الفصل السابع والعشرون

ظللتُ جالسة عند طاولة المطبخ، وانتظرتُ استيقاظ بقية أسرتي، فردًا تلو الآخَر. عَزَّوْني كلهم بالترتيب، وصولًا إلى جيمس، وأعربوا لي كلهم، لا سيما هنري، عن بالغ أسفهم على موت توبي.

كلهم واسوني ما عدا العمة ليلي، التي كانت جالسة تشاهد، وهي تحتسي القهوة مُرتدية رداءها المنزلي الوردي المصنوع من القطن الخفيف، وقالت: «لا أفهم كيف لفتاة مثلكِ أن تشعر بأي شيء تجاه رجلٍ كهذا سوى الرُّعب منه.»

لم أردَّ عليها، لكن هنري ردَّ.

قال: «كانت صديقته»، لكن العمة ليلي زفرت تعبيرًا عن ازدرائها.

ثم قالت: «ولماذا ترتدين هذا المعطف؟ إنه شبيه جدًّا بالمعطف الذي كان جوردان يرتديه عندما جاء ليساعد في العثور على بيتي.»

بدا أنَّ أمي كانت تهمُّ بقول شيء ما، لكنها نظرت إلى والدي، فهز رأسه ليمنعها، ثم أومأ الاثنان لي، وكأنَّ لسان حالهما كان يقول: «هيا افعليها. لا بأس.»

انحنى جدي إلى الأمام ليُلقي نظرةً عن قرب، ثم رجع مجددًا وهو يومئ برأسه. قال: «هذا معطفي القديم. ويبدو جميلًا جدًّا عليكِ يا أنابل. باستثناء أنَّ كُمَّيه ربما يكونان أطول مما ينبغي.»

أخرجتُ القفاز من جيب المعطف الأيمن ووضعتُه على الطاولة.

قال جدي: «وقفازي المُفضَّل. لقد كنت أبحث عنه.»

قالت العمة ليلي ببطء: «وجوردان كان لديه قفاز كهذا بالضبط. استغربتُ أنه كان يرتديه على طاولة العشاء في تلك الليلة.»

جاء هنري ليتفحَّص القفاز. وقال: «لم يكن لديه قفاز كهذا. بل كان لديه هذا القفاز نفسه. لقد رأيتُ بقعة التوت تلك على الإبهام عندما كان يدق ألواحًا جديدة في الحظيرة بالمطرقة. أتذكَّر أنها كانت شبيهة بقارة أفريقيا.»

كان جيمس هو الوحيد على المنضدة الذي لم ينشغل عن فطوره بالقفاز الذي قبع بجوار طَبقي، بهدوء وصبر في انتظار أن يُرتدى مجددًا.

قالت العمة ليلي: «لكن لماذا تحملين قفاز جوردان بحوزتكِ؟ هل نسيه؟»

قال جدي: «هذا قفازي أنا يا ليلي. وهذا معطفي. ولا أعرف ماذا كان جوردان يفعل بهما، ولست مهتمًّا. والآن ناوليني السكر يا ليلي، والقشدة يا أنابل، وإلَّا فسأضطر إلى أن أشرب هذه القهوة سادة.»

كان هنري يحدِّق إليَّ. وكان والداي يشاهدان في صمت. وكانت جدتي تفرد المربى على قطعة من الخبز المحمص. وسرق جيمس شريحة لحم من طبق هنري، دون أن يلاحظه أحد.

قالت العمة ليلي: «لكن لماذا …؟»

فقاطعها هنري فاغرًا عينَيه كالبومة: «هذا لم يكُن جوردان. بل كان توبي.»

ترك جدي شوكته. وقال: «مَن عساه كان توبي؟»

فقال هنري: «جوردان. لقد خلع القفاز من يدٍ واحدة فقط. أعني عندما كنا نتعشى. لئلَّا نرى ندوبه.»

قالت العمة ليلي وهي تنظر بعبوسٍ داخل فنجان قهوتها: «لا تكُن سخيفًا. فجوردان رجل لطيف جدًّا.»

قالت جدتي بإمعان في التفكير: «أتقصدين هذا الشخص الذي ظهر فجأة. مرتديًا ذلك المعطف وذلك القفاز.» نظرت جدتي إليَّ بفضول. وسألتني: «أنابل، لماذا ترتدين هذا المعطف؟»

نظرتُ إلى والديَّ مرَّة أخرى، وأخذت الخطوة الأخيرة. قلت: «لأنني كنت أشعر بالبرد الليلة الماضية، في غرفتي، التي خبَّأت فيها المعطف، لئلَّا تجده الكلاب البوليسية في حجيرة المدخل.»

