، وأنها قابلت الرجل في بيتها.
الطبيب : أمَّا إذا كانت تمثل الحب الكاذب بمثل هذه المهارة فإنها أقدر ممثلة!
بكر : كل امرأة تمثل العواطف الكاذبة متى شاءت بأعظم من هذه المهارة، فإن الرياء من خصائص المرأة إذا خبثت.
الطبيب : وهل أنت على رأيك الأول في تمثيل الوفاة والدفن؟
بكر : نعم. هل جئت بالمخدر؟
الطبيب : ها هو يا أخي، فأنا لا أضني عليك بنفيس أو عزيز، إنما أتوسل إليك أن لا تَكِلَ نفسك إلا لصديق حميم، فالأمر حياة أو موت.
بكر : شكرًا لك يا عزيزي، وسأحتاط لنفسي بقدر ما تسمح به الظروف، فادع لي خليل إذا كانت إحسان خرجت (يخرج الطبيب) رباه؟! كيف أُوَفِّق بين هذه المظاهر التي تتظاهر بها أمامي وبين خيانتها بدلالة الخطاب؟ إنني لفي حيرة وارتياب لِأَعْرِفَ كيف أميز بين وجوه الحق والباطل. (يدخل خليل) هل خرجت إحسان يا خليل؟
خليل : نعم يا أخي خرجت في حال يرثى لها، حتى يُرجَّح عندي أنها تحبك!
بكر : هل غيَّرْتَ رأيك في تلك الخائنة.
خليل : أمام هذا الحزن ومظاهر الألم، لا أريد إلا أن أصدق أنها تحبك!
بكر : والخطاب؟ ورؤيتك الخطيب في بيتها؟
خليل : هذا الذي لا أفهمه، ولا أعرف كيف يُؤَوَّل؟!
بكر : دعنا من الفتاة واجلس لنتفاوض معًا في أَمْرٍ هامٍّ (للطبيب) اجلس يا عزيزي.
خليل : والله يا أخي ما دعوتني مرة للمفاوضة في أمر هام إلا وكان وراء هذه المفاوضة بلاوي ودواهي ما لها آخر، احكي يا عم احكي … قول اللي يخلصك من ربنا.
بكر : سأموت الليلة يا خليل.
خليل : يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، طيب قُولْنَا إن المرض نقدر عليه … ونعمل عيانين! ولكن الموت … نعمل ميتين إزاي؟!
بكر : الأمر بسيط جدًّا، وما دمت أنا الذي سأعمل الميت فالمقدرة وعدمها منوطة بي وحدي، إنما المهم أن نتساءل عن مقدرتك أنت في الذي يُطْلَب منك عمله.
خليل : وعاوِزْ مني إيه؟! هو أنا عزرائيل حقوم أقبض روحك … عاوز تموت … اتفضل موت … وأنا أتفرج عليك … وإن قلت لي صَوَّت … أصوَّت عليك … وأملأ الدنيا صوات!
بكر : دعك من الهزل يا خليل، فإن الأمر هام جدًّا. هل يمكنك أن تنفذ ما أدلك على عمله … حتى تتم عملية الدفن.
خليل : قول لي وأنا أشوف رأيي بعد ذلك.
بكر : سأشرب هذه الزجاجة فتظهر عليَّ أعراض الموت الكاذب، إنما أفقد وعيي وكلَّ صوابي، فتتصرف أنت مكاني، فأول الواجبات أن تُبَلِّغ الأمر لأهلي لكي يملئوا البيت بالندب والصراخ!
خليل : شيء سهل … والثاني.
بكر : أن تبلغ البوليس بالتليفون أن المدعو حافظ نجيب المطلوب القبض عليه تُوُفِّي في المنزل نمرة كذا بشارع كذا متنكرًا باسم الشيخ بكر!
خليل : وده كمان شيء سهل … والثالث.
بكر : عند عملية الغُسل لا تتركْ أحدًا من أهلي يدخل معك، وتظهر لهم هذا الخطاب، وفيه الكفاية لمنعهم من حضور الغُسل.
خليل : وصية الميت لا بد أن تُنَفَّذ … وده سهل كمان … وبعدين.
بكر : مسألة الكفن تتولاه أنت مع رجل سيحضره حضرة الطبيب خصيصًا لهذه العملية … فيغسل ويكفن، إنما عليك أن تلاحظ تنفيذ تعليمات حضرة الطبيب.
خليل : عال … لغاية هنا عال … ولا أرى صعوبة … وبعد كده.
بكر : لي حوش بقرافة المجاورين، وفيه تربتان؛ واحدة تمَّت وهي مُهيأة للدفن. والأخرى لم تتم، فبلغ التربي لكي يُحضِّر المدفن، ثم تباشر الجنازة لغاية المدفن.
خليل : سهل جدًّا.
