الفصل الثاني

تذكَّرتُ تلك الأفعى وأنا واقفة على الممشى المؤدِّي إلى الخروج من مُنخفَض «حفرة الذئاب»، بينما كانت بيتي منتظرةً أمامي. انتابتني قشعريرة وشعرتُ بصِلةِ قرابة بعيدة تجمعني بالذئاب التي ماتت هنا. كانت بيتي ترتدي فستانًا مصنوعًا من نسيج قُطني منقوش بالمربعات، وسترة زرقاء بلون عينَيها، وحذاءً جلديًّا أسود. وكان شَعرها الأصفر مربوطًا من الخلف على شكل ذيل حصان. كانت تبدو غير مؤذية في المجمل، باستثناء تلك النظرة التي ارتسمت على وجهها.

توقفتُ وأنا لم أزَل على بُعد عشر أقدام عنها.

قلتُ: «مرحبًا يا بيتي.» وتشبَّثتُ جيدًا بالكتاب الذي كنت أحتضنه في ذراعي اليُمنى. كان كتابَ تاريخ قديمًا جدًّا لدرجة أنه لم يكُن يعتبر أريزونا ولاية، ولكن وزنه كان ثقيلًا بعضَ الشيء، وارتأيتُ أنني يُمكن أن أرميه عليها إذا اقتربَت مني أكثر مما ينبغي. وصحيحٌ أنَّ دلوًا غدائيًّا لم يكُن ثقيلًا بما يكفي ليُجدي نفعًا في هذا الموقف، لكني أرجحته قليلًا بيدي اليُسرى لترَى أنني لست عزلاء تمامًا.

سألتني: «إلى أيِّ نوع من الأسماء ينتمي اسم «أنابل»؟» كان صوتُها أجش ويكاد يكون صبيانيًّا. كانت تحدِّق إليَّ خافضةً رأسها ككلبٍ يُفكِّر فيما إذا كان سيعض فريسته أم لا. افترَّت شفتاها عن شيءٍ من الابتسامة، وأرخَت ذراعَيها عند جانبَيها. وأمالت رأسَها جانبًا.

هززتُ كتفي. فأنا لم أكُن أعرف نوع اسمي.

قالت: «أنتِ الفتاة الغنية. هذا اسم فتاة غنية.»

نظرتُ خلفي لأرَى ما إنْ كان يوجد على الممشى فتاة غيري. أو شخص غني.

«تظنين أنني غنية؟» لم يخطُر ببالي قط أنَّ أي أحد قد يعتبرني غنية، مع أنَّ عائلتي كانت عائلةً عريقةً تبرَّعَت بأرضٍ للكنيسة والمدرسة، وظلَّ لديها أرضٌ كافيةٌ لإقامة مزرعة فسيحة. كان أجدادي راقدين تحت أرقى شواهد القبور في المقبرة، وكان منزلنا، في الحقيقة، فسيحًا بما يكفي لإيواء أفراد الأجيال الثلاثة الذين كانوا يعيشون فيه الآن، وإن كان مزدحمًا بهم. كان لدينا مياهٌ جارية. وقبل ذلك بعامَين، أوصل السيد روزفلت الكهرباء إلى المنطقة، وكان لدينا المالُ اللازم لإمداد المنزل بالأسلاك والوصلات الكهربائية. كان لدينا في المنزل هاتفٌ مُثبَّت بحائط غرفة الجلوس، وكنا ما نزال نعتبره أشبه بمعجزة. وفوق ذلك، كنا نأكل في مطعم «لانكاستر» في سيويكلي حوالَي مرتَين في السنة. لكننا لم نكُن أغنياء. الأروع من ذلك كله هو المرحاض الداخلي الذي ركَّبه والداي مؤخرًا لإراحة جدي وجدتي؛ لأنهما صارا كبيرَين بما يكفي لأن يستحقَّا الراحة.

قالت بيتي: «لديكِ نافذة أرجوانية.»

