الصبي سارق الفجل

١

ذات صباح خريفي شديد الرطوبة، اكتست الأعشاب وقوالب الطوب بقطرات الندى البلورية، وامتلأت أشجار الخروب بالأوراق الصفراء الذابلة، وتتابعت دقات الجرس الصدئ المعلق بالشجرة نتيجة تعرضه لقطرات الندى. وظهر السيد رئيس العمال الذي جاء قاصدًا أسفل الشجرة ملتحفًا بسترته. ممسكًا بإحدى يديه قطعةً من خبز الذرة وبالثانية بَصلةً تم غسلها جيدًا. وما إن وصل إلى أسفل الجرس المعلق بالشجرة، حتى كان قد انتهى من تناول قطعة الخبز والبصلة، فقط كنت تَرى وجنتيه ممتلئتين حتى بدتا مثل بطن فأرٍ انتهى لفوره من التِهام ما استطاع من طعام وسط زراعات الخريف. وشدَّ الرجل حبل الجرس ليُحدِّث صوتًا مسموعًا خرج على إثره أهل البلدة عن بَكرة أبيهم وتجمَّعوا أسفل الجرس، ثم راحوا ينظرون إلى رئيس العمال وهم جامدون في أماكنهم كالدُّمى. وهنا انتهى رئيس العمال من مضغ الأطعمة التي تكوَّمت داخل فمه، ورفع طرف ثيابه ليمسح ما علِق بفمه من بقايا الطعام. وانشغل الحشد بمراقبة فم الرئيس الذي بدأ يُطلق سيلًا من اللعنات الموجَّهة لشاب طويل القامة ذي منكبين عريضين قائلًا: «يا اولاد الكلب! المفروض تختاروا النهارده اتنين بنَّاءين وبكره زيهم نجارين، وكمان مجموعة من العمال الشداد. وانت يا شاب انت، أحب اقول لك ان إدارة الكومونة قررت توسِعة الهويس إلى خلف القرية، وكل فرقة منكم عليها تختار بنَّاء وعامل يساعده، وانا شايف انك انت تقوم بالمهمة دي».

أما البناء، فكان شابًّا مهذبًا أنيقًا، ذا حاجبين أسودين وأسنان بيضاء لامعة، تبدو عليه الأناقة والوسامة. هزَّ الشاب رأسه قليلًا، ليتحرك شعر رأسه ويتطاير أعلى جبهته، وراح يسأل رئيس العمال في حذرٍ عن العامل الذي سيخرج معه لتنفيذ هذه المَهمة، بينما كانت عينَا رئيس العمال تدور في جميع الاتجاهات من شدة برودة الطقس، فأجابه قائلًا: «حسب المتَّبع في المكان هنا، المفروض إنكم تختاروا واحدة ست. لكن الستات كلهم هيخرجوا لجمع محصول القطن، وكمان لو طلَّعنا راجل هيأثَّر على عدد الأيدي العاملة اللي في الموقع». وأخيرًا استقرَّت نظراته عند سور الحائط، عند ذلك الصبي صاحب العشرة أعوام تقريبًا والذي كان واقفًا إلى جانب السور. وكان الصبي حافي القدمين، عاري المنكبين، يرتدي سروالًا فضفاضًا ذا أرضية بيضاء مزينة بشرائط خضراء، وكان السروال ملطَّخًا ببعض البقع المتسخة، منها ما كان في شكل سائل الأعشاب، ومنها ما كان يشبه الدم المتجمد الذي يسيل من الأنف. وكان السروال يصل حتى ركبتَي الصبي، وقد بدت قدماه ممتلئتين بعددٍ كبيرٍ من الندبات.

ونظر رئيس العمال إلى صدر الصبي النحيل وسأله: «أنت لسه فيك الروح يا أسود يا ملعون أنت؟» ثم قال: «وأنا كنت فاكرك رحت في شربة ميه، المهم عامل إيه دلوقتي؟»

فلاذ الصبي بالصمت التام. واكتفي بأن يحدق بعينيه السوداوين اللامعتين في رئيس العمال، والذي بدا له ذا رأس كبير ورقبة طويلة، وكأنه ينتظر أن يهوي في أي لحظة على الأرض من ثقَل رأسه.

