الفصل التاسع

كان اليوم التالي هو يوم السبت. أي إنه عطلة من المدرسة. صحيح أنني أؤدي فيه بعض المهام الروتينية المنزلية، لكني أيضًا عادةً ما أحظى فيه بفرصة لأقضي بعض الوقت كيفما أشاء.

لكنَّ هذا لم يحدث ذلك السبت.

فعندما جلست لأتناول الفطور، قال لي والدي: «سنذهب أنا وأنتِ وأمك في زيارة إلى بيت آل جلينجاري عصر اليوم.» وقال ذلك بنبرة حاسمة لا تقبل الجدال.

ومع ذلك قُلت: «هل يجب أن أذهب؟»

أومأ والدي بالإيجاب. وقال: «إنه شيء مهم ينبغي أن تقوليه بنفسك. لكننا سنكون معكِ هناك، وستشعرين بتحسُّن بعد ذلك. لن يصير لديها أي شيء تُهددك به حالما ينكشف كل شيء.»

بدا كلامه صائبًا، لكن رغبتي في عدم الذهاب لم تتغير.

كان جيمس جالسًا على الجانب المقابل لي، وهو يحدِّق بتجهُّم إلى طبق بيضه ويتحسَّس حافة الضمادة البيضاء المربوطة على جبينه.

ثم قال: «هذا الشيء غبي ويُشعرني بالحكة. لا أستطيع التفكير بشكلٍ سليم وهو موضوع على رأسي هكذا.»

فاستجابت أمي بسرعة لذلك؛ إذ لفت حول رأسه رَبطةً على غرار القراصنة. وقالت له: «الآن صرتَ تُشبه لونج جون سيلفر.»

كنا نعرف عددًا من القراصنة، بفضل روبرت لويس ستيفنسون وجدتي، التي كانت تتلو علينا بعض القصص بعد العشاء في أغلب الليالي.

وسرعان ما أصبح جيمس يثب في أرجاء المنزل كالمجنون وهو يصيح كالبحَّارة: «هيَّا يا رفاق»، ويُبارز الهواء بملعقةٍ خشبيةٍ إلى أن أشارت أمي له بالخروج إلى الهواء الطلق وضَوْء الشمس. وهنري معه أيضًا.

ونادتهما بعد خروجهما قائلة: «لا تبتعدا.»

قال والدي وهو يرتدي معطفه متأهبًا للخروج مع جدي: «سنصحبهما إلى الخارج لتقليم الأشجار.» كنا على مشارف موسم عيد الميلاد المجيد، وكان الوقت قد حان لبدء تشكيل أشجار التنوب الصغيرة التي كنا نزرعها بغرض البيع. كان والدي يتكفل بالتقليم، بينما كان جدي يجلس في الشاحنة مع بضعة كلاب مُشرفًا على العملية. وكان والدي في العام الماضي قد ترك الولدَين يتدربان على شجرة تنوب ملتوية، فقلَّماها حتى صارت مسواكًا ممتازًا. وفي هذا العام، كُلِّف الولدان مجددًا بجمعِ البقايا التي تسقط بين الصفوف، وتجميع أفضلها في حُزَم لاستخدامها في إعداد أكاليل الزهور.

هدأ المنزل قليلًا بعد رحيلهما.

رتَّبنا متعلقات الفطور وبدأنا مهام السبت المنزلية، فكانت أمي تكوي في المطبخ، وصار الجو مُعبَّأً برائحة القطن النظيف الساخن، وصوت المكواة وهي تصطدم بلوح منضدة الكي. وكانت جدتي جالسة عند أحد طرفَي الطاولة الكبيرة المصنوعة من بلوط بُنِّي مجزِّع، حيث كانت ترتق بعض الجوارب وتُرقِّع أكواع الثياب.

وكنت أنا أقشِّر التفاح من أجل إعداد الفطائر به، باذلةً قصارى جهدي لأصنع شريطًا طويلًا ملتفًّا من قشرة كل تفاحة. صحيح أنَّ الخيول لم تكُن تقدِّر مجهودي كلما أطعمتها تلك القشور، لكني كنت أحب أن تكون الأشياء جميلة إنْ أمكن ذلك.

