مقدمة

بقلم  خليل مطران

رغب إلي جورج أفندي أبيض صاحب الفرقة المعروفة الآن باسمه، في ترجمة هذه القصة، فترددتُ زمنًا، ثم أتيح لي أن رأيته يمثل تجربة من «أديب» فأعجبني إتقانه وإتقان بعض أعوانه واستخرتُ الله في نقل عطيل إلى لغتنا الشريفة.

فلأذكر أولًا ما دعاني إلى اختيار اسم عطيل ردًا على بعض المعترضين.

كان عطيل في زعم القصّاص الذي نقل عنه شكسبير أصل هذه الحكاية، بدويًا مغربيًا جلا إلى البندقية وخدم في جيشها حتى أصبح قائده الأكبر، وعقيده في الملمَات.١ والمغاربة يومئذ خليط من العرب والبربر المستعربة. فأما أن يكون قد دعي منذ مولده باسم إفرنجي فغير محتمل، وأما أن يكون قد دعي باسم عربي حرفته العجمة، فهو الأصح عقلًا. فإذا رددنا أوتلُّو إلى لسانه الأصلي، فالذي يستخرج من حروفه أحد اثنين: عطاء الله أو عُطيل. فأما عطاء الله فلم أتوصل إلى تحقيق أن مغربيًا واحدًا سمي به ولهذا ضربتُ عنه صفحًا، وأما عطيل فقد اعتقدت أنه الأخلق بالاختيار لسببين: أحدهما أنه شبه بما جرت به عادة العرب على تسمية الزنوج به من ألفاظ التحبب أمثال مسعود ومسرور وزيتون ومرجان للذكور، وخيزران وضياء للجواري. ومعلوم أن عطيلًا تصغير تحبب لصفة عُطل بمعنى عاطل أو خلو من الحلية، فتسمية أحد الزنوج به إنما هي محاكاة صحيحة لاصطلاح العرب. وثانيهما لأن «عطيل» بضم ورفع آخره مع تخفيف التنوين أقرب إلى أوتلو من كل اسم سواه.
بقي في هذا الصدد أن أقول مرورًا للذين تمنوا لو أبقيت اسم أوتلو كما أورده المؤلف، إنني لم أوافقهم على هذا لأنني كرهت أن أثبت في العربية اسمًا من أسمائها على الرطانة٢ التي حرّفته إليها العجمة لغير ما سبب سوى الشهرة التي اكتسبها على تلك الصورة، في حين أنه لا يتعذر إكسابه مثلها وهو مردود إلى أصله التقديري أو التحقيقي من غير أن نسوم مسامعنا جراحة تحريفه. ذلك أوحى إليّ اليقين أنه خير وأولى.

بعد هذا التفسير الذي تقاضتني إياه بعض الصحف، ونفر من الأصدقاء، أرجع إلى الرواية، ولي فيها مبحثان موجزان، من جهة الأصل، ومن جهة التعريب.

•••

أما من جهة الأصل فأقول إن واضع هذه القصة إنما هو نابغة الأدهار في فنه وأعني به شكسبير. وضعها لإظهار الغيرة وتأثيرها في الرجل بأقوى وأصدق ما دلّ عليه الاختبار من أمرها، ولذلك اختار عاشقًا إفريقيًا بدوي الفطرة، ليكون وثّاب الشعور عنيفه، عسكري المهنة، ليكون سريع التصديق والانخداع، مكتهلًا أي في أول الانحدار من سن الأربعين، ليكون أشد في التعشق كما هي شيمة أمثاله ممن يسطو عليهم الحب بعد انقضاء الشباب، وليكون أيضًا في الحالة التي يتهم فيها الإنسان نفسه بفقدان أكثر الخلال التي يقضيها الغرام ولا سيما حينما يكون المستهام أسود البشرة من أحلاس٣ الحروب، والمستهام بها بيضاء منعمة من قوم فسدة الأخلاق مترفين.

