الفصل الثالث

غُرباء في المنزل القديم

عندما اقتربَا من البيت العتيق الحبيب إليهما، ومرَّا بأماكنَ مألوفةٍ، ازدادت حماسةُ ديفيد للغاية، وأخذ يَلفِت انتباه بيجوتي إلى تلك الأماكن، ويُبدي مدى تَوْقه للارتماء بين ذراعَي أمه.

ولسببٍ ما، لم تَنخرِط بيجوتي معه في فرحته العارمة، وإنما حاوَلَت أن تكبحها بهدوء، وبدتْ مرتبكةً غاضِبة.

لكنهما وصلَا أخيرًا إلى منزل روكاري (هو اسم منزلهم، ويعني اسمُه: بيت الغِربان) بقرية بلاندستن؛ فأوقف الحمَّال حصانه، ونزل ديفيد وبيجوتي.

انفتح الباب، ورفع ديفيد رأسه، وهو بين ضحكٍ وبكاءٍ، كي يرى أمَّه؛ لكنْ لم تكن أمُّه تلك التي عند الباب. لقد كانت خادمةً غريبة.

صاح ديفيد بنبرةٍ حزينةٍ قائلًا: «يا إلهي، بيجوتي! ألم تأتِ أمي إلى البيت؟»

قالت بيجوتي: «بلى، بلى يا سيد ديفي، لقد عادت إلى البيت. انتظر قليلًا يا سيد ديفي، وسوف … سوف أُخبركَ أمرًا.»

كانت بيجوتي في حالةٍ شديدةٍ من القلق. ثم أمسكتْ ديفيد من يده، وأخذتْه إلى المطبخ، وأغلقت الباب.

صاح ديفيد في ذُعرٍ شديد: «بيجوتي! ما المُشكلة؟»

أجابت بيجوتي، وهي تُحاول الكلامَ بنبرةٍ مُبتهِجة: «ما من مشكلةٍ يا سيدي العزيز ديفي، باركك الله.»

«بل هناك مشكلةٌ، أنا متأكدٌ من هذا. أين أمي؟»

ردَّدت بيجوتي كلامه قائلةً: «أين أمك، يا سيد ديفي؟»

قال ديفيد: «نعم، لماذا لم تخرج إلى البوابة، ولماذا أتينا إلى هنا؟ آهٍ يا بيجوتي!» وبدأ يَرتجِف.

«بوركت أيها الغالي! ما الأمر؟ تكلَّم يا حبيبي!»

«لم تمُت، هي الأخرى! آه، هل ماتت يا بيجوتي؟»

صاحت بيجوتي قائلةً: «لا.» ثم قالت له، وهي تلهث، إنه قد أفزعها للغاية. وأضافت، عندما هدأت: «أتدري يا عزيزي، كان يجدر بي أن أُخبرك قبل الآن، لكن لمْ تُتَح لي الفرصة. ربما كان ينبغي لي أن أصنع أنا تلك الفرصة، لكنَّني لم أستطع أن أتذكرها.»

ألحَّ عليها ديفيد قائلًا، وقد تملَّكه الخوفُ أكثر من ذي قبل: «أكملي يا بيجوتي.»

قالت بيجوتي وهي تحلُّ قلنسوتها بيدٍ مرتعشة: «سيد ديفي، ما رأيُك؟ لقد أصبح لديك أب! واحدٌ جديد!»

ردَّد ديفيد كلامها: «واحدٌ جديد!»

التقطت بيجوتي أنفاسها، وقالت وهي تمدُّ يدها: «تعالَ لتراه.»

«لا أريد أن أراه.»

قالت بيجوتي: «ووالدتك.»

أخذته بيجوتي إلى الردهة، وتركته هناك.

حيث كانت أمُّه تجلس على أحد جانبَي المدفأة؛ وعلى الجانب الآخر يجلس الرجلُ ذو السالفين الأسودين.

لقد تزوَّجت السيدة كوبرفيلد السيدَ ميردستون.

تركت السيدة كوبرفيلد ما كان في يدها من أعمال التطريز، ونهضت مسرعةً، ولكن بتهيُّبٍ، لاستقبال ابنها الصغير.

