الفصل الرابع

في صباح اليوم التالي، رمقَتني أمي بنظرةٍ غريبةٍ وأنا واقفةٌ عند الباب الخلفي، حيث كنت أتجهَّز قبل الذهاب إلى المدرسة. وقالت: «هل توجد مشكلةٌ يا أنابِل؟» كنتُ على وَشْك إخبارها بشأن بيتي. كنتُ سأستريح تمامًا بإلقاء المسألة كلِّها على عاتقها.

ولكن بالرغم من عدم تَبقِّي مهام كثيرة لديها آنذاك، باستثناء إحضار بعض التفاح والبطاطس والبنجر، وبضعِ ثمارٍ من البنجر الشتوي، ورغم أنها من بين كل نساء الدنيا كانت قادرةً وقوية، فإني قررتُ أن أجنِّبها هذه المعركة بالذات. لقد فكَّرتُ مليًّا في الأمر: إن قلت لها، فستذهب إلى أصدقائها، آل جلينجاري، وتُخبرهم بأنَّ حفيدتهم مشاغبة، ومن المؤكَّد أنهم كانوا يعرفون ذلك، لكنهم لن يريدوا سماعه من أحد جيرانهم.

ورغم أنَّ أمي كانت تستطيع إصلاح كل شيء فاسد في حياتنا تقريبًا، فلم يكُن بإمكانها أن تضمن لي أنَّ بِيتي لن تعاود مضايقتي مجددًا وهي أشد غضبًا من ذي قبل إذا وشيتُ بها — أو أنها لن تلاحق شقيقيَّ، وهذا أسوأ.

كنتُ قد تعلَّمتُ معنى «حرونة الطبع». لن يُغيِّر التوبيخُ أيَّ شيء، وبيتي إلى تلك اللحظة لم تفعل شيئًا يستدعي عقابًا أشد من التوبيخ.

ولهذا قُلت: «لا شيءَ يا أمي»، وخرجتُ من الباب قاصدةً المدرسة، وحاملة البِنس الذي أخذتُه من حصَّالتي كسندان في جيبي.

كان هنري وجيمس ينتظراني في الفناء، ولم يكُن لهذا أيُّ معنًى إطلاقًا لأنهما رحلا راكضَين حالما رأياني آتية. وقبل أن نبتعد عن المنزل حتى، كانا قد ركضا شوطًا طويلًا نحو آخِر الزقاق، وهما يتقاذفان كتلًا من التراب، وكانا يُثيران وراءهما ذيلًا من الغبار كما لو كانا جِنيَّين صغيرَين تحرَّرا من زجاجة.

سرتُ وحدي نحو آخِر الزقاق وعَبْر الحقل المحروث عند أعلى التل، حيث كل المحاصيل هنا مدفونة أسفل التربة، بينما رحتُ أبحث عن رءوس الأسهم على قمم الأخاديد.

كنت أتفاجأ بين الحين والآخَر بغزالةٍ من قمة التل هذه. كانت الحقول تحتي تبدو خاوية تمامًا في لحظة. وفي اللحظة التالية، أجد غزالة تكاد تكون غير ظاهرة وسط خلفية التراب المحروث.

وهذا أيضًا ما حدث مع توبي في صباح ذلك اليوم. ففي لحظة، كنت أرى قمة التل على يميني خاوية. وفي اللحظة التالية، كنت أراه هناك، يقف على البُعد ساكنًا مُحدِّقًا نحوي.

جفلتُ عند رؤيته.

لوَّحتُ له بتحية الصباح.

لم أتضايق عندما لم يرد التحية. فلم يكُن ذلك يعني شيئًا إطلاقًا عدا أنه كان مختلفًا عن الآخَرين. لم يكُن توبي ودودًا، لكنه كان يعاملني معاملةً طيبة، بينما لم يكُن مضطرًّا إلى ذلك.

ذات مرَّة على سبيل المثال، كنت أمشي على حافة حقل مزروع حديثًا ووَطِئتُ بقدمي بالخطأ إحدى حفر جرذان الأرض، فالتوى كاحلي التواءً شديدًا جدًّا لدرجة أنني لم أستطع المشي عليه. كنت وحدي آنذاك. ولم يكُن في الأنحاء أحدٌ سواه. ناديتُ بصوتٍ عالٍ بضع مرات، بينما أحاول المشي عرجاء. وقد أتى إليَّ توبي.

كنت أصغر سنًّا عندئذٍ ولم يكُن وزني ثقيلًا جدًّا، لكن لم يكُن من السهل حملي كالطفلة الرضيعة إلى أعلى التل وبطول الزقاق وصولًا إلى أمي.