بكر : وعند الدفن تبكي بحرارة، وتنزل القبر معي، وتضع داخل الكفن، في يدي اليمنى هذا الفانوس، وتضع في يدي اليسرى هذه الزجاجة، واحذر أن تَضِيع منك أو تُكْسَر، فإن فيها حياتي.
خليل : وده كمان سهل … وبعدين.
بكر : بعد ذلك تخرج من التربة من غير شر وترُوح لشغلك … وأنا عليَّ البقية.
خليل : يا خبر أسود! يجي لك قلب تتخدر وتنزل التربة وتندفن؟! يا ليلة زي الزفت … على ناكر ونكير … يا مسلمين على دي حيلة … والله يا أخي إبليس ما يعمل دي العملة (للطبيب) شفت يا حضرة الدكتور عمايل صاحبك.
الطبيب : معذور، رجل محكوم عليه بعشرات من السنين يريد أن يتمتع بالحرية، فهو يطلبها من طريق القبر.
خليل : حرية؟! حرية إيه يا خوي! وهو إللي عاوز الحرية يموت علشان الحرية؟!
الطبيب : نعم يموت، ويثبت رسميًّا أنه مات ودُفِنْ، فيصدر الأمر من الحكومة بكف البحث عنه بسبب الوفاة؛ لأن الموت يلاشي كل القضايا.
خليل : ولما يخرج ويمشي في الطريق … يعرفوه ويمسكوه … كأن يا بدر لا رحنا ولا جينا!
بكر : بالعكس يا أبله. أمرح في البلاد كيف أشاء، فلا يتوهمن أحدٌ أبدًا أنني حافظ نجيب، وإنما يؤكدون أنني شبيه به.
خليل : يا حفيظ … بُرِّيه … بُرِّيه … بُرِّيه … دا أنت مصيبة … إياك يا رب تموت بحق وحقيق … عشان نستريح منك … يا باي.
بكر : هل يمكنك تنفيذ ما ذكرته لك بدون خوف أو اضطراب.
خليل : شيء أسهل بكثير من غيره.
بكر : إذا أهملْتَ أموتُ يا خليل.
خليل : تبقى صَحَّتْ، ويدعيلي ألف ألف واحد.
بكر : هل تتذكر أنك وضعت اليوم صندوقًا في بنك الكريدليونيه أمانة ومعها خطاب مني؟
خليل : نعم أتذكر، إيه يعني؟! حضرتك خايف على الفلوس تتركها في البيت أودعتها في البنك!
بكر : هل تتذكر أن لك جرائم حُكِمَ فيها عليك بعقوبات فظيعة جدًّا؟
خليل : أمَّا شيء بارد، وده لزومه إيه دلوقت؟! بتعرَّف الدكتور أني زيك هربان!
بكر : أعلم أن الصندوق يحتوي على ما يُثْبِت تلك الجرائم، وما يدل على طُرُق القبض عليك إذا خطر لك ألا تنفذ الوصايا التي سمعتها مني وتركتني أموت في القبر، فإذا لم أخرج من القبر بعد غد صباحًا واسترد الصندوق من البنك يسلمه للنيابة فتقبض عليك!
خليل : اهرب يا سيدي بعد دفنك!
بكر : لا تستطيع؛ لأنك مُكَلَّف من الآن بأن لا تمشي إلا على قدميك … لا تركب بسكليت … ولا أوتومبيل … ولا ترام … ولا عربة … ولا حمار … ولا أي داهية. فإذا خطر لك أن تخالف هذا الأمر فأصدقائي الذين يقتفون أثرك يَدْعون البوليس للقبض عليك في الحال!
خليل : عال … عال … بقى روحك بتسلمها لي بضمانة حياتي!
بكر : نعم هو كذلك. ليس أعز على الإنسان من حياته، ولهذا فرضت عليك هذه الضمانة.
خليل : ترازي حتى وأنت في التُربة … الله لا يطلَّعَك منها يا بعيد.
الطبيب : إذا لم يخرج تموت أنت الآخر.
خليل : والله يا سيدي الموت ولا عِشرة اللئيم ده، ما تْيَالَّه تموت يا سيدي … مستنِّي إيه.
بكر (يمسك الزجاجة) : أعطني كأسًا يا خليل.
خليل : كاس الموت إن شاء الله (يعطيه الكأس … يملأه حافظ).
بكر : هل أنت مستعدٌّ بتنفيذ الوصايا يا خليل.
خليل : كل الاستعداد … الفانوس في إيدك اليمين … والزجاجة في إيدك الشمال … إتوكل على الله … رُوحة بغير راجعة إن شاء الله.
بكر (يشرب الكأس) : أستودعكما الله يا صديقيَّ.
الطبيب : استلْقِ على ظهرك ولا تتحركْ حتى يسري الدواء ويظهر مفعوله، إلى الملتقى يا عزيزي (لخليل) هذه جرأة لا يُقْدِم عليها رجل غير هذا الرجل الجريء، وهذه الجرأة النادرة هي التي تجعلني أحترمه وأقدره.
