الفصل السادس عشر

كان عليَّ عندئذٍ أنْ أملأ كيسًا بقرون الصقلاب بالفعل، وقد استغرق هذا وقتًا أطول مما كنت أريد. لكني ذكَّرتُ نفسي بأنَّ أفراد القوات البحرية أيضًا ربما يحتاجون إلى مساعدتي، مثلما يحتاج توبي إليها. تخيلتُ صبيًّا تائهًا في بحر عاصف، لكن سترة النجاة التي يرتديها تُبقيه فوق الماء حتى إنقاذه. تخيلتُ تلك السترة مليئة بخيوط الصقلاب المحصود من مزرعتنا، بل ربما من الكيس الذي أحمله فوق كتفي تحديدًا.

ظللت أقطف قرون الصقلاب وأجمعها، حتى آلمتني أصابعي وفاض الكيس.

بجانب الممر العشبي الممتد بين الحظيرة والمنزل، كانت توجد سقيفةٌ للعربات، فنشرتُ القرون على إحدى المناضد الموجودة هناك لتجف. وألقيتُ التحية على القطط التي كانت تأخذ قيلولة في صندوق العربة. وبدأتُ أؤدِّي مهامي المعتادة التي كانت متأخرةً جدًّا عن موعدها المعتاد في ذلك اليوم الغريب جدًّا.

بدأت أولًا بجمع البيض من خُن الدجاج، الذي كان مكانًا جميلًا في الطقس البارد، وبشعًا في الطقس الحار. كانت طيورنا تألفني ولذا لم تكُن تُحدِث جلبة، حتى عندما كنت أمد يدي تحتها لأخذ بيضها الدافئ، تاركة بعض البيض مع الدجاجات الحاضنة، لكي تتوفَّر لدينا دائمًا طيورٌ صغيرة لتحل محل تلك التي كنا نأكلها.

وكانت أسوأ المهام اليومية بالنسبة لي هي نتف ريش الدجاج، بعدما تكسر أمي رقبته وتغمره في المياه.

أعطيتُ الطيور بعض الذرة وأزهار القطيفة المجفَّفة، شكرًا لها على دزينة البيض الذي جمعتُه في سلتي، وتركتُها في سلام.

غسلتُ البيض تحت المضخة عند البئر المجاورة للمنزل، التي كانت محاطة بهيكل ملائم يحميها؛ لذا كانت آمنةً ومُرتَّبة ونظيفة بما يكفي لإرضاء والدتي، وبعدئذٍ حملته إلى داخل المنزل.

قالت لي جدتي بعدما خلعتُ حذائي، ووضعت البيض في وعاء بجوار الموقد: «أحسنتِ.»

بعد ذلك صعدتُ إلى غرفتي، وخلعت بعض طبقات الثياب التي كنت أرتديها لتشعرني بالدفء في الصباح الباكر، وغيَّرت جواربي المبلَّلة، واستبدلتُ بها جوارب أخرى جافة، ومشَّطتُ شَعري بالفرشاة.

وبعدئذٍ عُدت إلى المطبخ، وساعدت أمي وجدتي في إعداد قِدر ضخمٍ من الحساء. لم نكُن نعرف موعد عودة الباحثين عن بِيتي، ولا عدد الأشخاص الذين سيعودون مع والدي لتناوُل وجبةٍ ساخنة؛ لذا حمَّرنا البصل وطهونا فيه اللحم البقري، وأضفنا إليه بعض الخضراوات، وبعضًا من عصير الطماطم الذي كانَت أمي قد حفظته في أوعيةٍ في أغسطس، وتركنا القِدر يغلي على نارٍ هادئة.