– «تحب تشتغل وتكسب لك قرشين ينفعوك؟ ولكن عفريت صغير زيك يقدر يشتغل إيه يا ترى؟ دا الواحد يقدر ينفخ فيك تطير! أقول لك إيه رأيك تشتغل مع البنَّاء الشاب في توسِعة الهويس؟ ودلوقتي ارجع داركم وهات لك مطرقة تكسَّر بيها الحجارة عند الهويس، وطبعًا لو كنت عايز تثبت إنك راجل وتكسب فلوس أكتر، لازم تشتغل بضمير وتتعب شوية. وخليك عارف إن تاريخ تكسير الحجارة في الكومونة بيقول إن معظم اللي كانوا بيشتغلوا فيه عفاريت صغيرين من سنك كده».

فبدأ الصبي يقترب من البناء الشاب. حتى أمسك بطرف ثيابه. وهنا مسح الشاب على صلعة الصبي المسكين قائلًا: «روح أنت دلوقتي واطلب من مرات أبوك تديك مطرقة، وهاستناك عند أول الكوبري.»

فقفز الصبي إلى الأمام؛ إلا أنك كنت تنتبه إلى قفزِه دون أن تلمح سرعة حركته، بينما كانت ذراعاه يتحركان بقوة مثل خيال المآتة الذي هزته رياح قوية، فشيَّعته عيون الجمع المحتشدين والتي بدت مسلطة على ظهره العاري، وقد شعروا فجأة بالبرودة تسري في أجسادهم، فانشغل رئيس العمال بإحكام وضع السترة على جسده وهو يصيح تجاه الصبي: «وما تنساش تقول لها تديك جلابية تستر بيها نفسك شويه بدال ما أنت عامل زي الدودة كده.»

وأخيرًا وصل الصبي الأسمر إلى عتبة دارهم. وما إن وطِئت قدماه فناء الدار حتى انتبه إليه طفل صغير يسيل من أنفه مخاط لزج كان يتبول في فناء الدار، وما إن انتبه الصبي الأسمر إلى الصغير، حتى راح الطفل ينادي عليه رافعًا يديه لأعلى طالبًا منه: «شيلني يا …!» فمال الصبي الأسمر على الأرض والتقط ورقة من أوراق شجرة مشمش وراح يساعد أخاه من أبيه في مسح مخاطه، ثم ألقى بورقة الشجرة اللزجة إلى سور الفناء لتلتصق به وكأنها منشور مهم تم إلصاقه على السور. ثم ودَّع أخاه وفرَّ مسرعًا إلى غرفته حتى وقف أمام مطرقة حديدية في شكل قرن خروف كانت معلقة على سور الغرفة، فأخذ المطرقة وغادر الغرفة في هدوء. وهنا عاد الصبي الصغير ينادي عليه من جديد، فأخذ الصبي الأسمر بغصن شجرة ورسم حول الصغير دائرة كبيرة ثم ألقى بالغصن وجرى مسرعًا إلى خلف القرية التي يقيمون بها. وكان هناك خلف هذه القرية نهرٌ يعلوه جسر حجري به تِسع فتحات، وعلى ضفتَي النهر يوجد الكثير من أشجار الصفصاف ذات الجذور الحمراء المتشعبة بسبب فيضان المياه في فصل الصيف، وقد بدأت هذه الجذور تجفُّ مع انحسار الماء. أما أوراق أشجار الصفصاف فقد ذبلَت وبدأَت تتساقط وتجري في عرض النهر. هذا بينما كانت بضع بطات تسبح فوق مياه النهر وهي تغمس مناقيرها الحمراء وسط الأعشاب النيلية بحثًا عن الطعام، وقد راحت البطَّات تحرك مناقيرها ولا أعرف إن كانت قد عثرت على شيء تأكله أم لا.

وأخيرًا بلغ الصبي الأسمر حافة النهر وهو يلهث من شدة التعب. وقد كنت تسمع صوت صدره العاري وكأنه ديك يصيح بأعلى صوته معلنًا ميلاد يوم جديد.

