رسالة الأدب الأوروبي الحديث

التحدث عن التطور في الأدب الأوروبي الحديث بصفة عامة يغني عن تناول التطور في أمة بذاتها من الأمم الأوروبية الكبيرة، وما ذلك إلا لتقارب التيارات الفكرية في مختلف تلك الأمم، وتأثر كل منها بالأخرى، واحتفالها بكل مذهب جديد ينبثق في آفاق جاراتها، حتى صار الحديث عن أدب إحداها مشابهًا للحديث عن أدب الأخرى، ويمكن القول في غير تعرض للخطأ أن تطور الأدب الأوروبي الحديث يتخذ أسلوب التطور العلمي.

وقد ساهمت الحربان العالميتان الأخيرتان في التقريب بين الاتجاهات الفكرية الأوروبية، وتبدو وجهة نظرنا هذه جلية فيما أسفر عنه نشوب الحرب الإسبانية الأهلية؛ فإن هذه الحرب لا تعد محلية، بل ظاهرة عالمية أو أممية، وقد اعتبرها الشعراء والكتاب مظهرًا لتنازع القوى، ومحكًّا لاختلاف المذاهب، ومعرضًا لتضارب العقائد، وعلى ذلك نزح عدد كبير منهم إلى ساحتها، ومن لم يشترك فيها بسيفه أو بندقيته اشترك بقلمه.

وهناك ظاهرة أخرى تؤيد ما ذهبنا إليه وهي أن كل مذهب جديد في الشعر يؤدي إلى التحول والتطور، تصدر عنه نشرة تتضمن أصوله وقواعده وتسمى «مانيفستو»، فأدباء الإنجليز يذكرون «المانيفستو» الذي كتبه «وردسورث» «والمانيفستو» الذي كتبه «ف. ت. هولم»، أما «مانيفستو» العهد الحديث فقد ظهر في إيطاليا وامتد منها إلى باقي الأمم المتحضرة، وهو يتميز بلهجته العنيفة ودعوته إلى بتر القديم، وامتلائه بالشتائم والبصقات. ومهما تكن قيمة هذا المانيفستو الذي ما زال اسم كاتبه المجهول محل حدس وتخمين، فإنه كان صورة لما تردد في الصدور من ضرورة التحول في الأسلوب والمعنى والهدف الذي يتعلق الأدب به ويسعى إليه.

ونحن نقصد بالعهد الحديث تلك الحقبة التي تبتدئ قبيل نشوب الحرب الأوروبية الكبرى الأولى، ويرى بعض أهل الرأي أن تحدد بالأشخاص لا بالحقب، فيُقال مثلًا: إن الشعر الإنجليزي الحديث بدأ يوم نشر إليوت قصيدته الخالدة «الأرض المهجورة»، أو أن قصيدة الشاعر «بردجز» «إنجيل الجمال» اختتمت عهده القديم.

على أن هناك ظاهرة هامة يمكن تلمسها في كل مرحلة من مراحل تطور الأدب، وهي أن أصحاب الأسماء الضخمة التي تلمع إبان التجديد ليسوا في الواقع المجددين ولا أول من غامر في التجربة، فقد تمر فترة من الزمن تعلق أثناءها الأنظار بهم وتردد الألسنة آلاءهم، ثم تتجمع الشواهد على أن اسم الرائد الفعلي للتجديد مطموس في بطون الكتب والأوراق، ونحن نذكر على سبيل المثال لما نقوله الشاعر الإنجليزي «هو بكنز» والشاعر الفرنسي «ريمبو»، وكان الأول من رجال الدين فحالت مهنته دون نشر ديوانه الذي ظل وديعة لدى صديقه الشاعر «بردجز» فلم يُطبع ويُنشَر إلا بعد موته، أما الثاني فقد جدَّ له ما دعاه إلى هجر وطنه والنزوح إلى الحبشة، واحترف هناك التجارة، ثم عاد إلى مصر ومرض بها، ومات في مرسيليا وهو في طريق العودة إلى بلده، وكانت لمعته في الحياة قصيرة، ولكنه استطاع أن يخلف ذُخْرًا من شعر رائع شرقي النفحة، تضمن بعضه وصفًا لمشاهد أغلب الظن أنها مصرية، ومما يلفت النظر أن أكثر المجددين المجهولين الذين يتم التطور على أيديهم عباقرة من الشباب يختطفهم الموت في سن مبكرة، ولا يحترفون الأدب ولكنهم يظلون من هواته.