ذلك هو الغرض الأساسي العام الذي رمى إليه شكسبير فأصاب به دقائق الحقائق إصابة كانت في جملة ما جمل أكابر المفكرين وأعاظم الكتبة على الشهادة له بأنه أخبر خبير بخفايا القلوب، وأمهر كشاف لخباياها.

ثم إنه أدار حول هذا المحور غرضين ثانيين: أحدهما إثبات أن العفة لا تنتفي من مدينة مهما فسقت بل قد تزداد تمكنًا من نفس المرأة المتحصنة بمقدار ما تندر العفة بين جيرتها وفي عشيرتها والثاني تبين الاحتيال ونهاية ما يبلغه من نفس رجل ذكي مطماع خسيس أصم الضمير، مستبيح كل محرم، مستهين كل منكر في سبيل غايته.

كيف صرف شكسبير قريحته العجيبة في ألوف الجزئيات التي تؤدي إلى تصوير الغرض الكلي والغرضين الملحقين به؟ ذلك ما يقف عليه القارئ أول وهلة من مطالعته للقصة فإنه يشعر قليلًا قليلًا أن الأسماء تمحى ويستبدل بها أشخاص مقومون في أصلح تقويم لكل منهم. ويدخل متدرجًا من الوهم في الحقيقة فيرى وهو يسمع ويسمع وهو شاهد مشاهد مما ألفه في الحياة لا يرده إلى كونه قارئًا سوى انتهائه إلى دفة الكتاب.

ومن جهة هذا التصوير الأخاذ الذي يصور به شكسبير الحقيقة رأى بعض جهابذة النقاد أن ذلك الأستاذ العظيم يبالغ فيه مبالغة قد يجاوز معها الحدود التي يرسمها الفن. صدقوا ولكن هل كانت عبقرية هذا الرجل لتحد بحدود، وهل مثل العقل الذي رزقه كان مما يقيد بقيود؟

الشاعر الذي افتتن «فكتور هوجو» بغرابة شعره، وجد عند فراسته وطلاقته وقوة تمثيله للمعنويات بالحسيات. مبدأ المذهب الحر الذي ذهب إليه فيما بعد هو وأضرابه وأصبح سنة الكتاب في العالمين.

الكاتب المنقب المتعمق في مظاهر الخلائق ومضمراتها مع قدرة على المحاكاة ومهارة في الاختيار وبراعة في التأليف وسلطة على اللفظ يستدني به أبعد المعاني ويقيد أوابد الوجدانات الذي أعجب به المؤرخ الفيلسوف «تاين» وناهيك بألوف المعجبين غيره من قبله ومن بعده.

الأديب الذي تترجم مكتوباته على وفرتها إلى كل لغات الدنيا، وفي بعض اللغات كالفرنسوية تكثر تلك الترجمات وتتنوع ويجيز أحاسنها المجمع الأدبي الأكبر كما أجيزت ترجمة «مونتيجو» و«ليتورنور» وغيرهما فتطلع الأمم المختلفة الألسنة والأجناس والأذواق والملل والنحل على مكتوباته سواء في أصلها أو في غير أصلها، وتقرها في أعلى منزلة عندها لجمعها المذهِب والمطرب إلى المفكه والمفيد والمبكي والمضحك إلى الزاجر والمؤنس.

أهذا الذي يطلب منه أن يكون أسير اصطلاح وعبد لفظة ورقيق أوضاع سبق الاتفاق عليها. خرج شكسبير عن ذلك الطوق ونعمَّا فعل. ولو أبقاه في عنقه لما اشرأب صعدًا إلى مناجاة أجرام السماء، ولا أطاق الإكباب إلى أبعد أغوار الأسرار في الطبائع البشرية.

من ذلك المنجم العظيم نجمت «عطيل» وهي إحدى آيات مستخرجاته، ولما كنت أعهده فيها من نادر المزايا وجدتُ من كلفي بها معوانًا على معاناة تعريبها.

