سجين البرميل

كان الشارع الذي أشار إليه الولد يشبه الغابة الصغيرة فقد نمت على جانبَيه مجموعة كبيرة من الأشجار العالية … نبتَت بينها الأعشاب الكثيفة … وكانت أعمدة النور مختفية خلف الأشجار … خافتة الضوء … وقد ألقَت بظلال الأشجار على الأرض كأنها أشباح خرافية قد نامت على أرض الشارع …

أحس «عاطف» بشيء من الرهبة … ودُهش لوجود مثل هذا الشارع في المعادي دون أن يعرفه … واختار مكانًا كثيف الأعشاب وضع دراجته خلفه … ثم مشى على قدمَيه، كان قلبه يُحدِّثه أنه سيعثر على شيء هام … وقد عثر عليه سريعًا … فقد سمع في الصمت الذي يشمل الشارع صوتًا جعل قلبه يكاد يتوقف بين جنبَيه … سمع صوت نباح خافت … لم يشكَّ لحظة أنه نباح «زنجر» …

توقَّف «عاطف» يستمع في انتباه ليحدد مصدر النباح … وخُيِّل إليه أنه يأتي من مكان ما خلفه … وأخذ يسير بين الأشجار والأعشاب الكثيفة … متوقفًا بين لحظة وأخرى يتسمَّع حتى اقترب من مصدر الصوت … ووجد نفسه أمام ممر طويل من الأحجار الضخمة … سار فيه محاذرًا حتى وصل إلى نهايته والصوت يزداد اقترابًا … حتى انحرف يسارًا وفوجئ بجدار من الخشب القديم وقف أمامه … ثم وضع أُذُنَه عليه … وسمع صوت «زنجر» الحزين … كان واضحًا أن «زنجر» مريض أو مصاب … فقد كان صوته غير منتظم … ونباحه يرتفع وينخفض كأنه يستغيث …

سار «عاطف» بجوار السور الخشبي … وقد غاصت قدماه في الأتربة والأعشاب التي كانت أطرافها المدببة تجرح ساقَيه وتؤلمه … ولكن انتباهه كله كان موجهًا إلى صوت «زنجر» وأخيرًا وجد فتحة بين لوحَين من الخشب توقَّف عندها وأخذ ينظر خلف الجدار … كان الظلام كثيفًا في الداخل … ولكن كان ثمة شعاع من الضوء يأتي من مصدر بعيد … وبعد لحظات أخذت عينَا «عاطف» تألفان الظلام … وعلى الضوء الخفيف استطاع أن يتبين محتويات المكان … كان مخزنًا قد امتلأ بالبراميل القديمة وإطارات السيارات والصفائح الفارغة … ولم يُعثر ﻟ «زنجر» على أثر … واستنتج على الفور أنه في الأغلب مختفٍ خلف شيء من هذه الأشياء … وكانت المشكلة كيف يصل إليه …

كانت الفتحة التي ينظر منها عَرْضها نحو عشرين سنتيمترًا … وكانت كافية إذا كان «زنجر» حرًّا أن يخرج منها … ومعنى ذلك أنه مقيد … وأخذ «عاطف» يحاول المرور من الفتحة … واستطاع أن يدخل بجسده … وبقي رأسه خارجًا … وتصور في هذه اللحظة أن يظهر «هانز» أو أحد رجاله … ومن المؤكد أنهم سيُمسكونه كما يمسكون فأرًا في مصيدة … واستجمع قوته … وأبعد لوحَي الخشب أحدهما عن الآخر ثم دخل إلى المخزن المظلم … وأخذ يقترب من مصدر صوت «زنجر» الذي كان قد ضعف كثيرًا حتى لم يَعُد يسمع … ونادى «عاطف» بصوت خفيض: زنجر … زنجر …

ويسمع نباح الكلب العزيز … كان نباحًا خافتًا كأنه يأتي من بئر عميقة … واقترب «عاطف» أكثر وهمس: زنجر … زنجر …