قال السيد ميردستون: «والآن يا كلارا، يا عزيزتي، تحكَّمي في أعصابك. أيها الولد ديفي، كيف حالُك؟»

صافحه ديفيد. ثم ذهب وقبَّل أمه. فقبَّلتْه أمُّه هي الأخرى، وربتت برفقٍ على كتفه، وعادت لما كان في يدها من أعمال التطريز ثانيةً، وكأنما كانت تَخشى أن تُظهِر مدى شِدة حبِّها لابنها الصغير أمام زوجها.

شعر ديفيد بذهولٍ شديد. وهو يعلم أن السيد ميردستون ينظر إلى كلٍّ منهما، فاستدار إلى النافذة وراح ينظر خارجها.

ثم انسلَّ ديفيد إلى الطابق العلوي حالَما أُتيحت له الفرصة. ولم يدخل إلى غرفة النوم القديمة الحبيبة. حيث أصبحت له غرفة نومٍ غيرها الآن. كم تغير كلُّ شيء! لم يعُد المكان يُشبه البيت القديم في شيءٍ تقريبًا. نزل ديفيد إلى الطابق السُّفلي، وراح يتجوَّل في الفناء؛ لكنَّ بيت الكلب الخالي أصبح به كلبٌ أسود كبير، وقد ثار غضبُه جدًّا عندما رأى ديفيد، وقفز خارج البيت ليصل إليه.

فعاد ديفيد مُسرعًا إلى غرفة نومه، وظلَّ طوال المسافة إلى الطابق العُلوي يسمع نباح الكلب في الفناء. كان قلبه مثقلًا بحزنٍ كبير؛ يا إلهي! يا لها من عودةٍ إلى المنزل!

جلس ديفيد على طرف سريره وراح يتذكر الصغيرة إيميلي، وتمنَّى لو أنهم تركوه معها؛ لأنه يبدو ألَّا أحد يريده هنا. لقد أحسَّ بتعاسةٍ كبيرة، وفي النهاية غطَّى نفسه بأحد أطراف غطاء السرير، وراح يبكي إلى أن نام.

استيقظ ديفيد في النهاية على صوتٍ يقول: «ها هو ذا.» وأزال شخصٌ ما غطاءَ السرير من على رأسه. وحينئذٍ وجد أن والدته وبيجوتي قد جاءتَا تبحثان عنه.

قالت أمُّه: «ديفي، ما المشكلة؟»

اعتقد ديفيد أنه من الغريب أن تسأله أمُّه هذا السؤال؛ وأدار وجهه ليُخفيَ شفتَيه المرتجفتَين.

قالت أمُّه ثانيةً: «ديفي، ديفي، يا بُنيَّ.»

لكنَّ ديفيد خبَّأ وجهَه في كسوة السرير، وأبعد أمَّه عنه بيده.

قالت والدةُ ديفيد: «بيجوتي، هذه فعلتُكِ، أنتِ أيتها القاسية.» هكذا راحت تصيح متهمةً إيَّاها بأنها حاولت أن تجعل ابنها يتحامل عليها.

قالت بيجوتي: «سامحكِ الله يا سيدة كوبرفيلد، وأرجو ألا تندمي أبدًا على ما قُلتِه الآن!»

قالت والدة ديفيد: «يكفي تشويشًا لي … في شهر العسل أيضًا، بينما كان من الممكن أن أحظى بقليلٍ من راحة البال والسعادة.» ثم صاحت وهي تُدير رأسها بينهما بطريقتها العنيدة الشبيهة بتصرفات البنات: «ديفي، أنت أيها الولد السيئ السلوك! وأنت يا بيجوتي!»

فجأةً أحسَّ ديفيد بلمسةِ يدٍ علِم أنها لم تكن يدَ أمه ولا يدَ بيجوتي، فانزلق واقفًا على قدمَيه بجوار السرير. حيث كانت يد السيد ميردستون، وظلَّ ممسكًا ذراع ديفيد بها، وقال:

«ما هذا؟ كلارا، حبيبتي، هل نسيتِ؟ الثبات يا عزيزتي!»

قالت والدة ديفيد بتلعثم: «أنا آسفةٌ جدًّا يا إدوارد. كنتُ أريد أن أكون في أحسن حال، لكنني منزعجةٌ جدًّا.»

