البحث عن وجدي الطيب

تناول الرائد «سيد هندي» … دفتر المحاضر الذي تُسجل فيه كلُّ الأحداث والبلاغات التي وقعت في دائرة القسم، وفتحه ثم أخذ يقلب فيه حتى وقف عند صفحة معينة وقال: من هذه الصفحة تبدأ البلاغات والحوادث التي تريدها.

ناول الرائد «هندي» الدفتر إلى «تختخ» الذي تناوله، ثم أخذ يقرأ الحوادث والبلاغات … كانت تدور حول السرقات التي تمت في المنطقة … وقضية خطف … ومجموعة من المشاجرات وسرقة مسكن … وأخذت أصابع «تختخ» تنتقل من سطر إلى سطر … وعيناه تتابعان ما جاء في الدفتر.

وقال الرائد «هندي»: هل وجدت شيئًا مما تفكر فيه؟

تختخ: حتى الآن … لا!

وبقي «تختخ» يقلب الصفحات ثم توقَّف مرة واحدة عند حادث … وأخذ يقرأ ويعيد القراءة … كانت حاسة المغامر قد تنبَّهت عندما قرأ هذا الحادث … وكان في شكل بلاغ من جندي الدورية المعين على الشاطئ الغربي للنيل عند كوبري حلوان الكبير … وكان البلاغ كالآتي:

في أثناء مروري على شاطئ النيل، وعند قاعدة الكوبري، لاحظتُ وجود شخص نائم على شاطئ النيل وقد ابتلَّت ملابسه، فاشتبهتُ في أمره، فذهبت إليه ووجدته لا يتحرك، وظننت أنه غريق، ولكن عندما فحصته تبيَّن لي أنه مصاب وفاقد الوعي … وقد تم استدعاء الإسعاف حيث نُقل المصاب إلى مستشفى حلوان.

قال «تختخ» مشيرًا إلى هذا البلاغ: هل اتصلتم بهذا المصاب؟

أمسك الرائد «سيد هندي» دفتر المحاضر، ثم قرأ البلاغ، وقال: نعم، لقد انتقلت إلى المصاب، ولكنني وجدتُه ما زال غائبًا عن الوعي ولا يمكن استجوابه عن سبب إصابته!

تختخ: ما نوع إصابته؟

الرائد هندي: بسؤال الأطباء المعالجين، اتضح أنه مصاب بضربة من آلة حادة في مؤخرة الرأس … أدَّت إلى إصابته بارتجاج في المخ، وإصابته خطيرة، ولكن بنيته القوية جعلَته يتحمل الإصابة.

تختخ: هل يمكن زيارة المريض مرة أخرى … ربما يكون قد أفاق؟

الرائد: سأتصل بالمستشفى تليفونيًّا.

أخذ الرائد «سيد هندي» في الاتصال بالمستشفى، في حين انهمك «تختخ» في قراءة بقية البلاغات، ومرة أخرى لفتَ نظرَه بلاغٌ أخذ يجري على سطوره بسرعة … كان معنى البلاغ كالآتي:

عثر بعض الصيادين على لنش بخاري صغير كاد يغرق في مياه النيل، وقد وُجد في قاعه ثقبٌ تتسرب منه المياه … وبفحص الثقب تبيَّن أنه بفعل فاعل … وقد تم سحب القارب قبل أن يغرق إلى شاطئ النيل.

ربط ذهن «تختخ» بين البلاغَين بسرعة … وأخذ يتصور ما حدث عندما قفز «هانز» في النيل، لقد سبح مسافة، ثم شاهد اللنش فلجأ إليه وطلب من صاحبه إنقاذه، ولكرم المصريين وشهامتهم قام صاحب القارب بإنقاذ «هانز» الذي عندما ارتاح انتهز فرصة، ثم ضرب صاحب القارب على رأسه ضربة قوية وألقى به في النيل ليغرق ويختفيَ إلى الأبد … ثم أخذ القارب، واتجه إلى شاطئ النيل، ثم قام بإحداث ثقب في قاع القارب ليغرق كما أغرق صاحبه … وباختفاء القارب وصاحب القارب يكون قد انتهى إلى الأبد كلُّ أثر لهرب «هانز».

