الفصل الأول

اسم اللعبة

(١) عمَّ تدور نظرية الألعاب؟

عندما كانت زوجتي غائبةً طوال النهار في مؤتمر صغير شائق في إقليم توسكانا، دعَتْني ثلاث شابَّات لأشاركهنَّ الغداء. وبينما كنت جالسًا، قالت إحداهن بصوتٍ جذَّاب: «علِّمنا كيف نلعب لعبة الحب.» لكنْ تبيَّن أن كلَّ ما أردْنَه هو نصيحة حول كيفية التعامل مع العُشَّاق الإيطاليين. ولا أزال أعتقد أنهنَّ أخطأْنَ عندما رفضْنَ توصياتي المهمة، لكنهنَّ أصبنَ في التسليم بأن المغازلة هي واحدة من الألعاب العديدة المختلفة التي نلعبها في الحياة الواقعية.

فالسائقون وهم يناورون وسط الزحام المروري يلعبون لعبة قيادة، وتُجَّار الصفقات وهم يقدِّمون العروض على موقع «إيباي» يلعبون لعبة مزادات، وعندما تتفاوض شركةٌ مع إحدى النقابات العُمالية على أجور العام المقبل فإنهما تلعبان لعبة تفاوُض، وعندما يختار المرشحون المتنافسون برنامجهم في أحد الانتخابات فإنهم يلعبون لعبةً سياسية، وصاحب محل البقالة الذي يحدد سعر رقائق الذرة اليوم يلعب لعبةً اقتصادية. بإيجاز، متى تفاعل البشر فإنهم يكونون بصدد ممارسة لعبةٍ ما.

وقد لعب أنطونيو وكليوباترا لعبة المغازلة على نطاقٍ واسع، وحقَّق بيل جيتس ثراءً هائلًا عندما لعب لعبة برامج الكمبيوتر، ولعب كلٌّ من أدولف هتلر وجوزيف ستالين لعبةً أبادت نسبةً ليست هيِّنة من سكان العالم، وأثناء أزمة الصواريخ الكوبية لعب خروشوف وكينيدي لعبةً كان من الممكن أن تُبيد البشرية جمعاء.

مع هذا التطبيق الواسع النطاق، تكون نظرية الألعاب علاجًا شاملًا إذا ما استطاعت دائمًا أن تتنبَّأ بالكيفية التي سيلعب بها الأفرادُ الألعابَ المتعددة التي تتكوَّن منها الحياة الاجتماعية في العموم. ولكنَّ نظرية الألعاب لا تستطيع أن تحل كل مشكلات العالم؛ لأنها لا تنجح إلا عندما يلعب البشر الألعاب «بعقلانية»؛ لذا فهي لا تستطيع أن تتنبَّأ بسلوك المراهقين الوَلْهانين أمثال روميو وجولييت، أو المجانين أمثال هتلر أو ستالين. غير أن سلوك البشر لا يكون دائمًا غير عقلاني؛ ومن ثَمَّ فليس مضيعةً للوقت أن نَدْرس ما سيحدث عندما يفكر البشر بعقلانية؛ فمعظمنا على الأقل يحاولون التحليَ بالحكمة عند إنفاق أموالهم، ولا يتسم سلوكنا الإنفاقي في معظم الوقت بالسَّفَهِ والإسراف المبالَغ فيهما، وإلا فما كانت النظرية الاقتصادية لِتنجحَ على الإطلاق.

حتى عندما لا يَدْرس الأفراد كل شيءٍ سابقًا، فلا يستتبع ذلك أنهم يتصرَّفون بالضرورة على نحوٍ غير عقلاني. لقد كان لنظرية الألعاب إنجازاتٌ واضحةٌ في تفسير سلوك العناكب والأسماك، على الرغم من أنه لا يمكن الزعم بأن أيًّا من النوعَيْن يفكر مطلقًا. فمثل هذه الحيوانات غير العاقلة تنتهي بها الحال إلى التصرف كما لو أنها عاقلة؛ لأن منافسيها من الحيوانات الأخرى، التي برمجَتْها جيناتها على أن تسلك سلوكيات غير عقلانية، صارت منقرضةً في الوقت الحالي. وبالمثل، لا يدير الشركاتِ دائمًا نابغون عظامٌ، لكن السوق كثيرًا ما تكون قاسيةً كالطبيعة؛ فتُطيح بمن هم دون المستوى إلى خارج المشهد.

(٢) هل تُجدي نظرية الألعاب؟

رغم النتائج الإيجابية لنظرية الألعاب على الصعيد النظري، فإن رجال الأعمال العمليين عادةً ما يَصرفون النظر عنها باعتبار أنها ليست سوى فرعٍ عقيمٍ آخَرَ من العلوم الاجتماعية، لكن يبدو أنهم غيَّروا آراءهم بين ليلةٍ وضحاها بعد أن قرَّرَت الحكومة الأمريكية أن تطرح حقَّ استخدام تردُّدات الراديو المتنوعة للبيع في مزادٍ علنيٍّ؛ لاستخدامه مع التليفونات المحمولة.

ولأنه لا يوجد خبراء في هذا المجال، صارت نصيحة خبراء نظرية الألعاب هي الأساس الذي حدَّد شكل القواعد المُتَّبَعة في ألعاب المُزايدة. وكانت نتيجة ذلك أن حقَّق دافعو الضرائب الأمريكيون أرباحًا بلغتْ قيمتُها ٢٠ مليار دولار أمريكي، وهو ما كان يزيد عن ضِعف الأرباح التقليدية المتوقَّعة. وتحقَّقت أرباحٌ أكثر من ذلك في مزادٍ لاحق، كنتُ أنا المسئولَ عنه، لمصلحة شركة اتصالاتٍ بريطانية؛ حيث بلغ إجمالي الأرباح التي حقَّقناها في مزادٍ واحدٍ فقط ٣٥ مليار دولار أمريكي. ونتيجةً لذلك، وصفتْني مجلة «نيوزويك» بالاقتصادي القاسي لاعب البوكر الذي دمَّر صناعة الاتصالات!

وحسبما اتَّضح في نهاية الأمر، فإن صناعة الاتصالات لم تُدمَّر. ولم يكن من القسوة إطلاقًا أن نجعل أثرياءَ رجالِ الأعمال في صناعة الاتصالات يدفعون القيمة التي يعتقدون أنها تُضاهي قيمة التراخيص التي يحصلون عليها، لا سيَّما عندما يُنفَق هذا المال على المستشفيات لعلاج غير القادرين الذين يعجزون عن تحمُّل نفقات الرعاية الطبية الخاصة. أما بالنسبة إلى البوكر، فقد مضى عشرون عامًا على الأقل منذ أن لعبتُ بمبالغَ تستحق الذكر. والشيءُ الوحيد الذي أصابت فيه «نيوزويك» هو أن نظرية الألعاب تنجح حقًّا عندما يُطبقها أناسٌ يُدركون ما يفعلون. ولا يقتصر النجاح على مجال الاقتصاد فحسب، لكنه يمتد أيضًا إلى مجالَي علم الأحياء التطوُّري والعلوم السياسية. بل إنني، في كتابي الأخير «العدالة الطبيعية»، أثَرت حنق فلاسفة الأخلاق التقليديين حين استخدمت نظرية الألعاب في التحدُّث عن علم الأخلاق.

