الفصل الثامن

فقدت روث عينها. هكذا بهذه البساطة.

عرفتُ هذا لاحقًا في ليلِ ذلك اليوم من أمي. في مثل هذه الحالات، ربما كانت معظم الأمهات سينتظرن حتى صباح اليوم التالي إلى أن يذكرن خبرًا كهذا، لكن أمي لم تفعل ذلك. كانت تعرف أنني كنتُ سأحلم بكوابيس في كل الأحوال. كان كلُّ شيء على وشك أن يسوء، وانتظار المواجهة ما كان ليغير ذلك.

«كان من الممكن أن أكون مكانها»، هكذا قلتُ لأمي عندما جاءت وجلست على حافة سريري في الظلام، وقالت لي إنَّ الطبيب لم يستطِع إصلاح عين روث. قالت إنه ما من أحد يستطيع إصلاحها. فقد قضى الحَجَرُ على الأجزاء المسئولة عن الرؤية. كان هذا ما قالته أمي.

قالت لي وهي تداعب شَعري: «أجل. كان من الممكن أن تكوني مكانها يا أنابل. لكني أظن أنَّ المقصود بالحَجَرِ كان السيد أنسل أو حصانَيه أو حتى تفاحه. ليس أنتِ. ولا روث.»

«لماذا تظنين ذلك؟»

تنهَّدَت أمي. وقالت: «حسنًا، السيد أنسل ألماني يا أنابل، والكثيرون هنا مستاءُون من الألمان. صحيح أنَّ هذا الوضع قائم منذ الحرب العالمية الأولى، لكنه اشتد الآن، خاصة ونحن نعيش حربًا عالمية أخرى. هذه ليست المرَّة الأولى التي يحاول فيها شخصٌ ما أن يؤذيه، لكنهم قبل ذلك كانوا يكتفون بصبِّ غضبهم على محاصيله أو شاحنته. كانوا يكتفون بكسر نوافذ بيته. وربما بوضع جرذان نافقة في صندوق بريده.»

فقلتُ لها: «لكنَّ السيد أنسل عاش هنا معظم حياته.»

«أعرف ذلك. وأنتِ تعرفين ذلك. لكنَّ هذا لا يُحدث أي فارق لدى بعض الناس. فهو أقرب شيء مُتاح لهم، وهُم يريدون شخصًا ليُلقوا اللوم عليه.»

«مَن هؤلاء؟»

عضَّت أمي شفتَها. وأجابت دون أن تنظر إليَّ. قالت: «أناسٌ فقدوا أبناءهم أو آباءهم أو أشقاءهم في الحرب. سواءٌ هذه الحرب أو الحرب السابقة. أناس شاركوا في الحرب وعادوا إلى الديار غاضبين أو مصابين. الغالبية العظمى في الحقيقة، لأننا كلنا نعرف جنودًا يخوضون الحرب هناك وهم يواجهون الخطر بسبب الألمان.»

وهنا تذكَّرتُ النجوم الذهبية المعلقة على الراية في الكنيسة، التي تعبر كلٌّ منها عن كل زوج أو أخ أو ابن لم يعُد إلينا. تذكرتُ توبي بصَمتِه وبنادقه.

«ولكن كيف أمكن لأيِّ شخص في المُنخفَض أن يعرف أنَّ السيد أنسل سيكون مارًّا من هناك حينئذٍ بالتحديد؟ كان على الفاعل أن يكون موجودًا فوق التلة آنذاك بالفعل.»

هزَّت أمي كتفَيها. وقالت: «لا أعرف يا أنابل. كل ما أعرفه أن لا أحد كان يحاول إيذاء روث. ما أصابها كان مجرد حادثة من سوء حظها.»

غير أنَّ هذا لم يهوِّن الأمر بل زاده سوءًا. فكيف يُفترَض بأي شخصٍ أن يقف منتصبًا متيقظًا، في حين أنَّ الحظ هو الذي يقرِّر كل شيء؟

•••

بدأ اليوم التالي صعبًا وصار أصعب.

كانت وجبة الفطور هادئة. حتى شقيقاي كانا صامتَين صمتًا مطبقًا. لم أكُن أفكر في أي شيءٍ سوى روث، وكيف ستكون حال المدرسة بدونها في ذلك اليوم.

بدأتُ أبكي رغمًا عني، ولكن بأقصى هدوءٍ ممكن.

قالت عمتي ليلي: «آه يا أنابل، وما الذي يستحق هذه الدموع الآن؟»

فقالت جدتي دون أن تنظر إليها: «حتى يسوع بكى يا ليلي»، فردَّت عمتي قائلة: «لسبب وجيه، ولا أستطيع القول إنَّ هذه المسألة ترقى إلى أن تكون كذلك.»