فحصَتْ أمي يديَّ للتيقُّن من أنهما نظيفتان بما يكفي، ثم وضَعَت وعاءً كبيرًا على طاولة المطبخ، وأزالَت القماشة الكتانية الرطبة التي كانت تغطيه، وجعلتني أضغطُ بقبضة يدي على العجين الذي كان منتفخًا كأنه بطنٌ أبيض ليِّن. وعكفنا نحن الثلاثة على لفِّ كُتَلٍ من العجين لنشكِّلها على شكل لفافات، ورصصناها على صَوانٍ مدهونة بالزيت، ووضعناها في الفرن.

وسرعان ما فاحت رائحة الحساء الذي يغلي على نارٍ هادئة، وامتزجت برائحة اللفائف التي بدأت تكتسي باللون البُني في الفرن، وهكذا صارَت رائحة المطبخ شهيةً جدًّا، لدرجة أنني شعرت بأنني أتضوَّر جوعًا من جديد. لم يسعني سوى تخيُّل الشعور الذي لا بد أنَّ توبي يشعر به آنذاك.

قالت لي أمي: «هيا اذهبي ورتِّبي غرفتكِ الآن يا أنابل.»

فعلتُ ذلك بسرعة البرق؛ إذ رتبتُ فراشي ووضعت الثياب التي كنتُ قد خلعتها على الأرض في مكانها المعتاد. لكن خطر لي بعد ذلك أن أنزع الغطاء عن وسادتي، وأبسط اللحاف فوقها مجددًا. فعلت هذا وذهبتُ أرى ما يمكنني أخذه.

أخذتُ من غرفة نوم شقيقيَّ روايةَ «جزيرة الكنز»، التي قد قرأتها جدتي لهما للمرَّة الثالثة للتو؛ ولذا كان من المؤكد أنها لن تحتاج إليها قريبًا. ووضعتُها في غطاء الوسادة.

وأخذتُ من غرفة أبي وأمي بنطالًا قديمًا من بناطيل أبي، وقميصًا قطنيًّا ناعمًا كجميع قمصانه الأخرى، وبعض الجوارب السميكة، وطقمَين من الثياب الداخلية. كانت أمي قد أعطت توبي طقمَين مماثلَين لهما من قبل؛ ولذا كان من المؤكَّد أنَّ هذَين سيكونان مناسبَين له تمامًا. واستعرتُ من عُدَّة خياطة أمي أحَدَّ مقصٍّ لديها.

وضعتُ كل ذلك في غطاء الوسادة، مع قالبٍ من صابون «لافا» ومنشفة نظيفة من الحمَّام.

كنت طَوال هذا الوقت على بُعد خطوات من أمي أو جدتي، لكنهما كانتا مشغولتَين، وكنت أنا أمشي على أطراف أصابعي لئلَّا تسمعاني وأنا أنزل بغطاء الوسادة إلى الكرار، وأتركه خارج الباب خلف شجيرة.

وعندما عدتُ إلى المطبخ، وجدت أمي تُعِد بعض الفطائر.

قلت لها: «أنا أيضًا أريد المشاركة في البحث.»

فاستدارت إليَّ من عملها الذي كانت منهمكةً فيه، ويداها بيضاوان بالدقيق. وقالت: «آه يا أنابل، لا أظن أنها فكرةٌ جيدة. لكنكِ تستطيعين أن تطلبي ذلك من أبيكِ عندما يعود مع الولدَين. أتوقَّع أنَّ شقيقَيكِ سيكونان راغبَين جدًّا في البقاء في المنزل، بعدما قضيا الصباح كلَّه يجوبان الأحراج الرطبة. ربما يمكنكِ أن تحلي محلهما.»

في الحقيقة لم أكُن أريد إلَّا حجةً لأخذِ جرَّةٍ من الحساء وبعض لفائف الخبز، والعودة إلى الخارج مجددًا، وها أنا الآن ربما أقنع نفسي بالمشاركة بعد الظهر في بحثٍ عن فتاة أزعجت الجميع.

