الفصل السابع عشر

توقعت أن أجد جدي وأبي وشقيقيَّ، وربما بعض الجيران الجائعين، قد عادوا إلى المنزل لتناول الحساء.

فوجدتُ هذا بالفعل، لكني وجدتُ أيضًا أعدادًا أكثر بكثير منهم.

كانت الساحة المحيطة بباب المدخل مليئة بكلاب من كلِّ الألوان والأحجام، وأوعية طعام كلاب فارغة، وأوعية ماء محاطة برذاذ متطاير من وقعِ ألسنة الكلاب الظمآنة اللاهثة.

أمَّا في الداخل، فكان المدخل موحلًا للغاية؛ إذ كان ممتلئًا بأزواج من الأحذية المكسوَّة بكتلٍ غليظة من الطين، فيما كانت الأرضية منقوشة بطبعات أقدام وسخة موحلة.

ووجدتُ في المطبخ رجالًا مبتلين ومُنهكين حول طاولة المطبخ، وكان الكثير منهم واقفًا بأقدامٍ موحلة حتى الركبتَين، فيما كانوا كلهم مرتدين جواربهم عدا رجلٍ واحدٍ.

كان هذا الرجل شرطيًّا فارسًا؛ أجل، كان يوجد في مطبخنا شرطيٌّ فارس من ثكنات الولاية، وكان هو الوحيد في الغرفة الذي ما يزال مرتديًا حذاءه الطويل الرقبة. كان عُنق حذائه يصل إلى ركبته، وكان نظيفًا في الأغلب؛ لذا علمتُ أنه لم يكُن في الأحراج طوال الصباح كالآخَرين. وكان الشرطي يُحدِث صريرًا عند الحركة من كثرة الملبوسات الجلدية التي كان يرتديها: حزامه، وحذائه، وقِراب مسدسه، وحزام ذقنه. وكان لديه صف من رصاصات طويلة حادة مدسوسة في حلقات في حزامه. وكان مقبض بندقيته مصنوعًا من الخشب الأملس ويكاد يكون جميل المظهر، فيما كان زيه الرسمي جامدًا وأنيقًا جدًّا من أخمصَي قدمَيه إلى القبعة، باستثناء بعض الجيوب المنتفخة التي كانت بارزة من جانبَي بنطاله. آها، تذكرت. هذا هو بنطال ركوب الخيل إذَن.

كان العريف أولسكا يتحدث.

كان يقول: «… وكل مقاطعة واقعة على حدود مقاطعتنا، ولكن لم يره أحد. من المؤكد بالطبع أنه موجود في مكان ما في الأحراج، ومن المرجَّح أن يجده صياد أو مزارع ما. لقد أُعلِن الخبر، وسينتشر. سيراه أحدٌ ما في النهاية، وسنحظى بفرصة للتحدث إليه. لكنَّ الضابط كولمان موجود هنا لمساعدتنا في العثور على بيتي وليس توبي.»

تسللتُ بهدوء لأقف بجوار جدتي التي كانت تغرف الحساء، بينما كانت أمي تحمل الأطباقَ الساخنة إلى الرجال، واحدًا تلو الآخَر. لمحتُ شقيقيَّ من بين ساقَي الشرطي الراسختَين في الأرض، حيث كانا جاثمَين متلاصقَين تحت الطاولة فاغرَين أعينهما.

كان صوت الضابط عميقًا بالطبع. وهكذا كان متماشيًا جدًّا مع ذقنه المربع وكتفَيه العريضتَين. كان رجلًا كمَن نقرأ عنهم في الكتب.

قال: «العريف مُحق. لكننا لا نستطيع البحث عن بيتي كما ينبغي إلَّا إذا عرفنا سبب اختفائها. ينبغي ألَّا نبحث عنها في الجوار أصلًا إذا كان توبي قد أخذها.»

ها هو مجددًا. ذاك التلميح البشع. أردتُ أن أصرخ، وأقول بعلو صوتي إنه لم يفعل ذلك! إنه في الحظيرة يقرأ رواية «جزيرة الكنز»! لعل هذه تكون معلومة نافعة لهم.