فقالت أمي بنبرة حادة بعض الشيء: «هل تقصدين فقدان روث لعينها؟ تقصدين تلك المسألة؟»

ردَّت العمة ليلي على ذلك بشيء من الانزعاج قائلة: «حسنًا، إذا كان هذا هو أصل الموضوع، أظن أنني قد أسأت الحُكم على ظاهره.»

دائمًا ما كانت العمة ليلي تقول أشياء كهذه، لكنها نادرًا ما كانت تعترف بخطئها.

لم أقُل أي شيء على الإطلاق.

تناول جيمس وهنري فطورهما بصخبٍ وسرعة، كجروَين صغيرَين.

أما والدي، فقد احتسى قهوته ببطء وهو متجهم الوجه وهائم.

•••

قال قبل أن نخرج أنا والولدان من الباب: «ابقوا بعيدين عن الطريق والتلة في فترة الاستراحة. الزموا الجانب الآخَر من المبنى المدرسي، بجوار الأحراج. فأنا أعتزم اكتشاف ما حدث لروث. وحتى ذلك الحين، لا تقربوا التلة. أتفهمون؟»

أومأنا بالإيجاب.

ثم قال للولدين: «اعتنيا بأختكما»، وكان هذا أشبه بأن يطلب منهما الطيران إلى القمر.

لكنَّ الولدَين أيضًا فاجآني؛ إذ انتظرا على غير العادة حتى وصلنا إلى الحقول الواقعة على المنحدر المؤدِّي إلى مُنخفَض «حفرة الذئاب» قبل أن يتركاني راكضَين؛ ليخيفا طيهوجًا عند حافة الأحراج، ثم اختفيا في آخر الممشى وسط الأشجار بدوني.

وعندما وصلت إلى منعطف الممشى، رأيت بيتي تجلس أمامي على جذع شجرةٍ مقطوع، فانتابني شعورٌ بالأسى على أنَّ الهدنة قد انتهت، وأنها ستستهدفني مجددًا.

لكنَّ شعورًا آخَر قد انبثق بداخلي وحلَّ محله.

لا أستطيع أن أسميه شجاعة؛ لأنَّ هذا ما يشعر به الناس عندما يكونون خائفين، لكنهم يفعلون شيئًا صعبًا رغم خوفهم.

ولا أستطيع أن أسميه غضبًا، مع أنني كنت غاضبةً من بيتي؛ بسبب الكدمات التي أصابتني بها، والتهديدات التي توعَّدتني بها، والسُّمْنة التي قتلتها.

أظن أنني كان من المفترض أن أشعر بالخوف والغضب معًا، لكنَّ روث قد فقدت عينها في اليوم السابق، وما شعرتُ به في هذه اللحظة وأنا أنظر إلى وجه بيتي الجامد كان أشبه بشعور اللامبالاة. كانت تبدو في صباح ذلك اليوم تافهةً وضئيلةً، حتى حينما ظهرت أمامي.

قلت بنفاد صبر: «ماذا تريدين؟»

نظرت إليَّ بفضول. وقالت: «أتحسبين أنني سأتركك وشأنك لمجرد أن ذاك الرجل المجنون طلب مني ذلك؟ أو لأنَّ صديقتك الصغيرة أُصيبَت؟»

فقلت: «ليست إصابة عادية. لقد فقدت عينها يا بيتي. هل عرفتِ ذلك؟»

أشاحت بيتي بنظرها بعيدًا. وقالت: «أخبرتني جدتي بذلك. أنا متيقنة من أنَّ شخصًا ما كان يستهدف ذاك الألماني القذر. وليس هي.»

فقلت: «السيد أنسل ليس قذرًا. أنتِ لا تعرفينه أصلًا.»

رفعت حاجبَيها. وقالت: «ربما لا تعرفين الكثير عمَّا يحدث في العالم الخارجي بعيدًا عن هذه الأحراج، لكني أعرف. ربما يتظاهر بأنه لطيف ومرِح جدًّا، لكنَّ الألمان مُؤذون يريدون السيطرة على العالم. وسيفعلون ذلك إن استطاعوا.»

لاحظتُ قشرةَ جرحٍ حديثة على شكلِ خط أحمر طويل على خد بيتي، كما لو أنها قد دخلت وسط نبات العُلَّيق، وكان جورباها مليئَين بكُريَّات عُشبية شوكية لاصقة. استغربتُ خروجها وسط النباتات الكثيفة الشائكة في وقتٍ مبكِّر جدًّا من اليوم. وبعد فترة وجيزة جدًّا من إصابتها باللبلاب السام التي جعلتها طريحة الفراش.

