تقديم

في تقديمه لرواية «الصبي سارق الفجل» كتب الروائي الصيني «آ تشنغ» كلمة قصيرة جاء فيها: «إن وجه مو يان لا يحمل قسَمات جميلة، فهو أشبه ما يكون بحزمة فجل تم اقتطاعها من حواف الحقول، لكنك لو تأملت ملامحه جيدًا لاكتشفت أن هذا الوجه الخالي من أية سمات مميزة أو علامات فريدة يتضمن في زواياه أشياء كثيرة غير عادية، فهناك عينان ملغِزتان تفيضان تسامحًا وإشراقًا، وثمة لمعان غريب يُومض بالعبقرية.»

ومن الطبيعي جدًّا لرجل عاش تجربة حياة كالتي عاشها مو يان أن تنطق عيونه بالعبقرية، وميراث مو يان من العبقرية متفرد بمزاياه، وجزء كبير من مزايا التفرد كان يعود إلى طبيعة زمن وخصوصية مجتمع وإنسانية ظروف … كان زمانه يشهد تغييرات عميقة طالت كل شيء في الصين: الناس والمجتمع، والمواريث القديمة كانت «في الريف خصوصًا» تتشبث ببقائها، وتُنبِت في كل يوم، من قلب الأرض ثمارًا تربطها بملاحم أبطالها وحكايات ليالٍ لا تنتهي، والظروف في تجربة حياته أتاحت له دوافع وآفاقًا للإبداع. وجاء مو يان إلى الدنيا مثل ثمرة واعدة بالنضج، رغم أن الثقافة الصينية التقليدية لم تكن تحتفي قط بالعباقرة والأذكياء، باعتبار أن الفضيلة الحقة تسكن قلوب وعقول من ادعوا السذاجة وقلة الفهم عن تواضع وأدبٍ جمٍّ.

قيل له إنه ولد في ١٩٥٥م لكنه يُؤكد أنه من مواليد ربيع عام ١٩٥٦م، حسبما قرر هو بنفسه في مقال منشور له في مجلة Dang dai zuo jia ping lun «العدد ٢ لسنة ١٩٩٣م» تحت عنوان «قريتي وكتابة الرواية» … قال: إن مولده كان في غرفة تشققت جدرانها وتهشم سقفها وعلق بحيطانها الغبار والسِّناج، وقد سقط فور ولادته فوق كومة جُلبت خصوصًا من تراب الحوش، تمشيًا مع معتقدات الأهالي في قرية «كاومي دونغبي» بأن نزول المولود فوق كومة تراب يحفظ عليه حياته؛ فيصير مثل بذرة تتعهدها الأرض بالنبت والنماء وطول البقاء، ولعل هذا يفسر جزءًا من ولعه باتجاه الكتابات الروائية التي توصف بأنها ذات طابع «ريفي».

اسمه الأصلي «كوان مو يا»، لكنه اشتَق من اللقب «مو» اسمه الذي اشتهر به في الساحة الأدبية؛ حيث قسم الكلمة شطرين فاتخذ لكل شطر مقطعًا صوتيًّا تحول إلى النطق الدائم باسم «مو يان» … بيد أن الشطر «يان» ما كان له أن يلفظ به في التدوين الكتابي الصحيح، لكنه سيبقى بعدها قادرًا على اشتقاق صور جديدة من الدوالِّ القديمة نفسها فيمنحها واقع وجود ضمن خيال الكتابة، تبعًا لما رسخ في أعماقه الصينية الموروثة من عصور وأزمان بعيدة، وقد رسخت في ذهنه غرائبية مشتقة من طريقة نحته للقبه الإبداعي، غرائبية ملأت عالمه الفني … من الإحساس الخالي من الصوت «مو يان: الساكت» أو المتحرر من ربقة الأصوات … إحساس يتجاوز شوارع القرى وأكوام الثلج التي أهملتها الليالي وعافتها أنوار الشمس في الطرقات … إحساس بعالم يبدو نائيًا، لكنه قريب للغاية، يمتزج بشيء من الوعي على نحو غامض جدًّا، ومن ثَم يستنهض شعورًا خفيًّا ويثير تَذكارات قديمة وروابط أفكار لا تنتهي.