كان الجميع بحلول ذلك الوقت قد صاروا منتبهين، حتى جيمس. قال: «لماذا كانت الكلاب البوليسية ستدخل غرفة الوحل يا أنابل؟ هذا هراء.»

فقال هنري: «لأنها كانت تتعقَّب رائحة توبي.»

وقالت العمة ليلي: «آه، سحقًا! توبي لم يدخل هذا البيت قط. ولا مرَّة واحدة. ولم يرتدِ معطف جدك بالطبع.»

قال هنري: «جوردان هو توبي. أليس كذلك يا أنابل؟»

أومأتُ بالإيجاب. وقلت: «بلى يا هنري، هذا صحيح. وأنتِ مُحقة أيتها العمة ليلي، لقد كان رجلًا لطيفًا جدًّا.»

سادت بعدئذٍ حالة من الالتباس والفوضى، وعندئذٍ تركتُ والدي يجيب عن الأسئلة، بينما تغيَّر وجه العمة ليلي من الأبيض إلى الأحمر ثم عاد أبيض مجددًا.

دسستُ يديَّ في جيبَي معطف جدي الفسيحَين، وبينما كنت أشاهدها تحاول جاهدةً أن تستوعب المفاجآت التي كانت تُكشَف لها لأول مرَّة، اكتشفتُ أنا مفاجأة جديدة بنفسي.

توبي، الذي كان على دراية تامة بالشعور بالخزي، قد ترك لنا شيئًا استطاع أن يُشعر الجميع بهذا الشعور، حتى العمة ليلي نفسها.

وجدتُ ذلك الشيء، باردًا وصلبًا، في قاع الجيب الأيسر. حاولت إخراجه، لكنه كان عالقًا في بطانة الجيب.

قلتُ وأنا أقف: «يوجد شيء ما في هذا الجيب.»

فسكت الجميع.

فككتُ أزرار المعطف لأحاول إخراج ما في الجيب بكلتا يديَّ.

واستطعت انتزاعه أخيرًا، فتبيَّن أنه نجمة ذهبية تحمل وجهًا منقوشًا في وسطها، داخل إكليل من الزهور. وكان يوجد أعلاها نسرٌ مستقرٌّ على شريطٍ يحمل كلمة «بسالة».

قلَّبتُها.

ثم سألت العمَّة ليلي ببطء: «بمَ كنتِ تصفين توبي؟ وَحش؟ مجنون؟»

سلَّمتُ النجمة إلى والدي، فنظر إليها عن قُرب وقرأ ما كان منقوشًا على ظهرها بصوتٍ عالٍ. ««من الكونجرس إلى توبياس جوردان.»» رفعَ عينَيه إليَّ، وكان شاحبًا كالعمة ليلي. ثم قال: «أنابل، هذا وسام شرف ممنوح من الكونجرس.»

قالت العمة ليلي فجأةً بحِدَّة: «دعني أرَ ذلك.» تفحَّصت الوسام بحثًا عن مَهرَب، لكنها لم تجد مَهربًا بالطبع. قالت: «حسنًا، كيف كان يُفترض أن نعرف أنَّ الرجل كان بطل حرب؟»، وسلَّمَت الوسام إلى جدي، الذي أمسكه بعناية كأنه مصنوع من الزجاج.

قلت: «لم يكُن كذلك. كان سيُخبرك بذلك بنفسه لو لم تقتله الشرطة الليلة الماضية.»

•••

ذهبتُ إلى المدرسة في ذلك اليوم، لكن لا أتذكر أي شيء عمَّا حدث فيها آنذاك.

لا بد أنَّها شهدت جلبة كبيرة عن موت بيتي، ولا بد أنَّ بنجامين قد عاد إلى المقعد الذي كان آندي قد احتلَّه معظم الشهر. توقعتُ أنني لن أرى آندي في المدرسة فترة من الوقت. لن أخاف منه بعد ذلك أبدًا على أي حال.

أتذكر أنَّ هنري انتظرني في فناء المدرسة عند نهاية اليوم الدراسي، بدلًا من أن يركض إلى المنزل مباشرةً مع جيمس.

سألني: «هل تريدين المشي معنا؟»

هززتُ رأسي بالنفي. وقلت: «لا بأس. أنا بخير. اسبقاني أنتما الآن. سأراكما في المنزل.»