أمَّا عمتي ليلي، التي كانت تشعر بالتململ في أيام السبت لأنها بلا عمل ولا كنيسة، فكانت تبذل كل ما بوسعها لتعكر صفو تلك الأيام لكي نكون بائسين مثلها.

قالت لي: «ستُنجزين بوتيرة أسرع إنْ لم تحاولي فعل ذلك»، وأمسكَت قشرةً ملتفة طويلة من أحد طرفَيها، وظلَّت تؤرجحها لأعلى وأسفل كالزنبرك حتى انقطعت.

كدتُ أعرض عليها أن تشاركني تلك المهمة، لكنَّ العمة ليلي لم تكُن بارعة في أداء الأعمال المنزلية.

سألتها: «هل أرسلتِ شريط التصوير؟»

رفعت ذقنها بحدة. وقالت: «بالطبع أرسلتُه يا أنابل. فالإشراف على البريد مهمة جليلة. وحالما يصير في عهدتي، يُفرَز ويُرسَل دون أي تقاعُس إطلاقًا.»

فقلت: «حسنًا، أعرف ذلك. لم أقصد أي شيء.»

أومأت العمة ليلي إيماءة قصيرة. وقالت: «ستحصُلين على الصور الفوتوغرافية قريبًا جدًّا. مع أنني لا أعرف لماذا يحوز ذلك الرجل كاميرتنا، أو يكون له أي حق في شيء يخصُّنا، أقصد كل أفلام التصوير الغالية. نرسلها ثم نستعيدها، وهلمَّ جرًّا. وهكذا يُكبِّدنا مزيدًا من العمل، وما المقابل؟»

هزَّت أمي رأسها لتُبدي استياءها من ضمير الجمع في كلمة «يخصُّنا». فهي التي فازت بالكاميرا وكل المتعلقات المصاحبة لها. قالت لي: «سأزور روث. هل تريدين المجيء معي؟»

حسنًا، لم أكُن أريد ذلك. التفكير في الأمر في حد ذاته أخافني. لكني قلت: «نعم. أريد ذلك.»

وعندما انتهينا من الكي والتقشير والغسيل، ارتديت سترتي واعتمرت قبعتي وخرجت من المنزل مع أمي.

•••

كانت روث مستلقية في فراشها، وكانت البطانية مطوية فوق صدرها النحيل. كانت ترتدي رقعة من الحرير الأسود على عينها. ومن تحت هذه الرقعة تسرَّبت كدمة خضراء مصفرة وانتشرت على خدها. أما بخلاف ذلك، فقد كانت بشرتها شاحبة كسماء فبراير.

وبعدما قضت أمي وأمها بعض الوقت في الاعتناء بها، ثم قعدتا في غرفة الجلوس لتتحدثا، قلت لها: «مرحبًا يا روث. هل تؤلمك؟»

أومأت روث ببطء. لم تقُل شيئًا حتى تلك اللحظة سوى «شكرًا لكِ يا سيدتي»، وذلك عندما أعطتها أمي لفة من الورق المشمع مليئة بقطرات دبس السكر.

«هل ستعودين إلى المدرسة قريبًا؟»

بدأت تهز رأسها بالنفي، لكنها توقَّفت بعدئذٍ. قالت وهي تُبعِد عينَيها عنِّي: «لن يتركني والداي أعود إلى هناك. عليَّ الآن أن ألتحق بمدرسة في سيويكلي.»

ذهلت من ذلك. وقلت لها: «ستقطعين كل هذا الطريق إلى المدينة؟»

«والدي يعمل هناك يا أنابل. نحن لا نعيش هنا إلا لأن جدي ترك لنا هذا المنزل حين مات. لم نكُن ننوي قط أن نمكث هنا طويلًا، لكن المكان هنا كان لطيفًا. كان هادئًا.» وهنا عاودت النظر إليَّ، فرأيتُ أنها كانت تبكي. ثم أضافت: «لكننا سنبيع المنزل وننتقل إلى المدينة الآن.»

تأثرتُ بذلك وبدأتُ أبكي أنا أيضًا، لأنني نشأت طَوال السنوات الماضية مع روث، التي كانت واحدة من أطيب مَن عرفتهم وألطفهم. قلت لها: «أنا آسفة جدًّا على أنكِ أصبتِ.»