تَذكار حياته السابقة في القرية كان المادة الأساسية التي تشكلت منها كتابته في الرواية، لكنه لم يذكر قريته صراحة إلا بعد أن قطع شوطًا في الإبداع؛ إذ أشار بوضوح إلى مسقط رأسه «كاومي دونغبي» في مجموعته القصصية الصادرة عام ١٩٨٣م تحت عنوان «أرجوحة الكلب الأبيض» … الغريب أنه عندما غادر هذه القرية للالتحاق بالخدمة العسكرية كان في غاية السعادة لابتعاده عنها، واندهش لمرأى الدمع في عيون رفاقه من المجندِين الذين كان يعزُّ عليهم فراق ذويهم، وإذ اكتشف أن الوحدة التي تم ترحيله إليها لا تبعد عن قريته إلا مائتي ميل (فقط!) ابتأس لهذا الاكتشاف، وتمنى في قرارة نفسه لو ألقى به الحظ في أبعد مكان عن كاومي دونغبي … لكن الحنين يعاوده إليها وإلى عائلته وكل من عرفهم، بعد فترة قصيرة في الخدمة العسكرية.

في ١٩٧٩م انتقل للعمل في رئاسة أركان جيش التحرير، وعمل في قسم التوجيه السياسي والدعاية، وسرعان ما عرف طريقه إلى الكتابة في ١٩٨١م ونشر في مجلة «ليان تشي» Lian Chi الأدبية أول قصة قصيرة له بعنوان «قطرات مطر في ليلة ربيعية». وفي ١٩٨٤م يلتحق بالقسم الأدبي بكلية الفنون الجميلة التابعة للجيش، ثم ينشر في ١٩٨٥م روايته التي بين أيدينا «الصبي سارق الفجل»، بينما ينشر في السنة التالية لها رائعته «الذرة الرفيعة الحمراء» التي قدمها الدكتور حسانين فهمي إلى المكتبة العربية فور حصول الكاتب على جائزة نوبل للأدب في ٢٠١٢م، ليحرِز قصب السبق في تقديم أول ترجمة عربية على الإطلاق للروائي مو يان، ثم ينتقي من أعماله واحدة من أشهر كتاباته، وهي الرواية التي بين أيدينا الآن، وقد سار في ترتيب الترجمة على عكس الترتيب الزمني لتأليف النصوص الأصلية، كما اتَّسمت ترجمته باقتدار ووعي نابعين من تخصصه ومعرفته الوثيقة بالكاتب وأحوال إبداعه الأدبي، ليقترب بنا من عالمه الأصيل، الذي يكمن عند جذوره ومواضع إلهامه، ولا غرو فهو الروائي الذي عرف عنه انتماؤه لتيار «البحث عن الجذور».

في ١٩٨٥م ظهر تيار أدبي جديد كان غريبًا على أجواء الكتابة القصصية في الصين آنذاك، وقد عُرِف هذا التيار باسم «الفترة الجديدة»، شكل هذا التيار اتجاهًا إبداعيًّا ذا طبيعة مختلفة في الوعي الجمالي والإبداع الروائي، ابتعد كثيرًا عن الالتزام بالخط السياسي، وأهمل القالب القصصي المكثف، آخذًا بنصيب وافر من الرؤى الفلسفية الحديثة، وحظٍّ أوفر من التلوين الأسطوري الذي استفاد من تحليلات علمية في مقولات علم النفس والاجتماع، هيأت لاستقصاءات في وعي الناس وأعماقهم غير العقلانية وسبر غور مجتمعات قديمة لتضيف عناصر جديدة ‏— متناقضة — إلى منظومة الكتابة الروائية. وكانت حركة التاريخ قد أتاحت لساحة الأدب الصيني في تلك السنوات محتويات غنية، منحت أدب «الفترة الجديدة» جوانب متعددة من الوعي بظروف تحول المسار الأدبي من الطابع السياسي إلى الخصائص الاجتماعية، من القالب الوعظي الأحادي إلى الجمالي المتنوع … من النمط القاعدي إلى الخلق الإبداعي المستقل … كان الوعي الحداثي يلمح اتجاهات تطور الحياة الاجتماعية ويدفع إلى إحداث تطور موازٍ في الوعي الجمالي، فاتسعت الرؤى باتجاه آفاق إبداع أدبي جديد.