لم أكُن أعرف عمَّ تتحدث حتى تذكَّرتُ الزجاج الأرجواني الفاتح في نافذة الصالة الأمامية لمنزلنا، الذي كان من أحَبِّ الأشياء إليَّ فيه. كنت أحبه للغاية هو والجملونات والسقف الأردوازي الذي كان أشبه بريشٍ فضي. والمدافئ الكبيرة في كل غرفة. والنوافذ الطويلة كالأبواب.

قالت بيتي: «لقد أخبرَتني جدتي بشأنِ نافذتكم الأرجوانية. لم أسمع من قبلُ عن وجود نوافذ أرجوانية، إلَّا في كنيسةٍ أو مملكة. لا أحدَ لديه نافذة أرجوانية إلَّا إذا كان غنيًّا.»

لم أكُن أعرف بما ينبغي أن أرد على ذلك؛ ولذا لم أقُل أي شيء.

التقطَتْ بيتي عصًا من جانب الممشى. كانت غُصنًا يابسًا، لكني أدركتُ من طريقة إمساكها بها أنها ما تزال ثقيلة.

«غدًا، ستجلبين إليَّ شيئًا ما وإلَّا فسأضربك بهذه العصا.»

قالت ذلك بهدوءٍ شديد لدرجة أنني ظننتها تمزح، ولكن حين تقدَّمَت خطوةً تجاهي، صار جسدي ساخنًا وشعرتُ بأنَّ قلبي يخفق بعُنف.

قلتُ لها: «شيئًا مثل ماذا؟» وتخيَّلتُ نفسي أجرُّ النافذة الأرجوانية عبر الأحراج.

«أي شيءٍ تملكينه.»

لم أكُن أملك الكثير. لم يكُن لديَّ سوى حصَّالتي وما تحويه من عملاتٍ معدنية، وكتبي. وكُمٍّ منفصل مصنوعٍ من فرو القُنْدُس كان جدي قد صنعه لجدتي التي أعطتني إياه حين صار رثًّا. وياقة من الدانتيل كنت أخيطها بفساتيني التي أرتديها للكنيسة. وقفاز قطني أبيض صار أصغر من أن يناسب حجم يدي آنذاكَ. وإبزيم سُترةٍ على شكل ضفدعة كنتُ قد استعرتُه من عمتي ليلي، ولم تسأل عنه منذ ذلك الحين.

أحصيتُ هذه المقتنيات سريعًا في رأسي، لكني لم أكُن مقتنعةً بأن أعطيَ بيتي أيَّ شيء، حتى قالت: «سأتربَّص بشقيقَيكِ إذا لم تأتي.»

وصحيحٌ أنَّ شقيقيَّ كانا صبيَّين صغيرَين مشاكسَين وعنيفَين، لكنهما كانا أصغر حجمًا منِّي، وكنتُ أنا المسئولة عن الاعتناء بهما.

لم أقُل أيَّ شيء بينما سَنَدَت بيتي العصا على شجرةٍ، وواصلت السير على الممشى مبتعدةً عنِّي. وقالت: «ولا تُخبري أي أحدٍ بذلك وإلَّا فسأضرب الصغير بحجر.» جيمس. كانت تقصد جيمس. الصغير.

انتظرتُ حتى غابت عن الأنظار، ثم استعدتُ أنفاسي وفكَّرتُ فيما قد يشعر به المرءُ إذا ضُرِب بعصًا.

قبل ذلك بعامٍ، كان هنري قد رماني بفطرٍ من عيش الغراب بحجم الطَّبَق، فتراجعتُ وانحرفتُ عن الطريق، وعندها تعثَّرتُ بكلبٍ وسقطتُ فانكسرَت ذراعي. وكنتُ قد لسعتُ نفسي بالنار بضع مراتٍ من قبل، ووقفتُ ذات مرة على نصل مجرفة فارتدَّ مقبضها ليصطدم بجبيني، ولويتُ كاحلي في إحدى حُفر جرذان الأرض. لم يتأذَّ جسدي بإصاباتٍ كثيرةٍ غير هذه في السنوات الإحدى عشرة التي عشتُها في الدنيا، لكن الألم الذي تعرضتُ له كان كافيًا لأعرف أنَّ ضربةً عنيفةً بغُصن شجرةٍ لن تقتلني.

