الفصل الرابع عشر

كان توبي متدثرًا ببطانية من بطانيات الجيش، وحافي القدمَين.

قال: «أنابل.» وكانت هذه كلمة خبرية واستفهامية في آنٍ واحد.

فقلت له: «مرحبًا يا توبي.» أدركتُ عندئذٍ أنني لا أعرف اسم عائلته إطلاقًا. وكان من المستحيل أن أناديه بالسيد.

نظر ورائي، وربما كان يتوقَّع ظهور أبي من وسط الظلام. ثم سألني: «ما الخطب؟»

«العريف أخبرنا بأنَّك قد رحلت وربما تكون قد أخذت بيتي معك، أو تكون على علم بمكانها. واتصل بشرطة الولاية وسيأتون إلى هنا قريبًا للبحث عنك.» كنت أريد قول المزيد، لكنَّ هذا القدر استهلك كلَّ أنفاسي.

فكَّر في ذلك لحظة. وقال: «الفتاة التي قالت إنني رميتُ حجرًا على الألماني.»

أومأتُ بالإيجاب، وبدأتُ أشعر بالحيرة كأنها حكَّة داخل رأسي. «نعم. إنها مفقودة من صباح أمس. ألم تكُن تعرف ذلك؟ الناس يبحثون عنها في كل مكان.» حينها أدركت أنَّ هذا الخبر كان جديدًا عليه حقًّا. أضفتُ قائلة: «جاء الشرطي لزيارتك الليلة الماضية، لكنك لم تكُن موجودًا. ظن أنَّك قد رحلت. وربما أخذت بيتي معك!» انخفض صوتي هنا. وصار وجهه الشاحب أشدَّ شحوبًا الآن.

«ألم تكُن تعرف أنها مفقودة؟»

هزَّ رأسه بالنفي. وقال: «كنت أصطاد تحت جسر الغدير. وقايضتُ السمك ببعض اللحم المقدَّد من تيرنر.»

كان آل تيرنر يُربون الماشية والخنازير للحصول على لحمها. وكان والدي أيضًا يُحب اللحم المقدد الذي يبيعونه، وكان يبقى صالحًا للأكل فترة طويلة، حتى بدون ثلج.

«مكثتُ في حظيرتهم حتى هدأ المطر. ثم عُدت إلى هنا في وقت متأخر.» استدار ونظر داخل الكوخ. وأضافَ: «لقد سَرق شخصٌ ما إحدى صوري.»

كانت هذه أول مرَّة أسمع فيها توبي يقول كل هذا الكلام دفعة واحدة.

قلت له: «أخذها العريف أولسكا. صورتي وأنا على الممشى المؤدي إلى المدرسة. وقد اطَّلع أيضًا على الصور التي وصلت للتو في البريد. آسفة على ذلك، لكن العمة ليلي أعطته إياها. تبيَّن أنك التقطتَ إحدى الصور من أعلى التلة فوق عربة السيد أنسل، يومَ أُصيبت روث.»

رمقني توبي بنظرة جامدة.

وقال: «لم أرمِ ذلك الحجر.»

شعرتُ بارتياح حين سمعتُه يقول هذا، مع أنني لم أدرك أنني كنت أحتاج إلى سماع ذلك إلَّا عندما قاله بالفعل.

قلتُ: «أصدِّقك. لكنهم الآن يعرفون أنك كنت موجودًا فوق تلك التلة، وبيتي قالت إنها رأتك ترمي الحجر، ثم صارت مفقودةً الآن. يظنون أنك ارتكبت بعض الأفعال السيئة يا توبي.»

أخذَ توبي نفَسًا عميقًا. وقال: «لقد فعلت.»

فعقدتُ ذراعيَّ فوق صدري، وبذلك شعرتُ أنني أكبر سنًّا. وسألتُه: «ماذا فعلت؟»

أحكمَ لف البطانية حوله.

فانتظرت.

قلت له: «لكنك لم ترمِ ذلك الحجر.» لكن الجملة بدَت أشبه ما يكون بسؤال.

هزَّ رأسه بالنفي. وقال: «هي التي رمته.»

فُوجِئتُ، مع أنني كنت أخمِّن ذلك.