(٣) نماذج المحاكاة

يجب أن يُراعَى في تصميم كل مزادٍ جديدٍ وعملاقٍ في مجال الاتصالات أن يكون مناسِبًا للظروف التي سَيُدار فيها؛ فلا يمكن أن يضع المرءُ تصميمًا جاهزًا مثلما فَعلَت الحكومة الأمريكية عندما استأجرَت دارَ مزادات «سوذبيز» لبيع مجموعة من أجهزة الإرسال/الاستقبال الملحقة بالأقمار الصناعية. لكنْ، ليس في وسع أحد أن يجمع في نموذجٍ رياضيٍّ واحدٍ كلَّ التفاصيل المعقدة لسوق اتصالاتٍ جديدة؛ لذلك، يُعدُّ تصميم مزاد اتصالاتٍ فنًّا بقدر ما هو علم. ويَستنتج المرء من نماذجَ بسيطةٍ مختارةٍ بغرض محاكاتها ما يبدو أنه الخصائص الاستراتيجية الأساسية لمسألةٍ ما.

إنني أحاول تطبيق المفهوم نفسه في هذا الكتاب، الذي لا يحتوي لهذا السبب على أيِّ مسائلَ تتعلق بالجبر والرياضيات، وإنما على بعض المصطلحات التقنية القليلة؛ فهو يبحث فقط في نماذج المحاكاة التي يجري من خلالها شرح ألعابٍ فعلية، مستبعِدًا كل السمات الإضافية التي تُضفي تعقيدًا على هذه الألعاب في الحياة الواقعية. ومع ذلك، يرى معظم الناس أنه حتى نماذج المحاكاة هذه تمنحهم الكثير لكي يُعمِلوا فيها فكرهم.

(٣-١) نزاعٌ وتعاون

تشتمل معظم الألعاب في هذا الكتاب على لاعبَيْن اثنين فقط، نُطلِق عليهما أليس وبوب. واللعبة الأولى التي سيلعبانِها هي لعبة مطابقة العملات المعدنية.

لَعبَ شرلوك هولمز والبروفيسور موريارتي الشرير لُعبةَ مطابقة العملات المعدنية في الطريق إلى مواجهتهما الأخيرة عند شلالات رايشنباخ؛ إذ كان على هولمز أن يقرر عند أي محطة عليه النزول، في حين كان على موريارتي أن يقرر عند أي محطة عليه الانتظار. ومن أمثلة هذه اللعبة في الحياة الواقعية ما يحدث بين المُحاسبين غير الشرفاء ومدققي الحسابات الذين يُشْرِفون عليهم؛ فالطرف الأول يقرر متى يغش، والطرف الثاني يقرر متى يفحص الدفاتر.

fig1
شكل ١-١: مسألة اتخاذ القرار بين أليس وبوب في لعبة مطابقة العملات المعدنية.
في نسختنا المصغَّرة، يعرض كلٌّ من أليس وبوب عُملته، فتكسب أليس عندما يتطابق وجهَا العملتين (عملتها وعملة بوب)، ويكسب بوب عندما يختلف وجها العملتين. وبناءً عليه، يكون لدى كلٍّ مِن أليس وبوب خطَّتان، «صورة» و«كتابة». ويُبيِّن شكل ١-١ الفائزَ والخاسرَ وفقًا لجميع الاستراتيجيات الممكنة لكلا الطرفين. وهذه النتائج هي «عوائد» اللاعبَيْن في اللعبة. واستُخدِم رمزَا رفع الإبهام وخفضه للتأكيد على أن العوائد في أيِّ لعبة لا يُشترط أن تُقاس بالمال.
يوضح شكل ١-٢ كيف أن كلَّ المعلومات في شكل ١-١ يمكن جمْعُها في جدول العوائد؛ حيث تكون عوائد أليس في الركن الأيسر السفلي من كل خلية، وتكون عوائد بوب في الركن الأيمن العلوي. كما أنه يوضح كذلك نسخةً مكوَّنة من لاعبَيْن من لعبة القيادة المختلفة تمامًا التي نلعبها عندما نستقلُّ سياراتنا كلَّ صباح للذهاب إلى العمل. ومرةً أخرى، يصبح لدى أليس وبوب خطَّتان محددتان: «شمال» و«يمين»، لكن في هذه الحالة تكون مكاسب اللاعبَيْن متوازيةً كليةً بدلًا من أن تكون متعارضةً تمامًا. وعندما يتحدث الصحفيون عن موقفٍ تَرْبح فيه جميع الأطراف، فإنهم يقصدون شيئًا مثل لعبة القيادة.
fig2
شكل ١-٢: جدول العوائد. تختار أليس التحركَ أفقيًّا ويختار بوب التحركَ رأسيًّا.

(٣-٢) فون نيومان

تتمثل أُولى نتائج نظرية الألعاب في نظرية أدنى الأقصى لجون فون نيومان، التي تُطبَّق فقط في ألعابٍ مثل مطابقة العملات المعدنية، ويُصوَّر فيها اللاعبون على أنهم أعداءٌ ألِدَّاء. وما زال المرء يقرأ أحيانًا تعليقاتٍ ازدرائيةً رافضةً لنظرية الألعاب، يُصوَّر فيها فون نيومان على نحوٍ كاريكاتوريٍّ ساخرٍ على أنه النموذج الأصلي «للمحارِب البارد» (وهو الشخص الذي كان يُنفِّذ السياسة الأمريكية السوفييتية ويُشكِّلها أثناء الحرب الباردة)، وكأنه الشخصية الأصلية لدكتور سترينجلوف في الفيلم المعروف الذي يحمل اسمه. لكننا نعلم بعد ذلك أنه ما من أحدٍ يفكر في تطبيق نظرية الألعاب في الحياة الواقعية سوى خبيرٍ استراتيجيٍّ مجنون؛ لأن الوحيد الذي يقع في خطأِ افتراضِ أنَّ العالَم لعبة نزاع خالص هو شخص مجنون أو نصفُ آليٍّ.