في منتصف الثمانينيات ظهر على الساحة الأدبية الصينية فريق من الأدباء الشبان استطاع أن يشكل جماعة أدبية طليعية، رغم أنها لم تكن جماعة متكاملة ذات كيان متجانس؛ فإنها بدت كحالة مركبة، ومن الناحية الشكلية فقد تفرَّع منها اتجاهان إبداعيان: اتجاه من الكتَّاب يُمثله كل من: «ليو سولا»، و«شيو شينغ»، و«مايوان»، و«مو يان»، حيث تميز مبدعو هذا الاتجاه بالتأثر الشديد بالمحتوى الفلسفي وجماليات الكتابة في الإبداع الغربي الحديث، في حين ظهر اتجاه آخر راح يركز على رؤية التاريخ الصيني واستقصاء طبيعته بوعي مستمد من الحداثة، أما في الشكل وأساليب السرد فقد كان أصحاب هذا الاتجاه أقرب كثيرًا إلى استلهام التراث الأدبي الصيني … ومثلًا، فقد كان «هان شاو كون» و«آ تشنغ» — في تيار البحث عن الجذور — يراجعان مواريثهما الصينية على ضوء حداثة غربية مبتعثين إمكانات بناء حداثة ثقافية صينية، ذات خصائص قومية، فمن ثم كان «تشانغ تشنجي» و«دنغ كان» بقصصهما ذات الرمز الشعري ينهلان من مَعِين النمط الرمزي في التعبير عن مضامين قومية، وكان «ليو جنيون» في قصصه ذات الطابع الواقعي الجديد يُمثل انفتاحًا على أنماط في الكتابة الإبداعية الغربية، ثم جاءت كتابات «ليو شينو» و«جانغ شين شين» في الرواية التسجيلية لتستلهم نمطًا آخر من الإبداع الغربي، وكانت كتابات «سون لي» و«جيانغ بيناو» في قصص السيرة الذاتية تستلهم الأسلوب الصيني التقليدي في هذا اللون من السرد القصصي.

كان تيار «البحث عن الجذور» متضمنًا عدة ألوان في الإبداع الروائي، باعتباره صيغة دمج بين الوعي الحداثي واستدعاءات الموروث الثقافي القومي، وبالتالي أمكن تصوره ككتلة متراكبة من اتجاهات شتى، حتى رأت بعض القراءات النقدية إمكان تقسيمه إلى اتجاهين رئيسيين متداخلين معًا، هما: «البحث عن الثقافة»، «استقصاء التراث القديم». كان المنحى البارز في تيار البحث عن الجذور يتمثل في محاولات الدمج بين التقليدي والحداثي، وصار استقصاء جدور الثقافة القومية أشبه ما يكون بعملية اكتشاف وتخلق للتيمات الشعبية التقليدية، مما حدا بالروائيين أثناء بحثهم عن قيمة أدبية في كتاباتهم، أن يصبوا اهتمامهم على ما لم تطمسه الأيديولوجيا من الثقافة التقليدية باعتبارها المستوى العميق المتضمن طاقات الحياة القومية، وهكذا انفتحت آفاق المبدعين على حدود عوالم خيالية أتاحت لهم البحث في جذورهم الموروثة … المهم أنه مع تنامي وتطور اتجاه البحث في أعماق الثقافة التقليدية انفتحت آفاق تأمل المواريث الثقافية أمام عوالم الكتابة القصصية في الأدب الصيني المعاصر.

