الفصل الثاني عشر

كنا جميعًا نائمين في تلك الليلة، وكان المنزل مظلمًا، عندما استيقظنا على طَرْق عنيف على بابنا. كانت الكلاب، التي عادةً ما تنام في كوخ الحطب، تتحدَّث آنذاك بصوت عالٍ مع شخص ما في الخارج، وسمعناه يرد عليها بحزم صارم.

كان المطر قد توقف، لكنَّ الليل خارج بيتنا كان كثيفًا مُحمَّلًا بالهواء الرطب، وبدا العريف أولسكا كأنه يرتدي طبقة من شِباك العنكبوت، فوق معطفه الأسود الواقي من المطر. استمرَّت بضعة كلابٍ في استجوابه، لكنها هدأت بكلمة واحدة من أبي، الذي وقف في حجيرة المدخل مرتديًا ثياب النوم، ومن خلفه أمي تُحكِم رباط ردائها المنزلي، بينما وقفتُ أنا بالقرب منها أختلس النظر، وشقيقاي من خلفي، وجاءت العمة ليلي بخُطًى سريعة لتنضم إلينا؛ كان شَعرها ملفوفًا على بكرات، ووجهها غاضبًا.

قالت: «وما سبب كل هذا الآن بحق السماء؟»

تخيلتُ جدي وجدتي آنذاك جالسين في فراشهما، وهما يأملان ألَّا يُضطرا إلى الانضمام إلى الجَلَبة المنتظرة.

قال العريف أولسكا: «أنا آسف جدًّا لإيقاظك يا جون، وأنتِ يا سارة … مرحبًا يا ليلي. أعرف أنَّ الوقت متأخر، ولكن هل لي أن أدخلَ دقيقة؟»

قال أبي: «بالطبع.» وتراجع ليسمح للعريف بالدخول.

قال العريف: «ما كنتُ لآتي في هذا الوقت المتأخر جدًّا، لكني مع الأسف لم أستطِع الانتظار حتى الصباح. بيتي جلينجاري مفقودة.»

فقال أبي: «مفقودة؟»

وقالت أمي: «من الأفضل أن تدخل وتجلس.»

وقال جيمس الذي كان شَعره منكوشًا في كل الاتجاهات: «أراهن على أنَّ دُبًّا قد أكلها.»

قال أبي: «عُودا إلى السرير أيها الولدان. الآن.»

وعندما تردَّدا، أخذتهما العمة ليلي من يدَيهما، موبِّخة إياهما بكلمةٍ حادة وفَمٍ جامد مُطبق. قالت: «إلى الفراش، كما قال أبوكما.» ووكزتهما ودفعتهما بأصابعها كأنهما خروفان عنيدان.

وبهذا بدا أنَّه مسموح لي بالبقاء.

كان إشراكي في مثل هذه المحادثات قد أشعرني لوقت وجيز بأنني فتاة بالغة. لكني كنت مستعدة في هذه اللحظة للعودة إلى سن الحادية عشرة مجددًا، والرجوع إلى الفراش كشقيقيَّ. شعرت حينها مجددًا بأنني مشدودةٌ كوتر الجيتار، وتمنيتُ ممَّن ينقر عليَّ، أيًّا كانت هُويته، أن يتحلَّى ببعض الشفقة. فلم يكُن أيٌّ من ذلك ممتعًا على الإطلاق.

قالت أمي للعريف: «تَفضَّل. هيا ادخل الآن. اجلس.»

فنظر العريف نحو الأسفل إلى حذائه المكسو بالوحل الكثيف، وعندئذٍ انسابت المياه من التجويف الصغير الموجود في قبعته. قال لأمي: «أنا مليء بالمياه والوحل يا سارة.»

لكن أمي أمسكته من ذراعه، وقادته إلى كرسيٍّ عند طاولة المطبخ.

قالت وهي تضع بعض القهوة على الموقد لتسخينها: «لقد تعرَّضت للكثير من البرودة والبلل. قليل من الطين ليس مهمًّا.»

جلسنا كلنا، بينما عادت العمة ليلي إلينا في المطبخ. قالت لي: «وأنتِ أيضًا. عُودي إلى فراشك. فهذا ليس حديثًا مناسبًا للأطفال»، وكأنَّ أبي وأمي ليسا جالسَين بجواري هناك.

قال أبي لها: «اتركيها يا ليلي. فربما تعرف أنابل عن تلك المسألة أكثر مما نعرفه.»

خلعَ العريف قبعته ووضعها على ركبتَيه. وقال وهو يُسوِّي شَعره: «جاءت السيدة تايلور لتزورني وسردت لي مسألة برج الجرس برمتها. ناقشنا المسألة، ورأيتُ ما ستئول إليه الأمور، وقرَّرت أن أزور آل جلينجاري في الصباح … وحينها وجدتهما يأتيان إليَّ ويطرقان الباب.» أضاف وهو يفرك يدَيه معًا ليدفئهما: «كان الظلام قد حلَّ آنذاك. وكانا قلِقَين لأنَّ بيتي لم تعُد إلى المنزل من المدرسة حتى ذاك الوقت. وازدادا قلقًا عندما أخبرتهما السيدة تايلور بأنَّ بيتي لم تأتِ إلى المدرسة أصلًا.»