كان فون نيومان عبقريًّا في مجالاتٍ متعددة، وكان اختراع نظرية الألعاب مجردَ عملٍ جانبيٍّ بالنسبة إليه. وصحيحٌ أنه كان سياسيًّا يفضِّل استخدام القوى الحربية بدلًا من الوسائل السلمية في الحرب الباردة، لكنه أبعدُ ما يكون عن شخصٍ نصفِ آليٍّ مجنون؛ فقد كانت له روح ودودة ومرحة، وكان يحب الاستمتاع بوقته وإقامة الحفلات، وكان يفضِّل التعاون عن النزاع، تمامًا مثلي ومثلك، لكنه كان يفهم أيضًا أن الطريق إلى تحقيق التعاون لا يكون بالتظاهر بأن الأفراد لا يستطيعون أحيانًا الاستفادةَ من إثارة المشكلات.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إنَّ التعاون والنزاع وجهان لعملةٍ واحدة؛ فلا يمكن فهْم أيٍّ منهما كما ينبغي دون أخْذ الآخر في الاعتبار؛ فالتفكير في لعبة تُمثِّل نزاعًا خالصًا، مثل لعبة مطابقة العملات المعدنية، لا يمكن أن يجعلنا نزعم أن كل التفاعلات البشرية تنافسية، كما أننا عندما نتدبر لعبةً تُمثل تعاونًا تامًّا، مثل لعبة القيادة، لا يجعلنا هذا نظن أن كل التفاعلات البشرية تعاونية؛ فالمرء يُميِّز ببساطةٍ بين جانبين مختلفين من السلوك الإنساني حتى يمكنه دراسة كلٍّ منهما على حدة.

(٤) نظرية التفضيل الموضَّح

للتعامل مع التعاون والنزاع على حدٍّ سواءٍ، نحتاج إلى طريقةٍ أفضل نَصِف بها دافع اللاعبين بدلًا من أن نقول ببساطةٍ إنهم يحبون الفوز ويكرهون الخسارة.‬ لهذا الغرض، ابتكر الاقتصاديون فكرة «المنفعة»، التي تسمح لكل لاعبٍ أن يعيِّن قيمة عددية لكل نتيجةٍ ممكنةٍ في لعبةٍ ما.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

في مجال الأعمال، يكون الهدف عمومًا هو الربح، لكنَّ الاقتصاديين يعلمون أن البشر غالبًا ما تكون لديهم أهدافٌ أكثر تعقيدًا من مجردِ كسبِ أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المال؛ لذلك، لا يمكن قياس المنفعة بالمال؛ ومن ثَمَّ، يكون ردُّ الفعلِ البديهيُّ هو إحلالَ السعادة محل المال. لكن، ما السعادة؟ وكيف نقيسها؟

من المؤسف أن كلمة «منفعة» ترتبط تاريخيًّا بدُعاة المذهب النفعي في العصر الفيكتوري، أمثال جِريمي بنثام وجون ستيوارت ميل؛ لأن الاقتصاديين المعاصرين لا يَحْذُون حذوهم في قياس المنفعة بمدى السعادة والبهجة أو المعاناة والألم التي ربما يشعر بها المرء؛ فالنظرية الحديثة لا تتطرَّق مطلقًا إلى أي محاولة لتفسير الكيفية التي يتصرَّف بها البشر حسبما يدور في أذهانهم، بل على العكس من ذلك؛ فإنها تنظر إلى عدم وضع أيِّ افتراضاتٍ سيكولوجية على الإطلاق بوصفه ميزة.

إننا لا نحاول تفسير «السبب» الذي دفع أليس أو بوب إلى التصرُّف على النحو الذي تصرَّفَا به؛ فبدلًا من أن نطبِّق وجهة نظر تفسيرية، علينا أن نرتضيَ وجهة نظر وصفية جُلُّ ما تُقدمه هو قراءة الحاضر واستقراء المستقبل، فتقول لو أن أليس أو بوب قد فعلا كذا أو كذا في الماضي لَوُصِفا إذن بأنهما يتصرفان على نحوٍ يتعارض مع نفسيهما، لكنهما يخططان الآن لفعل كذا وكذا في المستقبل. فالهدف في نظرية الألعاب أن نلاحظ القرارات التي تأخذها أليس وبوب (أو من المحتمَل أن يأخذاها) عندما لا يتفاعلان معًا أو مع أيِّ شخصٍ آخر، وأن نستنتج كيف يتصرفان عند التفاعل في لعبةٍ ما.

لذلك، فإننا لا نرى أن بعض التفضيلات أكثر عقلانيةً من غيرها؛ فنحن نسير على نهج الفيلسوف العظيم ديفيد هيوم في نظرته إلى العقل على أنه «عبدٌ للانفعالات». ووفقًا لآرائه المبالَغ فيها، فإن حقيقة أنه يفضِّل خراب العالم بأَسْره على أن تُخدش إصبعه ليست بالأمر «اللاعقلاني» في شيء. ومن ناحيةٍ أخرى، فإننا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال النظر إلى العقل باعتباره أداةً لتجنُّب السلوك المفتقر إلى الاتساق المنطقي؛ ومن ثَمَّ، فإنه يُنظر إلى أيِّ سلوكٍ يتسم بالاتساق المنطقي على أنه عقلاني.

مع بعض الفرضيات المعتدلة، يمكن إثبات أن السلوك المتسق منطقيًّا لا يختلف عن السلوك الذي يُقصَد منه تعظيم قيمة شيءٍ ما. وأيًّا كانت ماهية هذا الشيء المجرَّد في سياقه الخاص، فإن الاقتصاديين يُطلِقون عليه المنفعة. وليس بالضرورة أن تَقترن المنفعة بالمال، لكنها — مع الأسف — غالبًا ما تكون كذلك.

(٤-١) الإقدام على المخاطر

قد لا تَعِي أليس وهي تتصرف على نحوٍ متسقٍ منطقيًّا أنها تتصرف كما لو أنها تُعْلي من شأن شيءٍ نرى أن نُطْلق عليه اسم «منفعتها الخاصة». لكنْ إذا كنَّا نريد أن نتنبَّأ بسلوكها، فلا بدَّ أن نتمكَّن من قياس منفعتها باستخدام مقياس المنفعة، كما تقاس درجة الحرارة بمقياس الحرارة (الترمومتر). ومثلما تُسمَّى الوحداتُ في الترمومتر درجاتٍ، يمكن أن نقول إن «يوتل» هو اسم الوحدة على مقياس المنفعة الخاص بأليس.

يَنظر مؤيدو النظرة التقليدية في الاقتصاد إلى هذه المقاييس العددية للنفعية على أنها تافهة في حد ذاتها، لكنْ مِن حُسن الحظ أن فون نيومان لم يكن يعلم ذلك عندما جاء أوسكار مورجنستيرن إلى منزله ذات يوم يشكو عدم وجود أساسٍ صحيحٍ لديهما للمكاسب العددية في الكتاب الذي كانا يؤلِّفانه معًا حول نظرية الألعاب؛ لذلك، اختلق فون نيومان في الحال نظريةً تَقيس مدى رغبة أليس في الحصول على شيءٍ ما بقياس حجم المخاطرة التي هي على استعدادٍ للإقدام عليها من أجل الحصول على هذا الشيء. ونستطيع عندئذٍ معرفة الاختيار الذي ستُقدِم عليه في مواقفَ محفوفةٍ بالمخاطر عن طريق معرفة الخيار الذي سَيُتيح لها أعلى منفعة في المتوسط.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

من السهل استخدام نظرية فون نيومان لمعرفة مدى المنفعة التي تعيِّنها أليس لأي شيءٍ قد تحتاج إلى تقييمه. على سبيل المثال، كم وحدةً من اليوتل يجب أن تعيِّن أليس لمسألة المواعدة مع بوب؟

علينا أولًا أن نقرر مقياس المنفعة الذي سنستخدمه. ولكي نقرر ذلك، اخترْ نتيجتين تمثِّلان أفضل وأسوأ نتيجة على التوالي مقارنةً بأي نتيجة أخرى من المحتمَل أن تواجهها أليس. تُقابِل هاتان النتيجتان نقطتَي غليان الماء وتَجمُّده المستخدَمتين في معايرة الترمومتر المئوي، ولكن في هذه الحالة يحدِّد مقياسُ المنفعة الذي سنضعه صفر يوتل لأسوأ نتيجة ومائة يوتل لأفضل نتيجة. ولْتأخذ مثالًا آخر على ذلك؛ مجموعة من تذاكر اليانصيب (المجانية) التي تكون الجوائزُ الوحيدة فيها إما أفضل نتيجة أو أسوأ نتيجة.