خليل : وهل أنت واثق من نجاته من القبر.
الطبيب : كل الثقة إذا نفَّذْتَ ما سمعت بأمانة.
خليل : حافظ صديقي، بل هو أعز عليَّ من أخي، وأنا أفديه بحياتي، كن مطمئنًّا من هذه الوجهة، ولكن كيف يتصرف البوليس عند وصول الخبر إليه.
الطبيب : سيجيء ويجدني هنا، فيكتفي بمعلوماتي وشهادتي وينتهي الأمر!
خليل : وهل أنت خارج الآن؟
الطبيب : نعم لكي يموت بعد خروجي، وأحضر في الصباح مبكرًا جدًّا قبل أن تُبَلِّغ الأمر إلى البوليس.
خليل : وفَّقَنا الله لإنقاذ هذا الصديق، فإنه رجل.
الطبيب : إلى الملتقى. كن جريئًا حازمًا يا خليل.
خليل : إلى الملتقى يا سيدي.

(تظهر على حافظ أعراض الألم … فيخرج خليل ويدعو الخادم والخادمة … وعندما يدخل الخادم يصرخ بإشارات الخرس … أما الخادمة فتصاب بالوجم.)

الخادمة : سلامتك يا سيدي، سلامتك (يقوم خليل بنضح الماء البارد على حافظ ويبكي، وحافظ يتألم حتى يموت).
الخادمة : يا دهوتي عليك يا سيدي.
الخادم : أو … أو … (الصراخ يعلو).
(ستار)

الفصل الثالث

(إحسان في ثياب سوداء جالسة تبكي)
إحسان : رباه! كيف أتحمل هذه الصدمة؟ كيف أقوى على هذه النكبة؟ مات حافظ فمات معه الأمل في طيب العيش. دفنوه اليوم فدفنوا معه قلبي وفؤادي … في جوف القبر جسد ذلك الفتى … وروح إحسان ترف حواليه … تؤنسه في الوحشة … وتناجيه في السكون الأبدي، لم يعشق حافظ جمال الجسم البديع، وإنما آداب النفس وكمالها، لم يرفه من حسن الوجه الصبوح، وإنما سمو المبدأ وجمال الروح، لم تفزه نضارة الصبا المُغري، وإنما استفزه إللي عرفه من أمري سوى سري وجهري. أين ذلك النبيل؟ من الذي يطلبون من الزوجة؟! الحُسن والدلال والجمال والمال! آه ما أعظم نكبتي فيك يا حافظ! (تبكي … وتدخل أسما).
أسما : تبكين أيتها العزيزة، تقضين كل أوقاتك في البكاء والنوب، إن هذه العيون النجلاء لم تُخْلَق للبكاء والشقاء، خففي عنك أيتها الحبيبة (تحتضنها وتقبلها).
إحسان : أشكر لك هذا العطف يا أمي، فإنك القلب المفرد الذي أُحِسُّ منه الحنو والإشفاق.
أسما : لوالدتك المرحومة فضل عليَّ لا يُنْسَى، فأنا أعطف عليك كابنتي وأشفق عليك كل الإشفاق؛ لهذا يجب أن تعتمدي عليَّ كوالدتك، وأن تذعني لرأيي فيما جِئْتُ إليك من أجله الآن.
إحسان : أنا مصغية إليكِ كل الإصغاء.
أسما : أنت عاقلة متعلمة، ولك مبدأ طبعًا، ونبْلُ عائلتك وسموُّ تربيتك يقضيان عليك بتضحيةِ بعض مصالحك للحفاظ على شرف البيت، وعلى شرف والدك خالد بك.
إحسان : ونوع التضحية هو أن أبيع نفسي بالمال لرجل قاسٍ فاسد التربية ليسدد والدي ما عليه من الديون ويحفظ كرامته شهورًا محدودة؛ بينما أكون أنا قد بعت شرفي وضحيت آمالي ومستقبلي!
أسما : أنت لا تبيعين شرفك يا ابنتي؛ لأنك تتزوجين زواجًا شرعيًّا رجلًا لا أُنْكِر أنك لا تحبيه، ولكن يجيء عادة بالمعاشرة ثم الموافقة!
إحسان : قبولي التزوج من رجل لا أحبه — بل أحتقره — طمعًا بماله، لصوصية يا سيدتي، فضلًا عن أن الزواج على هذه الصورة غير صحيح شرعًا؛ لأن القبول الصحيح غير متوفر فيه، والفتاة التي تقبل مثل هذا الزواج تبيع نفسها وعرضها.
أسما : ولكن أباك سيشهر إفلاسه … سيباع آخر شيء يمتلكه … سيخرج من هذا البيت.
إحسان : هذا جزاء السفه والابتذال، فليتألمْ كما يتألم غيره، فلو اعتبر بمن سبقوه على هذا المنحدر ما وصل إلى أعماق الهاوية.
أسما : هذه قسوة منكِ على أبيكِ.