– «أسرع شويه يا واد يا أسود!» سمع البنَّاءَ الشابَّ يناديه بصوت مرتفع، فاجتهد الصبي في الركض حتى وقف بين يدي البنَّاء. فنظر إليه الشاب وسأله: «هو أنت مش حاسس بالبردة؟» فظلَّ الصبي ينظر إلى الشاب، وقد كان الشاب يرتدي زِي العمل المُكوَّن من بنطال وسترة وقميصٍ أحمر اللون، وانشغل الصبي بالنظر إلى ياقة القميص اللامعة وكأنه يتأمل قطعة من اللهب، فسحب الشاب الصبي من رأسه قائلًا: «هو أنت بتبص لي كده ليه؟» وقد اهتزت رأس الصبي الأسمر هزة قوية مثل الطبلة. ثم قال الشاب: «يا عيني عليك مسكين مرات أبوك جننتك»، ثم أطلق الشاب صافرة ودقَّ على رأس الصبي الأسمر بأصابع يده دقة خفيفة، وصعِدا معًا الجسر الحجري ذا الفتحات التِّسع. وراح الصبي يسير بحذرٍ شديدٍ متعقِّبًا الأماكن التي يتقدم من خلالها الشاب. وكانت أصابع الشاب سمكية وصلبة مثل الشاكوش الصغير، مما جعل الصبي يتألم عندما تلامس صلعته؛ إلا أنه كان يتحامل على نفسه دون أن يُحدِث صوتًا، مكتفيًا بالعضِّ على شفتيه. وكان الشاب يمتلك فمًا حادًّا، وشفتين ورديتين تخرج من بينهما كلمات رقيقة.

ما إن عبرا الجسر وصولًا إلى الضفة الأخرى من النهر، وسارا مسافة ٢٥٠ مترًا في اتجاه الغرب حتى بلغا الهويس، وكان الهويس عبارة عن جسر عادي، وكل ما يميزه عن الجسر بعض الألواح التي وضعت في عرضه لصدِّ مياه الفيضان. وكانت ضفتا النهر عامرتين بالكثير من النباتات البرية. وهناك أيضًا شاطئ يصل عرضه إلى عشرات الأمتار ممتلئ بالكثير من النباتات البرية. وإلى خارج ضفة النهر تمتد الحقول ذات المساحات الشاسعة، التي تغمرها مياه الفيضان على مدار العام، والتي تكدست بها كميات كبيرة من التربة الرملية التي تجرفها مياه الفيضان، والتي عملت على تحسين التربة في تلك المنطقة حتى أصبحت من أخصب المناطق. لم يكن الفيضان هذا العام قويًّا، ولم يُمثِّل خطرًا على ضفة النهر، ومن ثم فلم تتم الاستعانة بالهويس، كما تمَّت زراعة المنطقة التي تغمرها المياه بكميات كبيرة من نبات الجوت الذي يعود أصله إلى دولة بنجلادش. وقد بدَت زراعات الجوت كثيفة جدًّا مثل الغابة الكثيفة. وقد تصادف آنذاك ظهور كمية من ضباب الصباح الخفيف على أوراق الجوت، حتي بدت من بعيدٍ مثل بحر من الضباب.

وعندما كان الشاب والصبي يسيران أعلى الهويس، التقيا مجموعتين من الناس محتشدِين عند المنطقة الرملية الواقعة أمام الهويس. وكانت المجموعتان عبارة عن مجموعة رجال ومجموعة نساء وكأنهما جبهتان متعارضتان. وكان أحد مسئولي الكومونة يقف بين المجموعتين ممسكًا بكراس منشغلًا بالحديث إلى الجمع المحتشدين، وكان المسئول يرفع ذراعه حينًا ويخفضها حينًا آخر. فسحب البنَّاء الشاب الصبي وراءه وسارا بمحاذاة الدرجات الطينية أعلى الهويس، حتى وصلا أخيرًا إلى أمام مسئول الكومونة. فقال البنَّاء الشاب: «وفد قريتنا وصل يا ريس!» وكان البنَّاء الشاب كثيرًا ما يخرج في مَهمات عمل تابعة للكومونة، كما كان نائب رئيس العمال ليو كثيرًا ما يتولى مَهمة الإشراف على العاملين التابعين للكومونة، ومن ثَم فقد كانت بينهما معرفة. وانتبه الصبي الأسمر إلى فم النائب ليو الواسع، وقد كانت تخرج من بين شفتيه الورديتين بعض الكلمات الموجَّهة للعامل الشاب: «هو أنت يا بنَّاء يا مكار! ملعون أبو بلدكم اللي بتعرف تختار المكارين المشاكسين من نوعيتك. وفين العامل إلى جه معاك؟» وهنا أحس الصبي بأصابع البنَّاء الشاب تدق فوق صلعته.