عندما نمنح أليس تذاكر اليانصيب التي ترتفع فيها احتمالات الحصول على أفضل نتيجة كبديل للمواعدة مع بوب، فإنها ستغيِّر رأيها في نهاية المطاف وتوافق بدلًا من أن ترفض. وإذا كان من المحتمَل بنسبة ٧٥٪ أن تحقِّق ورقةُ اليانصيب أفضل نتيجة من شأنها أن تدفع أليس إلى تغيير رأيها، فإن نظرية فون نيومان تقول إن قيمة المواعدة مع بوب تقدَّر ﺑ ٧٥ يوتل بالنسبة إليها. وكل نقطة مئوية زائدة تُضاف إلى احتمال عدم اهتمامها بهذه المواعدة تُقابلها وحدة يوتل إضافية واحدة.

عندما يقدِّر بعض الأشخاص المَبالغ المالية باستخدام هذه الطريقة، فإنهم يعيِّنون دائمًا نفس عدد وحدات اليوتل لكل دولار إضافي. ونحن نَصِف هؤلاء الأشخاص بأنهم أشخاص لا يعبَئُون بالمخاطر. أما هؤلاء الذين يعيِّنون عددًا أقل من وحدات اليوتل لكلِّ دولار زائد يُضاف إلى ما قبله، فيُطلَق عليهم أشخاصٌ مُحْجِمون عن المخاطر.

(٤-٢) التأمين

تُفكر أليس في أن تقبل عرضًا من بوب لتأمين منزلها في بيفرلي هيلز ضد الحريق. وإذا رفضتْ عرضه فإنها تُواجه مسألة احتمالية أشبه باليانصيب؛ حيث تنتهي بها الحال إلى أحد أمرين: إما أن تحتفظ بمنزلها بالإضافة إلى قسط التأمين إذا لم يحترق منزلها، أو أن تحتفظ بالقسط فقط إذا احترق المنزل. ويجب أن يُقارَن هذا بالاحتمال الثالث وهو أن تحتفظ بقيمة المنزل مطروحًا منها مبلغ القسط في حال قبولها عرض بوب.

إذا كان من العقلاني أن يقدِّم بوب عرضه وأن تَقبل أليس، فإنه يرى بالضرورة أن هذه الأرجحية في قبول العرض أو رفضه أفضل بالتأكيد من نقطة التعادل التي لا يُبَتُّ فيها بقبول العرض أو رفضه، وأن أليس ستأخذ بالضرورة بالتفضيل المضاد؛ أي إن كليهما يفضِّل التأمين. وبناءً على ذلك، فإن وجود صناعة التأمين لا يؤكِّد فقط على أن المقامرة يمكن أن تكون سلوكًا عقلانيًّا — شريطة أن تكون المَخاطر التي نُقْدِم عليها مدروسة — لكنه يؤكِّد أيضًا على أن الأشخاص العقلانيين يمكن أن تكون لديهم طرقٌ مختلفة للإقدام على المخاطر؛ ففي صناعة التأمين، تكون شركات التأمين أقرب إلى النمطِ غير العابئ بالمخاطر، في حين ينتهج المؤَمَّن عليهم سياسة الإحجام عن المخاطر بدرجاتٍ متفاوتة.

لاحِظْ أن الاقتصاديين ينظرون إلى درجة إحجام الشخص عن المخاطرة على أنها مسألة تفضيل شخصي؛ وبناءً عليه، فقد تفضِّل أليس أن تنفق ١٠٠٠ دولار أمريكي على منزلها أو لا، تمامًا مثلما قد تفضِّل الآيس كريم بالشوكولاتة والفانيليا أو لا تفضِّله. ويصرُّ بعض الفلاسفة — خصوصًا جون رولس — أنه من «العقلاني» أن يكون اللاعبون محجِمين عن المخاطرة عند الدفاع عن أيِّ بديل لزيادة متوسط المنفعة للبديل الذي يفضِّلونه، لكنَّ هذه الآراء لم تنتبه إلى أن طرق اللاعبين في الإقدام على المخاطرة مأخوذة في الاعتبار بالفعل عند استخدام طريقة فون نيومان لتحديد المنافع لكل نتيجة.

يقع الاقتصاديون في خطأٍ مختلفٍ عندما يُرجِعون الإحجام عن المخاطرة إلى بُغض المقامرة؛ فنظرية فون نيومان لا تكون عقلانية إلا عندما يتحلَّى اللاعبون بالحيادية التامة تجاه الفعل الأصلي للمقامرة، مثل القسِّ المشيخي الذي يُؤَمِّن على منزله؛ فهو لا يقامر لأنه يستمتع بالمقامرة، وإنما يقامر فقط عندما يبدو له أن احتمالات النجاح في مصلحته.

(٤-٣) الحياة ليست لعبة مجموعٍ صفري

إننا نتمتع بمطلق الحرية في اختيار الصفر والوحدة المستخدَمة في مقياس المنفعة الخاص بأليس كما يحلو لنا، تمامًا كما يحدث عند قياس درجة الحرارة؛ فقد نعيِّن، على سبيل المثال، ٣٢ يوتل لأسوأ نتيجة و٢١٢ يوتل لأفضل نتيجة. ويمكن تحويل عدد وحدات اليوتل التي تعبِّر عن قيمة المواعدة مع بوب على هذا المقياس الجديد بنفس الطريقة التي يحوِّل بها الشخصُ الدرجاتِ المئويةَ إلى درجات فهرنهايت في مقياس الحرارة؛ ومن ثَمَّ، فإن المواعدة مع بوب — التي كانت قيمتها ٧٥ يوتل في المقياس القديم — صارت قيمتها ١٦٧ يوتل في المقياس الجديد.