ومثلًا، فمع تطور عملية البحث في المواريث النقدية اتضحت معالم نظريات تراثية (في الشعر خصوصًا) تقوم على فكرة «التصورات الخيالية» وقوامها الأساسي تمازج الصور، ودمج العيني بالباطني، والمادي بالروحي: فللصيف باطنه وللشتاء روحه وللخريف مزاجه المعلوم، تمامًا مثلما للإنسان حسٌّ وروحٌ ومشاعر، فمِن ثَم كانت رؤية النقد التراثي تدعو إلى أن تكون الطبيعة جزءًا من المشاعر الذاتية للمبدع، وصحيح أن تلك القاعدة كادت تقتصر على التناول الإبداعي في الشعر خاصة دون أن تتوزع على باقي الأجناس الأدبية والفنية، لكنها شكلت حجر الزاوية في جماليات الإبداع الصيني. كانت «الصورة الخيالية» إذَن هي الأساس في علم الجمال الصيني القديم، لكن النقد كان يركز عليها كثيرًا في معالجاته للشعر حتى توثَّقت صلتها به وباتت مقتصرة عليه وحده. وكان الشعر الصيني القديم يمزج — كما أشرت —‏ بين الصورة والوجدان ويربط ما بين الأحاسيس والأشياء. فمن هنا صارت الصورة الفنية الإبداعية أبعد ما تكون عن مجرد النقل الموضوعي للمشاهد العينية في الواقع. وما دامت الصورة الفنية هي التعبير المتفرد للأبنية الفنية الجمالية في التراث الصيني القديم بقدر ما هي انعكاس لتفرد الأشكال الفنية الإبداعية في الميراث النقدي والأدبي والجمالي الصيني القديم، فلا محيد عن أن تكون لها معياريتها، ولا بدَّ لهذه المعيارية أن تكون حاضرة أو جاهزة عند استطلاع أوجه الفرق بين طبائع وأحوال التشكيل الفني الجمالي بين القصة الصينية التراثية والقصة في الغرب الأوروبي … فمجرد الاطلاع على قصص الخوارق والمعجزات التي يرجع زمنها إلى عصر «الدويلات الستِّ» (٢٢٠–٥٨٩م) وروايات العجائبيات في عصر تانغ (٦١٨–٩٠٧م) وكثير من النواحي الفنية في روايات عصر تشينغ (١٦٤٤–١٩١١م)، لا سيما الأعمال الروائية الناضجة منها — يبرز اختلافًا كبيرًا بين تصورات الواقعية في الرواية الصينية والرواية في الغرب، فشتان ما بين قصص «لياو جاي» الصينية والأعمال القصصية لكلٍّ من «موباسان» و«تشيكوف»، وربما تعذَّر الوقوف على أوجه الاختلاف لو كان المعيار، مثلًا، هو الخصائص الفنية والطابع القومي، فليس سوى معيار «الصورة الفنية» وحده هو الذي يبرز الاختلاف في خصائص التشكيل الفني بين القصة الصينية التقليدية والقصة في الغرب الأوروبي.

ربما بدَت تلك الملحوظة السابقة استطرادًا مطولًا في تبيان أوجه الفرق في طابع التشكيل الجمالي بين مناطق ثقافية متباينة، لكنها لا تبعد كثيرًا عما انصبَّ عليه الاهتمام منذ سنوات، في البحث عن الفروق بين الثقافتين الصينية والغربية، انطلاقًا من أن هذه الأخيرة كانت تضع تقابليه بين الإنسان والطبيعة، وأن آدابها كانت تركز على الشكل المعطى طبيعيًّا وطرائق إعادة إنتاجه، في حين كانت الفلسفة الصينية تهتم بالدمج بين الإنسان والطبيعة، فمِن ثَم كانت شروطها الإبداعية تنطلق من تقديرات مغايرة … ولئن كانت القصة التقليدية في الغرب تنطلق ‏— في مسألة العلاقة بين معالجة الفن والواقع —‏ من تقديرها للشكل وطرائق إعادة التمثيل (قد يحتج قائل ما بأنها ليست مرايا عاكسة بشكلٍ آليٍّ لواقع الحياة، وإنما هي نتاج رؤًى تتلون بذائقة جمالية لدى مبدعيها) فإن المنظور الفني الجمالي التقليدي في التراث الصيني ينحو إلى إبراز الانسجام بين الإنسان والسماوي، ومن ثَم كان تقديره المغالَى فيه للحالة الذهنية والفكرة «الصورة الفنية» … الخيالية. الخيال، إذَن، هو أساس التشكيل الفني الجمالي في رؤى الإبداع الصيني على مر الزمان.

كان كتاب الرواية الصينية القديمة يبدعون أعمالهم وسط البيئة الثقافية التقليدية، ولم يكن ممكنًا لآلياتهم الذهنية ومذاقاتهم الجمالية أن تختلف جذريًّا عما لدى نظرائهم في الشعر والتصوير والمسرح، ولم يكن للرواية الصينية أن تنفصل عن نمط الصور الفنية الذي أبدعه الوعي الجمالي. وبالطبع، فنمط الصورة الفنية في الرواية يختلف كثيرًا عما هو معهود منها في فنون التصوير والشعر، وأيًّا ما كانت تتناوله تلك الروايات من مضامين فقد ظل قالبها الفني الجمالي موصولًا بطابعها الصيني الأصيل. ولم يكن القارئ الصيني في أي وقت «بالأمس، وحتى اليوم والغد» يشكك في قيمة تلك التناولات الفنية القائمة على معطيات نظرية جمالية تراثية، فهو يطالعها ويسمعها ويراها من حوله طوال الوقت، بل كانت طرائق الإبداع المستمدة من جذوره التقليدية تمنحه شيئًا من الرضا الفني.