قال السيد ميردستون: «فعلًا! هذا خبرٌ سيئ وقد جاء قبل أوانه.» ثم جذبها إليه، وهمس بشيءٍ في أُذنها، وقبَّلها، وأضاف قائلًا: «انزلي أنتِ يا حبيبتي؛ سوف أنزل أنا وديفيد معًا.» ثم التفت إلى بيجوتي عابسًا وقال: «صديقتي، هل تعلمين اسم سيدتِك؟»

قالت بيجوتي: «إنها سيدتي منذ وقتٍ طويلٍ يا سيدي. ينبغي أن أكون على علمٍ به.»

أجابها: «هذا صحيح، لكنني وأنا صاعدٌ على الدَّرَجِ، سمعتُكِ تُخاطبينها باسمٍ غير اسمها. ألا تعلمين أنها قد أصبحتْ تحمل اسمي، هل ستَتذكرين هذا؟»

انحنت بيجوتي، دون رَدٍّ، ثم خرجت من الغرفة، وهي تنظر إلى ديفيد نظراتٍ خائفةً عَجلى؛ وعندما أصبح الاثنان بمفردهما، جلس السيد ميردستون على كرسيٍّ وأوقف ديفيد أمامه.

وقال: «ديفيد، لو كان عليَّ التعاملُ مع حصانٍ أو كلبٍ عنيد، ماذا تظنني سأفعل؟»

«لا أدري.»

«سأضربه.» وهنا شهق ديفيد. «سأجعله يجفل ويتألَّم ألمًا شديدًا. ما هذا الذي على وجهِك؟»

قال ديفيد: «إنه متسخ.» لأن قلبه الطفوليَّ كان سيتفطَّر حزنًا قبل أن يعترف بأن البقع التي على وجهه كانت من أثر الدموع.

ابتسم السيد ميردستون. وقال وهو يشير إلى حوض الاغتسال: «اغسل هذا الوجه أيها السيد، وتعالَ معي إلى الأسفل.»

ففعل ديفيد ما أمره به، ثم أخذه السيد ميردستون إلى الردهة بالطابق السفلي، ويده لا تزال ممسكةً بذراعه.

وقال: «كلارا، عزيزتي، لن يُزعجكِ شيءٌ بعد الآن، أرجو ذلك. قريبًا سنُحسِّن من سلوك فتانا.»

كان ديفيد يعلم أنَّ أمه حزينة لرؤيته وهو يبدو خائفًا وغريبًا هكذا، وعندما انسلَّ إلى أحد المقاعد، أحسَّ بها تتبعه بعينيها بحزنٍ أشد؛ لكنها بدتْ أكثر تهيبًا من أن تضمَّه بين ذراعيها وتُقبِّله كما كانت تحب أن تفعل.

ثم تناولوا العشاء بمفردهم … هم الثلاثة معًا. وقد بدا السيد ميردستون مغرمًا للغاية بزوجته الشابة الجميلة، وهي كذلك. لكنَّ هذا لم يزد ديفيد حُبًّا له عن ذي قبل مطلقًا. وقد استنتج من كلامهما أنهما كانَا يترقبان مجيء أخت السيد ميردستون الكبرى لتُقيم معهم تلك الليلة.

وبعد العشاء توقفتْ عربةٌ أمام الباب، وخرج السيد ميردستون لاستقبال أخته. حينئذٍ احتضنتْ ديفيدَ والدتُه بين ذراعيها وقبَّلتْه بحنانٍ، وقالت له هامسةً إنَّ عليه أن يحبَّ أباه الجديد وأن يُطيعَه؛ ثم مدَّت يدها وراءها، وأمسكت يده في يدها، وخرجت معه وهما على هذه الهيئة إلى الحديقة.

كانت الآنسة ميردستون سيدةً كئيبة المظهر؛ عابسةً مثل أخيها، كما تُشبهه كثيرًا في وجهه وصوته.

سألت الآنسةُ ميردستون، بعدما أدخلوها إلى الردهة: «هل هذا هو ابنُكِ يا زوجةَ أخي؟ أنا لا أحب الصبيان. كيف حالك يا ولد؟»

وكان من الواضح أن الآنسة ميردستون قد جاءت لتمكث إلى الأبد.