ولو بحثت في تاريخ الأدب الأوروبي المعاصر لأذهلتك قلة المجددين، وأما الأدباء الذين وقفوا حياتهم على نشر دعوة التجديد فكثيرون، وقد ذخرت ألمانيا وروسيا بأولئك المبشرين الذين نزحوا من بلادهم في سبيل خدمة المذاهب الأدبية الجديدة، ولاقى كثيرون منهم حتفهم في ذلك السبيل، ولكن ما هي الدعوة الجديدة؟ ما هو الشعر الجديد؟

خلاصة هذه الدعوة أن الشعر الحديث يجب أن يساير الزمن الحديث والحياة الحديثة، يجب أن يصبح في متناول الناس لا بعيدًا عن أذهانهم، قريبًا منهم لا معتصمًا بأبراج عاجية، وقد رأى المُحْدَثُون أن تكون هذه المسايرة بالتزام أمرين: أولهما: الطابع العلمي، والثاني: السرعة.

أما الطابع العلمي فمنقسم إلى قسمين: أولهما: طابع التأمل والتمحيص والشك والتجربة. وثانيهما: ألا يقف الشعر على هامش الحياة، بل لا بد أن يتغلغل إلى صميم الحقائق فيجلوها، وأن يصل إلى أغوار النفوس فيكشفها.

وأما طابع السرعة والتركيز والاختصار فقد نادت به أولى المدارس الأدبية الحديثة وهي مدرسة الصوريين Imagists، وقد ظهرت في أعقاب العصر الفكتوري وترعرت في نهاية العصر الجورجي.

وإذا كان الطابع العلمي قد أفاد الأدب من ناحية؛ فقد أضرَّ به من ناحية أخرى. فهو قد وصله بالحياة إذ جعله واقعيًّا، ولكن تقطيع الأدب تقطيعًا علميًّا وتشريحه تشريحًا ماديًّا يُفقِده قيمته الفنية وجمال وحدته وتماسكه، ولا يظنن أحد أن الطابع العلمي يرمي إلى جعل الأدب علميًّا، ولكنه يدعو إلى التذرع بوسائل العلم وهي الشك والتحليل الدقيق والاستقراء العميق.

ومما لا شك فيه أن الراديو والسينما والصحافة طبعت الأدب الحديث بطابعها إلى حد كبير، حتى إن الكثير من الأعمال الأدبية صارت أشبه باللمحات الخاطفة، أو بالعلم السريع الملون، ولقد صار أدب لحظة ولحظة لا أدب أجيال وأجيال، وليس الأسلوب التصويري في مذهب الصوريين إلا وليد تلك الآلات الحديثة الاختراع.

بنى الصوريون مذهبهم على أن الأدب يجب أن يكون صورًا متلاحقة مضغوطة، وقد بالغوا في ضغط صورهم وتفننوا حتى حملوا الكلمة الواحدة صورًا مجتمعة لا صورة واحدة، ومازالوا يُمعِنون في مبالغتهم حتى صاروا يشحنون القصيدة الواحدة الضخمة في بيتين من الشعر لا ثالث لهما، ولكن المذهب الذي دعوا إليه لم يربطه بالماضي أي رباط، ولما شعروا بأن المبدأ الذي يَنْبَتُّ عن الماضي يَضِل سواء السبيل إذ لا يجد أساسًا يرتكز عليه، بحثوا عن دعامة يؤسسون عليها مذهبهم فيصلونه بالحياة، فاهتدوا إلى مدرسة رأوها أقرب المدارس إلى مذهبهم وهي مدرسة الرمزية الفرنسية، تلك المدرسة التي أسسها أديب لا علاقة له بفرنسا هو «إدجار ألن بو».

وصلوا سلكهم بسلك الرمزية، ولكن شتان بين المذهبين، وإذا كان للصوريين فضل فهو لا يمت إلى مذهبهم بصلة، ولكنه ينحصر في أنهم تسببوا عن غير قصد في نقل مذهب الرمزية في الأدب إلى إنجلترا، ذلك المذهب الذي لا يُخامرنا شك في أنه سيصبح أخطر المذاهب الأدبية شأنًا في المستقبل، وسيضرب المجددون المفننون في كل اتجاه، ولكنهم لا بد راجعون إليه آخر المطاف مرغمين.

ولزيادة الموضوع شرحًا أقول: إن مذهب الصوريين كان يعتمد على الأسس الآتية:
  • (١)

    التصوير الشعري.

  • (٢)

    التركيز.

  • (٣)

    الضغط.

  • (٤)

    استعمال اللفظ الموحي.