عندما يأتي مو يان ليُبرز احتفاءه بمنابع استلهام طاقات الحياة القديمة ومحاولته سبر أغوار الطبائع الإنسانية غير العقلانية، لكشف مدى ما اعتور حياة الإنسان في العصر الحديث من تدهور وزيف؛ فإنه بذلك كان يضيف إلى خصائص القص في الموجة الروائية الجديدة في الصين ملمحًا ذا قيمة بجانب تجريبه لأساليب جديدة في السرد وأشكال الكتابة، هو نفسه كان يشير في أكثر من مناسبة إلى طريقته وأهدافه في الكتابة قائلًا: «أحاول دائمًا أن أدفع تصوراتي للحياة إلى مستوى عالم الأساطير؛ بحيث تنفتح حدود الحياة الإنسانية وأقدار الإنسان فيها على آفاق الأسطورة.»

استفادة مو يان من نماذج الواقعية السحرية التي طالعها في كتابات روائية من أمريكا اللاتينية قد تكون أحد العناصر التي شكَّلت رؤاه، لكنها ليست بالقطع عاملًا حاسمًا في بنية تصوراته الروائية، وكثير من رواياته يصعب تصنيفها تحت سمات الكتابة الواقعية، ورغم أن كثيرًا من النقاد يرون إمكان المقارنة بين تصوير الشخصيات عنده وتناولها في كتابات أدباء أمريكا اللاتينية، فهي تنبع أساسًا من جذر التراث الصيني القديم الموغل في فكرة «الصورة الفنية» (الخيالية)، وربما كان الأنسب عند تناول صور الشخصيات عند مو يان تطبيق مفاهيم علم الجمال الصيني القديم بطريقته الإجمالية الإدماجية، مع تكييفها لقواعد التحليل النقدي الحديثة، أملًا في تقييمها على نحو واعٍ ودقيق وصحيح، باعتبارها قيمة باقية يمكن تلمس آثارها في مفاصل الكتابات الروائية المعاصرة عند جيل الأدباء الصينيين في تيار البحث عن الجذور، لكن المشكلة تكمُن في أن قليلين جدًّا من النقاد يتخذون هذا المنحى في ساحات النقد المعاصر.

حتى قبل أن تقرر جائزة نوبل تقييمها لإبداع مو يان من زاوية المواءمة بين أنماط الكتابة التراثية الصينية والواقعية السحرية عند ماركيز، كانت الجهود الأساسية في الكتابات النقدية الصينية، في السنوات القليلة الماضية تركز على تناول جوانب الاتفاق والاختلاف بين الأدب الصيني والغربي، أملًا في عقد مواءمات بينية … فإذا كانت الواقعية ذات تحقق إبداعي غربي؛ فقد نشط البحث لتأصيل اكتشافها في التراث الصيني، وإذا كانت الرومانسية قد تألقت غربًا؛ فقد كان للشرق الصيني فضل السبق في اكتشافها … إلخ. والمشكلة أن التقدير هنا يتضمن من التعتيم أكثر مما يشمل من التقييم، وبالنظر إلى الأحوال السائدة، فقد جاء اجتهاد عدد من الباحثين والنقاد «عند هؤلاء وأولئك معًا!» بتصورات مفتعلة وتقديرات تلفيقية … وربما لم يبعد كثيرًا ذلك الزمان الذي اتكأت فيه معايير الإبداع على تفضيل أنماط واقعية في الكتابة باعتبارها آخر ما توصلت إليه واجهات الإبداع من طرز عصرية في التناولات الروائية.