وفي صباح أول يومٍ بعد وصولها مباشرةً قالت على مائدة الإفطار: «والآن، كلارا، عزيزتي، لقد جئتُ إلى هنا لأُريحكِ من كل عناءٍ أستطيع إراحتَكِ منه. إنكِ أكثرُ جمالًا وطيشًا بكثيرٍ مِن أن يُفرض عليكِ أيُّ واجباتٍ أستطيع أنا التكفلَ بها. إذا تكرمتِ بإعطائي مفاتيحَكِ يا عزيزتي، فسأُعنى بكلِّ هذه الأمور في المستقبل.»

وهكذا تسلَّمت الآنسةُ ميردستون المفاتيح، وشرعتْ في إفراغ محتويات غرفة الخزين وجميع الخزانات، وتنظيم كل شيءٍ على هواها؛ وهمَّشتْ زوجةَ أخيها تمامًا.

لم يُعجب هذا والدةَ ديفيد كثيرًا، وحاولت أن تعترض؛ وفي النهاية تكلَّمتْ فجأةً ذات يومٍ وقالت: «إنه أمرٌ صعبُ الاحتمال للغاية ألَّا أستطيع وأنا في منزلي أن …»

ردَّد السيد ميردستون كلامها: «منزلي؟ يا كلارا!»

قالت متلعثمة، ومن الواضح أنها كانت مذعورةً: «أعني منزلنا. إنه لصعب الاحتمال للغاية ألَّا أستطيع، وأنا في منزلك يا إدوارد، أن أقول كلمةً واحدةً بشأن الأمور المنزلية. أنا متأكدةٌ أنني كنتُ أفعل هذه الأشياء جيدًا جدًّا من دون مساعدةٍ قبل زواجنا.»

قالت الآنسة ميردستون: «إدوارد، فلننتهِ من هذا الأمر. أنا راحلةٌ غدًا.»

غضب السيد ميردستون للغاية بسبب ذلك، وأخذت والدةُ ديفيد تبكي، وفي النهاية طلبت من الآنسة ميردستون أن تُسامحها، وطلبت منها بتواضُعٍ أن تحتفظ بالمفاتيح، وقبَّلتْها، وحاولتْ أن تُصالحها.

شعر ديفيد بحزنٍ كبيرٍ على والدته لدرجة أنه ظلَّ يبكي حتى نام. وبعد هذا تركت الزوجةُ المسكينة الصغيرةُ إدارةَ منزلها كله في يدي الآنسة ميردستون، ولم تعُد إلى الاعتراض مطلقًا.

وقد اعتاد ديفيد أن يتساءل، كلما ساروا إلى المنزل عائدين من الكنيسة — السيد والآنسة ميردستون في المقدمة، والزوجة الصغيرةُ بينهما، وديفيد نفسه يسير خلفهم متباطئًا — إن كان الجيرانُ قد تذكروا قط، مثلما يتذكر هو دائمًا، كيف كان يسير هو ووالدتُه عائدَين إلى المنزل وكلٌّ منهما ممسكٌ بيد الآخر في محبةٍ وسعادةٍ كبيرتين وهما معًا. لقد ولَّى ذلك الزمنُ السعيد إلى الأبد!

لقد كان يرى الجيران يتهامسون أحيانًا، ويُنقِّلون أبصارهم بينها وبينه. وعندما ينظر إليها يجد أن مِشيتها لم تعُد رشيقةً للغاية كما كانت من قبل، وأن وجهها الذي كان يومًا ما يُشبه وجوه البنات أصبحتْ تكسوه نظرةٌ قلِقةٌ حزينة.

كان ديفيد يتعلم دروسه على يد أمِّه مثلما يفعلان دائمًا، لكن لأن السيد والآنسة ميردستون كانا موجودَين عادةً في الغرفة؛ فقد أصابه وجودهما بالتوتر، وأصبحت دروس الجغرافيا أو التهجئة التي كان يبذل جهدًا كبيرًا للغاية كي يتعلَّمَهما تطير من رأسه، وأخذ يتلعثم ويُخطئ.

كان يجول في خاطره، في تلك الأوقات، أن أمَّه لو امتلكت الجسارة لأرتْه الكتاب. وفي الواقع، لقد كانت تُحاول أحيانًا أن تُلمح له بالكلمةِ عن طريق تحريكِ شفتيها أمامه دون أن تُصدر صوتًا.

«كلارا!» لكن صرخة الاحتجاج هذه كانت تَنطلق من فم السيد ميردستون؛ حيث تَنتفض والدةُ ديفيد فزَعًا، ويحمرُّ وجهُها خجلًا، وتُحاول أن تَبتسم.