وسألتُه: «هل رأيتها؟»

«حاولتُ أن أصوِّرها، لكنها رمته بسرعة. وغاصت بعد ذلك وسط الشجيرات. وغاصَ ذلك الفتى معها. لكن ذلك كان بعدما رأتني عند موضع أعلى بقليل من مكانهما. وعرفَت أنني رأيتُها.»

«إذن، فلماذا لم تقُل ذلك حين أتى والدي ليتحدث إليك؟»

أشاح توبي بعينَيه بعيدًا. وقال: «الحقيقة إمَّا أن تَظهر دقيقة كاملة. وإلَّا فلا.»

«ماذا؟ كان ينبغي أن تخبره بما حدث يا توبي. لا أحد سيصدقك الآن.»

قال: «لا أستطيع أن أفعل شيئًا حيال ذلك.»

كانت هذه وجهة نظر غريبة ومحبطة، لكني لم أكُن مكان توبي، وتوبي لم يكُن مكاني.

وقفنا بُرهةً طويلة. والطيورُ من حولنا قد أيقظت السماءَ.

من بعيد، سمعتُ أناسًا ينادون بحثًا عن بيتي.

تراجع توبي خطوةً ليدخل الكوخ. وهذا كان العامل الذي حسم قراري.

قلتُ بحزم: «حسنًا. أريدك أن تأتي معي الآن.»

اختلج فم توبي اختلاجة قصيرة مقتضبة. كان ذلك هو أقرب تعبير إلى الابتسام رأيتُه على وجهه منذ أن عرفته. قال: «تشبهين أمك.»

اعتبرتُ ذلك إطراءً. وقلتُ: «جيد. لأنها لو كانت هنا، لقالت الكلام نفسه. هلا تتفضَّل الآن بارتداء ثيابك والمجيء معي؟»

بدا توبي مترددًا. وقال: «إلى أين؟»

«إلى مكان آمن ريثما نستطيع إيجاد حل.»

هز رأسه بالرفض. وقال: «لا أهتم كثيرًا بذلك.»

فقلت: «حسنًا، أنا مهتمة به. وإذا كنتَ لا تبالي بما سيحدث أيًّا كان، فما قولك في أن تفعل ما أريده؟»

اختلج فمه تلك الاختلاجة المقتضبة مجددًا.

ومجددًا أيضًا، سمعتُ صوت الناس ينادون من بعيد.

•••

وبعد بضع دقائق، انضم إليَّ توبي خارج الكوخ. كان مرتديًا الثياب التي كان يرتديها دائمًا، وكان مُتقلدًا الكاميرا حول عنقه، ومُعلِّقًا بنادقه على ظهره.

كان السير نحو أعلى التل في طريق العودة أصعب، لكن توبي كان يتسلَّق خلفي، منتظرًا ريثما أتشبَّث بالأشجار لتساعدني على تسلُّق الأجزاء الأشد انحدارًا، وما جعل التسلُّق أصعب أنها كانت زلِقة. وصحيح أنَّ الضوء المتزايد ساعدني كثيرًا، لكنه أقلقني أيضًا.

كنا متيقظَين وهادئَين قدر المستطاع، في ظل الصياح الآتي من بعيد. كنتُ سأرتدي ثيابًا حمراء اللون لو كان ما أخشاه صيادين حقيقيين، لكننا كنا نرتدي ثيابًا باللونَين البُني والأسود، فما كان لهم أن يرونا إذا وقفنا ساكنَين وأخفينا وجهَينا.

وبينما وصلنا إلى قمة التل وشققنا طريقنا نحو المنزل، أدركت أنَّ أي شخص سيستطيع رؤيتنا من خلال نوافذ البيت المُلحَق بالمزرعة إذا مررنا بمرعانا؛ لذا لزمنا الأحراج حتى وصلنا إلى الجانب البعيد من حظيرتنا، ومشينا عبر الحقل المفتوح بسرعة، وغُصنا في الحظيرة من جانبها الخلفي. تقدَّمت أولًا، وناديتُ لأعرفَ ما إذا كان يوجد فيها أيُّ شخص، وكنتُ مسرورةً لأن الكلاب كانت في الخارج تُشارك معهم في البحث، وكأنها تساعدهم.

حرَّكت إحدى الخيول رأسها الكبير فوق باب حُجَيْرتها ونظرت إليَّ بفضول، فكاد قلبي يتوقف.