«إلى أن نعثر عليه، وهذا سيحدث حتمًا، علينا أن نفترض أنَّ بيتي مُصابة ولا تستطيع الاستغاثة بأحد. من الممكن أن يمشي أحدكم بجوارها وسط الأوراق والوحل ولا يراها إطلاقًا.»

قال العريف: «كانت ترتدي عباءة صفراء عندما غادرت منزلها أمس.»

قال الضابط: «حسنًا، هذا مفيد جدًّا. لكنكم لن تلحظوا ذلك إذا كانت موجودة في كوخٍ للنفط، أو قابعة في بئر.»

أحسستُ في داخلي بسكون تام يُخيم عليَّ.

شعرتُ بأنَّ أحدًا قد مدَّ يده وربتَ على كتفي. شعرتُ بهمسةٍ تراودني من مكانٍ ما في ذاكرتي.

قال جدي: «توجد حُفَر مناجم قديمة في مُنخفَض «حفرة الذئاب». صحيحٌ أنَّها مملوءة جدًّا، ولكن ربما وطئت الفتاة بقدمها تجويفًا ما وسقطت إلى أسفلها.»

فقال والد آندي: «بحثنا في كل مكانٍ في المُنخفَض.» تساءلتُ حينها في نفسي أين يا ترى قد يكون آندي. وحسبت أنه ربما قد بقي في الخارج وما زال يبحث.

قال الضابط: «واصلوا البحث. إذا أخذها، فلن تجدوها. أمَّا إذا أصابها، فربما تجدون … شيئًا ما.» التفتَ برأسه إلى الوراء رمق أمي بنظرة خاطفة. ثم رمقني أنا بالنظرة نفسها.

وكرَّر قائلًا: «ربما تجدون شيئًا ما. إذا كانت ما تزال هنا في الجوار وكانت مُصابة فحسب، ربما تكون فاقدة الوعي. في واحدة من تلك الحفر ولا تستطيع الرد على نداءاتكم. بالرغم من ذلك، واصلوا النداء. حتى إذا لم تستطِع الرد، فقد تسمعكم وتستجمع قواها.»

«أليس من المفترض أن تجدها الكلاب عندئذٍ؟» كان السيد أنسل هو مَن طرح السؤال هذه المرَّة. وبدت لهجته، وسط هذه الصحبة، أغرب من أي وقت مضى.

هزَّ الشرطي رأسه بالنفي. وقال: «كلابكم لا تستطيع ذلك، مع الأسف. وكلابنا البوليسية المُدرَّبة على الصيد لن تكون هنا إلا في وقتٍ لاحق من اليوم، هذا إنْ كنا محظوظين. وربما لا تأتي إلا غدًا. فهي تؤدي مهمة في وينسبرج. لكننا سنحصل على مساعدة قريبًا. فالناس يأتون من كل مكان عند وجود عملية بحث جارية. وإلى أن يحين وقت مجيئهم، سنواصل البحث.» وأضاف قائلًا لوالد آندي: «أريد أن أتحدث إلى ابنك.»

ارتسم الذهول على وجه السيد وودبيري، وقال: «إنه لم يفعل شيئًا.»

«حسنًا، لم يقُل أحد إنه فعل شيئًا، ولكن قيل لي إنه كان مقربًا إلى الفتاة. كان معها قبل أن تختفي. وربما يكون على دراية بمعلومات يظنها غير مهمة.»

كان الرجال كلهم يأكلون الحساء ولفائف الخبز، هانئين بالأكل والراحة في هدوء، بينما واصل الضابط كلامه. قال: «أخبرني العريف أولسكا بالمشكلات الأخرى التي واجهتكم. الفتاة التي فقدت إحدى عينَيها»؛ وهنا توقَّف السيد أنسل بلا حراك، بينما كان يهم بوضع ملعقته في فمه. وأضاف الضابط موجهًا كلامه إلى أبي: «وتَعرُّض ابنك لجُرحٍ بسلك مشدود.» وعندئذٍ رأيت جيمس، تحت المنضدة، يمد يده ليتحسس قشرة الجرح على جبينه.