حينئذٍ كان السيد ميردستون يأخذ الكتاب منها، ويرميه على ديفيد، أو يَلكم به أُذنيه، أو يدفعه في كتفيه ويطرده خارج الغرفة.

جعلت هذه المعاملة ديفيد غاضبًا ومتبلدًا وعنيدًا؛ خاصةً لأن السيد والآنسة ميردستون كانَا يُبعدانه عن أمِّه كلما سنحت لهما الفرصة. لكنه برغم هذا لديه مصدرُ سُلوانٍ لم يكن السيد ولا الآنسة ميردستون يعرفان عنه شيئًا؛ ومنبعُ سرورٍ، كذلك، ما كانا يستطيعان أن يسلباه منه.

كان الأمر كالآتي. في غرفةٍ صغيرةٍ مجاورةٍ لغرفته، في الدور العلوي، ويستطيع دخولها متى شاء، وجدَ مجموعةَ كتبٍ كان يمتلكها أبوه المتوفى. يا إلهي! يا لتلك الكتب البهيجة! فكلما أحسَّ بضيقٍ ينسلُّ إلى الأعلى ويقرأ هذه الكتب؛ يا لها من كتب! «مغامرات رودريك راندوم»، «مغامرات بيراجرِن بيكل»، «بعثة هامفري كلينكر»، «روبنسون كروزو»، «ألف ليلة وليلة»، وعددٌ كبيرٌ من الكتب الأُخرى التي حفظها عن ظهر قلب. وكان بطريقته الصبيانية يتخيل نفسه رودريك راندوم، أو يُحاكي روبنسون كروزو، وقد وجد بهذا قدرًا كبيرًا من العزاء.

وفي صباح أحد الأيام دخل ديفيد بكتبه إلى الردهة، فرأى على وجه أمِّه علاماتِ قلقٍ كبير، بينما راح السيد ميردستون يُلوِّح بعصًا في الهواء، وسمعه ديفيد يقول: «لقد ضُربتُ أنا نفسي بالعصا مِرارًا.»

لا شك أن هذا جعل ديفيد أكثر توترًا وبلادةً من أيِّ وقتٍ مضى، وبدأ يُخطئ أخطاء كثيرةً في دروسه. وقد كانت الدروس تُدَّخر له درسًا بعد الآخر ليذاكرها من جديد، إلى أن انفجرت أمُّه في البكاء.

قالت الآنسة ميردستون بنبرة تحذير: «كلارا!»

قالت الأم متلعثمة: «أظن أنني لستُ على ما يرام.»

قال السيد ميردستون وهو يرفع العصا: «ديفيد، سوف تصعد معي إلى الطابق العُلوي، أيها الولد.»

مدَّت الأم ذراعَيها وجرت خلفهما إلى الباب؛ لكنَّ الآنسة ميردستون أوقفتها، ورآها ديفيد وهي تضع أُصبعيها في أُذنيها، وسمعها تبكي.

أخذ السيدُ ميردستون ديفيد إلى الطابق العلوي، وعندما وصلَا إلى غرفته أمسك برأس ديفيد تحت ذراعه.

صاح ديفيد: «سيد ميردستون! سيدي! لا تفعل! أرجوك لا تضربني! لقد حاولتُ أن أتعلم يا سيدي، لكنني لا أستطيع التعلم عندما تكون أنت والآنسة ميردستون موجودَين. لا أستطيع بالفعل.»

قال السيد ميردستون: «ألا تستطيع حقًّا يا ديفيد؟ سنُجرِّب هذا.»

حينئذٍ ارتفعت العصا وهوَتْ عليه بقوة، وفي اللحظة نفسها وضع ديفيد يد السيد ميردستون بين أسنانه، وعضَّها بشدة.

وعندها ضربه السيد ميردستون وكأنما سيَضربه حتى الموت. فراح ديفيد يصرخ، وسمع الآخرين يجرون إلى الدور العلوي. كما سمع أمَّه وهي تصرخ؛ وبيجوتي كذلك.

بعد ذلك تركه السيد ميردستون وأغلق الباب، وانهار ديفيد على الأرض باكيًا مُتألمًا غاضبًا.