اشتدت قَسَمات روث فجأة. وقالت: «لم أُصَب. شخصٌ ما أصابني.»

مسحتُ وجهي. وقلت لها: «هل رأيتِ أي شيء؟»

«كلا. لقد تحرَّك شيء ما على جانب التلة، ونظرتُ إلى أعلى؛ ولذا أصابني الحَجَرُ في عيني مباشرة. لو أنَّ عينيَّ كانتا منخفضتَين قليلًا …» رفعت ركبتَيها وعقدت معصمَيها تحت ذقنها، وأضافت: «يقولون إنني سأتأقلم مع هذا الوضع. لكني لا أظن ذلك.»

حينها نادتني أمي من مدخل الغرفة قائلة: «حان وقت الذهاب يا أنابل. روث تحتاج إلى الراحة.»

فودَّعتُ روث دون أن أعانقها أو أتمنَّى لها التوفيق. لم أكُن أعرف أنَّ هذه ستكون آخِر مرَّة أراها فيها.

•••

أمَّا زيارة بيت آل جلينجاري، فكانت أسوأ.

كنتُ جالسة بين أبي وأمي على أريكة رثة في غرفة بيت جلينجاري الأمامية، بينما كانت بيتي جالسةً هي وجدها وجدتها على ثلاثة من كراسي المطبخ، متراصين صفًّا على الجانب المقابل لنا، وكان هذا الوضع غريبًا. كانوا جالسين أعلى منَّا، وكانت وجوههم جادة، لكن أبي وأمي كانا هادئين وودودَين عن يميني ويساري.

استهلَّ السيد جلينجاري الكلام قائلًا: «أنا سعيد لأنني حظيتُ بالفرصة لأشكركما. على زهور البلسم. فبحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى المنزل من أوهايو، كانت بيتي تتحسَّن بالفعل. نحن في غاية الامتنان لمساعدتكم.»

قالت أمي: «ونحن نَسعد بتقديمها، دائمًا.» وكانت على وشك أن تقول «لكن» وتستطرد.

فقال أبي: «نريد التحدُّث إليكما عمَّا يجري في المدرسة.»

قال السيد جلينجاري: «ونحن أيضًا. لقد أخبرتنا بيتي بأشياء جسيمة جدًّا عمَّا حدث لروث.»

فقالت أمي: «لروث؟ لسنا هنا بخصوص روث. بل بخصوص ما حدث لجيمس، ابننا الأصغر. ولأنابل.»

بدا السيد جلينجاري وزوجته متحيِّرَين.

أمَّا بيتي، فاكتفت بالتحديق إلى عيني مباشرة بكل ثبات.

كان جميع مَن في الغرفة يعرفون سبب مجيء بيتي للعيش في الريف؛ لذا لم أتوقَّع أن يتفاجأ أيُّ أحد بكلامي عندما قلت: «قالت لي بيتي إنها ستؤذيني أنا وشقيقيَّ إذا لم أُحضر إليها أشياء. ونفَّذت تهديدها بالفعل. فأولًا آذتني بعصًا، مرَّتَين، ثم بطائر سُمنة أمسكَته وقتلته، ثم آذَت شقيقي الصغير يوم أمس، بسلكٍ حادٍّ مشدود عبر الممشى المؤدي إلى المدرسة. لكني أظن أنَّ آندي وودبيري ساعدها في تلك المهمة.»

قلتُ ذلك بسرعة شديدة، وأعقبه صمتٌ لحظي قصير.

قالت جدتُها وهي تبدو مشطورة إلى نصفٍ مُذعنٍ لكلامي ونصف مُفعَم بالأمل في ألَّا يكون ذلك صحيحًا: «بيتي؟ هل فعلتِ هذه الأشياء؟»

هزت بيتي رأسها نافية. وقالت: «لم أفعل قط. ما كنت لأفعل ذلك.»

أصررتُ قائلة: «بل فعلتِ، وتعرفين أنكِ فعلتِ. مع أنني أحضرتُ إليكِ بنسًا وحاولتُ أن أكون صديقتك.»

وضعت أمي يدها على ركبتي لتُسكتني. وقالت: «أنابل لا تكذب في مثل هذه الأمور.»