في هذه الرواية التي بين أيدينا «الصبي سارق الفجل» تتجلى التراكيب الفنية التي امتثلت كثيرًا لخصائص الصورة الفنية في التراث الروائي الصيني القديم، بالطريقة التي تميزت بها كتابات مو يان الروائية في فترة ما من حياته؛ حيث راح يدمج في نصوصه صور شخصيات لا تمتُّ إلى كتابة الواقع بصلة، فها هي ذي الشخصية الرئيسية في الرواية … ذلك الولد الأسمر ابن العاشرة … الذي يبدو وكأنه صورة منقولة من قصص رسوم الأطفال … يتطلع إلى الشمس فيجد أشعتها قد تلوَّنت بالزرقة، وينصت ملء أذنيه فيسمع صوت ارتطام شعرة سقطت من رأسه على الأرض، ويمسك بيده الحديد وهو ملتهب، وينظر في الظلمة الحالكة فيتجلى لعينيه منظر الفجل الشفاف … حتى تخاله عفريتًا من الجن، ومع ذلك فالفتى ضحية ظروف معقدة أورثته إحباطًا وشقاء وعسرًا، لا مزيد عليه، إذ فقد أمه وهو غضُّ الإهاب، فيتخلى عنه أبوه ويتخذ لنفسه زوجة أخرى فيعاني القهر على يد امرأة الأب، ويلوذ بالوحدة منذ فجر صباه، ويعيش حياة يكتنفها الغموض فهو يتحمل آلامًا لا يطيقها إنسان ومع ذلك لا يتكلم مطلقًا ويبقى صامتًا طوال الوقت. ثم إنه يظل عاري الجسد وقت البرد، وإذ يلفُّ الصقيع كل شيء ويتدثر الحداد بالأردية الثقيلة نجد الصبي يتعامل مع الدنيا من حوله بلا مبالاة. في شيء أشبه ما يكون بالتمرد السلبي، فيمسك الحديد وهو ملتهب ويندهش لفعلته الحداد نفسه، ونشعر أن الولد يستمد من أفعاله تلك شعورًا بالانتصار والرضا، لكنه يشعر في قرارة نفسه بالنقص؛ إلا أن هذا الشعور ينقلب إلى فخر وزهو بلا حدود، مما يجعله قادرًا على مواجهة السخرية بكل برودٍ واستخفافٍ، ويمنحه الإباء — في وجه محاولات التعاطف معه، حتى في وجه فتاته التي تتخذ منه هذا الموقف … فحبه وكراهيته كلاهما متطرفان من أثر شراسته الدفينة. ويظل متجولًا طوال الوقت في الطرقات وهو حافي القدمين لا يستره سوى بنطال أبيض بخطوط خضراء، وعندما يقبض على مطارق الحديد وهي محماة تتوهج باللهب، يمد قبضته فيمسك بها حتى يئزَّ جلده وتنطبع آثار الحريق في يده دون أن يرتاع أو يشكو ألمًا، بل يملؤه شعور خفي بالبهجة لما أصاب يده من احتراق، ويخرج في الليل فيتراءى له الفجل شفافًا كالبلُّور وتظهر ذؤاباته كأنها ذيول ذهبية اللون، فيهيم على وجهه حتى يدخل حقل الفجل ويقتطف منه حزمة وراء أخرى ويرفعها جميعًا أمام عينيه متطلعًا إليها تحت نور الشمس، ويظل هكذا حتى يقتطع الفجل من الغيط كله … فهي إذَن حدوتة أطفال معهودة وإن تخللتها فصول تروي جوانب من واقع قرية صينية في ستينيات القرن الماضي، إبان الثورة الثقافية الصينية، «وواقعيتها تسجيلية لا يمارى في موضوعية تصويرها أي واحد ممن عاشوا تجربة الثورة في ذلك الوقت …» كذا تقول إحدى الدراسات النقدية المنشورة عن روايته «الصبي سارق الفجل». فالرواية تنحت مادتها من طين القرية الصينية وتقدم شخوصًا تتنفس هواء حياتها اليومية، من نائب المزرعة الجماعية … السيد ليو تا يانغ، إلى كل الموظفين الإداريين العاملين تحت إمرته الذين اعتادوا إيذاء الناس والتجبر عليهم، حتى نكاد ننسى أننا أمام أطراف علاقات إيهام بالواقع ضمن نسيج أحدوثة خيالية هي أقرب ما تكون إلى الحكايات الأسطورية، فلعلها واقعية وخيالية معًا في آن، مثل جسم شفاف ذي كيان مادي … مثل فجل شفاف تطالع من خلاله وقائع ما يدور وراءه. فالرواية تقدم لنا تجربة جمالية غريبة، وتوقع بنا في الحيرة حينًا ثم تفيض علينا شعورًا بالخلاص والكشف حينًا آخر. والأساس في فهم العمل الروائي هنا يكمن في الشخصية الرئيسية … الصبي سارق الفجل، الذي يبدو مجرد فتى عنيد تعرض في حياته لمصاعب شتى أضفت على أقداره مسحة من الألم مما أثار التعاطف مع مأساته، لكن اللون غير الواقعي في صورة الشخصية يحيله إلى الرمز المجرد. صحيح أن عددًا من الروايات الصينية التراثية جرى على هذا المنوال في تصوير الشخصية لكن التناول هنا محدد بدور رئيسي لفتى أسمر يمنحه الرمز قدرات حياتية بلا حدود، ويحيله على يد الكاتب إلى معالجة تأملية لأحوال الفلاحين الصينيين من جوانب مختلفة يتواشج فيها الحب بالإيمان والحيرة بالشك، فهي ليست كتابة غامضة بل هي لون في المعالجة الروائية يستهدف الاقتراب من فهم الحياة، متوسلًا بمقاربات غير مألوفة في القصِّ تمزج الواقعي بالخيالي لتخلق صورة روائية متفردة، وهي تقنية استعارها مو يان من فنون التصوير الصينية التقليدية. ولعله أراد أن يستعيد للقصة الصينية الحديثة شيئًا من تراث الحكي القديم.