بعد قليلٍ بدأ غضبُه يفتر، وبدأ يعتقد أنه كان مُؤذيًا جدًّا عندما عضَّ يد السيد ميردستون. فجلس يستمع؛ لكنه لم يسمع أيَّ صوت. ثم أخذ يحبو ببطءٍ حتى نهض من على الأرض، ونظر إلى وجهه في المِرآة، فرآه متورمًا ومحمرًّا وملطخًا للغاية؛ وقد كان جسمه متقرحًا ومتيبسًا جدًّا من أثر الضرب لدرجة أن الحركة كانت تؤلمه ألمًا شديدًا؛ لكنه راح يحبو حتى وصل إلى النافذة وأسند رأسه على حافتها، وراح ينظر بخمولٍ خارج النافذة، وظلَّ يراوح بين البكاء والإغفاء.

كان الظلام قد بدأ يملأ الغرفةَ عندما أُدير مفتاحُ الباب، ودخلت الآنسة ميردستون بغطرسة ومعها بعضُ الخبز واللحم واللبن. لم تقل الآنسة ميردستون كلمةً واحدة، وإنما نظرت إليه ببرود؛ ثم خرجت مرةً أخرى وأغلقت الباب.

ظل ديفيد جالسًا في غرفته حتى أظلم الجو تمامًا، وظلَّ يتساءل إن كان أيُّ أحد آخر سيأتي إليه؛ ثم خلع ملابسه وزحف إلى فراشه. وبدأ يشعر بالخوف، وهو يرقد في فراشه، بسبب ما فعله، وراح يتساءل عمَّا سيفعلون به.

هل كان ما فعله جريمة؟ وهل سيأتي شرطيٌّ ليأخذه إلى السجن؟ لم يدرِ.

في صباح اليوم التالي وقبل نهوض ديفيد من فراشه ظهرت الآنسة ميردستون من جديد، وقالت له بفتورٍ إنَّ بإمكانه أن يتمشَّى مدةَ نصف ساعةٍ في الحديقة. بعد ذلك كان عليه أن يعود إلى غرفته مرةً أخرى؛ وفي المساء جاءت إليه ورافقته إلى الردهة بالأسفل للمشاركة في صلوات العائلة، حيث كان عليه أن يجثوَ على ركبتَيه من أجل الصلاة بعيدًا عن الآخرين، بقرب الباب. ولم يُسمَح لأمه بالحديث معه؛ بينما كانت يد السيد ميردستون ملفوفةً في ضمادةٍ كبيرةٍ من الكتان.

لو أنه رأى أمَّه بمفردها لكان جثَا على ركبتيه راجيًا عفوها؛ لكنه لم يرها بمفردها مطلقًا. وقد ظلَّ حبيس غرفته طيلة خمسة أيام، وفي الليلة الخامسة، بعدما ذهب إلى النوم، استيقظ على صوتِ شخصٍ ما يهمس باسمه. فانتفض ديفيد من مكانه، وتلمس طريقه إلى الباب ووضع فمه على ثقب المفتاح، وهمس قائلًا: «هل هذه أنتِ يا عزيزتي بيجوتي؟»

ردَّت بيجوتي: «نعم يا حبيبي الغالي ديفي. أَبقِ صوتكَ خفيضًا كصوت الفأر وإلَّا فستَسمعنا القطة.»

عرف ديفيد أنها تَقصد الآنسةَ ميردستون.

وقال: «كيف حال أمي، يا عزيزتي بيجوتي؟ هل هي غاضبةٌ عليَّ كثيرًا؟»

كانت بيجوتي تتكلَّم بصوتٍ خفيضٍ على الجانب الآخر من ثقب المفتاح، وقالت: «لا. ليس كثيرًا.»

«ماذا سيحدث لي يا بيجوتي، هل تعلمين؟»

جاءتْ همسةُ بيجوتي من ثقب المفتاح قائلةً: «مدرسة. بقرب لندن.»

«متى يا بيجوتي؟»

«غدًا.»