إحسان : هو لم يَعْرِفْ كيف يشفق، فلماذا تسألين الغير الشفقة عليه؟ أين هي أموالك يا والدتي؟ بددها … أين ميراثي؟ أتى عليه … أين ما خلفه له الآباء؟ ذهب إلى جحور الباغيات … وموائد الميسر.
أسما : ولكنك ابنته، وفي وسعك الأخذ بيده وحِفْظ مكانته (يدخل خالد بك).
خالد : ابنتي إحسان، اذكري أنني أبوك، وأن لي عليك حق الطاعة، فلا ترفضي ما أشير به عليك.
إحسان : إن للشرف حقًّا أقوى من حقك؛ فلهذا أرفض فقد قال الله تعالى في القرآن: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا.
خالد : أنا أدعوكِ إلى الزواج الشرعي.
إحسان : بل أنت تُكْرِهُني على هذا الزواج فهو غير شرعي.
خالد : أنا لا أُكْرِهُكِ، بل أطلب منك القبول.
إحسان : قال سيد المرسلين: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.» وأنت لا تطلب من الزواج ائتلاف الزوجينَ ولا هناء المتعاقدين، إنما تطلب المال لفائدتك الشخصية.
خالد : أيتها الحمقاء، نحن على أبواب الإفلاس … سيباع هذا البيت … سنُطرد منه … سنُلقى في الطريق.
إحسان : هذا جزاء المُبدد، وخير لك أن تفقد هذا البيت وكل ما تملك، بل خير لنا أن نُلقى في الطريق معًا نتسول أو نعمل بأيدينا كسائر العمال، من أن نضحي العرض للاحتفاظ بالبيت.
أسما : أنت تفهمين خطأً غَرَضَ والدك، هو يريد أن يضحي شيئًا من حب الذات، وأن تقبلي الاقتران برمزي بك، فتصلحي من حالة والدك وتحفظي مركزه.
إحسان : أنتم ترغمونني بهذه المغالطات على ذِكْرِ الحقيقة المؤلمة، أي الرجلين؟ الرجل الكريم الذي يعمل بيديه ليأكل إذا فَقَدَ ثروته، أم الذي يعيش من المتاجرة بجمال ابنته؟
خالد : اخرسي، لعن الله بطنًا حملك وأرضًا أنبتتك وسماءً أظلتك، يا مثال العقوق ستدفعي ثمن هذه الوقاحة، سأُذِلُّكِ إذلالًا وأرهقك إرهاقًا (يهجم عليها فتمنعه أسما).
أسما : كن حليمًا يا سيدي، فإن القوة والإكراه لا يفيدان من كان في مثل مركزك الحرج (يدخل الخادم).
الخادم : سيدي … سيدي … جاء المُحضر ومعه شيخ الحارة وبعض الخواجات لبيع البيت في المزاد العلني.
خالد : يا للفظاعة! يا للداهية! هل رأيت يا ابنة الأبالسة إلى أين وصلنا بعنادك؟!
إحسان : هل كُنْتُ معك على موائد القمار … أبدد المال … وأرهن العقار (يدخل رمزي بك).
رمزي : لَمْ تكوني معه أيتها العزيزة، ولكن الواجب يقضي عليك بمعاونة أبيك!
إحسان : ومن أَذِنَ لك يا هذا أن تدخل البيت بغير إذن؟!
خالد : أنا الذي أَذِنْتُ له، هذا بيته … يمرح فيه كيف يشاء، هذه إرادتي. هل فهمت؟
رمزي : هَوِّنْ عليك يا صديقي، فإن إحسان هانم رقيقة المزاج.
إحسان (لوالدها) : أنت تأذن للرجل الأجنبي أن يمرح في بيتك كيف يشاء؟! يا لنخوة الرجال! يا لشهامة الأبطال! هذا المنزل الذي تُعَرِّضُه للامتهان أتركه لك ولضيوفك (تخرج مندفعة فيمسكها رمزي بك).
رمزي : إلى أين يا سيدتي؟
إحسان (بشهامة) : لا تَدَعْ يدك تلمس هذا الجسم؛ فإن والدي أَذِنَ لك أن تمرح في البيت، لا مع أهل البيت.
رمزي : ولكنني لم أُسِئْ إليك فَلِمَ أقابَل منك بهذه القسوة.
إحسان : لأنك رجل بغير مبدأ … لأنك مغتصب … تتخذ من ضعف والدي ومركزه الحرج سبيلًا لاقتناصي.
رمزي : كل حسناء في القاهرة تتشرف بأن أَقْبَلَها عروسًا لي؛ فإنني من الوجهاء ذوي الشهرة والثروة.
إحسان : تتشرف بك … من يقربها بريق الذهب … ويعميها عن السلوك والأدب!