ولكن أصحاب هذا المذهب حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة ظلوا يدورون حولها حتى استنفدوا قواهم فهلكوا فيها، على أن «إليوت» و«سبندر» و«لويس»، وهم من شعراء العصر الحاضر، ظلوا يتبعون طريقة التصوير والتركيز والضغط حتى بعد اندثار مدرسة الصوريين، ولكنهم نحوا في ذلك بطبيعة الحال نحوًا جديدًا، وكان مما يدعو إليه المذهب الصوري اختيار اللفظ الموحي للتعبير عن المعنى، ويرجع ذلك إلى اعتقاد أصحاب ذلك المذهب أن المعنى المحدد للفظة ما يُفقِدها قوتها، وأن جمال الموسيقى الشعرية لا يكون إلا في غموض المعنى الصوتي للألحان، فكلما ألقت اللفظة ظلًّا من الغموض اكتسبت قوة وجمالًا، وذلك لأنها تفتح لقارئها آفاقًا مبهمة تتسع للتأمل!

ولا يغرب عن البال أن شعر «شكسبير» كان غنيًّا بالصور حتى إن الصوريين عجزوا عن اللحاق به في هذا المضمار، ولكن غزارة مادته حالت بينه وبين الضغط والتركيز، وقد جاء شعر «شيللي» كذلك على غرار ما دعا إليه المذهب الصوري، وكانت صوره من الكثرة بحيث تبهر البصر كالمرايا المتكسرة في طريق تنعكس عليه أشعة الشمس، ولكن المدرسة الشعرية الجديدة في «إنجلترا» وجهت اللفظ توجيهًا سيكولوجيًّا جديدًا. وتفسير ذلك أن الكلمة عند «شكسبير» و«شيللي» والصوريين كانت كلمة واضحة تؤدي معناها مباشرة وتعني ما تقول، أو بعبارة أخرى: كانت تصدر عن العقل الواعي لتخلق صورة محددة أو عدة صور.

أما المدرسة الشعرية المُشار إليها فقد اتجهت إلى تحديد التجربة الشعرية، وتحديد العلاقة بين العقل الواعي والعقل الباطن، وتحديد مهمة العقل الباطن في الأدب، واستغلال إمكانيات العقل الباطن، وبناء الشعر الحديث على الطريقة المسماة التداعي الحر Free Associations، وتقوم هذه الطريقة الأخيرة على الاسترسال وراء الكلمات؛ أي إن كل كلمة تجر الكلمة التي تليها حتى تنتظم القصيدة بأكملها، فإذا أعمل فيها القارئ فكره، وجد نفسه يموج في عالم لجب من المعاني والصور، وقد قال الشاعر الفرنسي «مالارميه» بمثل هذا حين زعم أن قيمة اللفظ تنحصر في خلق جو غامض يستر وراءه وضوحًا عليك أنت أن تستجليه بخيالك!

والذي يعاب على هذا المذهب أنه ممعن في الذاتية؛ أي إن الشاعر يعبر عن قرارة ذاته، ويتصيد أوهامه الغامضة محتفظًا بمفاتيح أسرارها ويدع الناس يتخبطون وراء معانيه كيف شاءوا، ويختار كل منهم التفسير الذي يلائمه.

وإذا طوينا كشحًا عن الانحرافات الأدبية الناشئة عن الويلات التي عانتها الإنسانية بعد كل من الحربين الكبيرتين الأخيرتين، فإننا نستطيع أن نكرر ما قلناه من أن الطابع العلمي هو طابع الشعر الجديد الذي عمد إلى مجاراة الحياة والأحياء، فأما مجاراته للحياة ففي طريق تأثره بها وتأثيره فيها وامتلائه بالحيوية الدافقة. وأما مجاراته للأحياء ففي طريق مشاركتهم في مشاعرهم، والتفاهم معهم ومخاطبتهم بلغتهم، فإن ازْوَرَّ عنهم ونبذهم ازْوَرُّوا عنه ونبذوه.

نعم، يحرض الشعر في هذا العصر على أن يكون واضحًا مفهومًا حتى لذوي الثقافة الضحلة.

وقد كان الشاعر فيما مضى يصف الذهول مثلًا، فيقول: إنه إغراق في الشرود، أو يقول شيئًا شبيهًا بذلك، ولكن الشاعر المعاصر «سبندر» يقول عنه: «كنت ذاهلًا كمريض مُبَنَّج على مائدة العمليات الجراحية.»

ثم إن الشاعر الحديث لا يتورع عن استعمال الكلمات المتداولة التي كان الشعر يترفع فيما مضى عنها، حريصًا على تخير الألفاظ الشريفة الأنيقة، ويرجع سبب هذا التغير إلى أن اللفظ لا يُتخير الآن لذاته أو لحسن السَّبْك وفخامة الديباجة، ولكنه يُتخير لأداء المعنى على أدق وجه وأوضحه، مع مراعاة تناسقه مع المعنى والموسيقى الشعرية، وهذا يتمشى مع نزول الشعر إلى الواقعية في بساطتها وصدقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