في نماذج المحاكاة التي تناولناها حتى الآن، لم يكن أمام أليس وبوب سوى نتيجتين لتقييمهما، وهما «الفوز» أو «الخسارة». ويمكننا بحُريةٍ أن نعيِّن لهاتين النتيجتين أيَّ عددٍ نختاره من وحدات اليوتل، ما دام عدد وحدات اليوتل الذي عيَّنَّاه للفوز يَزيد عن العدد الذي عيَّنَّاه للخسارة. إذا عيَّنَّا العدد +١ يوتل للفوز والعدد −١ يوتل للخسارة، فإننا نحصل على جدولَي عوائد كالموضحَيْن في شكل ١-٣.
يبلغ مجموع العوائد في كلِّ خلية في لعبة مطابقة العملات المعدنية في شكل ١-٣ صفرًا دائمًا. ونستطيع دائمًا ضبط الأمور بحيث يمْكننا تطبيق ذلك في لعبة نزاعٍ خالص. تُعرف هذه الألعاب بألعاب المجموع الصفري، ويُطلق عليها أيضًا ألعاب الحالة المتعادلة أو ألعاب اللامكسب واللاخسارة. وعندما يخبرنا الخبراء أن الحياة ليست لعبة مجموعٍ صفري، فإنهم لا يقصدون بذلك المجموع الكلي للسعادة في العالم من قريبٍ أو بعيد، بل يُذكِّروننا فقط بأن الألعاب التي نلعبها في الحياة الواقعية نادرًا ما تكون ألعاب نزاعٍ خالص.
fig3
شكل ١-٣: المكاسب العددية.

(٥) توازن ناش

ما زال الفيلم القديم «متمرد بلا قضية» يُعْرَض من حينٍ لآخر، ويحقِّق نسبة مشاهدة بسبب بطله الذي لا يُنسَى — جيمس دين — الذي لعب دور المراهق المتمرد الجذَّاب. وصُمِّمت لعبة ضبط الأعصاب لإحياء ذكرى مشهدٍ في الفيلم يقود فيه جيمس دين وصبيٌّ آخر سيارتَيهما باتجاهِ حافَة منحدَرٍ صخري لِيَرَوا مَن سيفقد أعصابه أولًا. وقد استخدم برتراند راسل هذا الحدث ووظَّفه توظيفًا مشهورًا كنايةً عن الحرب الباردة.

ومن جانبِي، فإنني أفضِّل شرح لعبة ضبط الأعصاب باستخدام روايةٍ رتيبةٍ يكون فيها أليس وبوب شخصَين في متوسط العمر، يقترب أحدهما من الآخر فيما يقودان سيارتَيهما في شارع ضيِّق لا يستطيعان أن يعبُراه بأمان إلا بأن يبطئ أحدهما عن الآخر. ويترتب على ذلك اتخاذ الاستراتيجيَّتَين الموضَّحتين في شكل ١-٤؛ «إبطاء» و«إسراع».

يقلل المشهد الجديد من قيمة عنصر المنافسة في الرواية الأصلية؛ فلعبة ضبط الأعصاب تختلف عن ألعاب المجموع الصفري التي من أمثلتها لعبة مطابقة العملات المعدنية؛ لأن اللاعبين لديهم أيضًا اهتمام مشترك في تفادي كارثة متبادلة.

إنَّ التنميط المُتَضمَّن في لعبة الصراع بين الجنسين يسبق حركة تحرير المرأة. أليس وبوب زوجان حديثَا الزواج، يقضيان شهر العسل في نيويورك. وبينما هما يتناولان طعام الإفطار، يناقشان إنْ كانا سيَحضران في المساء مباراةً للملاكمة أم حفلًا للباليه، لكنهما يفشلان في الوصول إلى قرار، ثم يفصلهما الزحام في وقتٍ لاحق، ويتعيَّن على كلٍّ منهما في هذه اللحظة أن يقرِّر، مستقلًّا عن الآخر، أين يذهب في المساء.

fig4
شكل ١-٤: ألعاب ذات دوافع مختلطة.

تؤكِّد الرواية المصاحِبة لِلُعبة الصراع بين الجنسين على الخصائص التعاونية في مسألتهما، لكن يوجد أيضًا عنصر نزاعي غائب عن لعبة القيادة؛ لأن كل لاعب يفضِّل التنسيق مع نظيره للوصول إلى نتيجةٍ مختلفة؛ فأليس تفضِّل حفل الباليه وبوب يفضِّل مباراة الملاكمة.

fig5
شكل ١-٥: جيمس دين.

(٥-١) جون ناش

لقد صار جون ناش معروفًا للجميع بعد تقديم قصة حياته في فيلم «عقلٌ جميل». إنَّ تقلُّبات حياته، كما وثَّقها الفيلم، تقع خارج نطاق خبرة معظم البشر. كان ناش طالبًا جامعيًّا عندما وضع النظرية الحديثة للتفاوض العقلاني. وصاغت رسالتُه للدكتوراه مفهومَ توازن ناش، الذي يُعتبر الآن الركيزة الأساسية في نظرية الألعاب. واستمر ناش في حل مسائل رياضية أساسية في الرياضيات البحتة، باستخدام طرق جديدة مُبتكرة، حتى ذاع صيته كعالم رياضياتٍ عبقريٍّ من الطراز الأول. لكنه وقع فريسةَ مرضِ انفصام الشخصية الذي حطم حياته العملية، وفي نهاية الأمر أصابه بالوهن وجعله يعيش في عزلةٍ لمدةٍ تزيد عن أربعين عامًا؛ حيث أصبح مثار تهكُّمٍ بين الحين والآخر في حرم جامعة برينستون. وعندما نتذكَّر تَعافِيَه المؤقت في الوقت الذي حصل فيه على جائزة نوبل عام ١٩٩٤، فإن الأمر يبدو كما لو أننا بصدد معجزة. لكن كما علَّق ناش، فمِن دون «جنونه» كان من الممكن أن يكون مجرد شخصٍ آخرَ من جموع البشر الذين عاشوا على هذا الكوكب ورحلوا عنه دون أن يُخلِّفوا وراءهم أي أثرٍ لوجودهم.

fig6
شكل ١-٦: جون ناش.
على الرغم من ذلك، لا يحتاج المرء إلى أن يكون عبقريًّا متقلِّبَ المزاج لفهم توازن ناش. لقد رأينا أن العوائد في أي لعبة إنما تُختار بحيث تؤكِّد مرارًا وتكرارًا على أن اللاعبين — بافتراض عقلانيتهم — سيسعَون إلى زيادة متوسط عوائدهم. وسيكون هذا سهلًا إذا عَرف اللاعبون الاستراتيجيات التي سيختارها خصومهم. على سبيل المثال، إذا عرفتْ أليس أن بوب سيختار «الباليه» في لعبة الصراع بين الجنسين، فإنها ستعمل أيضًا على تعظيم عائدها باختيار «الباليه». وهذا يعني أن «الباليه» هو الرد الأمثل لأليس على اختيار بوب ﻠ «الباليه»، وهذه الحقيقة موضَّحة في شكل ١-٤ بالدائرة المرسومة حول عائد أليس في الخلية الناتجة في حال اختيار اللاعبَيْن لخيار «الباليه».

إنَّ توازن ناش عبارة عن زوجٍ من الاستراتيجيات تَنتج عن استخدامه خلية يكون فيها كلا «العائدين» محاطًا بدائرة. وعلى نحوٍ أكثر تعميمًا، يتحقَّق توازن ناش عندما يختار اللاعبون كلُّهم في آنٍ واحدٍ ردًّا أمثل على الاستراتيجيات المختارة من قِبل الآخرين.