«ألن أرى أمي؟»

همست بيجوتي: «بلى ستراها، في الصباح» ثم قرَّبت فمها من ثقب الباب، وقالت في جمل مفكَّكة: «ديفي، عزيزي. إذا كنتُ لم أتعامل معك بوُدٍّ. مؤخرًا، كما كنتُ من قبل. هذا ليس لأنني لا أُحبك. كما كنتُ من قبل وأكثر، يا حبيبي الجميل. لكن لأنني ظننتُ أن هذا أفضل لك. ولشخصٍ آخر كذلك. ديفي، حبيبي، هل تسمعني؟ هل تستطيع سماعي؟»

قال ديفيد وهو يبكي: «ﻧﻌ… ﻧﻌ… نعم يا بيجوتي.»

قالت بيجوتي بحُنوٍّ عظيمٍ للغاية: «عزيزي، ما أريد قوله هو. عليك ألَّا تنساني أبدًا. لأنني لن أنساك أبدًا. وسوف أعتني بوالدتك يا ديفي. كما كنتُ أعتني بك دائمًا. ولن أتركها أبدًا. وسوف أُراسلك يا عزيزي. وسوف … سوف.» انكبَّت بيجوتي على ثقب المفتاح تُقبِّله، لأنها لم تستطع تقبيل ديفيد نفسه.

«أشكركِ يا عزيزتي بيجوتي. آه، أشكركِ! أشكرك. هل تعدينني بشيءٍ يا بيجوتي؟ هل تكتبين رسالةً للسيد بيجوتي والصغيرة إيميلي، والسيدة جوميدج وهام تُخبرينهم فيها أنني لستُ سيئًا للغاية كما قد يظنُّون، وأنني أبعث لهم جميعًا مودتي؛ وخصوصًا للصغيرة إيميلي؟ هل تفعلين هذا، لو تكرمتِ يا بيجوتي؟»

وعدتْه الطيبةُ الكريمة بيجوتي أن تفعل، وقبَّل الاثنان ثقب المفتاح بحُبٍّ كبير.

وفي الصباح ظهرت الآنسة ميردستون كالمعتاد، وأخبرت ديفيد أنه سيذهب إلى المدرسة. فلم يَقُل لها ديفيد إنه خبرٌ قديم.

ونزل معها إلى الردهة حيث كان عليه أن يتناول إفطاره؛ وهناك وجد أمَّه، التي كانت شاحبةً للغاية، وعيناها حمراوان. فجرى ديفيد وارتمى بين ذراعيها، وراح يرجوها أن تسامحَه.

قالت: «يا إلهي، يا ديفي! لا أُصدق أنك تستطيع إيذاءَ أيِّ شخصٍ أُحبه! حاول أن تكون أفضل من هذا. لقد سامحتُك؛ لكنني حزينةٌ للغاية يا ديفي لأنك تَحمل في قلبك مثل هذه المشاعر السيئة.»

هذا لأن السيد والآنسة ميردستون كانَا قد صوَّرا لها ديفيد على أنه ولدٌ مؤذٍ، لا يستحق رحمتَها وحبَّها. حاول ديفيد أن يتناول إفطاره، لكنَّ الدموع سقطت على شطيرة الزبد، وسالتْ داخل فنجان شايه. رأى ديفيد أمَّه تنظر إليه بشفقةٍ، لكنَّ الآنسة ميردستون نظرت إليها، فحوَّلتْ أمُّه عينَيها عنه.

بعد قليلٍ سُمع صوتُ عربةٍ أمام البوابة. وسمع ديفيد الآنسةَ ميردستون تقول: «ضع حقيبة السيد كوبرفيلد هناك!» فجاء باركس، الحمَّالُ، ورفعها من على الأرض ووضعها داخل عربته.

قالت والدة ديفيد وهي مُمسكةٌ به: «مع السلامة يا ديفي. إنكَ ذاهبٌ إلى هناك من أجل مصلحتك. مع السلامة يا بُني. لقد سامحتُك يا ولدي الحبيب. باركك الله.»

قاطعتْها الآنسةُ ميردستون: «كلارا!» فتركته والدتُه، وأوصلته الآنسة ميردستون إلى العربة وقالت إنها ترجو له أن يتوب قبل أن يَنتهيَ به المطافُ إلى نهايةٍ سيئةٍ بسبب أفعاله. لم يرَ ديفيد بيجوتي في أيِّ مكان، ولم يظهر السيدُ ميردستون.

ركب ديفيد العربة، وراح الحصانُ الكسولُ الذي أوصله في ذلك اليوم البهيج إلى يارمث، يجرُّ قدميه جرًّا كعادته مُبتعدًا عن المنزل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