ومع قُربي الشديد منه على هذا النحو، اشتممت رائحته الشخصية وميَّزتُها، ولست أعني بذلك رائحة الكوخ الذي كان يسكنه. كانت رائحته شبيهة جدًّا بالأحراج عند ذوبان الجليد الذي يكسوها، أو بكلبٍ كان طليقًا في العراء في أثناء المطر. كانت قوية لكنها لم تكُن قذرة في الحقيقة.

قُلت عدة أشياء طَوال الطريق؛ مثل: «شكرًا لك.» «أنا آسفة.» «لُطف منك أن تساعدني.» وعندما أوصلني إلى مدخل بيتنا، قلت: «هلا تفضَّلت بالدخول لشرب بعض الماء؟»

لم يردَّ على أيٍّ من كلماتي، لكني لم أشعر بأنَّ في صمته قسوة.

لم يدخل لشرب الماء. تركني على العتبة وغادر بخُطًى مسرعة، عائدًا أدراجه بطول الزقاق، وقد رحل قبل أن تأتي أمي إلى الباب لتجد أنني كنتُ الطارقة.

وفي مرَّة أخرى، عندما أصيب أبي بجرح في ظهره، ولازمَ فراشه بضعة أيام في منتصف موسم حصاد اليقطين، وصلنا أنا وأمي وجدي وشقيقاي الصغيران إلى رقعة اليقطين في الحقل، لنجد أنَّ العربة التي تركناها فارغةً في الليلة الماضية صارت مُحمَّلةً باليقطين، وجاهزةً للذهاب إلى السوق.

لم ينسب أحدٌ لنفسه الفضلَ في تلك البادرة الطيبة، وكنتُ أعرف أنَّ توبي هو مَن قام بذلك.

تصوَّرتُه وهو يعمل في الظلام على ضوء القمر والرؤية الليلية، عاكفًا على جرِّ ثمار اليقطين إلى العربة، مع أنَّ بعضها كان كبيرًا جدًّا لدرجة أنه لم يكن لرجل واحد أن يستطيع حمله. لا بد أن تلك المهمة قد استغرقت منه الليل كله.

في ذلك اليوم نفسه، خبزت له أمي فطيرة يقطين وأعطتني إياها لآخذها إلى أعلى الزقاق، على أمل أن أراه قريبًا من هناك. كانت الفطيرة ما تزال دافئة في يدي. لكني انتظرتُ طويلًا حتى صارت باردةً، قبل أن أتركها في صندوقٍ حيث كنا نضع الطعام والملابس المستعملة التي لم نعُد نحتاج إليها، كي يجدَها توبي عندما لا يكون موجودًا في الجوار.

وبعد ذلك بيومَيْن، وجدتُ أنه تركَ طبق الفطيرة نظيفًا في الصندوق مع باقة من الزهور النجمية البرية، وبعض الزهور الأخرى مربوطة بورقةٍ من حشيشة القمح الزاحفة.

•••

اتجهتُ إلى أسفل المنحدر وسلكتُ الممشى إلى داخل الأحراج، دونما انتباه كبير لما حولي. فمن المؤكَّد أنَّ صوت ركض الولدَين قد أخافَ كلَّ الدببة التي كانت قريبة بما يكفي لسماعه، وجعَلها تبتعد، فيما كانت الأفاعي قابعة في مكانٍ ما مشمس ودافئ، ولم أكُن أتوقع أن أرى بيتي إلا بعد انتهاء اليوم الدراسي. لكنها ظهرت أمامي فجأة، واقفةً في الممشى أمامي، كالمرَّة السابقة بالضبط.

كانت العصا التي تحملها في يدها هذه المرة أصغر من الأولى، وهذا أقلقني. فقد كان غرضها بالأمس أن تتركَ انطباعًا معينًا. أمَّا مقاس العصا التي اختارتها اليوم، فهو أنسب لأرجحتها. وكانت خضراء أيضًا، ممَّا يعني أنَّ ضربتها ستكون شديدة. وأعترفُ بأنني كنت خائفة.

قلتُ وأنا أهمُّ بمواصلة السير مباشرةً وتخطِّيها: «مرحبًا بيتي.»

لكنها وقفت أمامي ومَدَّت يدها لتعترضَ طريقي. ثم قالت: «سنمشي إلى المدرسة معًا. أعطيني ما أحضرتِه أولًا.»

شعرتُ برغبةٍ في تصحيح لَكْنتها الرديئة، لكني لم أفعل. وشعرت برغبةٍ في أن أحاول دَفْعها بعيدًا ومواصلة طريقي عنوة، لكني كنت متيقنةً تمامًا من أنَّ ذلك لن يُجديَ نفعًا.