هل كان الاستنتاج صحيحًا؟

كان هذا يتوقف على استجواب المصاب … والتفت «تختخ» إلى الرائد «هندي» الذي قال: إن المصاب ما زال في حالة سيئة، ولكن يمكنه الإجابة عن بعض الأسئلة.

تختخ: هيَّا بنا، وبالمناسبة هل وجدتم بطاقته؟

رد «الرائد»: لا … لم نجد معه ورقة واحدة تدل على شخصيته.

تختخ: هذا ما توقعته.

خرجَا معًا … وترك «تختخ» دراجته في حراسة «زنجر»، ثم قفز إلى سيارة الشرطة مع الرائد «هندي» وانطلقَا إلى المستشفى …

سارَا في الدهاليز البيضاء الواسعة حتى دخلَا إلى غرفة وجدَا فيها المصاب، كانت عيناه مغمضتَين، ولكن تنفُّسه منتظم، وكان يقف بجواره طبيبٌ شاب ابتسم عندما رأى الرائد «هندي» الذي قال ﻟ «تختخ»: لقد كان الدكتور «أحمد» زميلي في الدراسة الثانوية.

سلَّم «تختخ» على الطبيب الذي قال: أرجو ألَّا تُجهداه بأسئلتكما!

تختخ: في الأغلب سأروي له قصة صغيرة، وعليه فقط أن يؤيد أو ينفيَ ما في هذه القصة من أحداث.

أمسك الضابط بيد المصاب، وقال: سيحكي لك هذا الصديق حكاية بسيطة … هزَّ رأسك بالموافقة أو الرفض لما يقوله لك!

هزَّ المريض رأسه إعلانًا عن فهمه لما قاله الرائد «هندي»، فقال «تختخ»: هل كنت في قاربك في النيل أمس الأول نحو منتصف الليل؟!

أحنى الرجل رأسه، فمضى «تختخ» يقول: لعلك من هواة صيد السمك ليلًا؟

أحنى الرجلُ رأسَه … فمضى «تختخ»: وفي أثناء إبحارك بالقارب، وجدت شخصًا يسبح في الظلام وحده.

أحنى الرجلُ رأسَه … فأكمل «تختخ»: فتقدمت منه وطلب منك أن تُنقذَه لأنه يوشك على الموت غرقًا.

وافق الرجل بهزة من رأسه، وبدَت الدهشة على وجه الرائد «هندي» والطبيب «أحمد»، ومضى «تختخ» يروي: وركب معك، وتحدث إليك بلغة أجنبية في الأغلب إنجليزية، وقال لك إنه سائح، وإنه كان مع مجموعة من السياح، وإنه سقط في النيل!

وافق الرجل بهزَّة من رأسه وقال الطبيب: كيف عرفت كل هذا؟

قال «تختخ»: إنها مجرد استنتاجات مبنية على وقائع أعرفها.

ثم عاود الحديث إلى المصاب فقال: وفي أثناء انشغالك في إدارة القارب لتوجيهه إلى الشاطئ، ضربك هذا الشخص بشيء ثقيل على رأسك، وفقدت الوعي. تحدث المصاب لأول مرة فقال: إنني مذهول لما أسمع … فإما أنك كنت معه … أو أنك أنت هو شخصيًّا!

تختخ: لا هذا ولا ذاك … عندما تُشفى بإذن الله سأريك كل شيء!

تحدث الرائد «الهندي» فقال: لقد جردك هذا الشخص من كل أوراقك … فمَن أنت؟

المصاب: اسمي «وجدي الطيب».

الرائد: هل ما رواه الأخ «توفيق» صحيح؟

ردَّ «المصاب»: نعم … كل ما رواه صحيح!