ونبح الكلب نباحًا حزينًا خافتًا … وعرف «عاطف» مصدر الصوت … كان في أحد البراميل الفارغة … واقترب منه … وأخرج بطاريته الرفيعة التي يحتفظ كلُّ واحد من المغامرين الخمسة بواحدة منها … وأطلق خيطًا رفيعًا من الضوء داخل البرميل، وسقط شعاع الضوء على جسد «زنجر» الأسود … ولكنه لم يَعُد أسود لامعًا كما كان دائمًا … كان الغبار والتراب والقاذورات تغطِّيه … وكانت عيناه قد فقدتَا لمعانَهما الجميل … وأحس «عاطف» أن قلبه يعتصر … وأنه غاضب جدًّا وحزين ومدَّ يديه يحمل الكلب العزيز … كان واضحًا أنه مصاب بإصابات بالغة بآلة حادة … في مكان ما من جسده … فقد كان شعره ملبدًا بالدماء الجافة … وقال «عاطف» وصوته مختنق بالبكاء: «زنجر» … ماذا جرى لك؟

وأخذ الكلب يلعق يدَي «عاطف» … كان لسانه جافًّا؛ فقد كان شديد العطش، وغلا الدم في عروق «عاطف» من شدة الغضب ومن وحشية هؤلاء … كيف يعاملون «زنجر» بهذه القسوة وهو حيوان أعجم؟!

حمله بين ذراعَيه وأخرجه من البرميل … كان بالإضافة إلى إصاباته مربوطَ اليدين والقدمين … ووضع «عاطف» بطاريته الصغيرة على الأرض … وعلى ضوئها الخفيف أخذ يفك وثاق «زنجر» … ثم حمله بين ذراعَيه ووقف … وفجأة سمع صوت أقدام تقترب … وفتح باب المخزن فأصدر صريرًا عاليًا … ثم سمع صوت مفتاح النور … فزاد اضطرابه ولكن النور لم يُضِئ … وسمع صوت رجل يقول ساخطًا: ألم آمرك بأن تُصلح هذا النور!

رد الآخر: لقد نسيت يا سيدي!

الأول: إنك دائمًا تنسى كل شيء … اذهب وأحضر لنا شمعة أو أي شيء …

قال الآخر: إنني أستطيع إخراج الأشياء التي تطلبها يا سيدي …

الأول: أية أشياء أيها الغبي … إنني أريد النزول …

الآخر: سآتيك يا سيدي بشمعة على الفور …

وسَمِع صوتَ أقدام تبتعد … وصوتَ تنهُّدٍ عميقًا … وأدرك أن فرصته السانحة لن تكرر … فعدم إضاءة النور كان ضربةَ حظٍّ موفقة … ربما لا تتكرر … كان عليه أن يتحرك … ولكنه في الوقت نفسه يخشى أن يراه الرجل أو يحس به. وخاصة أن بطاريته على الأرض وما زال الضوء الرفيع ينبعث منها داخل البرميل بعيدًا عن الرجل ببضعة أمتار … انحنى «عاطف» على «زنجر» وقال له: هل تستطيع الحركة يا «زنجر»! ودون أن ينتظر إجابته وضعه على الأرض … وعلى الفور فَهِم «زنجر» المطلوب منه … ومشَى … وبعد لحظات كان قد اختفى بلونه الأسود في الظلام …

وقف «عاطف» يفكر ثم قرر أن يتحرك … انحنى ليلتقط بطاريته ولسوء حظه حدث ما كان يخشاه … فقد ارتطم رأسُه بحافة البرميل الخشبي وأحدث صوتًا عاليًا … وسمع صوت الرجل يقول: مَن هناك؟

وفي الوقت نفسه أحسَّ برأسه يدور وبأنه سيسقط على الأرض … ولكنه تمالك نفسه وجلس على الأرض … وتناول بطاريته …

كان الرجل الواقف بالباب ما زال يصيح: مَن هناك؟

ولم يردَّ «عاطف» بالطبع … وفي هذه اللحظة سمع صوت أقدام الرجل الآخر.