مع ذلك، عندما مررتُ بتلك العصا التي اختارَتها بالذات لتُهدِّدني بها، قذفتُها بعيدًا وسط الأحراج قدر استطاعتي. صحيحٌ أنَّ المكان كان به الكثير من العصيِّ الأخرى، لكني شعرتُ بقليلٍ من التحسُّن عندما رميتُ تلك العصا بالذات بعيدًا عن متناولها.

ارتأيتُ وأنا أتمشَّى ببطءٍ على الممشى أنَّ بيتي لن تلاحق هنري أو جيمس إلَّا بعدما تجرِّبني؛ ومن ثمَّ عزمتُ على أن أنتظر لأرى ما إنْ كان كلامُها مجردَ نباحٍ فارغ، أم أنها ستعض بالفعل قبل أن أحكيَ لوالديَّ أي شيء قد يجعل بيتي أشدَّ غضبًا بكثير مما كانت عليه بالفعل. لكني اعترفتُ لنفسي بأنني شعرتُ بخوفٍ لم أعهده من قبل.

•••

لم أشعر قبل ذلك بخوفٍ حقيقي مرارًا في حياتي، سوى الخوف من الحرب … الخوف من أن تظلَّ رحاها دائرةً إلى أن يكبر شقيقاي بما يكفي لمحاربة النازيين … رغم أنَّ الصِّبية العاملين بالمزارع كانوا يُعفَون من ذلك في أحيانٍ كثيرة. ولا بد أنَّها ستكون قد حُسِمَت بالتأكيد لصالح أحد الطرفَين بحلول ذلك الوقت. وقد كنتُ خائفةً من ذلك أيضًا؛ ممَّن سينتصر ومَن سيُهزَم.

كنت قد صنعتُ مع بقية الفتيات في نادي «فور-إتش» رايةً لنعلِّقها في الكنيسة، وكنا نضيف نجمة زرقاء كلما رحل أحدٌ من البلدة ليقاتل في الحرب. وعندما كان أحدُهم يموت، كنا نغيِّر النجمة الزرقاء إلى نجمةٍ ذهبية. وصحيحٌ أنَّنا لم نغيِّر حتى الآن سوى نجمتَين فقط، لكني حضرتُ جنازتَيهما، وعرفتُ أنَّ حقيقة الأمر ليست هيِّنةً إطلاقًا مهما صَغُرَ العدد.

أحيانًا كنت أقعدُ مع الكبار، وأستمع إلى الراديو في المساء بعد الانتهاء من تناول العشاء. لم يكُن أيُّ أحدٍ يقول أيَّ شيء عند ورود الأخبار. كانت أمي تستمع برأسٍ محنيٍّ ويدَين متشابكتَين منهمكتَين في رتق الثياب الممزَّقة. كانوا يتكلَّمون عن معسكرات الاعتقال التي كنت أظنُّ في البداية أنها تعني الأماكن التي يذهب إليها الناس لإعمال «عقولهم» بتركيز.

قال أبي: «ليتها كانت كذلك. لكنها ليست كذلك يا أنابِل. إنها سجون للناس الذين لا يحبهم هتلر.»

واجهتُ صعوبةً شديدة وأنا أتخيَّل السبب في كره هتلر لهذا الكَمِّ الهائل من الناس.

سألتُه قائلة: «ومَن يحب؟»

فكَّر أبي في الإجابة. وقال: «ذوو الشَّعر الأشقر والعيون الزرقاء.»

حينها سُررتُ بأنَّ لون شَعري بُنِّي. عيناي أيضًا لونهما بُنِّي.