تابعَ الضابط كولمان قائلًا: «وجدتُ لفة من سلكٍ حادٍّ في الكوخ الذي يسكنه توبي، مدسوسة أسفل أغطية فراشه. وكان عليها دم.»

سَكَنت أمي بلا أي حراك. كانت تقف بجواري، وشعرتُ بها تتغيَّر. تتجمَّد تمامًا.

شعرتُ مجددًا برغبة في أن أصرخ وأقول إنَّ «بيتي أخذت السلك.» إنَّ «توبي لم يؤذِ أحدًا.»

لكني لم أفعل. كنت أحتاج إلى وقتٍ لأفكر في كل هذا. لأستمع إلى الهمسة التي تراودني في أعماق عقلي.

ملأتُ قدحًا بالحساء وأكلته واقفة بتروٍّ، مثلَ ما أكله توبي، بينما كنت أصغي إلى كلام الرجال وهم يتحدثون عن الأماكن التي ذهبوا إليها، والأشياء التي رأوها. وبدأتُ للمرة الأولى أتساءل بجديةٍ عن مكان اختفاء بيتي.

كنتُ حتى هذه اللحظة أقاوم التلميحات التي توحي بأنَّ توبي قد آذاها. افترضتُ أن بيتي كانت تلعب لعبة أخرى من ألعابها الغبية، أو أنها هربت إلى مكان ما. لكني الآن بدأت أتساءل بالفعل عن مكان اختفائها، ولماذا لم يعثر عليها أحد.

عندما شبعَ الرجال، خرجوا مجددًا لمواصلة البحث، وكنت أرغب حقًّا في الذهاب معهم هذه المرَّة. لكنني بقيت للمساعدة في رفع الأطباق وغسلها؛ فتلك المهمة المنزلية المعتادة كانت تساعدني دائمًا في تصفية ذهني، وتمنيتُ أن أسمع تلك الهمسة مرة أخرى بصوتٍ أوضح.

•••

وفجأةً سمعتُ جدتي تقول لي: «إذا واصلتِ تجفيف هذا الطبق أكثر من هذا، فسيتلاشى تمامًا يا أنابل.»

فنظرتُ إلى الأسفل، وتفاجأتُ حين رأيتُ أنني كنت منهمكة في تجفيف الطبق نفسه، منذ وقتٍ طويل بعض الشيء.

«آسفة يا جدتي. لم أكُن منتبهة.»

«أجل، لكن انتباهكِ لم يكُن مشتتًا عن هذا الطبق الذي تمسكينه بالتأكيد، بل عن تلك الأطباق الأخرى.» وأومأت برأسها ناحية رفِّ الأطباق التي يتصاعد منها البخار في انتظار تجفيفها. وقالت: «ما رأيكِ في أن تبدئي في تجفيف هذه الأطباق؟» كان ما يزال أمامها حوضٌ مليءٌ بالأطباق التي يتوجَّب وَضْعها هي الأخرى على الرف.

أمسكتُ قدحًا وجففته، ثم قدحًا آخَر، وجففته. وهكذا ظلَّت يداي تعملان تلقائيًّا دون تفكير، فيما كان تفكيري كله مُنصبًّا على السلك والضابط وبقية تلك الفوضى المحيرة.

عندما انتهينا من الأطباق، ساعدتُ في كنسِ الطين الجاف من المواضع التي وطئها الرجال بأقدامِهم في المطبخ، لكنَّ الوضع كان أسوأَ في حجيرة المدخل. قالت لي أمي: «افعلي ما بوسعك. ولكن لا تفركي الأرض لإزالة أي بقعة. فهي ستتلطخ بالوحل مجددًا في وقت العشاء عندما يعودون.»

لم يكُن من عادة أمي إطلاقًا أن تترك مكانًا متسخًا؛ لذا أدركتُ، فجأة، أنها أيضًا كانت متعبةً جدًّا. ومهمومةً جدًّا.

قلت: «أنا متيقنةٌ من أنهم سيعثرون على بيتي قريبًا جدًّا.»

فتنهدَت. وقالت: «أتوقع أنهم سيعثرون عليها، في كل الأحوال.»

ها هو نفس التلميح مجددًا إلى أننا سنشهد مصيبة.