التفت الطبيب والرائد إلى «تختخ» وقال الرائد «هندي»: … إنك ولد مدهش ولا بد عندما تكبر أن تعمل في الشرطة!

تختخ: هذا ما سيحدث بإذن الله.

وسلم «تختخ» والرائد «هندي» على المصاب «وجدي الطيب» وانصرفَا بعد أن شكر الطبيب.

وفي الطريق قال الرائد «سيد هندي»: كيف تسنَّى لك أن تعرف كل هذه المعلومات عن وقائع لم تحضرها؟

رد «تختخ»: ببعض الاستنتاجات استطعت أن أربط بين اختفاء «هانز» في تلك الليلة وعدم العثور عليه على ضفتَي النيل … الحل الوحيد أن يكون هناك مَن انتشله من النيل، وبالطبع فإن «هانز» بطبيعته الإجرامية لن يترك مَن ينقذه حيًّا حتى لا يشيَ به … وهكذا تصورت أنه سيضرب مَن ينقذه، ثم يهرب بالقارب، ثم يتخلص من القارب بإغراقه، وهكذا يتلاشى أثره ولا يمكن متابعته، وتصورت أنه من الممكن أن نعثر على القارب أو الرجل المضروب ميتًا أو حيًّا.

الرائد «هندي»: إنها مجموعة مترابطة من الاستنتاجات!

توفيق: المهم الآن ما رأيك؟

الرائد «هندي»: هل يتحدث «هانز» باللغة العربية؟

توفيق: نعم … كأحد أبنائها!

هندي: في هذه الحالة سيستخدم البطاقة الشخصية الخاصة ﺑ «وجدي الطيب» ومن السهل عليه نزع الصورة ووضع صورته مكانها.

تختخ: هذا صحيح.

هندي: وهو بالطبع سيحتاج إلى تأجير شقة، أو النزول في أحد الفنادق تحت اسم «وجدي الطيب» … ومن ناحيتي سأقوم بالبحث ومعي رجالي في منطقة «حلوان».

تختخ: هذا عظيم … وسوف أبلغ الشاويش «علي» للبحث في منطقة المعادي.

هندي: سأُبلغ المفتش «سامي» بكل ما جرى … وهو أقدر الناس على العثور على هذا المجرم الخطير.

وصلَا إلى القسم … وتبادلَا تحية سريعة، وتواعدَا على اللقاء بعد ذلك … ثم قفز «تختخ» إلى دراجته، وانطلق وخلفه «زنجر» في سلَّته … كان الحر، قد اشتد ولكن «تختخ» كان سعيدًا … لقد استطاع ببعض الاستنتاجات أن يضع نفسه خلف «هانز» مرة أخرى … ولم يكن هذا مستطاعًا لولا هذه الخواطر العجيبة التي تهبط على ذهنه دون أن يدريَ من أين تأتي.

ظل سائرًا على شاطئ النيل، يفكر في كل ما حدث … حتى إذا اقترب من «كازينو الجود شوط» كان قد أحس بعطش شديد فقرر أن يجلس ليشرب كوبًا من عصير البرتقال الذي يحبه.

أسند الدراجة إلى الجدار … ثم دخل وخلفه «زنجر» وجلس إلى جانب الشاطئ مباشرة، وعندما جاء الجرسون طلب العصير … ثم جلس يحدق في الفضاء … كان ذهنه يعمل بطريقة هادئة وهو يتصور الأحداث القادمة … وكيف ينتهي صراع الذكاء بينه وبين «هانز» … وفجأة سمع صوتًا خلفه … صوتًا لا يمكن أن تُخطئه أُذُناه … والتفت، وشاهد شخصين يغادران «الجود شوط» … وقفز من مكانه كالملسوع … وأسرع يجري، ولم يرَ في طريقه الجرسون وهو يحمل العصير، فارتطم به، وسقطت الصينية بما عليها.

ووقف الجرسون مذهولًا … وكان «تختخ» يجري بأسرع ما يستطيع فقد كانت أمامه فرصة لم يسبق أن لاحت له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