في الحقيقة، لم أكُن لأمانع أن يرافقني أحد آنذاك، خصوصًا أخي الذي بدا أنه صار يعتبرني إنسانة حقيقية بالفعل.

لكني كنت عازمة على الذهاب إلى مكان ما، وأردتُ الذهاب إليه وحدي.

لم يكُن متبقِّيًا سوى ساعتَين على الغروب في نهار نوفمبر القصير، وكانت وجهتي بعيدة بعض الشيء، لكني توقفت لبرهة على الممشى الذي كانت بيتي قد واجهتني عنده أول مرة، والذي تحادثنا عنده محادثة قصيرة آنذاك قبل أن أتركها وأرحل. أخبرتُها بأنني أحاول أن أسامحها وأسامح نفسي أيضًا، لكني لم أكُن متيقنةً ممَّا إذا كنت سأقدر على ذلك، وهي لم تردَّ عليَّ على أي حال.

وذهبتُ إلى حيث كانت حفر الذئاب موجودة ذات يوم، وقضيتُ بعض الوقت هناك أيضًا.

غير أنَّ الذئاب التي ماتت هناك كانت صامتة هي الأخرى. ولم أدرك إلَّا وأنا واقفة هناك، أرهِفُ السمع، أنني كنت أسمع ترجمة صيحاتها بالفعل طوال الأسابيع الماضية.

تمنيتُ أن تساعدني لأفهم قصص توبي يومًا ما، إذا تشجعتُ ذات يوم على أن أخرجها من صناديقها مرَّة أخرى.

•••

كان الكوخ الذي كان توبي يسكنه قد بدأ يفتقده بالفعل.

وجدتُ أنَّ عنكبوتًا قد ترك كيسًا من البيض في شبكةٍ، فوق المكان الذي كان توبي ينام فيه، وتصورتُ البيض يفقس عندما يحلُّ الدفء في الربيع القادم، فتتساقط العناكب الصغيرة على مرقد توبي المصنوع من أغصان الصنوبر.

كان يوجد أيضًا أثر لأحد حيوانات الراكون في أحد أركان الكوخ، بالقرب من مَنفَسِ دخان النيران التي كان توبي يستخدمها، وأدركتُ أنني لن أستطيع العودة إلى هنا مجددًا.

استغرقتُ وقتًا طويلًا في نزع الصور المتبقية عن الجدران.

كان استخدامه عصارة أشجار الصنوبر للصقِ الصور ينمُّ عن شيئَين: إمَّا أنه لم يكُن يملك شيئًا آخَر ليستخدمه، أو أنه كان يعتزم البقاء هنا إلى الأبد.

وكلا الاحتمالَين جعلاني أبكي.

كنتُ قد أحضرت سكِّين تقشيرٍ لأحاول فصلَ الصور عن الحوائط دون إتلافها، بعدما دفَّأتُ عُصارة الصنوبر أولًا بالضغطِ على كل صورة بكلتا يديَّ، لكني مع ذلك أتلفتُ الصور التي كانت مستعصية للغاية رغمًا عنِّي.

أمَّا الصور التي استطعتُ انتزاعها، فكانت مجعَّدة من تأثير تلك العملية، وكان معظمها رقيقًا جدًّا حيث تلاشى الجزء الورقي الداعم من خلفها. وبذلك بدا أنَّ جزءًا من كل صورة كان يتوهَّج إذا رفعتها إلى الضوء. فأعجبني ذلك.

تركتُ القليل من الصور، لأستطيع العودة إلى المنزل قبل حلول الظلام، لكنَّ السبب الأكبر أنها كانت تنتمي إلى المكان الذي كانت موجودة فيه. كصورة الغزالة الغافية في رُقعةٍ من نبات البدفيل. وصورة ثعلب أحمر يطارد جرذانًا في رقعة الفراولة، فيما يبدو طرف ذيله كرأس سهمٍ أبيض.

أمَّا الصورة الأخيرة التي أخذتُها معي، فكانت صورة صقرٍ واقف على «حجر السلحفاة». كدتُ أتركها هناك لأنها كانت جميلة جدًّا، لكني أخذتها لأنها كانت جميلة جدًّا.

توقعتُ أن أتلقى توبيخًا عندما وصلت إلى المنزل في مساء ذلك اليوم. لكنَّ أمي اكتفت بتحيتي تحية مقتضبة وأعطتني مئزرًا.

وعندما دخل هنري المطبخ، وهو يبدو مرتاحًا لرؤيتي هناك، أعطيته حزمة الصور.