مصيبة بدا أنَّ الكل يتوقعها إلا أنا.

كنتُ سعيدة لأنني لم أكُن أتوقعها مثلهم، ولكن بدأت أظن أنني ربما ينبغي أن أشاركهم هذا التوقع.

سألتُها: «هل يُمكن أن أخرج وأجري مزيدًا من البحث حولنا؟»

فأجابت قائلة: «أجل، على ما أظن. لقد فوجئتُ عندما لم تطلبي الخروج مجددًا مع بقيتهم.»

دسستُ مكنستي في الخزانة. وقلت بصدق: «أنا مُتعَبة قليلًا. لكني أريد الخروج بعض الوقت.»

أومأت بالموافقة. وقالت: «كما قلتُ لكِ من قبل. لا تبتعدي. ولا توقعي نفسك في أي مشكلة.»

فقلتُ وأنا أرجو أن يتحقَّق ذلك بالفعل: «لن أفعل. سأعود قريبًا.»

•••

كان توبي مختبئًا مجددًا في حزم التبن عندما عدتُ إلى العلية. أعلنتُ مجيئي بهدوء، ثم توقفت فجأةً حين رأيته.

قال بتوتر: «نزلتُ إلى الأسفل. حين كان الكل داخل المنزل لتناول الغداء، قررتُ أن أغتسل عند الصهريج، كما قلتِ.»

كان قد قصَّر لحيته وهذَّبها، وفرك جسده مُنظفًا إياه، وغسل شَعره، فكان منفوشًا واقفًا كالريش حول كل رأسه.

كان يبدو … جديدًا.

وفي ظل اكتسائه بثياب أبي، كان من الممكن أن يُعتَبر كأيِّ شخصٍ آخَر حقًّا. كان من الممكن أن يبدو مجرد رجل عادي، نحيف جدًّا، رث الهيئة قليلًا، وألَّا يلفت انتباه الآخَرين، لولا الندوب التي كانت على يده.

وبعدما رأيتُ هذا التحول، لم أستطِع محوه من ذاكرتي. لم أستطِع أن أعرف ما إذا كان التغيير هائلًا حقًّا بقدر ما يبدو أم لا.

ولكن خَطَر ببالي — وهذا أسعدني — كما لو أنَّ شمسًا صغيرة كانت تشرق، وأن لا أحد سواي سيعرف أنه توبي، بعدما تغيَّر إلى هذا الحد.

قلت: «يا إلهي. تبدو مختلفًا جدًّا.»

نظر إلى نفسه. وقال: «أشعر بأنني شخصٌ غريب.»

فأومأتُ بالإيجاب. وقلت: «تبدو شخصًا غريبًا.»

جلسَ على حزمة التبن، ونظر إليَّ بترقُّب. ثم سألني: «ماذا؟»

فسألتُه: «لماذا تقول ماذا؟»

«تبدين مهمومة.»

«حسنًا، أنا مهمومة. مهمومة بكلِّ أنواع الأشياء. لكني أصبحت للتو مهمومة بشيء جديد.»

فقال مجددًا: «ماذا؟»

استغربتُ شعوري بأنني صرتُ مثل امرأة بالغة، لكنَّ هذا هو ما شعرتُ به وأنا واقفة هناك في العلية، أتحدَّث إلى هذا الرجل الذي كان أكبر سنًّا منِّي أربع مرات.

قلت: «إذا كانت عندي طريقة … لأجعلك … لأساعدك لتوضيح الحقيقة، اممم، بخصوص ما قالته بيتي … فهل ستقبلها؟»

فكَّر توبي في ذلك دقيقة. ثم قال: «هذا مرهون.»

«بماذا؟»

«بما يجول في خاطرك.» تحسَّس شَعره القصير كما لو كان يرتدي قبعة جديدة لا تلائمه إطلاقًا. وأضاف: «كل شيء يحدث لي بوتيرة أسرع مما أبتغي بالفعل.»

لكني كنت أظن أنَّ حدوث الأشياء له بوتيرة سريعةٍ، ربما يكون أفضل من عدم حدوث شيءٍ على الإطلاق، وهذا ما كان سيحدث لولاي.