فقال السيد جلينجاري: «لكنَّ بيتي يُمكن أن تكذب؟»، وصحيح أنه لم يبدُ غاضبًا إطلاقًا، لكني رأيتُ إلامَ سيُفضي ذلك في النهاية. تخيلتُ أنَّ جدي كان سيدافع عني، لو كنتُ مكانها، مهما فعلت.

قلت: «اسأل توبي إنْ لم تكُن مُصدِّقًا. لقد رأى ما حدث حين أعطيتها البنس. رمته بعيدًا وضربتني بعصًا، ولديَّ الكدمة التي تثبت ذلك. وعندما قتلت طائر السُّمنة، قال لها توبي أن تدعني وشأني. لكنها لم تفعل. إنها هي التي شدَّت ذلك السلك. أنا متيقنة.»

قالت أمي: «اسكتي يا أنابل. لا بأس.»

قال السيد جلينجاري: «توبي؟ ذلك الرجل الهمجي؟» ثم نظر إلى حفيدته. وقال لها: «أخبريهم بما أخبرتنا به.»

لم تقُل أي شيء، فوضعت جدتها ذراعها حولها وقالت: «لا بأس يا حبيبتي. لا داعي إلى أن تخافي الآن.»

أمالت بيتي رأسها إلى الجانب قليلًا وهي ما تزال تحدِّق إليَّ. ثم قالت: «رأيتُ توبي على جانب التلة فوق المكان الذي أُصيبت فيه روث. لكنه أرعبني؛ ولذا خفتُ من أن أبوح بأي شيءٍ عن ذلك.»

تذكرتُ روث وهي تخبرني بأنها رأت شيئًا ما يتحرك على التلة قُبيل أن يصيبها الحَجَرُ بالضبط. لكن لا يمكن أن يكون توبي الفاعل.

قلت لها: «أنتِ المُخيفة يا بيتي. توبي ليس له أي علاقة بكل ذلك. ما كان توبي ليؤذي روث أبدًا.»

فقال السيد جلينجاري: «بالتأكيد لم يكُن يقصدها. بل كان يقصد الألماني.»

السيد أنسل. الألماني.

كان السيد جلينجاري قد فقد شقيقًا في الحرب العالمية الأولى، وكان واحدًا من أولئك الذين كانوا لا يتحدثون إلى السيد أنسل. أضاف قائلًا: «جُنَّ جنون توبي بسبب ما فعله الألمان به. وإذا كان من المرجَّح أن يكون أي شخص قد رمى صخورًا على رجل ألماني، فسيكون توبي الفاعل.»

فقلت: «لكني لم أرَ توبي، علمًا بأنني كنت واقفة هناك بالضبط على الطريق مع روث.» وقلت لبيتي: «لم تكوني موجودة في أي مكان قريب عندما أُصيبت يا بيتي، فكيف تكونين أنتِ الوحيدة التي رأيته؟»

قالت بيتي: «كنتُ بالأعلى في برج الجرس. لقد أراد آندي أن يريني جرس المدرسة عند خروج الجميع لقضاء فترة الاستراحة. توجد نافذة صغيرة في الأعلى هناك تُطل مباشرة على الطريق والتلة. رأيتُ الحادثة بوضوح أفضل ممَّا تسنَّى لكِ في الأسفل بالتأكيد.»

انحنت أمي إلى الأمام قليلًا. وقالت لها: «لكنكِ لم تقولي أي شيء عن ذلك قبل الآن؟» كان يُمكن القول إنَّ أمي كانت صديقة توبي الوحيدة لو اعتبرنا أنَّ له أصدقاء. كان واضحًا أنها لم تكُن تصدِّق بيتي، ولكن لم يكُن من الممكن تكذيبها؛ لأنني أنا أيضًا قد كتمت سرًّا من قبلُ خوفًا من شخصٍ أكبر حجمًا وأقوى مني، وهي كانت تعرف ذلك.

قالت بيتي: «ظننت أنه سيؤذيني لو كشفتُ عن ذلك.»

ذهلت من مدى الضآلة التي بَدَت بها تلك الفتاة. تلك الفتاة التي قلبت الطاولة دون أي جهد على الإطلاق.

فقلت لها: «آندي لا يخاف توبي. فكيف لم يقُل أي شيء.»