الرواية تعكس فترة من الحياة إبان الثورة الثقافية الصينية (١٩٦٦–١٩٧٦م) ولم يكن مو يان يريد أن يركز في كتابته على هذه الفترة، لكنه تذكر الظروف الكئيبة التي مر بها في تلك الأيام، وتصور صعوبة الانطلاق في كتابتها من نقطة إحساسه السلبي بها، ولم تكن هناك خلفية سياسية مناسبة لشخوص روايته إلا في زمن الثورة الثقافية، فما العمل إذَن؟ لم يكن هناك حل إلا بالتعمية على الخلفية السياسية لصالح معالجة موضوعات تاريخية على نحو ضمني؛ بحيث تكفي الإشارة إلى أن الوقائع حدثت في تلك السنوات … فبرغم الفقر المنتشر في القرى أيامها وبرغم كل الظروف الصعبة كانت الحياة حلوة والبهجة عامرة، فليس ثمة حياة دون ابتهاج حقيقي بها.

في إحدى مقالاته المنشورة قال مو يان عن كتابته ﻟ «الصبي سارق الفجل»: «كنت وقت كتابة تلك الرواية قد تعلمت أشياء كثيرة ووعيت ما لا حصر له، فلم يكن هناك ما أخشاه، وحدث أني حكيت لبعض أصدقائي أني استيقظت ذات صباح وقد حلمت بحقل ممتلئ بالفجل كثيف الخضرة تحت نور الصبح، وفي الحقل شيخ طاعن في السن تقوَّس ظهره، وثَمة فتاة تقدمت إليه وهي تحمل صنارة صيد فاصطادت حزمة فجل ورفعتها ومضت في طريقها وهي ترفع وجهها صوب الشمس، وجبينها يتألق بالأنوار الساطعة؛ فشعرت بأن المنظر رائع وأنه جدير بأن يكون أحد مشاهد حكاية أو فيلم سينمائي، وقد تأثرت بغموض المنظر والألوان الساطعة، ثم إن الحكاية توالت تباعًا بشخوصها وفصولها من تلك البداية …»