أسما : دعها الآن يا رمزي بك. ألا ترى أن المجادلة تزيدها نفورًا وشرورًا. (لرمزي وخالد بك) اذهبا إلى المُحضر وتَمِّمَا ما تريدان من الأعمال، ودعوا أمر إحسان إلى غير هذا الوقت.
رمزي (لخالد بك) : أنا لا أدفع مليمًا واحدًا يا سيدي بعد الآن ما دامت ابنتك ترفض الاقتران بي.
إحسان : هل رأيت يا والدي؟! هو لا يسدد الدين إلا إذا اشترى العرض، وأنت تمالئه على ذلك أيها الوالد الحنون! آه. أين أنت يا أماه؟! تبصرين كيف يبيع زوجك ابنته الفتاة!
رمزي : أنا أحبك يا عزيزتي … أقدس الحب وأعظمه، فأنا لا أشتريك، وإنما أقدم قلبي وثروتي مهرًا لدَيْك.
إحسان : عني يا ذئاب البشر، عني يا غواة القمار والموبقات، فما كل أنثى تغريها زخارف الكذب، ولا كل متأدبة تغويها بالذهب، اتركوني أخرج من هذه البؤرة، دعوني أطلب الصون والعيش بعيدًا عن بيت تُباع فيه البنات (تحاول الخروج فيهجم خالد بك ويمسكها).
خالد : إلى متى العقوق؟! إلى متى الوقاحة؟! إلى متى قلة الأدب والحياء؟! هكذا تُخضعين … هكذا تُرغمين … هكذا تختارين إرادة والدك (تجري أمامه وهو يضربها ويجري وراءها وأسما تحاول منعه ورمزي بك يحاول ذلك أيضًا).
إحسان (تقترب من مائدة وتأخذ سكينًا وتطعن بها نفسها) : بل هكذا أتخلص من وحشية المقامر السفيه (الطعنة الثانية) هكذا أتخلص من والد يبيع عِرْض ابنته إرضاءً لشهوته (تسقط على الأرض فيقترب منها رمزي) ابْعُد أيها المقامر السكير … ابْعُد، لا تجعل يدك تلمسني وإلا أغمدت في صدرك هذه السكينة (تصرخ وتتألم).
رمزي : ها هي انتحرت … يا خالد بك.
خالد : إلى جهنم وبئس المصير … ابنة عاقة.
رمزي : ونقودي … كيف أستردها؟! كيف تَرُدُّها إليَّ وأنت لا تملك شيئًا … إيه … ضاعت أموالي؟!
خالد : انتحار هذه السفيهة قضى على كل آمالي … فقدت ثروتي وابنتي وآمالي!
رمزي : أموالي … كيف ترد إليَّ أموالي (يجري نحو إحسان) إحسان … حبيبتي إحسان (إحسان في حالة ألم ونزع).
أسما : ما هذه الوحشية أمام منظر الدم المسفوك؟! كلكم يبكي ثروته وماله ولا يستدعي الطبيب.
خالد : بل أستدعي الموت فينقذني من الفقر … من الألم والشقاء (يجذب السكينة من يد إحسان ويطعن نفسه في صدره).
أسما : رباه! إنهم ينتحرون جميعًا واحدًا بعد الآخر (إلى رمزي) أنت سبب كل هذه المصائب، وقد انتحرت الفتاة فرارًا منك فاخرج، فلا كنت ولا كانت الشهوة التي تجرِّد الرجال من مبادئهم وإنسانيتهم وتجعلهم وحوشًا، اخرج يا سيدي … أخرج … ألا ترى أني آمرك بالخروج؟!
رمزي : ولكن أموالي!
أسما : اخرج وإلا دعوت الخدم.
رمزي : اخرجوا أنتم، فإن البيت مرهون لي.
أسما : إليَّ … إليَّ … يا خدم البيت … إليَّ … إليَّ … أغيثوني … أدركوني (يأتي خدم البيت فزعين) اطردوا هذا اللئيم … فقد كان سببًا في موت إحسان ووالدها (يضرب الخدم رمزي ويطردوه).
(ستار)

الفصل الرابع

(إحسان في سرير النوم مريضة وأسما إلى جانبها)
أسما : مسكينة هذه الفتاة، فقد قاست آلامًا حادة وعرفت المنغصات وهي في أول فجر العمر وربيع الحياة، فلو أن هذه النكبات حلَّتْ على غيرها لسحقتْها سحقًا (يدخل حافظ).
حافظ : كيف حالها اليوم يا سيدتي؟
أسما : بخير أيها العزيز، فقد زالت كل أسباب الخوف وأظهر الطبيب الرضا والاطمئنان.
حافظ : وهل تتألم كثيرًا إذا مشت؟
أسما : لا تتألم، وإنما لا زالت ضعيفة، فإنَّ ما سال من دمها لا تعوضه إلا بعد زمن طويل.
حافظ : وهل شَرِبَت الدواء الذي أعطيتُكِ إياه؟
أسما : نعم يا عزيزي، وفي الوقت الذي حدَّدْتَه.