لذلك، يمثِّل كلٌّ مِن الزوج المرتَّب («ملاكمة»، «ملاكمة») و(«باليه»، «باليه») توازُن ناش في لعبة الصراع بين الجنسين. وبالمثل، يمثِّل الزوج المرتَّب («إبطاء»، «إسراع») و(«إسراع»، «إبطاء») توازُن ناش في لعبة ضبط الأعصاب.

لماذا ينبغي علينا الاهتمام بتوازنات ناش؟ ثَمَّةَ سببان أساسيان؛ يفترض السبب الأول أن اللاعبين العقلانيين — في الوضع المثالي — يستنتجون حل أي لعبةٍ بطريقةٍ عقلانية. ويفترض السبب الثاني أن الناس يتوصَّلون إلى حلٍّ ما باستخدام أسلوبٍ تطوُّريٍّ معيَّنٍ يقوم على المحاولة والخطأ. وتنشأ معظم القوة التنبُّئية لنظرية الألعاب من احتمال التنقُّل بين هذين التفسيرين التبادليين. ومع أننا لا نعرف سوى القليل عن تفاصيل الأساليب التطوُّرية، نستطيع أحيانًا أن نمضيَ قدمًا للتنبؤ بما ستؤدي إليه هذه الأساليب التطوُّرية في نهاية المطاف بالسؤال عما سيفعله اللاعبون العقلانيون في الموقف محل الدراسة.

(٥-٢) التفسير العقلاني

افترضْ أن شخصًا ما يفوق مهارة ناش أو فون نيومان بكثيرٍ، ألَّفَ كتابًا يسرد فيه كل الألعاب الممكنة، وأَوْرَدَ توصياتٍ موثوقًا بها عن الكيفية التي يجب أن يلعب بها اللاعبون المنطقيون كل لعبة. مثل هذا الكتاب الرائع سيَختار حتمًا توازُن ناش كحلٍّ لكلِّ لعبة. وإلا فسيكون من المنطقي أن يَحيد لاعبٌ واحد على الأقل عن توصية الكتاب؛ مما يجعله كتابًا غير جديرٍ بالثقة.

افترض، مثلًا، أن الكتاب أوصى أن يختار كلا الولدين المراهقَيْن في لعبة ضبط الأعصاب «إبطاء» كما تتمنى والدتاهما. إذا كان الكتاب موثوقًا به، فمِن المفترَض أن كلًّا مِن اللاعبَيْن سيعلم أن الآخر سوف يختار «إبطاء». لكنْ بافتراض عقلانية اللاعبَيْن، فإن اللاعب العقلاني في لعبة ضبط الأعصاب الذي يعلم أن خصمه سيختار «إبطاء» سوف يختار حتمًا «إسراع»؛ مما يدحض الادِّعاء بأن الكتاب موثوقٌ به.

لاحظ أن المنطق الذي يقوم عليه هذا الدفاع عن توازنات ناش منطق دائري. لماذا تلعب أليس بهذه الطريقة؟ لأن بوب يلعب بتلك الطريقة. ولماذا يلعب بوب بهذه الطريقة؟ لأن أليس تلعب بتلك الطريقة.

يوجد العديد من التسميات اللاتينية لِمَن لا يروق لهم مصطلح المنطق الدائري. عندما اتُّهِمتُ في البداية باقتراف مغالطة «الاستدلال الدائري» (باللاتينية: circulus in probando) عند الحديث عن التوازنات، كان عليَّ أن أكشف عن معنى هذا المصطلح اللاتيني؛ فتبيَّن أنني كنت محظوظًا أنْ لم أُتَّهَم بما هو أكثر ضررًا بالسُّمعة؛ وهو المغالطة المنطقية المعروفة باسم «المصادرة على المطلوب»، التي تَفترض المعطياتُ فيها أن الاستنتاجَ صحيحٌ بالفعل وتَعْمِد إلى إثباته. لكنَّ جميع الحجج لا بد أن تكون حتمًا دائريةً أو أن تُختَزل إلى سلسلةِ ارتدادٍ لا نهائيٍّ لو لم يكفَّ الشخص مطلقًا عن السؤال عن «السبب». وأكثر الأمثلة المألوفة لسلسلة الارتداد اللانهائي هي مثال التعريفات الواردة في القواميس.
في الألعاب، يمكننا إما أن نتوقع سلسلة ارتدادٍ لا نهائي تستمر للأبد، وتبدأ ﺑ:

أليس تعتقد أن بوب يعتقد أن أليس تعتقد أن بوب يعتقد …

وإما أن نلجأ إلى المفهوم الدائري المضمَّن في فكرة توازن ناش. ويعمل هذا على تفادي الارتداد اللانهائي بملاحظة أن أيَّ استراتيجيةٍ أخرى موضوعةٍ سوف تفقد توازنها عندما يبدأ اللاعبون في التفكير فيما يفكر فيه اللاعبون الآخرون. أو دعونا نَصُغْها بعبارةٍ أخرى: إذا كانت اعتقادات كل لاعب عن استراتيجيات اللاعب الآخر متسقةً منطقيًّا، يجب أن يكونا إذن في حالة توازن.

(٥-٣) التفسير التطوري

كان للتفسير العقلاني لتوازن ناش تأثيرٌ كبيرٌ على واضعي نظرية الألعاب الأوائل، لدرجة أن التفسير التطوُّري كاد يُهمل تمامًا. وحتى المحرِّرون في الدورية التي نشر فيها ناش أبحاثه عن التوازنات ضربوا بملاحظاته في هذا الموضوع عُرض الحائط وكأنها بلا فائدة! لكن نظرية الألعاب لم تكن تستطيع أبدًا أن تتنبَّأ بسلوك الأشخاص العاديين لو أن التفسير التطوُّري غير سليم. فعلى سبيل المثال، فكَّر الرياضي المشهور إيميل بوريل في نظرية الألعاب قبل فون نيومان، لكنه توصَّل إلى استنتاج أن نظرية أدنى الأقصى يُحتمَل أن تكون خطأً. فأيُّ أمل سيبقى لنا إذا كان شخصٌ في مهارة بوريل لم يستطِعْ أن يستنتج حلًّا عقلانيًّا لأبسط فئةٍ من الألعاب؟!