قلتُ لها: «لسنا أغنياء»، وكأنني أردتُ تصحيح ذلك على الأقل. وأضفتُ بلَكْنةٍ عاميةٍ سوقية: «ليس عندي أيُّ شيءٍ لأعطيَه لك.» فاجأتني لهجتي العامية وآلمتني وأنا أتفوَّه بها؛ فقد افترض جزءٌ من عقلي أنَّ إبداء قليلٍ من الانحطاط قد يجعلني أقوى بالفعل، لكني رأيتُ في اللحظة التالية أنه لم يجعلني كذلك.

فقبل أن يتسنَّى لي وقتٌ للتفكير في التحرك، أرجحَتْ بيتي العصا أرجحةً بسيطةً وضربتني بها. اختارَت فخذي، ربما لأنَّ الكدمة التي ستحدث هناك من أثر الضربة لن تظهر. حاولتُ جاهدةً ألَّا أتركها ترى مدى إيلام هذه الضربة.

قالت: «أعطيني ما أحضرتِه.»

لم أكُن أرغب في أن أعطيَها أيَّ شيءٍ على الإطلاق. حتى البِنس الذي كنت أحمله في جيبي.

قلتُ وأنا أمدُّ البِنس إليها في راحة يدي المنقبضة، بالطريقة التي تعلَّمت إطعام الكلاب بها: «لن أعطيَكِ إلا هذا. لا تطلبي مني أيَّ شيءٍ آخَر. ليس عندي أيُّ شيء آخَر.»

نظرَتْ بيتي إلى البِنس، والتقطَتْه بأطراف أصابعها، وحدَّقت إلى وجهي. ثم قالت: «بِنس؟»

قلتُ: «يُمكن أن تشتريَ به قطعتَين من الحلوى.»

فقالت: «لا أريد قطعتَين من الحلوى.» رمَتْه وسط الشجيرات المتشابكة. وقالت: «فَلْتُحضري إليَّ غدًا شيئًا أفضل من بِنس.»

«ليس لديَّ أيُّ شيء آخَر لأعطيكِ إياه يا بيتي. وأرى أنَّكِ تتصرفين معي بفظاظة.» ثم أضفتُ مُدركةً تمامًا أنني أبدو غير صادقةٍ إطلاقًا وأنا أقول ذلك: «يُمكننا أن نصبح صديقتَين. إذا توقَّفتِ عن التصرُّف بهذه الفظاظة الشديدة.»

رَدَّت بيتي بأرجحة العصا مجددًا. ثم ضربَتني ضربةً أشدَّ هذه المرة في نفس الموضع الذي كان يؤلمني بالفعل، ووجدتُ نفسي جاثيةً على ركبتَي في الحال. وعندما نظرتُ إلى الأعلى، كانت بيتي تحدِّق إليَّ، بوجهٍ جامد، وفمها متدلٍّ ومفتوح قليلًا.

ذكَّرني شكلها بالكلاب الضالة التي كانت تتجوَّل في المزرعة بين الحين والآخَر، ولا يقبلها قطيع كلابنا.

رأيتُها تُحْكِم أصابعها على العصا وأدركتُ أنها ستضربني مجددًا، وانهمرَتْ دموعي.

أرخَت قبضتها على العصا. وزالت من عينَيها النظرةُ التي كانت فيهما. وقالت: «لستِ سوى طفلةٍ صغيرةٍ غبية. تذكَّري ما قلتُه من قبل. إذا أخبرتِ أيَّ أحد، فسيدفع ذاك الصبي الصغير الثمن. والآن اذهبي.»

لملمتُ نفسي ونهضت، ثم تركتُ التل يأخذني إلى الأسفل نحو المدرسة.

وعند منحنًى في الممشى، نظرتُ إلى الوراء. رأيتُ بيتي منحنيةً إلى الأسفل في المكان الذي رمت فيه بِنسي، تُبعد الشجيرات بيدَيها العاريتَين بحثًا عنه.

•••

عندما دخلتُ إلى غرفة عمتي ليلي في مساء ذلك اليوم، كانت تمشِّط شعرها. كانت تفعل ذلك كثيرًا. ووضعت أحمر الشفاه ثم مسحته.

قالت لي وهي تنظر إليَّ في مرآتها: «ماذا تريدين يا أنابِل؟»

قلتُ: «حسنًا.» ووضعتُ يديَّ وراء ظهري. أضفتُ: «أتساءل عمَّا إن كان يُمكنني استعارة إبزيم سترتك المزيَّن على شكل ضفدعة مجددًا»، رغم أنني كنت أعرف أنه ما يزال موجودًا في غرفتي. «ذاك الإبزيم الذي يحمل أحجارًا متلألئة.» كان أحد الأحجار مفقودًا، ومن المرجَّح أنَّ هذا هو السبب الذي جعل عمتي ليلي تُعيرني إياه أصلًا. كان قديمًا ومنحنيًا قليلًا أيضًا. لم تكُن له أيُّ قيمة مالية.