قلتُ وأنا أرفع مزلاج باب الحُجَيرة وأفتحه: «حان وقت خروجك يا بيل.» نَخَر في وجهي وتمشَّى متمهلًا إلى آخِر الممر نحو البوابة الكبيرة المفتوحة المؤدية إلى المرعى. وأطلقتُ سراح الفرس دينا، فخرجَت وراءه إلى ضوء الشمس وهي تهزُّ ذيلها. وبعدئذٍ أطلقتُ سراح البقرتَين الحلوبتَين مولي وديزي. لم نكُن نُسمِّي صغار العجول مطلقًا؛ لأننا كنا نضطر إلى التخلِّي عنها بسرعة، لكننا كنا نحتفظ بأبقارنا الحلوبة إلى أن تَرحل.

مددتُ يدي بينما كانت البقرتان تتجاوزاني بخُطًى متثاقلة، وغرست البقرة الثانية أنفها الأسود المربع الكبير في راحة يدي لحظةً، فأحسست بالشَّعر الناعم الذي كان يكسوه.

كان أبي سيُطلِق هذه الحيواناتِ بحلول هذا الوقت لو لم يخرج للبحث عن بيتي. لذا أطلقتُها على أمل أن يراها الجميع في المرعى فلا يأتي أحدٌ إلى الحظيرة لأداء تلك المهمة المعتادة، مع أنهم قد يأتون ليرَوْا مَن الذي أخرَجها.

تساءلتُ في قرارة نفسي عمَّا إذا كان أيُّ أحد قد لاحظ غيابي بعدُ.

ناديتُ توبي هامسةً وأنا أفتح الباب المؤدي إلى الدرج الممتد من وسط الحظيرة إلى الجُرن في الأعلى: «اتبعني.»

كانت حظيرتنا مكوَّنة من طابقَين ومَبنيَّة في جانب تلة؛ بحيث يُمكن للمرء أن يدخل كلا الطابقَين مباشرة من أرض التلة الخارجية المائلة، وكانت تضم في الطابق السفلي حُجَيرات للحيوانات تُفتَح على ممر طويل. وكانت تحتوي أيضًا على صهريج جاثمٍ فوق لوحٍ عريض عند الجزء الخلفي منها، بجوار صومعةٍ طويلةٍ للذرة.

أمَّا الطابق العلوي، فكان فيه بابٌ جانبيٌّ ضخمٌ ذو مصراعَين، يؤدِّي إلى زقاقٍ ومنطقةٍ للتجميع والتحضير على الأرض المائلة العلوية. كنا نقود عربات التبن إلى أعلى ذلك الزقاق ونُدخلها الحظيرة من الباب الجانبي، ونخزِّن المعدات الكبيرة هناك في فصل الشتاء، ونعمل هناك حين تكون الأجواء عاصفةً سيئة. وكان هذا الطابق أيضًا يحوي أحواضًا كبيرةً من الشوفان بجوار مزالق للحبوب، تؤدِّي مباشرةً إلى معالف في حُجَيرات الحيوانات في الطابق السفلي. ثمَّة جزءٌ من هذا الطابق العلوي أيضًا كان به سقفٌ مُدبَّب مرتفع جدًّا، تتدلَّى منه حبال وبَكَرة رافعة؛ لرفع رزم التبن الضخمة إلى داخل العلية التي كانَت تحتلُّ الجزء الأكبر من المساحة الموجودة بطول العوارض الخشبية.

كانَت حظيرتنا قديمةً تنقصها بعض الألواح الخشبية المفقودة، وكانت أرضها مكسوةً بالوَسَخ والقش اللذين تراكما عليها طوال سنوات، لكنها كانت جافَّةً بما يكفي ومريحةً جدًّا في علية التبن، حيث كان والدي يحب أخذ قيلولة في الأيام الممطرة. كنت آملُ أن تمنحنا العلية فترةً كافيةً نلتمس فيها الجفاف.

توقَّف توبي عند أسفل السلم الطويل المؤدي إلى العلية. نظر إلى السلم، ثم إليَّ، ثم عاوَد النظر إلى السلم مجددًا. بدأتُ أصعد. وقلت له وقد الْتَفتُّ إليه برأسي قليلًا: «هيا تعالَ. يُمكنُك أن تنتظرَ في العلية إلى أن تُسوَّى تلك المسألة برمتها.»