قلت: «لقد ترك توبي هذه الصور. وإذا أردت الكاميرا، فهي في غرفة نومي. لقد وضعتُ فيها بَكَرة جديدة من أفلام التصوير. يُمكننا أن نتناوب أنا وأنت على استخدامها، بَكَرة بعد بَكَرة.»

فقال جيمس وهو يدخل المطبخ متقافزًا ومرتديًا قبعة من فرو الراكون: «وماذا عنِّي؟» كان يبدو أنَّ جدتي قد بدأت تقرأ له كتابًا جديدًا، عن الغرب الأمريكي القديم على الأرجح.

قلت له: «يُمكنك أن تلتقط بعض الصور أنت أيضًا.»

فقال: «هل كان دانيال بون يلتقط صورًا؟»

فقال هنري: «لا أظن ذلك.»

فقال جيمس وهو يخرج راكضًا من المطبخ إلى غابته البرية الخاصة: «إذَن، فأنا أيضًا لن ألتقط الصور.»

التفت هنري إليَّ. وقال: «ستكون الكاميرا لنا نحن الاثنَين إذَن.»

أشعرتني الطريقة التي قال بها هذه الجملة أنني ربما سأشعر بالسعادة مجددًا، عمَّا قريب.

•••

كانت جنازة بيتي غريبة. امتلأت الكنيسة عن آخِرها بأناسٍ معظمهم لم يقابلوا بيتي قَط، لكنهم كانوا يعرفون جدها وجدتها، أو كانوا يعرفون والدها في أثناء نشأته، أو سمعوا بموتها الفظيع وأرادوا أن يشيعوها تشييعًا لائقًا.

في الجنازةِ، ميَّزتُ هُوية والد بيتي «الغائب»؛ لأنني كنت قد رأيتُ صورته في غرفة نومها من قبل. اختار مقعدًا بعيدًا عن أمها، التي كانت جالسة في المقعد الأمامي وكانت تبكي دافنةً رأسها بين يدَيها.

استطعتُ من مكان جلوسي أن أرى أنَّ وجهه كان جافًّا. ولكن عندما وقفنا لنُنشِد ترنيمة «قرِّبنا إليك يا رب»، انطوى على نفسه في مقعده وظلَّ يفرك عينَيه بلا توقف، وكانت كتفاه ترتجفان.

كان جَدُّ بيتي قد صنعَ تابوتها بنفسه. وطلاه باللون الأبيض. تحسَّرتُ على وضع تابوتٍ كهذا في الحفرة الموحلة التي قد حفروها لها. ورأيتُ أنه كان من القسوة البالغة أن نتركها هناك وحيدة، بلا أي صُحبةٍ سوى الزهور التي قد وضعناها فوق تابوتها، والتي كان معظمُها هو آخِر زهور النجمة البرية، وما استطعنا جمعه من زهور القضبان الذهبية، التي وجدناها في الحقول الآخذة في الاحتضار.

لكننا تركناها على كل حال، تركناها جميعًا حتى آخِر واحدٍ منَّا، وإنْ كان البعضُ قد تركها بوتيرة أبطأ من البعض الآخَر. وعندما مررنا بالمقبرة في اليوم التالي، لم نجد سوى مهادٍ مرتفع من التراب، وبقعة جرداء منثور عليها زهور وأوراق مهترئة، حيث كانت بيتي قابعةً في مثواها الأخير.

ذكَّرتني بيتي بعد رحيلها بهبَّاتِ أبريل الباردة، التي كانت تُبقي والدي ساهرًا طوال الليل، ليؤجِّج النيران الموقَدة في بستان الخوخ كي ينقذ الأزهار الرقيقة من التجمُّد.

كان بعضها ينجو ليُصبح أطيب ثمارٍ في الدنيا. وكان البعض الآخَر يذبل على غصنه، ويموت بسبب الصقيع، فيُهدَر بلا جدوى.

بدا لي أنَّ بيتي كانت بمثابة الزهرة والصقيع في آنٍ واحد.

•••

أمَّا جنازة توبي، فكانت مختلفة تمامًا.

لم يكُن لدينا الكثير من المال، ولكن كان لدينا ما يكفي لجلبِ جثمان توبي إلى الديار ودفنه، ليس في ساحة الكنيسة، بل على قمة التلة الواقعة فوق مُنخفَض «حفرة الذئاب»، أسفل شاهد بسيط منقوش عليه اسمه وسنين حياته.