قلتُ لها: «أنتِ المؤذية الوحيدة التي أعرفها يا بيتي. لكنك ستتركيني وشأني الآن. ليس لأن توبي قال ذلك. وليس لأن روث أُصيبت. لكنك ستفعلين ذلك. لن أعطيك أي شيء. ولن أشغل بالي بكِ. ولن أهرب منك. لن أفعل أي شيء. لذا فمن الأفضل أن تتركيني وشأني وتبدئي فعل شيء آخَر.»

انتظرتُ وأنا أنظر إلى وجهها مباشرة، عازمةً على المواصلة حتى النهاية. أردت أن أنهي المسألة مع بيتي تمامًا. إذا كانت ستؤذيني، يمكنها أن تؤذيَني في التوِّ واللحظة، ويمكنني أخيرًا أن أفعل شيئًا حيال ذلك قبل انتهاء اليوم.

لكنها لم تفعل أي شيء سوى أنها قضت لحظة أخرى في التفكير. وتنحَّت بعد ذلك جانبًا.

لم أشعر بالارتياح. لم أكُن سعيدة بتركي وحدي. لم أكُن أشعر بأي شيء تقريبًا. كل ما كنت أشعر به هو حزن شديد وتعب لم أعهده من قبل. لم أكُن أريد شيئًا سوى أن أختبئ في علية التبن في الحظيرة وأشاهد الحمائم الجبلية وهي تغفو في العوارض الخشبية. لم أكُن أريد سوى أن أغمض عينيَّ ولا أفكر في أي شيء إطلاقًا. لا روث. ولا السيد أنسل. ولا الألمان. ولا بيتي جلينجاري.

لكن لأنني لم أكُن أستطيع العودة إلى الحظيرة، كانت المدرسة ثاني أفضل خيار مُتاح لي، وقد تركتُ نفسي للانهماك في دروسي. لم يأتِ آندي إلى المدرسة في صباح ذلك اليوم؛ ولذا استعاد بنجامين مقعده المعتاد، ولم يجلس معي أحدٌ حيثما كانت روث تجلس عادةً، وقضينا كلنا الصباح بهدوء.

•••

وعندما حانت فترة الاستراحة، جلستُ على الدَّرَج مع بعض الفتيات الأخريات، حيث شرعت في صنع تيجان من العشب الطويل، ورحت أخمِّن ما قد تكون روث تفعله بدلًا من ذلك. كنت أراقب شقيقيَّ طوال ذلك الوقت، لكنهما لم يقتربا من الطريق أو التلة الواقعة على الجانب الآخَر منه. كانا يقضيان وقتهما كالعادة في التسابق من هنا إلى هناك، وإعداد فطائر من الطين في الوحل المحيط بالبئر، ورمي الصخور من خلال تفرُّعات أغصان الشجر.

كانت بيتي واقفة تشاهدهما وهي عاقدة ذراعَيها أمام جسدها. لم تلعب قَط. وعادةً ما كانت ترحل إلى مكانٍ ما مع آندي، ولكن لأنه لم يكُن موجودًا اليوم، جلست وحدها وانتظرت انتهاء فترة الاستراحة. كانت في ذلك اليوم تبدو أشد تحفُّزًا من المعتاد. لكنها لم تنظر إليَّ ولا مرَّة طوال الوقت؛ ولذا لم أعرها اهتمامًا كبيرًا بدوري.

وبعدئذٍ، وفي اللحظة التي كانت السيدة تايلور تنادينا فيها لنعود إلى المبنى المدرسي، دخل آندي الفناء وهو يمشي على مهل.

اتجهت بيتي نحوه لتلاقيه في منتصف المسافة عَبْر الرقعة الخالية من الأشجار، وقضيا لحظة معًا وهما يتحادثان ويرمقانني بنظرات خاطفة، ثم تبعانا إلى داخل المدرسة. تساءلت في نفسي عمَّا كانا يقولانه وعن علاقته بي.

•••

ظلَّ آندي وبيتي بقية اليوم يتبادلان الرسائل القصيرة والنظرات، وتجاهلا السيدة تايلور عندما طلبت منهما الانضمام إليها عند السبورة لحل بعض المسائل الرياضية، وكانا أول اثنين خرجا عندما أذنت لنا بالانصراف.

وبحلول الوقت الذي خرجت فيه من مبنى المدرسة، لم يكونا موجودَين إطلاقًا في نطاق رؤيتي.