توجد الكثير من التفسيرات التطوُّرية الممكنة لتوازنات ناش، وجميعها يختلف في عملية التوافق التي يمكن للاعبين من خلالها التوصُّل إلى توازن. في عملية التوافق الأبسط، تتحدد العوائد في لعبةٍ ما بمدى صلاحية اللاعبين؛ وبناءً عليه، فإن العمليات التي تُحابي الاستراتيجيات الأكثر صلاحية على حساب الاستراتيجيات الأقل نجاحًا لا يمكن أن تصبح عديمة الجدوى إلا عندما نصل إلى توازن ناش؛ لأن في هذه الحالة فقط ستكون كل الاستراتيجيات المتبقية صالحةً بالقدر الذي يتناسب مع الظروف وقتها؛ لذلك، ليس بالضرورة أن يكون اللاعبون عباقرةً في الرياضيات حتى تكون توازنات ناش مناسبةً لهم؛ فهذه التوازنات غالبًا ما تتنبَّأ بسلوك الحيوانات على نحوٍ جيدٍ للغاية. كما أن المدلول التطوُّري لتوازنات ناش لا يقتصر على علم الأحياء؛ فهي تؤدي دورًا تنبُّئيًّا في كلِّ مرةٍ تَميل فيها إحدى عمليات التوافق إلى استبعاد الاستراتيجيات التي تُحقِّق عوائدَ منخفضة.

على سبيل المثال، يتعرَّض سماسرة الأوراق المالية الذين يُحقِّقون عوائدَ أقل من منافسيهم للإفلاس؛ لذلك، فإن المبدأ العام الذي يستخدمه السماسرة يخضع لنفس نمط دوافع التطوُّر، مثله مثل جينات الأسماك والحشرات؛ ومن ثَمَّ، فمِن البديهي أن نُنْعم النظر في توازنات ناش في الألعاب التي يمارسها هؤلاء السماسرة، على الرغم من علمنا جميعًا أن بعض السماسرة لن يتمكَّنوا من تحقيق هذه الغاية في ظل طبيعة السوق المكشوفة، فما بالك في وجود كتابٍ لنظرية الألعاب.

(٦) معضلة السجينين

إنَّ لعبة معضلة السجينين هي اللعبة الأكثر شهرةً على الإطلاق بين نماذج المحاكاة؛ ففي الرواية التقليدية لهذه اللعبة، أليس وبوب عضوان في إحدى العصابات في شيكاجو في عشرينيات القرن العشرين. يعلم وكيل النيابة أنهما مذنبان في جريمةٍ كبرى، لكن لا يستطيع أن يَتهم أيًّا منهما إلا إذا اعترف أحدهما. فأَمَر بالقبض عليهما، وعَرَض على كلٍّ منهما على حِدَةٍ الاتفاقَ التالي:

إذا اعترفتَ ولم يعترفْ شريكك في الجريمة، فسوف يُطلَق سراحك. وإذا لم تعترفْ واعترفَ شريكك، فستصبح مُدانًا ويُحكَم عليك بقضاءِ أقصى مدةٍ في السجن. وإذا اعترفتما أنتما الاثنان، فسوف تثبُت إدانتكما ولكن لن يُحكم عليكما بأقصى مدة. وإذا لم يعترف أيٌّ منكما، فستُلفَّق لكما تهمة تهرُّبٍ ضريبيٍّ تكون فيها الإدانة مؤكَّدة.

تصبح الرواية أكثرَ تأثيرًا إذا كانت أليس وبوب قد اتَّفقا على أن يَلزما الصمت إذا حدث أن تعرَّضا لموقفٍ كهذا؛ ومن ثَمَّ، يكون التزام الصمت تعاونًا، بينما يكون الاعتراف تخليًا عن العهد الذي قَطَعَاه، كما هو مبيَّن في الجدول الأيمن في شكل ١-٧. والعوائد في الجدول هي السنوات المفترض قضاؤها في السجن (على افتراض أن اليوتل الواحد يمثل دائمًا الفوز بسنةٍ إضافيةٍ واحدةٍ يقضيها حرًّا طليقًا).
ولنأخذ مثالًا على ذلك روايةً أقل تكلُّفًا يُمنَح فيها كلٌّ مِن أليس وبوب مبلغًا من المال. ويُسمَح لكلٍّ مِنهما على حدةٍ أن يعطيَ خصمه دولارين من هذا المبلغ، أو يَسحب دولارًا واحدًا منه ويضعه في جيبه. على افتراض أن أليس وبوب يهتمان فقط بالمال، فإننا نصل إلى جدول العوائد الأيسر في شكل ١-٧؛ حيث تُمثَّل الدولارات بوحدات اليوتل. وفي هذه الحالة، يُطلَق على استراتيجية الإيثار التي يعطي فيها أحد اللاعبَيْن دولارين للآخر اسمُ «حمامة»، في حين يُطلق على استراتيجية الأثرة التي يأخذ فيها أحد اللاعبَيْن دولارًا واحدًا اسمُ «صقر».‬‬‬
fig7
شكل ١-٧: الروايتان المصاحِبتان لِلُعبة معضلة السجينين: في الرواية على الجانب الأيمن، تمثِّل «حمامة» استراتيجية العطاء، ويمثِّل «صقر» استراتيجية الأخذ.

يتبيَّن عن طريق وضع دائرة حول الردود المُثلى أنَّ توازُن ناش الوحيد في الرواية المعدَّلة مِن لُعبة معضلة السجينين (الأخذ أو العطاء) هو أن يلعب كلٌّ مِن أليس وبوب «صقر»، على الرغم من أنهما سيحصلان على المزيد إذا لعب كلاهما «حمامة». وتتضمن رواية رجال العصابة استراتيجيةً مماثلة؛ ففي ظل توازن ناش الفريد، سيخون كلٌّ مِنهما العهد، وسيترتب على ذلك أن كليهما سيقضي وقتًا طويلًا في السجن، بينما سيحصلان على عقوبة أخف في حال تعاونهما.

(٦-١) مفارقة العقلانية

اقتنع جيلٌ كامل من الباحثين بأن لعبة معضلة السجينين تجسِّد جوهر مسألة التعاون الإنساني؛ وبذلك، يكونون قد حمَّلوا أنفسهم مهمةً يائسة تتمثل في الكشف عن الأسباب التي تبرهن على عدم صحة الحل الذي تُقدمه نظرية الألعاب ﻟ «مفارقة العقلانية» المزعومة (راجع مغالطات معضلة السجينين، الفصل العاشر). لكنَّ خبراء نظرية الألعاب، على الجانب الآخر، يرَون أنه من الخطأ تمامًا الزعم بوجود صلة من قريبٍ أو بعيد بين لعبة معضلة السجينين والتعاون الإنساني. بل على العكس من ذلك، فهي تستعرض موقفًا تقلُّ فيه احتمالات وجود أيِّ مظهرٍ مِن مظاهر التعاون.

إذا كانت لعبة معضلة السجينين تقدِّم النموذج الأمثل لِلُعبة الحياة الكبرى التي يمارسها أفراد الجنس البشري، فما كنا لنتطور أبدًا في هيئة كائناتٍ اجتماعية؛ لذا، فإننا لا نرى سببًا يدعو إلى حل مفارقة العقلانية المُفتَعلة هذه أكثر من تفسير السبب في أن الناس يتعرَّضون للغرق إذا أُلقي بهم في بحيرة ميشيجان وأقدامُهم موضوعة في ألواحٍ خرسانية. لا وجودَ لمفارقة العقلانية؛ فاللاعبون العقلانيون لا يتعاونون في معضلة السجينين؛ لأن الشروط الواجب تَوافُرها لحدوث التعاون العقلاني غير متوافرة.