قلت ببطء: «حسنًا. لكن لا أحد يبحث بالقرب من هنا مباشرة. فلماذا لا أذهب وأتمشَّى قليلًا عبر الأحراج الواقعة خلف الحظيرة؟ يمكنني أن آخُذ غدائي معي. لن أبتعد.»

حدَّقت إليَّ أمي مطولًا. وقالت: «هل تكتمين عني شيئًا يا أنابل؟»

أجبرتُ عينيَّ على الصمود أمام نظرتها المُحدِّقة. وقلت: «شيئًا بخصوص ماذا؟»

«بخصوص اختفاء بيتي.» كانت بحلول هذه اللحظة قد استدارت نحوي بكامل جسدها، وكانت يداها المكسوتان بالدقيق مستقرَّتين في الهواء كأنها ستقود فرقة موسيقية.

كان قول الصدق مناسبًا لي في هذه الحالة، مع أنه لم يكُن يخلو من الكذب أيضًا، وأدركتُ مجددًا أنني لن أستطيع كتمان سري وقتًا أطول.

فقلتُ: «لا. لا أعرف مكانها إطلاقًا. لكني أود المساعدة في العثور عليها.»

أومأت أمي برأسها وهي تبدو مُستغرِقة في التفكير. وقالت: «حسنًا، خذي ما تريدين واخرجي، ولكن لا تبتعدي عن تلنا، أتفهمين؟»

قلت: «سمعًا وطاعة يا سيدتي.»

اخترتُ معطفًا بجيبَين عميقَين. ووضعت في أحدهما برطمانًا مليئًا بالحساء الساخن، ملفوفًا بقطعة قماش مخصَّصة لغسل الأطباق، وملعقة. ووضعتُ في الثاني لفافة خبز ساخنة بعدما حشرتُ فيها قرصًا من الزبد، وضغطتها بأصابعي لأغلقها، ولففتُها في صحيفةٍ من الورق المشمع.

قالت لي أمي وأنا واقفة بجوار الباب مستعدة للذهاب: «تبدين وكأنك مرتدية بنطالًا لركوب الخيل.»

فقلتُ: «ما هو بنطال ركوب الخيل؟»

«لا تهتمي. كل ما أريده أن تنتبهي لنفسكِ يا أنابل، وألَّا تبتعدي كثيرًا. وعندما تسمعين جرس العشاء، ستعرفين أنَّ أباكِ قد عاد.»

فقلتُ مرَّة ثانية: «سمعًا وطاعة يا سيدتي.»

قالت: «أعيدي سلة البيض إلى خُن الدجاج.»

«سمعًا وطاعة يا سيدتي.»

وكانت تلك المرة الثالثة مُبالغة لافتة جدًّا.

فانحنت أمي قليلًا لتنظر في وجهي مباشرة. وقالت بنبرة غير غاضبة لكنها جادة جدًّا: «ما الذي تكتمينه عني؟»

فبادلتها النظرة بثبات. وقلت: «أنا خائفة.»

لم أعرف من أين خرجت تلك الجملة. لقد خرجت وحسب. وكانت هذه هي الحقيقة.

فنصبت قامتها. وقالت: «ممَّ؟»

هززت كتفي. وقلت: «كل شيء. بيتي. عدم العثور على بيتي. عدم العثور على توبي. ما قالته العمة ليلي عن أنَّ توبي يحتجز بيتي. قدوم الشرطة إلى هنا. وأنا حتى لم أرَ شرطيًّا من قبل.»

وبدأت أبكي.

كنت أبكي، وكان اندهاشي من هذا البكاء يفوق اندهاش أمي، التي انحنَت مجددًا واحتضنتني ووشوشتني في أذني بصوتٍ رقيق لتهدِّئني.

«هدِّئي من روعك يا أنابل. هدِّئي من روعك. كل شيء سيكون على ما يُرام.»

كان هذا هو نفس الكلام الذي قلتُه لتوبي من قبل، بغضِّ النظر عن إيماني به.