«الإبزيم المزيَّن على شكل ضفدعة؟» قلَّبت بطرفِ إصبعها في محتويات طبق الأزرار والخيوط والمقتنيات الصغيرة الذي كانت تحتفظ به على خزانتها. وأضافت: «لكنه عندكِ بالفعل يا أنابِل. لم أرَه منذ أن أعرتُكِ إياه، أم إنني رأيتُه؟»

مَنَحني هذا السؤال الأخير الذي ألحقَتْه بنهاية كلامها بصيصًا من الأمل.

قلتُ لها: «ألم تريه؟» ولم تكُن تلك بكذبة. فكيف يُمكن أن يكون السؤال كذبة؟

«كلا. لا أعتقد أنني رأيتُه. ولا أتذكَّر أنكِ أعدتِه إليَّ.» استدارَت عمتي ليلي في كرسيها الذي كان بلا ظهرٍ ولا ذراعَيْن، ونظرت إليَّ عبر الغرفة. وأضافت: «لكن إذا لم يكُن عندي، فلن أستطيع إعارتكِ إياه مجددًا بالطبع، أليس كذلك؟ اذهبي وانظري إنْ كان ما يزال في مكانٍ ما في غرفتك.» ثم استدارت للنظر في المرآة مجددًا، حاملة مِلقطًا في يدَيها.

وبينما استدرتُ لأغادر الغرفة، قالت لي: «كلُّ ستراتك لها أزرار يا أنابِل. لا داعي لأن تشغلي بالك بإبزيمٍ على شكل ضفدعة.»

هززتُ كتفي. فكلُّ ستراتها أيضًا كانت بأزرار. وقلت: «إنه جميلٌ فحسب.»

«جميل؟ الجمال أقل الأشياء أهميةً في عين الرب يا أنابِل.»

•••

كان العشاء الذي تناولناه في تلك الليلة طيِّبًا؛ لحمًا مقليًّا في دهن لحم الخنزير المقدَّد، وبطاطس مطهوة في الفرن وسلاطة كرنب أعدَّتْها أمي بالقشدة وشرائح البصل الحلو.

وبعد العشاء، عندما كنا نرتِّب المائدة ونُخْليها من الأطباق وبقايا الطعام، وضعَتْ أمي لفافتَي خبز وقطعة لحم وتفاحة في قطعة من المشمع، وربطت زواياها معًا لتُصبح كالصُّرة. وقالت لي: «خذي هذه إلى آخِر الزقاق. إذا لم تجدي توبي، فاتركيها في صندوقه. واحرصي على إغلاق الغطاء بإحكامٍ وإلَّا فستدخله الكلاب.»

أحيانًا ما كانت أمي تقول لتوبي إنه «شديد النحافة» أو إنه «شاحب بعض الشيء»، وكانت ترسلني إليه ببعض الطعام الفائض ليأكله. لم تكُن تجرؤ على إرسال شقيقيَّ؛ لأنهما كانا سيستغلان هذا المبرِّر ويتسكعان خارجًا في الظلام، حتى يفوت وقت أداء فروضهما المنزلية، ولا يتبقَّى سوى وقت الاستحمام فقط.

قالت وهي تعطيني الصُّرة: «لحم السنجاب لا يكفي رجلًا بالغًا.»

فقلتُ: «يوجد كمٌّ وفير من فضلات الخضراوات والفاكهة غير الصالحة للبيع في البستان، والبطاطس والبنجر على مسافة غير بعيدة من كوخه. لا أعرف سبب نحافته الشديدة.»

اكتفت والدتي بالنظر إليَّ. قالت: «هل تظنين أنه سيأخذ أيَّ شيء دون إذننا؟» هزَّت رأسها. وأضافت: «حسنًا، لن يفعل ذلك.»

فكرتُ في إجابتها. وقلتُ: «فلماذا لا نمنحه الإذن؟»

قالت وهي تستدير مجددًا نحو الحوض: «لا تشغلي بالكِ بذلك أبدًا. فقط اذهبي وعودي مجددًا قبل أن يحل الظلام الدامس فلا تستطيعين رؤية موطئ قدمَيكِ.»

ورغم أنَّ إعراض أمي بوجهها عني وإدارة ظهرها لي عادةً ما كان يعني أنها قالت كلَّ ما تريد قوله، سألتُها مجددًا: «ولماذا لا يطلبه وحسب؟»

قالت دون الالتفات نحوي: «كما قلتُ لكِ من قبل. والآن هيا اذهبي قبل أن يتلاشى الضوءُ كله.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