«لأنني أنا الوحيدة التي رأيتُ ما حدث. كان آندي على الجانب الآخَر من برج الجرس، حيث كان يعبث بعشِّ أحد طيور السنونو، وبحلول الوقت الذي جاء فيه إلى النافذة، كان توبي قد رحل. لم أخبره بما رأيته. خفت أن يُلحق توبي الأذى بآندي أيضًا.»

بدَت مرعوبة جدًّا لدرجة أنني كدتُ أصدِّقها.

قلت: «وماذا عن السلك الذي كان مشدودًا بعرضِ الممشى؟ ما كان توبي ليؤذي جيمس.»

فقالت: «ربما يكون هذا صحيحًا، لكني أنا أيضًا أسلك ذلك الممشى. ربما كان توبي يستهدفني به.»

قال السيد جلينجاري: «هذا يكفي الآن. توبي مجنون. الجميع يعرف ذلك. ولا يُمكن للمرء أن يتوقَّع من رجلٍ مجنون سوى تصرفاتٍ مجنونة.»

فيما قالت السيدة جلينجاري: «لا ألوم بيتي إطلاقًا على خوفها من توبي.» كانت امرأة هادئة، وقد فوجئتُ عندما سمعتُ نبرة الحزم في صوتها، لكن الفرصة سنحت لها لتصديق أنَّ بيتي ليست سوى فتاة ذات ضفيرتَين وسترة زرقاء، خائفة من رجلٍ شرير يحمل بنادق أينما ذهب.

قالت أمي وهي تقف: «ربما لا تكون ملومة. ولكن إذا هدَّد أيُّ شخص أنابل مرَّة أخرى، فلن نتحدث مجددًا عن ذلك.»

لم أكُن متيقنة من قصدها بهذه الجملة، ولكن عندما أخذني والدي من يدي ووقفنا بجوارها، شعرتُ كأنني عملاقة. وذلك أشبه بما كنت أشعر به عندما أقف على قمة تلنا وأنظر إلى مُنخفَض «حفرة الذئاب». أو عندما أحمل بيضة طائر في يدي.

•••

وبعدما وصلنا إلى المنزل، ظلَّ أبي وأمي يتحادثان بعض الوقت في الفناء. ودخلتُ أنا إلى غرفتي مباشرة.

كان عالَمي المستقر يدور كمروحة ورقية، وكنتُ أزداد حيرة مع كل لفة للمروحة.

لم أصدِّق أنَّ توبي مجنون. ربما يكون حزينًا. ربما هو هادئ. أو ربما حتى غريب الأطوار لأنه اختار أن يعيش وحيدًا، وينام في كوخ قديم لتدخين اللحم، ويمشي على التلال يومًا تلو الآخَر. لكنه لم يكُن مُصابًا بالجنون. لم يكُن مجنونًا بما يشكِّل خطرًا.

علاوةً على ذلك، لماذا قد يرمي توبي حجرًا من جانب تلةٍ، في الوقت الذي توجد فيه فتاتان وحصانان في الأسفل؟ فلو كان توبي يريد إيذاء السيد أنسل، لوجد فُرصًا مواتيةً لذلك كل يوم، في أماكن مختلفة، وفي أوقات يكون فيها السيد أنسل وحده دون أي فتيات أو خيول بجانبه.

لم يكُن توبي ليُطلق النار على غزال نائم. كان رجلًا يلتقط صورًا لنبات البدفيل. وقد أعاد إليَّ بنسًا مع أنه لم يكُن مُلزَمًا بذلك. ولم يؤذِ أحدًا قط، منذ عودته من تلك الحرب الرهيبة. على حدِّ علمي.

لم أصدِّق أن توبي مجنون. ولا حتى قليلًا. ولم أصدِّق أنه من الممكن أن يؤذي السيد أنسل، سواءٌ أكان ألمانيًّا أم لا. لكن إن كان بيتي وآندي موجودَين آنذاك في برج الجرس، فمن المُحال إذَن أنهما كانا موجودَين حينها على جانب التلة. من المستحيل أن يكونا هما مَن رميا ذلك الحجر.

استلقيتُ على سريري واستغرقت في أفكاري، حتى سمعت والدتي تُناديني لأساعدها في تحضير العشاء. وبضعة أشياء أخرى.