وأمسك النائب ليو برقبة الصبي وراح يهزه بقوة حتى كاد يسقط على الأرض وهو يقول: «وانتو حاسبين ده من ضمن البني آدمين؟» ثم وجه النائب كلامه إلى الصبي قائلًا: «وانت يا قرد انت تقدر تشتغل بالمطرقة ولا لأه؟»

فانتزع البناء الصبي من بين يدي النائب ليو وراح ينتقده بأسلوب شبه جاد قائلًا: «كفاياك بقى يا ريس ليو، كفاياك يا ليوتاي يانغ. خلي بالك الواد المسكين ده يعتبر من نتيجة الاشتراكية اللي بتساوي بين الناس. والواد الاسمر اللي قدامك ده من عيلة فلاحين فقرا. ولو ما اهتمتش بيه الاشتراكية تهتم بمين يا ترى؟ ده كمان أمه ماتت وعايش مع مرات ابوه، وابوه سابهم وراح قوانغدونغ من تلات سنين ولا حس ولا خبر، فين قلبك وتعاطفك مع الفلاحين الفقرا يا ريس ليو؟»

وأحس الصبي الأسمر ببعض الدوار، فعندما كان على مقربة من النائب ليو شم رائحة النبيذ التي كانت تفوح من فمه، فشعر ببعض الاشمئزاز، وتذكر أنه كان يشم الرائحة نفسها من فم زوجة أبيه. فمنذ أن سافر أبوه إلى قوانغدونغ١ اعتادت زوجة أبيه أن ترسله لشراء النبيذ مقابل شرائح البطاطا الجافة. وكانت زوجة أبيه تشرب حتى الثمالة، وما إن تصل إلى هذه الدرجة من الشراب حتى يكون مصيره الضرب والقرص والعض.

«يا قرد!» هكذا سبه النائب ليو ثم تركه وشأنه واستمر في توبيخ الآخرين.

حمل الصبي الأسمر مطرقته الحديدية وسار إلى الهويس مهمومًا. أما الهويس فقد كان يبلغ طوله مائة متر، وعرضه يزيد على عشرة أمتار، ويقع إلى شماله حوض مياه مربع في طول جسم الهويس، والذي كان لا تزال به بقايا مياه الأمطار. وحيث كان الأطفال ينظرون من أعلى السور الحجري أعلى الهويس إلى الأحجار الغارقة تحت المياه، وكانوا يراقبون بعض الأسماك الصغيرة التي كانت تتحرك بين الأحجار. وكان الهويس يربط بين ضفتي النهر العاليتين، والتي كانتا بمثابة الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة. ويوجد على جانبي الهويس سياج حجري يصل ارتفاعه إلى نصف متر. وخلال السنوات الماضية كان هناك عدد من سائقي الدراجات قد سقطوا أسفل الهويس إثر اصطدامهم بالعربات التي تجرها الخيل، ومنهم من كسِرَت قدمه، ومنهم من كسِر ظهره ومنهم من مات متأثرًا بسقوطه أسفل الهويس. وقد كان عمر الصبي آنذاك أصغر من الآن، وكان يبدو أكثر امتلاءً مما هو عليه الآن، ففي ذلك الحين لم يكن والده قد تركه إلى قوانغدونغ، ولم تكن زوجة أبيه قد عرفت طريق النبيذ، وكان قد جاء آنذاك إلى الهويس ليشاهد ما حدث أسفل الهويس؛ إلا أنه كان قد وصل متأخرًا، وكان الأهالي قد رفعوا المصابين من أسفل الهويس، فرأى فقط حوض المياه أسفل الهويس والذي كان به بعض المناطق التي امتلأت ببقع حمراء. وكان هو يتمتع بأنف حادٍّ، ساعده على أن يشم رائحة الدماء التي كانت تفوح من المياه …