من حُسن الحظ أن مرحلة مفارقة العقلانية في تاريخ نظرية الألعاب على وشك الانتهاء. ولا يزال يُستشهد بالمغالطات العديدة — بقدرِ ما يمكن أن نَذكر منها الآن — التي اختُلقت في محاولاتٍ بائسة لبيان أنه من العقلاني حدوث تعاونٍ في معضلة السجينين، غالبًا كأمثلةٍ مُسَلِّيَةٍ لما يُطلِقُ عليه علماءُ النفس التفكيرَ السحريَّ أو الخُرافيَّ؛ حيث يُحرَّف المنطق من أجل الوصول إلى نتيجةٍ مرغوبٍ فيها بعينها. والمثال المفضَّل لديَّ هو ما ذهب إليه إيمانويل كانط في الزعم بأن العقلانية تقتضي الإذعان لما يُطلِق عليه «الأمر المطلق». ففي معضلة السجينين، سيختار كل اللاعبِين العقلانيِّين «حمامة»؛ لأن هذه هي الاستراتيجية المُثلى لو اختارها الجميع.

(٦-٢) الهيمنة

إنَّ فكرة الجزم بأنه من غير العقلانيِّ الإتيانُ بأفعالٍ سيئةٍ بوازعِ أنَّ الجميع يأتونها؛ هي فكرةٌ شائعة للغاية. ومن المحتمَل أن والدتك — مثل والدتي — كانت تعشق هذه الحُجة؛ لذا، فالأمر يستحق أن نشير مرارًا وتكرارًا إلى الحُجة القوية التالية في حالة معضلة السجينين.

حتى لا نستجديَ أيَّ أسئلة، سنستهلُّ حديثنا بالسؤال عن مصدر العوائد التي تمثل تفضيلات اللاعبَيْن في لعبة معضلة السجينين. وفقًا لنظرية التفضيل الموضَّح، ينبع الرد من ملاحظة الاختيارات التي تختارها (أو قد تختارها) أليس وبوب عند حل مسائل تتعلق باتخاذ قراراتٍ فردية.

لذا، فإنَّ كتابة عائد أكبر لأليس في الخلية بالركن الأيسر السفلي من جدول العوائد في لعبة معضلة السجينين بدلًا من الخلية في الركن الأيسر العلوي؛ تعني أن أليس سوف تختار «صقر» في مسألة اتخاذ القرار الفردي التي هي بصددها إذا علمت سابقًا أن بوب قد اختار «حمامة». وبالمثل، فإنَّ كتابة عائد أكبر في الخلية في الركن الأيمن السفلي تعني أن أليس كانت ستختار «صقر» عند مواجهة مسألة اتخاذ القرار الفردي حين علمتْ سابقًا أن بوب قد اختار «صقر».

بناءً على ذلك، فإن التعريف الأمثل للُّعبة ينص على أنَّ «صقر» هو الرد الأمثل لأليس عندما تَعْلم أن اختيار بوب هو «حمامة»، وكذلك عندما تعلم أن اختياره هو «صقر»؛ ومن ثَمَّ، فهي لا تحتاج إلى معرفة أي شيءٍ عن اختيار بوب الفعلي كي تعلم الاختيار الأمثل لها. ومن العقلاني بالنسبة إليها أن تختار «صقر» بصرف النظر عن الاستراتيجية التي يخطِّط لاختيارها. وفي ظل هذا الظرف الاستثنائي، نقول إنَّ الاختيار «صقر» يُهيمن على الاستراتيجية البديلة لأليس؛ لأنه يؤدي إلى نتائجَ أفضل.

(٦-٣) أوجُه الاعتراض على التحليل السابق

ثَمَّةَ اعتراضان متعارَف عليهما على التحليل السابق؛ الأول يرفض فكرة أن أليس كانت ستختار خيانة العهد في رواية رجال العصابة لِلُعبة معضلة السجينين إذا علمت أن بوب اختار أن يتعاون. وقُدِّمت أسبابٌ عديدة استنادًا إلى ما يظنه الشخص بشأن الظروف التي كانت تعيشها شيكاجو أيام آل كابون، لكن هذه الاعتراضات لا تدرِك الفكرة الأساسية للُّعبة. فإذا قررت أليس ألا تخونَ العهد عندما تعلم أن بوب اختار أن يتعاون، فلن تكون إذنْ بصدد لَعِب معضلة السجينين. ففي هذا الكتاب وغيره، من المهم عدم أخذ الروايات المستخدَمة لتحفيز دراسة الألعاب وإضفاء طابعٍ من التشويق عليها، على محمل الجدية الشديدة. فجداول العوائد في شكل ١-٧ هي التي تُحدِّد مفهوم لعبة معضلة السجينين، وليست الروايات الساذجة التي تصاحبها.

أمَّا بالنسبة إلى الاعتراض الثاني، فهو دائمًا ما يُحيِّرني؛ فيُقال إنَّ الاحتكام إلى نظرية التفضيل الموضَّح يختزل الادِّعاء بأنه «من العقلاني خيانة العهد في معضلة السجينين» إلى حشوٍ أجوف. وبما أن الحشو لا ينطوي على مضمونٍ جوهري، فمِن الممكن إذن تجاهُل هذا الزعم. لكن، ثَمَّةَ مسلَّمات من قبيل ٢ + ٢ = ٤ لا يمكن للمرء أن يتبنَّى الموقف نفسه حيالها.

(٦-٤) تجارب

إنَّ الرد البديل أن تحديد ما هو عقلاني ليس بالأمر المهم في لعبة معضلة السجينين؛ لأن التجارب المعملية تؤكِّد أن الناس في الحياة الواقعية يختارون بالفعل «حمامة». ولا تُحدَّد عادةً العوائدُ في هذه التجارب باستخدام نظرية التفضيل الموضَّح. وغالبًا ما تكون هذه العوائد مجردَ أموال، ومع ذلك فالنتائج مفيدة للغاية من الناحية العلمية.

في حقيقة الأمر، يتعاون اللاعبون غير المتمرِّسين لما يزيد عن نِصف الوقت في المتوسط. وثَمَّةَ أدلة دامغة في ألعابٍ مثل معضلة السجينين على أن معدل الخيانة يزداد بدرجةٍ ثابتةٍ بازدياد مستوى الخبرة لدى اللاعبين، حتى نجد أن نحو ١٠٪ فقط من اللاعبين هم الذين يستمرُّون في التعاون بعد عشر محاولاتٍ أو نحو ذلك.

يشار أيضًا في هذا الصدد إلى عمليات المحاكاة الحاسوبية التي تفترض أنَّ تطوُّر الأحداث في لعبة معضلة السجينين سيؤدِّي في النهاية إلى حدوث تعاون، لكنَّ هذه الآراء تخلط عادةً بين لعبة معضلة السجينين والألعاب الشبيهة بها التي تتكرَّر إلى ما لا نهاية، ويتحقَّق فيها توازن ناش فعليًّا من خلال التعاون (راجع لعبة «واحدة بواحدة»، الفصل الخامس).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