•••

قالت جدتي بينما كنا نغسل البطاطس ونقشِّرها معًا عند الحوض: «لا بد أنكِ قد جمعتِ الآن ما يكفي من الصوف لحياكة سترة.»

فقلت لها: «أي صوف؟» وظللتُ أحرِّك حبة بطاطس في مياه الغسيل، حتى صارت بيضاء.

«إنكِ شاردة، وكأنكِ تجمعين الصوف في أحلام اليقظة طَوال هذا الوقت يا أنابل. لم تتفوهي بأي كلمة.»

هززتُ كتفي. وقلت: «أفكِّر في روث فحسب.»

فقالت: «من الفظيع أن يصاب أحدٌ بذلك، فضلًا عن فتاة لطيفة مثلها.»

فقلت لها: «لكنكِ لا تظنين أن توبي هو الفاعل، حتى ولو بالخطأ، أليس كذلك؟»

كان كلُّ مَن في المنزل، بحلول تلك اللحظة، قد عرفوا بشأن المحادثة التي دارت في بيت آل جلينجاري عصر ذلك اليوم.

كانت العمة ليلي قد استنشقَت تعبيرًا عن ازدرائها، حين سمعت ما حدث، وقالت: «دائمًا ما أشعر بأنَّ رائحة توبي ذلك كرائحة الكبريت.»

فيما قال هنري: «لا، توبي ليس من هذا النوع.»

وقال جيمس بلغة البحَّارة: «كفى يا رفيق.» واعتبرناه بذلك يقصد النفي.

أمَّا جدي، فهز رأسه وتمتم بشيءٍ عن خروف متنكِّر في ثياب ذئب.

كنتُ أعرف رأي أمي بالفعل. أمَّا أبي … فلم أكُن متيقِّنة من رأيه. لم يتفوَّه بكلمة في طريقنا من بيت آل جلينجاري إلى منزلنا. وهو لم يتحدث إلا إلى أمي منذ أن وصلنا إلى المنزل، وانكبَّ مباشرة على مهامه المنزلية.

قالت جدتي بينما كانت تقطع حبة بطاطس إلى شرائح رقيقة جدًّا، لدرجة أنني استطعت رؤية الضوء من خلال الشريحة: «حسنًا، لا أستطيع الوصول إلى رأي محدد.» كانت صينية شرائح البطاطس التي تُعدُّها معروفةً بأنها الأشهى في المقاطعة كلها. وأضافت قائلة: «الحق أنَّ توبي غريب الأطوار. وبنادقه تلك التي يحملها تجعلني مرتابة. لكني لم أرَه يتعامل بعُنف مع أي شخص قَط. ولم أسمعه قَط يتحدث بسوء عن الألمان، بمَن فيهم السيد أنسل.»

فاعترفتُ قائلة: «حسنًا، توبي لا يتحدث كثيرًا عن أي شيء أصلًا.»

«أجل هذا صحيح. لكني دومًا أريد أن يحكم عليَّ الناس وفقًا لأفعالي، وأرجو أن أفعل الشيء نفسه مع توبي، الذي لم يُسِئ إليَّ قَط. ولا إلى عائلتي أيضًا.»

•••

جاء أبي ليتناول العشاء في تلك الليلة التي بدأتْ وردية مع حلول المساء، لكنها فاحت برائحه السخام.

وبينما كان يتناول لحم الخنزير الذي أعدَّته أمي، والبطاطس التي أعدَّتها جدتي، والقرنبيط الذي أعددته — والذي كان جيمس يصفه بأنه «أشجار بيضاء صغيرة» ونادرًا ما كان يأكله — قال: «قضيت بعض الوقت مع توبي عصر اليوم.»

فنظرنا كلنا إليه وانتظرنا. أنا بالذات كنت أتساءل عمَّا قاله توبي عن أحداث الأسبوع الماضي.

قال: «كنتُ أنا المتحدث أغلب الوقت. طرقت الباب، ففتحه توبي ودعاني إلى الدخول. لم يكُن يوجد مكان للجلوس سوى الكرسي الوحيد، وما كان لي أن أجلس وأتركه واقفًا؛ ولذا وقفنا هناك نحن الاثنين وكلانا ينظر إلى الآخَر كأننا زوج من الماعز.»