ثم قال الأول: سمعت خبطة في اتجاه البراميل …

الثاني: لعل ذلك الكلب اللعين ما زال حيًّا …

الأول: ألم آمرك أن تأخذَه وتُلقيَه في الجبل …

الثاني: تركته ليموت أولًا يا سيدي … ثم انتظرت هبوط الظلام … فقد يراه أحد معي …

الأول: إنني ما زلت مندهشًا كيف دخل السيارة …

الثاني: لا بد أننا نسينا إغلاق الباب الخلفي جيدًا … ومن الواضح أنه كلب ذكي … فقد رآنا اثنين فقط … فأدرك أننا سنركب في المقعد الأمامي … فاختفى في الجزء الخلفي للسيارة …

الأول: على كل حال … لا تنسَ أن تذهبَ وتُلقيَه بعيدًا … فنحن لا ندري مَن هم أصحابه … ولعله ذلك الولد السمين الذي اقتحم اليخت ليُنقذ الفتاة التي خطفناها …

كان «عاطف» يستمع برغم إحساسه بالدوخة … وقد كانت المعلومات التي يسمعها على جانب كبير من الأهمية … وخاصة رغبة الرجل الأول في النزول … ماذا يعني بالنزول؟ لا شيء إلا أن يكون تحت أرض المخزن … فما الذي تحت الأرض …

قال الأول: تعالَ نحرك البراميل …

وسمع «عاطف» صوتَ أقدامهما تقترب منه … ولم يكن أمامه إلا أن يدخل في البرميل الذي كان به «زنجر» … ثم تكوَّم في قاعه … وجلس ينتظر … ورأى ضوء البطارية يطوف بحافة البرميل … وأدرك أن نظرة واحدة من أحد الرجلين إلى داخل البرميل ستكون كافيةً للقضاء عليه … ألم يحاول «هانز» قتلَ الرجل الذي أنقذه من الغرق … ألم يحاول قتلَ «زنجر»؟ … إنه قاتل شرير لا يرحم … وانتظر «عاطف» اللحظات التالية فما سيحدث فيها سيحدد مصيره … وسمع صوت البراميل ترتطم بعضها ببعض … ثم وجد برميلًا يسد فوهة البرميل الذي اختفى بداخله … كان هذا إنقاذًا مؤقتًا له … ولكن ماذا بعد ذلك؟!

سمع الأول يقول: أين البرميل الذي وضعت فيه الكلب؟

رد الأخر: لا أدري … لعله هذا البرميل الذي سددنا فوهته …

الأول: لا تنسَ أن تذهب بهذا الكلب بعيدًا … وتتأكد من موته … إننا يجب ألَّا نتركَ شيئًا للمصادفة … ومثل هذه الكلاب قد تكون من الذكاء بحيث تكشفنا …

الثاني: تأكد أنني سأفعل ذلك الآن يا سيدي بعد أن تنزل!

أخذت البراميل تتحرك … وأدرك «عاطف» أن الفتحة التي سينزل منها الرجل مخفاة تحت البراميل … وبعد دقائق … توقفت حركة البراميل وسمع صوت باب يفتح ثم يغلق بعد لحظات …

مضَت ثوانٍ قليلة بعد نزول الرجل … وبدأ الآخر يحرِّك البراميل مرة أخرى، وأدرك «عاطف» أنه سيبحث عن «زنجر» الآن … وأنه سيواجهه بعد لحظات …

انكمش في قاع البرميل … وجعل ظهره إلى القاع … وقدمَيه إلى الأمام … وأدار الرجل البرميل يمينًا … وانحنى لينظر فيه … وكانت اللحظة المناسبة … ضربه «عاطف» بكل ما يملك من قوة بقدمه في وجهه … وصرخ الرجل وهو يسقط على ظهره متألمًا … واندفع «عاطف» خارجًا من البرميل زحفًا … كان يريد أن يكسب الوقت قبل أن يستردَّ الرجلُ حركتَه … ولكن الرجل كان أذكى مما توقع «عاطف» … فقد دفع قدمَه بين قدمَي «عاطف»، فاختلَّ توازنه وسقط على الأرض … وكان ضوء المصباح الذي سقط من الرجل يضيء جزءًا من المكان … فمدَّ «عاطف» يدَه وأمسك به ووجهه إلى وجه الرجل الذي كان مندفعًا إليه … وأعشى الضوءُ بصرَ الرجل لحظات كانت كافية ليجريَ «عاطف» ناحية الباب … واندفع خلفه الرجل … وعندما اقترب منه … دفع «عاطف» أحد البراميل بقدمه فارتطم بقدمَي الرجل فسقط … ثم أخرج مسدسًا … وألقى «عاطف» بنفسه على الأرض وانطلقت رصاصة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