وكنت آملُ أن تكون أمي مؤمنة حقًّا بأنَّ كل شيء سيكون على ما يُرام.

لكني تعلَّمتُ على مرِّ الأسابيع الماضية، أنَّ إيمان المرء بشيءٍ ما لا يعني دائمًا أنه سيتحقَّق بالفعل.

مسحتُ عينيَّ واعتمرت قلنسوتي. وقلت: «لا أعرف ماذا كان الداعي إلى كلِّ هذا. فأنا لستُ مرعوبة جدًّا في الحقيقة. كل ما أتمناه أن يعثروا على بيتي حتى تعود الأوضاع إلى طبيعتها.»

ابتسمت لي أمي. وقالت: «وأنا أيضًا. والآن اذهبي وألقي نظرة في الأنحاء المجاورة، ولكن تذكَّري أن تبقي قريبة كما قلتُ لكِ.»

ثم عادت إلى ممارسة عملها، وعندئذٍ قلتُ لها: «ماذا ستقولين إذا طلبتُ منكِ إعداد فطيرة جوز؟»

كان لدينا بضع أشجار جوز، وكنا قد حصدنا منه كميةً كافيةً لاستخدامنا الخاص، لكنَّ المكسرات كانت غالية؛ ولذا عادةً ما كنا نُخصِّصها لأيام العطلات.

أمسكَت مِرْقاق العجين. وقالت: «سأقول لكِ أن تترقَّبي شيئًا من هذا القبيل قريبًا.»

قلت: «لا تنسي قرع الجرس عندما يعودون.»

خرجت من الباب، ونزلتُ ولففتُ حول الجزء الخلفي من المنزل، وأحضرتُ غطاء الوسادة، وعلَّقته على كتف واحدة. شعرتُ عندئذٍ بأنني أُشبه المتشرِّدين قليلًا، وواصلتُ السير نحو الأسفل حتى غصتُ وسط الأشجار، وعبَرتُ جانب التلة المشجر أسفل الحظيرة إلى أن شققتُ طريقي حول جانبها الخلفي، واستطعتُ أن أدخلها، حيث نجحتُ مجددًا في أن أفعلَ ذلك دون أن يراني أحدٌ من المنزل أو الزقاق.

راقبني الحصانان وأنا أعبُر المرعى، وكانا متأهِّبَين لأعطيهما تفاحة لو كنتُ أحمل واحدة، لكني تجاهلتهما، ثم عادا إلى أكل العشب.

قلتُ وأنا أصعد السلم إلى العلية مجددًا: «إنه أنا، مجددًا.»

وهذه المرَّة خرج توبي من مَخبئه ليُلاقيني. قال لي: «لم أتوقع عودتكِ بهذه السرعة.»

قلت: «أحضرت المزيد من الطعام. فعندما يعود الجميع من البحث، سأضطر إلى العودة إلى البيت، وقد لا أستطيع المجيء هنا مجددًا لفترة من الوقت.» ثم أفرغت جيبيَّ من الحساء والخبز. وأعطيتُ توبي الملعقة. وقلت: «هذا غداء.»

كانت مشاهدة توبي وهو يأكل ذلك الحساء والخبز أشبَه بمشاهدة شخص يصلِّي. فقد استغرقَ في تناولهما وقتًا أطول من اللازم؛ إذ غمسَ الملعقة ببطء في البرطمان، وحين اقتربَ من نهايته أماله ليشرب ما تبقَّى فيه حتى آخِره. وعندما قضمَ لفافة الخبز وفوجئ بالزبدة الغضة داخله، ضحك. محض ضحكة فجائية لحظية.

بدا مذهولًا من تلك الضحكة مثلي تمامًا. فأنا لم أسمعه يضحك من قبل. ولم أرَه يبتسم حتى.

أنهى اللفافة، وأغلق البرطمان بغطائه، ووضعه جانبًا. وقال: «شكرًا لكِ.»

«على الرحب والسعة.»