لكنه بقيَ مكانه. وقال: «لا أحب الأماكن المرتفعة.»

كدتُ أسقط عن السلم عندئذٍ من الضحك. لكن توبي لم يبدُ سعيدًا عندما بدأت أضحك، لذا سكتُّ ونزلت مجددًا.

كان أمامي عندئذٍ رجل ضخم يرتدي معطفًا أسود من القماش المشمع، وفوق ظهره ثلاث بنادق؛ شَعره طويل متشابك مع لحيته، ويعتمر قبعة سوداء تكاد حافتها تخفي وجهه الأبيض بظلالها. رجل خاض غمار حربٍ فظيعة. رجل كان يعيش أغلب الوقت على حيوانات وطيور برية وبعض ثمار التوت في كوخ قديم لتدخين اللحم وسط الأحراج.

فسألتُه: «هل أنت خائف من الصعود إلى العلية؟»

نكَّس رأسه. وعدَّل وضعية بنادقه على ظهره.

عضضتُ شفتي. وقلت له: «أنت تعيش في تلال ريفية. إنك تقضي معظم وقتك عند ارتفاعات عالية.»

هز رأسه. وقال: «هذا مختلف عن ذاك.»

قلت له: «حسنًا. يُمكنك أن تصعد إلى تلك العلية أو تختبئ في صومعة الذرة مع الفئران.» وعندئذٍ شعرتُ مجددًا بأنني أتحدث كأمي.

ربما بسبب كلمة «تختبئ» أو بسبب فكرة التسلق إلى داخل صومعة الذرة. وربما بسبب تلميحي إلى أنه كالفئران. لم يقُل توبي السبب. لكنه ضربني ضربةً خفيفة بيده بعد ذلك بلحظةٍ، ثم تبعني على كلِّ حال عندما بدأتُ أتسلَّق السلم مجددًا.

وحين وصلتُ إلى الأعلى، نظرتُ إلى الوراء ورأيته يتسلَّق ببطء، متكئًا بقدمَيه الاثنتَين على كل درجة، وممسكًا القضيبَين الجانبيَّين بإحكام: بيده اليُسرى المليئة بالدمامل واللامعة من كثرة الندوب من ناحية واليُمنى السليمة من ناحية، وكان مُركِّزًا على ما يفعله، ولم ينظر إلى الأسفل قَط. ثم كانت المرحلة الأصعب عند وصوله إلى القمة. صفع أرضية العلية بكفِّ يده السليمة وغرز أظافره فيها. فأمسكتُ بمعصمه، لكني لم أفعل ذلك إلا لدعمه معنويًّا، وأزال قدمه عن السلم زاحفًا على الأرضية إلى أن دخل العلية بكلِّ جسده، وقد اشتدَّت حدةُ لهاثه عما كانت عليه في أثناء تسلُّقنا للتل خروجًا من مُنخفَض «كوب هولو». لم أخبره بأنَّ النزول سيكون أصعب وأصعب.

على الأقل افترضتُ أنه سيمكث في هذا المكان بعض الوقت. وأنَّ أول خطوةٍ على السلم نحو الأسفل ستخيفه وتجعله يلزم مكانَه ريثما أعرف أنا خطوتي التالية.

قلت له: «سأعود في أقرب وقتٍ ممكنٍ ومعي بعض الطعام والمياه. ودلو من أجل، إحم، كما تعلم.» شعرتُ حينها بأن بشرتي تحمرُّ خجلًا. وأضفت: «إذا دخل أي شخص الحظيرة، فتزحزح بسرعة إلى الوراء بين حزم التبن وابقَ هادئًا فحسب. ربما يأتي الولدان، لكنهما على الأرجح سيبقيان بعيدَين عن العلية.»

جلس توبي على حزمة من التبن. وحين وضع بنادقه جانبًا وخلع قبعته، بدا هو نفسه صبيًّا. صحيحٌ أنه كان أكبر سنًّا بكثير لكنه بدا صبيًّا على ذلك.

قلت له: «لا تقلق. كلُّ شيء سيُصبح على ما يُرام.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