أومأتُ لأصدِّق على ذلك. وقلت: «اعتقدنا أنها مريضة.»

هزَّ العريف أولسكا رأسه نافيًا. وقال: «لا، خرجت من منزلها متجهة إلى المدرسة كالعادة، رغم المطر. لقد ألبستها جدتها ثيابًا واقية من المطر، ثم شاهدَتْها تمشي بطول الزقاق حتى غابت عن ناظريها، متجهة إلى مُنخفَض «حفرة الذئاب». كدأبها دائمًا.»

نهضت أمي لتصبَّ له بعضَ القهوة. وقالت: «لا يوجد أي أثر يُشير إلى مكانها؟»

«في هذا الطقس؟ الذي يغمرنا بكلِّ طين الدنيا ومياهها.»

قال أبي: «وماذا بعد؟ إذا كنت تحتاج منا أن نقوم بشيء ما …»

قال العريف: «لقد اختفى توبي. أول ما فعلته هو الذهاب إلى كوخه لأعرف ما إذا كان قد رآها أم لا.» وأضاف فجأةً وهو يرفع يدَيه: «لا؛ لا أقصد بذلك أنه قد اقترف أي جُرم. عندما ذهبت لرؤيته أول مرة، بعدما أُصيبت روث، وجدتُه خارج الكوخ يقطع الأخشاب. وحين أخبرتُه بما تقوله بيتي عنه، ارتسمت نظرةٌ على وجهه، ويجب أن أقول إنها … لم تعجبني. ولم أستبشر أيضًا بأنه كان يحمل فأسًا في يده آنذاك. غير أنه لم ينطق بأي كلمةٍ ولم يفعل شيئًا. بل عاود العمل فحسب.»

هزَّ العريف رأسه. وقال: «لم يكُن بوسعي فعلُ الكثير عندئذٍ سوى أن أجمع أجزاءً من الأحجية، وأحاول انتظار مزيدٍ من المعلومات قبل تكوين استنتاج معيَّن. ولذا، عندما عُدت إلى هناك الليلة، كنت أعتزم حقًّا معرفة ما إذا كان قد رأى بيتي اليوم. فتوبي يتجول لمسافات طويلة وبذلك يجتاز مساحةً أوسع مما يجتازها معظم الناس، بما في ذلك غابات وبساتين وأماكن بعيدة عن الطريق الواصل بين بيت آل جلينجاري ومبنى المدرسة. لكنه قد رحل.»

فسألته أمي: «كيف تعرف أنه رحل بالفعل؟»

«حسنًا، لستُ متيقنًا. لكنه لم يكُن في الكوخ. ولم تكُن النيران موقدة. وكان الفحم باردًا. ولم أجِد البنادق. ولا الكاميرا. ولا أي شيء.» أطلق تنهيدة عميقة. ونظر إليَّ ثم أشاحَ بنظره بعيدًا.

أضاف قائلًا: «وجدتُ صورًا كثيرة معلقة على كل أنحاء الجدران. كان معي كشَّاف في شاحنتي. قضيتُ بعض الوقت داخل الكوخ أتأمل تلك الصور. وحاولتُ أن أنتزع واحدة، لكنه لصقها بعصارة الصنوبر، وكانت مُثبتة هناك بإحكام.»

أخرجَ من جيبه صورة مجعَّدة وسلَّمها إلى والدي، الذي بَسَطها وتأملها لحظة، ثم سلَّمها إلى أمي.

فقالت: «إذَن؟»

«إذَن؟ ألا تستغربين أن يتسلل رجل غريب الأطوار مثل توبي خلسة، ويلتقط صورًا لابنتك دون أن تَدري؟»

تحركتُ لأقف خلف أمي وأمعنتُ النظر من فوق كتفها. كانت الصورة لي وأنا أسير على الممشى نحو المدرسة. وكان ضوء الشمس القادم من خلال الفروع يُنير وجهي، لكن باقي جسدي كان يبدو غير واضحٍ في الظل. استغربتُ رؤية شكلي حينما كنت أظن أنني وحدي. لم أكُن أعرف قَط أن توبي كان موجودًا هناك، وسط الأشجار المجاورة، يراقبني.

قالت أمي: «أرى ذلك غريبًا شأن تصرفات توبي الغريبة. لكن هذا لا يعني سوى أنه غريب وحسب.»

فوقفَت العمَّة ليلي فجأةً. وقالت: «لقد أعاد معمل التحميض مزيدًا من صوره في بريد اليوم»، وذهبت إلى غرفتها مسرعة.

وعندما عادت، مددتُ يدي لآخذ الصور. وقلت: «لقد أراد مني أن أعطيه إياها حالما تصل.»