أشار إلى غطاء الوسادة. وسألني: «ماذا لديكِ هناك؟»

جثوتُ على ركبتي وفتحته وأخرجت الكتاب. ثم مددته إليه. وقلت: «حسنًا، هذه رواية «جزيرة الكنز».»

كان الكتاب ليِّنًا من كثرة إمساكه، وكانت أطراف صفحاته بالية قليلًا من كثرة الاستخدام، لكن توبي مسح يدَيه في بنطاله بعنايةٍ قبل أن يمدهما ليأخذه.

قال: «شكرًا لكِ.»

فقلت: «على الرحب والسعة. توجد نافذة كبيرة خلف حزم التبن تلك نستخدمها لإنزالها إلى المرعى في الخارج. يُمكنك أن تفتح أحد مصراعيها وبذلك تحظى ببعض الضوء لتقرأ الكتاب عليه.»

أومأ توبي بالإيجاب.

قلت له: «هل لي أن أسألك سؤالًا؟»

رفع حاجبَيه. وقال: «لقد سألتني للتو بالفعل.»

ابتسمتُ وضربتُ جبيني بقبضتي. ثم قلت: «حسنًا.» وعندئذٍ سكَتُّ لحظيًّا لأنني خفتُ فجأة. وأضفت: «يعجبني شعرك … يعجبني جدًّا. إنه شَعر جميل جدًّا.»

فقال مجددًا وهو يبدو متحيرًا: «شكرًا لك. هل هذا سؤال؟»

فقلت: «كان شَعري طويلًا هكذا فيما مضى، لكني كنت أتضايق بشدة عند وضع الحشوات الإسفنجية فيه، وكانت أمي تكاد تكسر رقبتي وهي تحاول تسليكه من تلك الحشوات بالمشط.»

فانتظر أن أقول المزيد.

أضفت: «ثم قصَّته العمة ليلي في صباح أحد الأيام، حين دخلتُ المنزل بعد أداء المهام اليومية المعتادة وأنا أحمل بعضًا من ريش الدجاج مشبوكًا في ضفائري. كادت أمي أن تُصاب بسكتةٍ قلبيةٍ عندئذٍ، لكنها في النهاية أصبحَت أكثر إعجابًا به. قالت لي إنني أشبه أميليا إيرهارت.»

أومأ توبي بالإيجاب. وقال: «أجل، تشبهينها قليلًا.»

«وكنتُ أتساءل عمَّا إنْ كان من الممكن أن تتركني أهذِّبه؟ لقد أحضرت مقصًّا، تحسُّبًا لموافقتك. لكن شَعرك يعجبني جدًّا يا توبي. إنه شَعر جميل.» شعرتُ حينها أنني بلهاء.

سحب توبي لفيفة من الشَّعر من وراء ظهره ونظر إلى طولها. ثم قال: «يُبقيني دافئًا في الشتاء.»

فأومأت. وقلت: «إذَن سأحيكُ لك وشاحًا ليدفئك بدلًا من شعرك.»

كان معنى هذا أنني سأضطر إلى أن أتعلم الحياكة أولًا، لكنه لم يكُن يعرف ذلك.

قال لي: «لماذا؟»

فقلت: «لماذا ينبغي أن تقص شَعرك؟»

فأومأ برأسه.

قلت: «للسبب نفسه الذي ينبغي أن تشذب لحيتك لأجله في رأيي. لكي تشعر بأنك منمق المظهر. أحب الشعور بأنني منمقة المظهر. أحب الشعور بمدى خفَّتي.» وهنا هززتُ رأسي. وقلت: «لا شيء يؤذي عينيَّ. منمقة المظهر.»

كانت هذه هي الحقيقة. ما لم أقُله هو أنَّ شَعره ولحيته كانا يخفيان من وجهه أكثر ممَّا يُظهران، كأنَّ وجهه مخبَّأٌ وهو يختلس النظر من مكان ما من داخل نفسه.