كنا نستمع إلى أخبار القنابل والغواصات، وابتسمنا عندما أُعلِنَ أنَّ قوات الحلفاء قريبةٌ من استعادة إيطاليا، لكننا ظللنا قَلِقين حيال كلِّ شيءٍ آخَر.

قالت أمي وهي تُملِّس على ظهري: «لا داعي إلى الخوف يا أنابل.»

لكنني كنت خائفة.

لم أكُن خائفة من أمي، بالرغم من قسوتها الشديدة في بعض الأحيان. كانت قد نسيت شعور ركوب أرجوحة في الهواء، والتوقف عن استعمال المجرفة عند ظهور أولى بوادر البثور، وتوقُّع أن يكون أي شيء أبسط من حقيقته الفعلية. كانت في السابعة عشرة من عمرها عندما أنجبتني، وكانت في الثامنة والعشرين من عمرها في السنة التي تعلَّمتُ فيها الكذب، أي إنها هي نفسها لم تكُن أكبر من فتاةٍ صغيرةٍ إلا قليلًا، لكنها كانت مسئولةً عن أجيال ثلاثة وقَدرٍ كبير من أعمال المزرعة أيضًا. ومع ذلك، فحتى عندما كان صبرها عليَّ ينفد تمامًا، لم أكُن أخاف منها.

ولم أكُن أيضًا أخاف من عمتي ليلي في الحقيقة، مع أنها يمكن أن تكون مخيفةً بالفعل. كانت امرأة طويلة نحيفة قبيحة، ربما كانت ستُوصَف ملامحها بالوسامة لو كانت لرجل، وكانت تقضي نهارها في العمل مديرةً لمكتب بريد، وليلها في الصلاة وقراءة إنجيلها والتدرُّب على بعض خطوات الرقص، في الرقعة الصغيرة عند الطرف السفلي من سريرها. أحيانًا كانت تدعوني إلى غرفة نومها للاستماع إلى حكاية «بيتر والذئب» على الفونوغراف، وكانت بين الحين والآخَر تضع بنسًا في الحصَّالة الخزفية التي أهدَتني إياها، لكن أسنانها الكبيرة المربَّعة وتعبُّدها التقي المتحمِّس جدًّا للرب كانا يُرعباني.

وكنت أخاف في بعض الأحيان من قلب جدتي السقيم الذي كان يُجبرها على صعود الدَّرَج بظهرها وهي جالسة … كانت تصبح ضعيفة جدًّا وعجوزًا جدًّا في بعض الأحيان، ولم تعُد المرأة القوية القادرة التي كانَت عليها في الماضي. وعندما كانت حالتها الصحية تسمح لها، كنا نجلس معًا على أرجوحة الشرفة ونلعب بعض ألعاب التخمين، ونعلِّق على الفراشات الموجودة في الحديقة الأمامية، ونأمل أن يأتي أحد طيور الدُّرَّاج متقافزًا من وسط الأحراج ليسرق البذور التي نثرَتْها للطيور المغردة. كانت تحب تلك الطيور. كانت تحبها حقًّا. حتى الرمادية الصغيرة منها. خصوصًا الرمادية الصغيرة منها. لم يكُن في جدتي شيءٌ يخيفني، سوى فكرة أنها ستموت قريبًا.

غير أنَّ كلَّ مَن في المنزل كانوا يُشاركوني هذا الخوف.

كانت بيتي تخيفني أنا، وقررتُ أن أتولى أنا مسئولية ترويضها. إن استطعتُ. وحدي.

لكني في هذه اللحظة كنت سعيدةً لأنها رحلت، وواصلتُ السير ببطء شديد لدرجة أنني لم أعُد أرى بيتي إطلاقًا بحلول الوقت الذي خرجتُ فيه من بين الأشجار، وواصلتُ السير إلى الحقل الذي كان خاويًا تمامًا إلَّا من آثار قدمَيها، التي كانت عميقة وحادة، وتوحي بأنها كانَت منفعلةً للغاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