لم يكُن أبي يحب الماعز. فكان ينعتني بالماعزة الصغيرة حين أكون كسولة. وينعتني بالماعزة حين أكون غبية. أو متسخة. وكذلك كان ينعت بقيتنا أيضًا.

انتظرنا تكملة كلامه. فمن المؤكَّد أنه كان يعتزم قول المزيد وإلَّا فما تطرَّق إلى ذكر الزيارة أصلًا.

قال: «ذاك الكوخ الذي يسكنه مكانٌ قاسٍ، مع أنه جعله ألطف قليلًا. وفراشه هناك لا يرقى إلى أن يكون سريرًا، بل هو أشبه بعُشٍّ. كل ما هنالك أغصان من الصنوبر مغطَّاة ببعض الخيش. لا توجد وسادة. البطانية الموجودة هي بطانية قديمة من بطانيات الجيش. حتى الكرسي الوحيد مهجور متهالك. وتوجد حفرة للنيران محفورة في أحد الأركان، بينما لا توجد سوى فتحة صغيرة للتهوية. وتحمل الخطَّافات المعلَّقة في السقف أشياء متنوِّعة عديمة القيمة. لكن …» وهنا سكت. وأسند ظهره مسترخيًا في كرسيه. ومرَّر راحة يده على فكه. ثم أضاف: «كانت توجد صور في كل مكان. على الجدران الأربعة. صور لبساتين. وللغابة. والكثير منها يتضمَّن منظر السماء وحدها، عند الغروب.»

سكت لحظة. وقال: «كانت جميلة، وأردت رؤيتها كلها، لكن الضوء كان يتلاشى، ولم أُرِد أن أكون ضيفًا ثقيلًا. فأنا قد ذهبت إليه أصلًا بلا دعوة منه، وبدا متوترًا قليلًا من وجودي هناك. أتصوَّر أنه لا يستقبل زوارًا كثيرين.»

لا أتذكر أنَّ والدي قال كل هذا القدر من الكلام دفعةً واحدة من قبل.

واصلَ قائلًا: «أخبرته بما قاله آل جلينجاري. وما قالته بيتي. سألته عما إذا كان موجودًا آنذاك على جانب تلك التلة. وقال إنَّه ليس لديه سبب لإلقاء حَجَرٍ على أي أحد، سواءٌ أكان ألمانيًّا أم لا.»

قال جدي: «إن كان أي شخصٍ لديه سبب لإلقاء حجرٍ على رجل ألماني، فربما يكون هذا الشخص هو توبي.»

فقالت أمي بحدة: «أو أي شخص فقَدَ أحد أقربائه هناك في الحرب. وكثيرٌ ما هم.»

أضاف والدي: «ثم قال شيئًا غريبًا، وأظن أنني أتذكره على النحو الصحيح. قال: «أحدثا خدوشًا في «حجر السلحفاة.» ولم يقُل أي شيء بعد ذلك، سوى أنه يطلب منكِ يا أنابل أن تحضري إليه صوره حالما تصل.»

هزَّت العمة ليلي شوكتها وهي تشير إليَّ بها. وقالت: «الكاميرا كاميرتنا. وفيلم التصوير فيلمنا. ويقول «صوره.» يعجبني ذلك.»

لكني كنت أتساءل في قرارة نفسي عن «حجر السلحفاة»؛ كان ذلك جلمودًا صخريًّا كبيرًا في مُنخفَض «حفرة الذئاب» يتخذ هيئة صدفة السلحفاة، وتتخلَّله خطوط من الكوارتز بنمطٍ أشبه بالشبكة الموجودة على أصداف السلاحف أيضًا. كان الجميع يعرفون «حجر السلحفاة». وكان يقع في رقعة صغيرة خالية من الأشجار، كأنَّ الأشجار لم تجرؤ على الاقتراب منه، فيما كانت الأرض المحيطة به مغطَّاةً بسراخس وأعشاب مُزهِرة.

كان مكانًا جميلًا لكنه كان مهيبًا أيضًا. وكان لدينا اعتقادٌ دائم بأنَّ الهنود كانوا يستخدمونه في الماضي لممارسة طقوسهم عنده. ولو لم تكُن لدينا كنيسة لممارسة طقوسنا، لكان من المرجَّح أن نختار نحن أيضًا ممارستها عند «حجر السلحفاة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