وحينها تساءلتُ لأول مرَّة إنْ كنت قد فاقمتُ سوء الأوضاع، بمحاولة تحسينها.

قلت: «حسنًا، يُمكنك أن تبقى هنا ما دمت تريد. وربما سيجدون بيتي ويدركون أنك لم ترتكب أي جُرم.»

فرك توبي يده المصابة، ونظر إليَّ بفضول. وقال: «أو؟»

«أو يُمكنك أن تفعل شيئًا ما حيال ذلك؟»

رفع حاجبَيه. وسألني: «مثل ماذا؟»

ظللتُ أفكر لحظةً لأنتقي بداية مناسبة لكلامي.

ثم قلت: «في العام الماضي، كنتُ أمشي نحو أعلى التل فوق منزلنا، عند الغسق بالضبط، بهدوء تام، على أمل أن أرى ظبيًا صغيرًا وأمه الغزالة بعدما رأيتُهما هناك من قبل. تسللتُ إلى قمة التل ووقفتُ هناك وقتًا طويلًا أراقب، لكني لم أرَ أي غزال في أي مكان. حاولتُ أن أضرب ذبابة، فأخفتُ غزالةً كانت واقفة وسط خلفيةٍ من الأشجار على حافة الحقل. كانت مختبئةً على مرأًى من الجميع.»

حدَّق توبي إليَّ. وقال: «هذه قصة جميلة جدًّا يا أنابل.»

«أنا سعيدةٌ لأنها أعجبتك.» وانتظرتُ أن يفهم مغزى القصة.

لكنه ظل مُنتظِرًا معي.

قلتُ أخيرًا: «أنت الغزالة.»

«أنا ماذا؟»

«أنتَ الغزالة. أنت الشخص الذي يختبئ على مرأًى من الجميع.» أدركتُ أنه لم يرَ نفسه في مرآة، ولم يتسنَّ له أن يعرف حجم التغيُّر التام الذي طرأ على مظهره. وأضفت: «لا أحد سيعرف أنك توبي، لا أحد سيعرف ذلك بمظهرك الحالي.»

انبعجت قسمات وجهه. وقال: «حتى إذا كان هذا صحيحًا، فكيف سيساعدني في إصلاح أي شيء؟»

فعرضتُ عليه فكرتي.

•••

استغرقَ إقناعُه بعضَ الجهد، لكن حالما تقبَّل توبي فكرةَ أنَّ أحدًا لن يتعرَّف على هُويته الحقيقية الآن، بدأ يرى نتائجها الممكنة.

قررنا أن يبقى في الحظيرة إلى ما بعد حلول الظلام، ربما حتى مجيء الصباح، ثم ينضم إلى البحث. وإذا سأله أيُّ شخص، فليقُل إنه جاء من بلدة هوبويل لتقديم المساعدة. إنه قد سمع باختفاء بيتي وجاء ليفعل ما بوسعه. وأشياء من هذا القبيل.

قال: «بدأ الأمر يُصبح كأنه لعبة. لا يعجبني ذلك.»

«ولا أنا. هذا كله سوء فَهْم غبي كبير. لكنك كالغزال حقًّا يا توبي، وكل هؤلاء الرجال الآخَرين هم الصيادون. لا يمكنك الاختباء إلى الأبد، ولا يمكنني كتمان هذا السر وقتًا أطول. إنه باتَ مثل حجرٍ على صدري.»

أومأ توبي بالإيجاب. وقال: «أعرفُ هذا الشعور.»

فركَ وجهه بيدِه المصابة، وبدا مذهولًا حين وجد أنَّ لحيته قصيرةٌ جدًّا.

لم يسعني سوى التحديق إلى ندوبه، التي كانت قريبة وبشعة جدًّا.

وعندما رآني أحدِّق، أنزل يده ببطء، ومَدَّها نحوي.

قال: «لا أمانع.»