كنا قد عرفنا تاريخ ميلاد توبي بسهولة؛ إذ إنَّ سلطات الجيش أخبرتنا به، كما أخبرتنا بأنَّه لم يكُن لديه أقرباء أحياء؛ لكننا نحن مَن أخبرناهم بتاريخ وفاته.

أرسلوا إلينا طَردًا من المعلومات عن مآثره التي استحقَّ بها نيل الوسام، لكني كنتُ قد سمعتُ القصة من وجهة نظره سلفًا؛ ولذا لم يكُن أيٌّ من ذلك مهمًّا حينئذٍ. لم يكُن مهمًّا لي على الأقل.

اجتمعنا كلنا على قمة هذه التلة بعدما دفنَّا توبي في مثواه الأخير. اكتفينا بالوقوف صامتين أغلب الوقت، وقد بدا هذا تشييعًا لائقًا.

لكنَّ العمة ليلي فاجأتني. إذ قالت: «أنا نادمة على تسرُّعي في الحُكم على هذا الرجل»، لكنها لم تكُن ناظرة إلى قبره، بل كانت تنظر بعيدًا، كما لو كان موجودًا في مكانٍ آخَر … وأفترضُ أنه كان كذلك بالفعل، لكنني لم أشعر بذلك.

وبعد بعض الوقت، غادر جدي وجدتي عائدَين إلى المنزل ببطء، ثم تبعتهما العمة ليلي بخطواتٍ متباطئة.

قبَّلني والداي وغادرا هما أيضًا.

قال لي هنري حين بدأ الضوءُ يتلاشى رويدًا: «هيا يا أنابل. لنذهب.»

لكني لم أكُن مستعدة للرحيل بعدُ؛ ولذا بقي هنري، وحتى جيمس، الذي كان قد ركض بعيدًا، عاد بفضولٍ ومعه الكلاب، ليستلقي على ظهره فوق العشب بجوار قبر توبي ويُعلِّق بإسهابٍ على الغيوم التي كانت في السماء.

ثم عُدنا كلنا إلى المنزل.

•••

وعلى مرِّ السنوات التالية، ظللتُ أجلسُ من حين إلى آخَر على قمة التل، بجوار قبر توبي المُطِل على مُنخفَض «حفرة الذئاب»، وأحدِّثه عن حياتي.

كان يبدو أنَّ المُنخفَض أيضًا يُنصت إليَّ، وكثيرًا ما كنتُ أتساءل عن ماهية كلِّ شيء آخَر قد سمعه على مرِّ القرون الماضية. صوت الرجال وهُم يحفرون الحفر. صوت الحيرة اليائسة للذئاب التي كانت تُوقَع في الفخ. صوت ذئبٍ ربما لم ينخدع برائحة الطُّعم، فيظل على أرضٍ آمنة ويمشي جيئة وذهابًا بطولِ حافة الحفرة في الأعلى، ناظرًا إلى أسفلها نحو رفاقه المحكوم عليهم بالموت. تخيلتُه ينسحب إلى الأحراج عندما يجد الرجال عائدين في الصباح ببنادقهم.

وتخيَّلتُه في حيرة عظيمة بين حاجته إلى القتال ورغبته المُلحة في العيش، ممزقًا للغاية بين الخيارَين حتى إنه ليشعر وكأنه ينزف هو الآخَر مثل رفاقه. لم يسعني إلَّا أن أرى مُنخفَض «حفرة الذئاب» مكانًا كئيبًا قاتمًا، بغض النظر عن شدة سطوع الغطاء الشَّجَري الممتد من فوقه، وبغضِّ النظر عن شدة جمال الزهور التي كانت تنمو في ضوئه المتقلب.

لكنَّ «حفرة الذئاب» كان أيضًا هو المكان الذي تعلمتُ فيه قول الصدق، في ذلك العام السابق على بلوغي سن الثانية عشرة؛ قول الصدق عن أشياء كان تجنُّبها مستحيلًا. أشياء كان تجنُّبها خطأً. مهما كان مُغريًا.

بُحتُ لتوبي بكلِّ هذا، لكني قلتُ له أيضًا إنني لا ألومه على هروبه من الشرور الكُبرى التي عرفها. وشكرتُه على أنه أتاحَ لي محاولة تصحيح الكثير من الأخطاء، وإنْ كان هو نفسه قد استسلم.

لكنَّ الرياح دائمًا كانت تذرو كلماتي كظلال الغيوم، كما لو أنَّ بَوْحي بها كان هو الأهم، بغضِّ النظر عن هُوية مَن سيسمعها.

ولم أرَ في ذلك أيَّ بأس على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