ولذا لم أكترث عندما انطلق شقيقاي نحو المنزل وهما يتسابقان إلى أعلى التلة، واختفيا عن أنظاري بحلول الوقت الذي وصلتُ فيه إلى أول منعطف في الطريق.

بالرغم من ذلك، كنت أسمعهما. فأولًا سمعت صوتهما يتسابقان بعيدًا. ثم سمعت وَقْع أقدامهما المكتوم على الأرض. ثم سمعت كلمة «مرحى!» بصوتٍ لاهث، ثم همهمة الحصى الطليقة على الممشى. ثم سادت فترة من الصمت بينما كانا يبتعدان عني مسافة أكبر. ثم دوت صرخة. ثم أتى صوت هنري وهو يناديني.

فركضتُ إليهما فوق تلك التلة بسرعة شديدة، وكأنها كانت أرضًا مستوية.

وجدتُ هنري جاثيًا على ركبتَيه ومنحنيًا فوق جيمس، الذي كان ممددًا على ظهره في الممشى وهو يبكي وجبهته مضرجة بالدماء.

فارتميتُ جاثيةً على ركبتيَّ بجوارهما.

قال هنري: «لا أعرف ماذا حدث. كان جيمس أمامي، وفجأةً وقَع على ظهره من تلقاء نفسه وبدأ يبكي.»

فقال جيمس منتحبًا وهو ينقلب على بطنه ويحاول القيام على ركبتَيه ويدَيه: «لا، لم أقَع من تلقاء نفسي.» أشار بطول الممشى، حيث كان يوجد أمامه بالضبط سلكٌ مشدود بإحكامٍ بين شجرتين.

وقف هنري ليُلقيَ نظرةً أقرب، وعندئذٍ رأيتُ أنَّ السلك كان سيُصيبه في رقبته لو كان هو المُتقدم على جيمس في سباقهما.

مرَّر هنري إصبعه على السلك فانتفضَ إلى الوراء. وقال: «إنه حادٌّ هنا بالضبط فوق الممشى. كأنَّ شخصًا ما قد بَرَده بمبرد.»

دخل بقدمَيه وسط أجمة الشجيرات وفكَّ السلك من إحدى الشجرتَين اللتين كان مُثبَّتًا بهما. ولفَّ السلك بعناية وتركه مُتدلِّيًا من الشجرة الواقعة على الجانب الآخَر من الممشى.

استخدمتُ كُمِّي لتجفيف الدم النازف من وجه أخي. كان الجرح عميقًا لدرجة أنه نزفَ كثيرًا، لكنه لم يكُن خطرًا.

قلتُ لجيمس وأنا أساعده ليقف: «هيا تعالَ. سنُعالج جرحك وتصبح على ما يُرام.»

أخذتُه من يده فطاوعني وهو ما يزال ينتحب. سار هنري أمامنا متيقظًا، وهادئًا وجادًّا كالثور. وكان يستدير من حينٍ إلى آخَر لينظر إلينا أنا وجيمس. وبينما كنَّا نعبُر الحقل المحروث على حافة التل، استدار ثم توقف فجأةً. نظرت إلى الوراء فرأيت بيتي واقفة تراقبنا عند فتحة الممشى المؤدِّي إلى المُنخفَض.

قلتُ لهنري: «ليس الآن»، وبدا أنه فهم قصدي. وقفَ ساكنًا تمامًا وراقبها بينما كنتُ أنا وجيمس نمضي مُسرعَين. فقلت له مجددًا: «ليس الآن.» فاستدار ليتبعنا إلى المنزل.

•••

لم يكُن السلك موجودًا عندما عُدت مع والدي إلى المكان الذي وجدناه فيه من قبل.

قلتُ له: «أنا واثقة من أنه كان هنا. عند ذلك الجزء الناتئ من جذر الشجرة بالضبط. لقد تحقَّقتُ من ذلك عندئذٍ كي لا أنسى.»

خرجَ والدي عن الممشى ووضعَ إصبعه على الحزِّ الباهت الذي أحدَثَه السلك في الشجرة. وكان يوجد حزٌّ آخَر مُشابِه على الجانب الآخَر من الممشى. قال لي: «ذاكرتكِ سليمة يا أنابل. هذا هو المكان الذي رُبط فيه السلك.»

نادرًا ما كان أبي يغضب. فعادةً ما كانت أمي أسرَع غضبًا منه؛ لذا لم يكُن يوجد داعٍ إلى أن يغضب هو الآخَر. لكن الوضع كان مختلفًا هذه المرَّة.

قال بهدوء: «شخصٌ ما يحمل ثعبانًا داخله، وقد استيقظ ذلك الثعبان.»