وفي شهادته عن فكرة كتابة هذه الرواية، قال الكاتب الصيني «شيشاو» صديق مو يان: «لم تبدأ فكرة الكتابة من قضية بل من انطباع، فقد خرج إلى المطعم ذات صباح وهو يفكر في كتابتها وسمعته يقول لي: «أريد أن أكتب رواية عن الفجل» فسألته: «أي فجل؟» أجابني قائلًا: «الفجل الذهبي» ثم حكى لي ما رآه في نومه بخصوص هذه الرواية، ومنذ تلك الساعة بدأت خطة الكتابة لديه تتضح معالمها … لم تكن طريقته في كتابتها تجري على النمط المعتاد في استلهام فكرة للكتابة، فقد لاحظت أن انطباعًا ما تولَّد في ذهنه فلمس منه بداية خيط وجس في خاطره شيء ما، فاختمرت الفكرة تبعًا لطريقته في تلقي الأحاسيس … ولو سألتني إلام ترمز هذه الرواية لقلت لك: إن مو يان نفسه لن يمكنه أن يفسِّر لك رموزها الغامضة، ولربما أذكر الآن أن الكاتب الروسي «إيتماتوف» كان قد كتب رواية بعنوان «السفينة ذات الشراع الأبيض» (الترجمة هنا عن دراسة منشورة بالصينية!) وجعل شخصيتها الرئيسية أيضًا صبيًّا حديث السن يقيم مع امرأة أبيه في مسكن قريب من إحدى الغابات؛ حيث راجت الحكايات عن أن ثَمة غزالة تهيم في أنحائها، فكان يحلو للصبي يوميًّا أن يلوذ بخياله الحالم دومًا؛ حيث يلوح له أنه يتهادى لدى شاطئ نهر متتبعًا أثر غزالة برية، فإذا بها تسقط فريسة على يد جده، ولا يملك الصبي إلا أن يلقي بنفسه في النهر منتحرًا … والخيط الأساسي هنا هو الغزالة بينما موضوعها الأصلي يتمثل في رؤية العلاقة الإنسانية بين الطيبين والأشرار … وكذلك تحتشد رواية «الصبي سارق الفجل» بكثير من المواقف المتناقضة في ثنايا الغموض الذي يخيم على فصولها.‏»

ذاعت شهرة مو يان بعد روايته هذه، فلم يلبث أن نشر بعدها رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» وقد تألق شهرة وبرع إبداعًا، وكتابته هنا تنهل من ذاكرته الطفولية في قريته «كاومي دونغبي» ليكشف عن الأحوال القاسية التي عاشها أهالي بلدته إبان «الثورة الثقافية الصينية»، وفي جزء منها تنهل أيضًا من تراث الأجداد في تلك البقعة من الأرض، إذ يجعل من خلفية علاقاته بالجد والأعمام والعمات مسرحًا لتصوير ما يعانيه إنسان العصر الحديث من إحباط وشقاء.

هذا عن الكاتب وروايته «الصبي سارق الفجل» وبعض ما يتصل سريعًا بأحوال الأدب الصيني المعاصر، أما عن ترجمة الرواية إلى العربية، فمن حسن الحظ أن توفر على إنجازها الصديق والزميل الدكتور حسانين فهمي، مدرس الأدب والترجمة بكلية الألسن، فهذه هي ترجمته الثانية بعد أن قدم أول ترجمة عن الصينية لرائعة مو يان «الذرة الرفيعة الحمراء» فور حصول مو يان على جائزة نوبل مباشرة، وهو مترجم قدير ومتخصص، بالإضافة إلى أنه قريب الصلة من المؤلف ويعرف الكثير عن ظروف إنتاجه لرواياته ويملك التقدير الأوفى لقيمة إبداعه بحكم تخصصه الدقيق في الترجمة والأدب الصيني المعاصر، ولا شك أنه من حسن حظ المكتبة العربية أن يضاف إلى رصيدها الجيد من الترجمات الأدبية إنجاز مرموق وجهد معتبر، خصوصًا أن الروايتين اللتين قدَّمهما الدكتور حسانين إلى القارئ العربي تمثلان قيمة كبرى وعلامة فارقة في إبداع مو يان بل في الأدب الصيني المعاصر، ولا بدَّ أن معرفته الوثيقة بالمؤلف واطلاعه على مصادر بحث وافية في لغتها الأصلية، وتخصصه الأكاديمي في الأدب وتجربته التي امتدت سنوات في ترجمة أعمال مو يان قد أضافت قيمة كبرى على جهده في الترجمة، ويسوغ تفرده باقتدار على أن تكون نصوصه كاشفة ومستبصرة بما لا يتاح لكثيرين غيره، وبالتأكيد فإن جهوده في الترجمة والبحث تُمثل طريقًا من حرير وجسرًا من ذهب، يصل ما بين ثقافتين عريقتين.

محسن فرجاني
القاهرة في ٣ /٢٠١٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