حافظ : إذن لا خوف من تنبهها الآن.
أسما : لا خوف أبدًا.
حافظ : ما كنت أظن أنها تكره رمزي بك وتحتقره إلى هذا الحد.
أسما : أوضح دلالة على احتقارها إياه أنها انتحرت فرارًا من الاقتران به!
حافظ : لعن الله الظن فقد يودي بصاحبه، آه يا صديقتي لو تعلمين كم تألمت عندما رأيت خطابها الذي أرسلَتْه إلى رمزي بك.
أسما : توهَّمَت المسكينة أن الرجل على شيء من كرم الأخلاق والمروءة، فاعترفَتْ له بأنها تحب رجلًا اختارته للتزوج به، وتوسلت إليه أن يحترم عواطفها وأن يَكُفَّ عن طلبها من أبيها.
حافظ : يا ألله! كم كان موقفها حرجًا وآلامها بارحة، لقد ظَلَمْتُها بإساءة الظن بها، ويلي أنا الشقي.
أسما : أنت معذور؛ لأنك لم ترَ غير الخطاب وهو يبعث على الريبة.
حافظ : لي بعضُ العذرِ، ولكنني تسرعت فنجم عن التسرع كل ما حدث لها من الارتباكات والآلام، ولولا لطف الله لماتت بالطعنات التي طَعَنَتْ بها صدرها، آه يا إحسان الحبيبة، كلما تمثَّلْتُ يأسك من الحياة وألمك منها ذلك الألم الذي حملك على الانتحار تمزقتْ أحشائي إشفاقًا عليك وعطفًا، كفاك تألمًا ونكدًا، ولنبدأ حياة سعيدة هادئة، يجب أن تتنبه الآن … (يُنَشِّقُها شيئًا فتنتبه).
انظري يا إحسان. إن القلوب التي تآلفت في الحياة لا يفرق بينها الموت، ها هي روحي … ترفرف حول فراشك … تؤنسك في الخلوة … وتحرسك عند النوم … اسمعي دقات قلبي … إنه ليختلج حتى ليكاد يطير من صدري … تلك قوة الحب … أقوى من كل شيء … حتى من الموت، لقد تعاهدنا على الحب فلَمْ تخوني العهد، وكنت بارَّة وفيَّة؛ لهذا أضع أصبعك في خاتم الخطبة (يلبسها الخاتم) هذا خاتمي، أنت تعرفينه حق المعرفة، وتعرفيني أيضًا، انظري إليَّ، أنا هو الرجل الذي يحبك بكل قُوى نفسه، الذي تحبينه، أنا هو حافظ.
إحسان (كأنها تحلم … فتصرخ) : ما هذه الرؤية المزعجة؟
حافظ : ليست هذه رؤيا، هذه حقيقة، أنا هو حافظ … القلب الخفاق المحب المنكود … الرجل المجهول حتى من أخصائه … المظلوم حتى من ذويه … أنا هو الروح الحائر (تُظْهِر الانزعاج وتُخْفي نَفَسها) لا تنزعجي، ولا تضطربي، سأعود إلى مقري مع الأرواح، فإن الملاك الحارس يدعوني إليه (ينحني عليها يقبلها ويخرج إلى الوراء … تظهر شيئًا فشيئًا علامات التنبه ببطء ثم تجلس وتصرخ).
إحسان : رباه! ماذا رأيتُ؟
أسما : حبيبتي! ماذا أصابك؟! ماذا تريدين؟!
إحسان : أين هو؟ من أين جاء؟! وكيف خرج وتركني؟!
أسما : من هو يا عزيزتي؟!
إحسان : حبيبي … أين حافظ؟! فقد رأيته الآن … رأيته إلى جانبي … سمعت صوته … رأيت وجهه … لثمني فمه … أين حبيبي؟ أين حافظ؟ أين أنت أيها العزيز؟!
أسما : رأيته في الرؤيا يا عزيزتي، فخفِّفِي عنك هذا التأثير، فإنه لا يناسب ما أنت فيه من الضعف.
إحسان : أبدًا لا رؤيا، لقد رأيته الآن وأنا بين اليقظة والنوم، لمست جسمه … سمعت كلماته … فهمت كل ما قال … وحفظته كلمة كلمة.
أسما : إن الحمى لا زالت تؤثر فيك يا بنيتي … وأنت تعلمين أن حافظ مات ودُفِنَ، ومضى عليه أكثر من شهر في القبر، فهل يمكن أن يكون ما رأيت إلا في رؤيا؟!
إحسان (متألمة) : صدقْتِ يا أمي؛ إن السعادة والهناء لا تعرفها النفس إلا في الرؤيا، فإنها من غير الحقائق الواقعة، صدقت؛ فإن حافظ في القبر، ولكن ما رأيته كان له في نفسي تأثير الحال الواقعة المحسوسة، وكم يظهر العطف عليَّ والإشفاق مما نالني من نكد العيش! وكم اهتزت نفسي وجسمي عندما انحنى عليَّ وألبسني خاتم الخطبة في أصبعي! (تنظر ليدها) رباه! هذا هو الخاتم … هذا خاتم حافظ … فكيف يمكن أن تكون المشاهدات في رؤيا (يدخل الخادم).