كنتُ متيقنةً من أنه لم يقصد أن ألمسها، ولكن بعدما نظرتُ مطولًا إلى الجلد التالف — الذي كان كثير الكتل وبارز العروق كنباتِ الكرنب في أكتوبر — أمسكتُ يدَه بكلتا يدَي، وقلبتُها على وجهها ثم على ظهرها مجددًا، وكانت يداي صغيرتَين وناعمتَين جدًّا مُقارنةً بها.

وحين بدأ يسحبها، أمسكتُها بإحكام.

وعندئذٍ نظرتُ إلى الأعلى، فوجدتُ توبي يبكي. وأنا أيضًا رحتُ أبكي.

•••

كتمتُ ما قاله لي توبي بعد ظُهر ذلك اليوم، ولم أخبر به أيَّ مخلوقٍ حيٍّ قَط.

ربما كان وقتٌ طويل جدًّا قد مرَّ منذ أن لمسه أيُّ شخصٍ، لدرجة أن تلك اللحظات القليلة من التلامس بين يده ويديَّ كانت كافيةً لأن يفتح صدره ويكشف عن مكنونه.

لكنَّ ما انكشف عندما انفتح صدره كان محزنًا جدًّا، لدرجة أنني لم أتوقَّف عن التساؤل كيف نجا من كل هذا.

تحدَّث عن الحرب.

قال: «ليست تلك الحرب الجارية الآن. بل الحرب الأخرى. الحرب التي كان يُفترض أن تكون الأخيرة.»

لم أفهم الكثير مما قاله. ففي أغلب الوقت لم يكن حتى موجِّهًا كلامَه إليَّ. أعني لم يكن يوجِّه كلامه إليَّ فعليًّا.

كان يتحدَّث فحسب. كان في بعض الأوقات يتكلَّم واضعًا يدَيه على وجهه. وفي أوقاتٍ أخرى كان يمشي جيئة وذهابًا. كان يسرد قصة.

قصة عن «الشيء السيئ» الذي اقترفه.

تحدَّث عن الصوت الذي تُصدره الرصاصة وهي تخترق الجمجمة.

طعم التراب الممزوج بالدم. رائحته. الشعور الذي ينتاب المرء وهو جاثمٌ في خندقٍ موحل يَرتَجُّ من شدَّة انفجار قنبلة، متسائلًا عمَّا إذا كان غاز الخردل يتسلَّل عبر الأرض من فوقه كالثعبان، ليصبح أقرب إليه في كل لحظة.

عن الخوار الذي يُصدره بعض الرجال، كالبقر، وهُم يُمزَّقون إلى أشلاء. عن الصفير الذي يُصدره بعض الرجال الآخَرين في أثناء ذلك، كالقطارات.

تحدَّث عن شعور أكل العشب في حقل، كما لو كان حصانًا؛ والنوم في شجرة، وحزام بندقيته المشدود على جسده بإحكام؛ والرغبة في البقاء هناك إلى الأبد، في التضوُّر جوعًا هناك إلى أن يصبح قفصه الصدري موطنًا للطيور المُعشِّشة، وتتساقط عظامه واحدةً تلو الأخرى، تحت تأثير الجاذبية، كالأغصان الميتة.

تحدَّث عن الجنود الذين أرداهم بالرصاص. قال: «كثيرون جدًّا. كثيرون جدًّا.»

وتحدَّث عن طفل رضيع، كان قد وُلد للتو، وما يزال الحبل السُّرِّي في بطنه يربطه برحم أمه، وعن الأم أيضًا … وباستثناء ذلك، لم يكُن الكثير من كلامه مفهومًا، هذا إنْ كان أيٌّ منه مفهومًا أصلًا.

حاولتُ أن أقاطعه مرَّة أو اثنتَين، لأخبره بأنه ليس بشعًا كما يزعم، ولأعده بأنَّ الرب سيتفهَّمه، لكن كلامي كان يبدو له لغةً غير مفهومة إطلاقًا، كهديل إحدى الحمائم الجبلية التي تحوم عند سقف الحظيرة.

ومن ثمَّ بقيتُ ساكنة تمامًا، وانتظرتُ محاولةً ألَّا أسمع كلَّ كلامه، وراجيةً — وأنا لم أكمل من الأعوام اثني عشر بعد — ألَّا أنجب أيَّ أبناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