استغربت هذا الكلام منه بشدة. كان يبدو أشبَه بقس كنيستنا، أو عمتي ليلي حين تنفعل في كلامها، مع أنه في الأغلب لم يكُن من نوعية المتدينين المتشددين.

قلت له: «لكن الفاعل ليس ذكرًا، لا أظن ذلك. أو إذا كان ذكرًا، فقد شاركته أنثى أيضًا. على الأرجح. أو هذا ما أظنه على الأقل. أقصد أنَّ أنثى هي التي فعلَت ذلك.»

نظر والدي إليَّ بفضول. وقال: «سيكون الأمر أسهَل إذا أفصحتِ عمَّا تقصدينه بسرعةٍ وصراحة.»

«وهذا ما سأفعله. كلُّ ما هنالك أنني لا أستطيع التيقُّن؛ لأنني لم أرَها تفعل ذلك. لكني واثقة، على حد ظني. لا بد أنها هي مَن أقصده. إلا إذا كان آندي هو الفاعل.»

كان الجو باردًا في الأحراج، وكان الضوء يتلاشى بسرعة؛ ولهذا سررت عندما اتجه والدي فجأةً إلى الحقول المفتوحة من فوقنا، وتبعته. أمسك يدي ونحن نعبُر الحقول، وتمهَّل في مشيته لأستطيع مسايرته، وتوقَّف عند أعلى الزقاق ليقطف دزينةً من التفاح من أجل المربَّى التي كانت أمي ستُعدُّها في مساء ذلك اليوم. ثم ذهبنا معًا إلى أسفل الزقاق خلال الأشجار التي كانت أغصانها ممتدةً من فوقه، واتجهنا نحو المنزل.

وبعدما دخلنا المنزل، وأصبحنا نشعر بالدفء، وأمضينا لحظةً مع جيمس (الذي وصفه والدي بأنه «رجل صغير صالح») ولحظةً أخرى مع أمي (التي رمقتنا نحن الاثنين بنظرةٍ طويلة)، أجلسني والدي في الغرفة الأمامية، التي كانت أهدأَ من المطبخ، وطلب مني أن أبوحَ له بما يجول في خاطري.

ومن ثمَّ، قلتُ له كل شيء من البداية. كل شيءٍ عن بيتي وتهديداتها. والكدمة الشبيهة بثمرة خيار التي أحدَثَتها في فخذي. وأخبرتُه عن آندي وبيتي وكيف أنهما صارا صديقَين بهذه السرعة، وكيف أنهما كانا يتخفَّيان عن أعيُن الجميع ويختلسان نظراتٍ ماكرةً طَوال الأيام الماضية. وعن طائر السُّمنة وما فعله توبي. أخبرته أيضًا عن مجيء آندي متأخرًا إلى المدرسة في صباح ذلك اليوم، وكيف أنهما كانا متلاصقَين في فناء المدرسة طَوال فترة الاستراحة وهما يتهامسان.

أنهيتُ ما أردت قوله، وهنا أدركت، بشعورٍ من الإحباط، أن لا شيء ممَّا قلته بدا بهذا القدر من السوء الذي كان يبدو به آنذاك إطلاقًا، مع أنَّ ذكرى كَسْر عنق ذلك الطائر ستُلازمني بقية حياتي. قُلت: «إنها مؤذيةٌ بشعة. لكني لا أعرف حتى الآن لماذا كنتُ خائفةً جدًّا منها هكذا.»

«ولماذا لم تُخبرينا يا أنابل حالما بدأَت تفعل ذلك؟»

قلتُ: «لقد حدث ذلك على أوقات متفرِّقة، وليس دفعة واحدة، ولم يكُن من السهل معرفةُ ما ينبغي فعله طَوال ذلك الوقت.» وهنا شعرتُ بأنني حمقاء جدًّا. وأضفت: «وفوق ذلك، لقد قالت إنها ستؤذي الولدَين إذا أخبرت أي أحد. وها هي قد بدأت تنفِّذ تهديدها وآذَت جيمس على أيِّ حالٍ حين لم أمتثل لما قالته.»

وقفَ والدي وفرك فكَّه براحةِ يده. وقال: «لا بأس. سأتدبر تلك المسألة الآن يا أنابل. أنا وأمك. ولكن من الآن فصاعدًا، ستخبريننا فورًا حالما تواجهين مشكلة. أتعِدينني بذلك؟»

وعدته. كان هذا وعدًا سهلًا. فأنا لم أكُن أنوي الكذب على والدي أو والدتي بخصوص أي شيء آخَر. الحق أنني لم أكُن أتخيل مدى التعقيد الذي سيصل إليه الوضع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