فقالت لي وهي تسلِّم الطرد إلى الشرطي: «حسنًا، لا يُمكن أن تعطيه إياها وهو هارب.»

ففتحه وأخرج الصور من الظرف الموجود داخله، ومَدَّها بعيدًا عن معطفه المبلَّل وهو ينظر إلى كلٍّ منها على حِدَة. أصبح وجهه أشدَّ حدة وهو يشاهد الصور.

احتفظ بإحداها معه، ومرَّر البقية إلى أبي وأمي فنظرا إليها معًا، فيما كانت العمة ليلي قاعدة على الجانب المقابل من الطاولة وهي تتململ بلهفة شديدة ونفاد صبر.

قالت لهما: «ماذا فيها؟ مرِّرا الصور إلى هنا.»

قال والدي: «بعض الأشجار الصفراء. وحقل من اليقطين.» سكت والتفت إلى العريف. وقال: «لكني أظن أنَّ تلك الصورة التي تحملها معك فيها شيء مختلف.»

أومأ العريف برأسه بالإيجاب. ومرَّرها إلى والدي، فتحركتُ لأقف خلفه وأستطيع رؤيتها.

كانت الصورة تُظهِر طريق المدرسة من الأعلى. وصحيح أنَّ أغصان الأشجار كانت تتخلل المشهد، لكني استطعت رؤية حصانَي السيد أنسل، وعربته المليئة بالتفاح. وروث ممددة على الطريق. والسيد أنسل ينزل من عربته. وأنا بجوار كل هذا.

قالت أمي بهدوء: «يا إلهي.»

قلت: «لكن هذا لا يعني أي شيء. فالتقاطه تلك الصورة لا يعني أنه رمى الحجر.»

قال العريف: «يُؤسفني أنه قد يعني الكثير جدًّا، أيتها الفتاة. لا تنسي أيضًا أنَّ بيتي مفقودة وتوبي قد رحل، بعد اتهامها إياه بإيذاء روث، وبعدما ذهبتُ أنا إليه وأخبرتُه بذلك؛ ويجب أن تُدركي أنه كان يعلم يقينًا أننا سنرى هذه الصور تحديدًا في وقت ما؛ وكل هذا يفضي إلى استنتاج مقلق. لكن الشيء الأهم الآن هو العثور على بيتي.»

قالت العمة ليلي: «وذلك الرجل البشع.» كان من المفترض أن تبدو طيبة في ردائها المنزلي وبكرات شعرها، لكنها لم تبدُ كذلك.

التفتَ العريف إليَّ. وقال: «أخبرتني السيدة تايلور بأنَّ آندي كان في المدرسة اليوم يبحث عن بيتي. هل تعرفين أي شيء عن ذلك يا أنابل؟»

هززتُ كتفي. وقلت: «آندي وبيتي بينهما إعجاب شديد.» ثم فكرت في الأمر بُرهة. وأضفت: «عادةً ما يختفيان معًا في فترة الاستراحة. أنت تعرف بشأن برج الجرس بالفعل. وأظن أنها هي وآندي قد شحذا سلكًا وربطاه عبر الممشى. لقد جرح أخي الصغير في جبينه.» وحركتُ إصبعي على جبيني كأنني أرسم خطًّا عليه لأوضح شكل الجرح.

هز العريف رأسه. وقال: «هذه قصة أخرى أحتاج إلى سماعها. لكني الآن سأتحدث إلى آندي. وبناءً على ما سيقوله، سنجمع بعض الأشخاص ونذهب للبحث. أرجو أن تستطيع مساعدتنا في ذلك يا جون.»

حثَّتْه العمة ليلي قائلةً: «وماذا عن توبي؟ بالتأكيد لا أحب فكرة وجود رجل مجنون هارب طليق بالقرب من هنا.» وأحكمَتْ إغلاق ردائها المنزلي على صدرها.

قال العريف: «أظن أنه رحل منذ فترة طويلة. ربما صار الآن على بُعد أميال من هنا. سأخبر ثكنات الولاية بالموقف تحسُّبًا لظهوره في مكان آخَر.»

نهض واقفًا بصعوبة. وقال: «وفي غضون ذلك، ينبغي أن تكون غايتنا الوحيدة هي العثور على بيتي.» وأضاف رامقًا العمة ليلي بنظرة صارمة عابسة: «لا شيء سوى ذلك.»

رفعت ذقنها. وقالت: «ومتى ستعثرون عليها؟»

قال وهو يدسُّ الصورة في جيبه: «أعدك بأنني سأحقِّق في تلك المسألة، لكن اتركوها لي الآن.»

التفت إلى أبي. وسأله: «هل يُمكن أن تنفعنا كلابك في التعقُّب؟»

فقال أبي: «ليس كثيرًا، إلَّا إذا كانت تطارد رغيفًا من اللحم.»

«حسنًا، ربما يُستحسن أن تصحبها معك، فقد تحتاج إليها. ولكن أولًا، آندي. دعوني أسمع ما سيقوله.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