أضفت قبل أن أفقد حماستي وشجاعتي: «ثم يمكنك أن تغتسلَ بعناية تحت المضخة، وأن ترتديَ بعض الثياب الجديدة.» وأخرجت الصابونة والمنشفة والملابس من غطاء الوسادة، ووضعتها على حزمة من التبن.

ثم تراجعتُ ووقفتُ منتظرة.

سألني: «هل أنا قذر جدًّا إلى هذا الحد؟» ومدَّ يدَيه أمامه. آلمني النظر إلى اليد المصابة بالندوب، ورؤية كثرة تجاعيدها ونتوءاتها المتورمة.

قلت: «لا، على الإطلاق. آه، أنا آسفة يا توبي. لا أقصد ذلك إطلاقًا. كل ما قصدته أنَّك ستشعر بشعور جيد حين تكون، إحم …»

قال: «منمق المظهر.»

فقلت: «نعم. منمق المظهر.»

ظننتُ أنه سيمسكني ويرميني من علية التبن، إذا نطقتُ كلمة «منمق المظهر» مرَّة أخرى.

لكنه أومأ بالقبول بعد قليل، وقال: «حسنًا، إذا كنتِ ترين ذلك.»

•••

بدأنا بالشعر. قصصتُ معظمه كُتَلًا كبيرة أولًا، ثم كوَّمتها فوق بعضها لأدفنها في الأحراج لاحقًا. وهكذا تخلصتُ من أسوأ ما فيه، وعندئذٍ قررتُ أن أجعله متساويًا. مشذبًا. وصحيح أنني لم أكُن مؤهلة بما يكفي لفعل ذلك. لكني كنت أشاهد أمي وهي تشذب شعر شقيقيَّ، وعرفتُ أساسيات الطريقة السليمة لفعل ذلك. لكني مع ذلك كنتُ سعيدة لأنني لم أُحضر معي مرآة، لئلَّا يرى توبي إخفاقي في تهذيب شَعره كما ينبغي.

وعندما انتهيتُ، بدا توبي مختلفًا بشكلٍ مذهل عن مظهره المعتاد.

قلت له: «إنك تشبه أخاك»، كناية عن أنه أصبح نسخة أخرى من نفسه.

فنظر إليَّ توبي بجدية تامة. وقال: «ليس لديَّ أخ.»

فقلت: «ولا أخت؟»

هزَّ رأسه بالنفي.

فسكتُّ. وكبحت فضولي.

ثم قلت: «والآن اللحية.»

أشاحَ توبي برأسه إلى الوراء بقوة. وقال: «لا تقصِّريها جدًّا.»

فأومأت بالإيجاب. وقلت: «لا تقلق.»

ولكن قبل أن أبدأ، سمعتُ جرس العشاء يجلجل مدوِّيًا في المنزل.

فقلتُ له وأنا أسلِّمه المقص: «لقد عاد والدي إلى المنزل مع الأسف. سيكون عليك أن تشذب اللحية بنفسك.»

وقفَ فجأةً. وقال: «هلَّا تخبريني إذا عثروا عليها؟»

فقلت: «حسنًا. لكن عليك الآن أن تتوخى الحذر.» أعدتُ برطمان الحساء والملعقة إلى جيبي. وأضفت: «فأنا لا أعرف مَن قد يأتي إلى هنا تاليًا. فلتُخفِ بقية كل هذه الأشياء خلف حزم التبن، اتفقنا؟ سأعود في أقرب وقت ممكن.»

وعندما نظرتُ إلى الأعلى هذه المرَّة بعدما نزلت إلى الجرن، رأيتُ توبي يُحدِّق من فوق درابزين العلية.

ولولا أنني كنت أعرف أنه هو، لما تعرَّفتُ هُويته وهو ينظر إليَّ. فمظهره كان مختلفًا إلى هذا الحد بعدما صار حليقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