•••

فأما من جهة التعريب فأقول إن في نفس شكسبير شيئًا عربيًا بلا منازعة وهو أبين فيها مما بان في نفس فكتور هوجو. أقرأ لغتنا أم نُقلت إليه عنها بعض المترجمات الصحية؟ لا أعلم. ولكن بينه وبيننا من وجوه متعددة مشاكلة محيرة، فإن عنده مثل ما عندنا جرأة على الاستعارة وذهابًا بضروبها في كل مذهب، وله مثل ما لنا كلف بالتنقل الوثبي من غير تمهيد ولا استئذان يدفعك من القصد وشيكًا وعليك أن تتمهل في فكرك وتجد الرابطة، وبه مثل ما بنا من الهيام في المبالغة التي لا يقبلها من الكاتبين ولا يعقلها من القارئين إلا الذين في تصورهم حدة وجماح كما يكون عادة عند الشرقيين وخصوصًا عند العرب.

وعلى الجملة ففي كل ما يكتبه شكسبير شيء من روح البداوة قوامه الرجوع الدائم إلى الفطرة الحرة.

تناولت الرواية لأعربها وكأنني أنوي ردها إلى أصلها كما رددت عطيل، وقبل أن أشرع فيها تفكرت في الأسلوب الذي أختاره لها.

أهو ذلك الأسلوب المخرق الذي تشفُّ الفصاحة فيه عن رقع العامية؟ لا وألفًا لا.

فتالله لو ملكتُ تلك العامية لقتلتها بلا أسف ولم أكن بقتلي إياها إلا منقمًا لمجد فوق كل مجد، نزلت من هيكله الذهبي الخالص الرنان منزلة الرجلين الخزفيتين القذرتين فهو فوقها متداعٍ وبهما مشوه، منتقمًا لأمة كسرت العامية وحدتها وكانت عليها أكبر معوان للتصاريف التي مزقتها في الشرق والغرب كل ممزق، منتقمًا للفصاحة نفسها وأية فصاحة في خُشَارة٤ لا تصيب فيها تبر الأصل إلا وقد تلوث بذريرات لا تحصى من أوضار٥ الرطانات بأنواعها.

بعدًا لهذا الأسلوب إذن! ولنختر غيره. أتؤثر الأسلوب الجزل المتين القديم؟

لا ولا! لأن الروايات إنما تُكتب ليفهمها القوم ويستفيدوا منها مغزى بجانب التفكهة. أفنعكس عليهم تلك السنة الشريفة التي سّنها النبي القرشي بقوله: أُمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم.

بعد هذا وذاك لم يبق إلا الأسلوب الوسط وهو الذي تكون بمقتضاه الألفاظ كلها فصيحة لكن سهلة، وتفكك الجمل تفكيكًا يقرب مدلولاتها من الأفهام بمحاكاته لفنون المحادثات المستجدة من غير أن يفوتنا الالتفاف في ذلك التفكيك إلى أشتات ما صنع أدباء العرب من مثله لدواعي حال مخصوصة وإن لم يألفه جمهور الكّتاب الاحتفاليين.

هذا هو الأسلوب الذي آثرته وأرجو أن أكون قد وفقت فيه بعض التوفيق، فتجتمع معه لهذه القصة مزيّتان: إحداهما أنها تكون عربية فصيحة لولا الأعلام ولولا تشقيق الكلِم على ترتيب المخاطبة بين الفرنجة قديمًا وحديثًا والثانية أنها تمثل أقوال شكسبير حرفًا بحرف ولفظةً بلفظة مع مراعاة انطباق كل منها على الاصطلاح الديني أو الاجتماعي الذي لها عند القوم الممثلين فيصح أن تكون هذه التجربة مثالًا للتعريب يحتذيه طلبة المدارس.

١  الملمة: النازلة الشديدة من نوازل الدنيا.
٢  الرطانة: التكلم بالأعجمية — كلام غير مفهوم —.
٣  الحلس: الذي لونه بين السواد والحمرة، أيضًا الشجاع.
٤  الخشارة: الرديء من كل شيء.
٥  الأوضار: غسالة القصعة، مفردها وضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