الخادم : سيدتي جاء المُحضر والتجار ورمزي بك، يريدون بيع مفروشات البيت في المزاد العلني.
إحسان : قل لهم إنني مريضة ألازم الفراش، فيمكنهم أن يؤجلوا البيع إلى وقت آخر. (يخرج الخادم) ألم يكن الموت خيرَ منقِذٍ في هذه الظروف الحرجة، لقد انتزعوا ملكية البيت وجاءوا اليوم يأخذون الفراش، فكيف أعمل؟! وإلى أين أذهب؟!
أسما : تعالي إلى منزلي أيتها الحبيبة تنزلين عندي على الرحب، فإنني لا أنسى أبدًا أفضال والدتك عليَّ (يدخل الخادم).
الخادم : المُحضر يشدد بوقاحة، وهو يطلب الدخول مع التجار إلى هذه الغرفة لإجراء عملية البيع.
إحسان : وأنا مريضة لا أستطيع الانتقال من الفراش! ادع إليَّ المُحضر لعله ظنني أكذب للمحاولة والمراوغة (يخرج الخادم) ما هذه العدالة الكاذبة؟! لا يرحمون المريض ينتزعون فراشه … يُلقونه في الطريق لسداد دين القمار … الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون (يدخل المُحضر) أنا مريضة يا سيدي مرضًا لا أستطيع معه القيام من الفراش، فهل لك أن تؤجل البيع حتى يتسنى لي الانتقال من الفراش؟!
المُحضر : أنا يا سيدتي آلة في يد القانون، والقانون يُحَتِّم أن يتم البيع اليوم، وليس بوسعي أن أُخَالِف القانون، وإن لم أُنَفِّذ مشيئة القانون جاء غيري فنفَّذَها في أثاث البيت وفي حضرتي أنا.
إحسان : وماذا تفعلون بي وأنا ملقاة هكذا على الفراش الذي تبيعونه.
المُحضر (يقف متحيرًا) : رباه؟! ماذا يستطيع الرجل الضعيف مثلي أن يفعل في مثل هذه الظروف؟! هل أوقف البيع … لا أستطيع … هل أتجرد من الإنسانية وعواطف المروءة والشهامة … وألقي بهذه المريضة على الأرض لأبيع فراشها كما يحتم القانون … وحشية لا يحسها القانون، ولكنها تتمثل في أشنع الصور وأفظعها أمام مُنَفِّذ القانون، ما ذنب هذه المسكينة حتى تتألم كل هذا الألم؟! إنها مريضة ضعيفة! تُطْرَد من فراش المرض وتُلْقَى في الطريق، رباه … ما أقسى الإنسان … ما أظلم الناس حتى بالعدالة المشروعة (يدخل رمزي).
رمزي (للمحضر) : أنت تضيِّع الوقت يا سيدي، والتجار يتفرقون سآمة من الانتظار، وهذا ينافي مصلحة البيع في المزاد العلني.
المحضر : ألا ترى يا سيدي أن هذه السيدة مريضة لا تستطيع الانتقال من سريرها؟!
رمزي : وهل هذا يمنع من تنفيذ القانون لإعطاء المدين حقه من الدين؟!
المحضر : ولكن الرحمة فوق العدل، وأنت صاحب الدَّيْن؛ فيمكنك الرفق بهذه المريضة والتنازل لها عن السرير ريثما تشفى.
إحسان : لا تسألْهُ شيئًا يا سيدي، فإنني أرفض أن تكون الرحمة منه.
رمزي : أنا لا أضن عليها بالرحمة، ولا أرفض أبدًا أن أقبلها في منزلي بين أهلي، ولو أنها قبلت الاقتران بي ما وصلت إلى هذه الحالة السيئة.
إحسان (للمحضر) : نَفِّذْ يا سيدي ما جئت من أجله، فخَيْر لي أن أُلْقَى في الطريق من أن أقبل رحمة من مقامر مرابٍ فاسق؛ فالفقر والمرض … وكل أنواع الشقاء … وغضض العيش … أقبلها بصدر رحب إذا لم يكن تفريج الكرب إلا بواسطة هذا المرذول، هو غني يا سيدي بالمال قوي بالثروة، وأنا غنية بالقناعة قوية بالمبادئ الشريفة (تحاول القيام فتقع على الأرض فيغمى عليها … يدخل حافظ متنكرًا).
حافظ (للمحضر) : لماذا أنتم هنا يا سيدي في غرفة المريضة؟!
المحضر : بأمر القانون نبيع أثاث الغرفة بالمزاد العلني.
حافظ (يرى إحسان ملقاة على الأرض) : ومن ألقى هذه السيدة على الأرض؟!
المحضر : هي التي أرادت النهوض فسقطت!
حافظ : هل فُقدَت الرحمة من القلوب إلى حدٍّ تبيعون فيه فراش المريضة؟! (إلى رمزي بك) لقد دخلتَ هذا المنزل باسم القانون، وانتقمْتَ ممن رفضَت الاقتران بك بسلاح القانون، وهذا السلاح هو الذي أستخدمه الآن لطردك من هذا البيت وحفظ كرامته (إلى المُحضر) كم تطلب وفاءً للدين والمصاريف يا سيدي؟
المحضر : مائتي جنيه.
حافظ : ها هي يا سيدي نقدًا في يدك.
رمزي : ولماذا تدفع أنت المال؟!
حافظ : أدفعه حتى لا يُقال ضاعت في هذا العصر مروءة الرجال، أنت تستخدم المال للغواية، وغيرك يجعله للحماية والوقاية، اخرج يا سيدي فلم يَعُدْ يَسْمَحُ لك القانون بالبقاء.
إحسان : ولتحيَ المروءةُ مُمَثَّلة في شخصك المحترم.
حافظ : أشكركِ. ألا تسمعون أنني آمركم بالخروج.
المحضر : اخرجوا جميعًا باسم القانون (يخرجون).
حافظ (لرمزي بك وهو خارج) : ظننت يا سيدي أن الفقر والفاقة وضعف المرض تُرْغِم الفتاة على بيع نفسها. كل مهذبة متربية … كل ذات مبدأ تؤْثر الموت على الإذعان مكرهة، فابحث عن نشدتك بين نسوة الطرقات والحانات، لا بين ذوات الصون وثبات العائلات. اخرج يا سيدي.
إحسان : بأيِّ لسان أشكرك يا سيدي؟! وكيف أوفي لك هذه المروءة؟!
حافظ : بالمسامحة على هفوة بَعَثَ عليها التسرع فأسأتُ غير متعمِّد.
إحسان : أسأتَ إليَّ أنا يا سيدي؟!
حافظ : نعم، أسأت أيها الملاك الطاهر … أسأت بك الظن، فسببْتُ لكِ كل هذه المنغصات. (ينزع النقاب عن وجهه ويرتمي عند قدميها) سامحي المُسيء الأرعن واغفري زلته.
إحسان (ترتمي عليه) : حافظ حبيبي … حافظ … أنت حي تُرزق (ترجع عنه بذعر) لا … لا … حافظ في القبر … فمن أنت أيها الرجل؟!
حافظ : أنا ذلك الذي تظنينه في القبر … أنا حافظ … أسير جمالك … عبد كمالك … قتيل هواك … فلماذا تنفرين؟!
إحسان : حافظ دفنته بيدي … رأيته بعيني في جوف القبر جثة هامدة … فكيف أصدق أنك هو … هذه صورته … هذه ملامحه … هذا صوته هذا هو حافظ … ولكن لا … حافظ في القبر!
حافظ : نعم دخل حافظ في القبر؛ خدع الناس جميعًا بموته الكاذب ليعود إليك حرًّا من مطاردة القانون، لا تطلبه الحكومة ولا يطارده الناس، لم أَمُتْ يا عزيزتي وإنما جئت لأموت عند قدميك!
إحسان : وهل تحتال حتى على الموت!
حافظ : نعم، طمعًا بالحصول على الحياة والحرية. إنهم يا إحسان يتخذون من القانون سلاحًا كسلاح القناص، والضعيف المظلوم يتخذ الحيلة وسيلة للهرب والخلاص، لقد رأيتِ بعينيك قسوة العدل ووحشية بني الإنسان معك أنت البريئة المظلومة، لم يحترموا فراش مرضك ولا حجاب خدرك، مثَّلُوا الوحشية بأوضح مظاهرها، فكم غيْرك يتألم من أمثال هذه المظالم … الأفراد … والجماعات … والأمم … والشعوب … كلها يا إحسان تشكو الظلم.
(ستار النهاية)
١  مكتوب على الصفحة الأولى من مخطوطة مسرحية «محور السياسة»، إنها مُثِّلَتْ لأول مرة يوم ٧ / ٦ / ١٩٢٠، ولثاني مرة يوم ٨ / ٧ / ١٩٢٠، وبأسيوط في ٤ / ١ / ١٩٢١. وتاريخ آخر تمثيل لها كان يوم ١١ / ٨ / ١٩٢١، ثم توقيع «محمد إبراهيم». وعلى الصفحة الأخيرة أو الغلاف الخلفي اسم توفيق إسماعيل الممثل … بالإضافة إلى ملاحظة مفادها، أن شخصية «أسما» في المخطوطة كانت باسم «كاترين» في الأصل، وتمَّ شطْب كاترين بالقلم الرصاص، وكتابة اسم «أسما» فوْقه بالقلم الرصاص أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