أمسك الصبي بالسياج الحجري البارد. وخبطه بمطرقته الحديدية خبطة صدر عنها صوت مسموع. وما إن استمع إلى الصوت الصادر عن اصطدام المطرقة بالسياج، حتى تلاشت من أمام عينيه ذكريات الماضي، وسطعت الشمس على زراعات الجوت الممتدة خارج الهويس، ولاحظ هالات الضباب الخفيف التي كانت تتخلل زراعات الجوت. وكانت نباتات الجوت كثيفة جدًّا، وكان يوجد في الجزء الأسفل منها بعض الفتحات وفي الجزء العلوي الكثير من الأغصان المتشابكة، والتي بدت مبللة ولامعة. وواصل النظر ناحية الغرب ليرى حقل البطاطا يقع في الجهة الغربية لزراعات الجوت، وقد بدت أغصان البطاطا لامعة. وكان الصبي الأسمر يعرف أن هذا النوع من البطاطا من الأنواع الجديدة، والذي كان يتميز بعروشه القصيرة التي تكون محملة بأكبر عدد من الثمار ذات الحجم الكبير والمذاق الحلو، وكانت الثمار ذات لحاءٍ أبيض ولُب أحمر، وما إن يتم سلقها حتى تنفجر. وإلى شمال حقل البطاطا كان هناك حقل الخضراوات، والذي كان يزرعه الفريق المسئول عن العمل لإطعام أعضاء الكومونة. وكان الصبي الأسمر يعرف أن حقلَي الخضراوات والبطاطا كانا يتبعان القرية التي كانت تقع على مسافة كيلومترين ونصف الكيلومتر من قريته، والتي كانت تُعرَف بثرائها. وكان حقل الخضراوات يحتوي تقريبًا على محاصيل الخس والفجل. وكان الفجل يتميز بأوراقه الخضراء الكثيرة. وفي وسط الحقل كانت هناك حجرتان وحيدتان يقيم بداخلهما شيخ وحيد، وكانت مكونات الحقل معروفة لجميع أطفال القرية. وفي الجهة الشمالية والغربية من حقل الخضراوات كانت تمتد زراعات الجوت الشاسعة. وهكذا فإن زراعات الجوت كانت تحتل ثلاثة جهات وضفة النهر، وقد أدى ذلك إلى أن أصبح حقلَا الخضراوات والبطاطا عبارةً عن بئر كبيرة مربعة. وهنا مضى الصبي يفكر في تلك الأوراق البنفسجية والخضراء التي تحولت في لمح البصر إلى كمية من الماء وسط بئر كبيرة، وتحوَّلت معها نباتات الجوت إلى مياه، كما تحوَّلت بعض العصافير التي كانت تقف فوق أعواد الجوت إلى طيور الرفراف الخضراء والتي كانت تسبح على صفحة المياه بحثًا عن صغار الأنقليس.

هذا بينما كان النائب ليو يواصل توبيخه للعمال. وكان يبغي من وراء ذلك تنبيهَهم إلى أن الري هو شريان النشاط الزراعي، والماء إحدى الكلمات الثماني في دستور الكلمات الثماني٢ وأن الزراعة التي تفتقد إلى الماء كالصبي الذي يفتقد إلى أمه، وأنه إذا وجد أمًّا فإنها تكون بدون ثدي، وإذا وجد الثدي فإنه يكون خاليًا من اللبن، وبالتالي يموت الصبي جوعًا، وإذا لم يمُت فإنه سيكون مثل هذا القرد النحيف، (وهنا أشار النائب ليو بإصبعه إلى الصبي الأسمر أعلى الهويس؛ فأدار الصبي ظهره تجاه العمال، ليروا الندبتين الكبيرتين في ظهره واللتين كانتا تلمعان تحت أشعة الشمس). هذا بالإضافة إلى أن هذا الهويس ضيق جدًّا، وغير آمن، فهناك أموات يسقطون فوقه سنويًّا، وبالتالي فإن لجنة الصيانة بالكومونة تولي هذا الأمر اهتمامًا كبيرًا، حيث قررت بعد الدراسة والبحث الجاد العمل على توسعة هذا الهويس. ومن ثم أتت بما يزيد على مائتي عامل من مختلف الفرق التابعة للكومونة لإنجاز هذه المهمة. أما المهمة المستهدفة في المرحلة الأولى من التوسعة فهي كالتالي: أن تقوم جموع الفتيات والزوجات والمخطوبات بالإضافة إلى هذا القرد النحيف (وأشار مرة ثانية إلى الصبي الأسمر فوق الهويس والتي كانت أشعة الشمس تنعكس على الندبتين البارزتين في ظهره) بتكسير هذه الكمية من الأحجار التي تبلغ خمسمائة حجر إلى قطع صغيرة في حجم حبوب دواء بايتزه يانغشين٣ أو حجم صفار البيض. ويقوم البنَّاءون ببناء القطع حسب حجمها. أما هذان الرجلان فهما الحدَّادان التابعان للكومونة (وأشار إلى رجُلين ذوَي بشرة قمحية أحدهما طويل والآخر قصير، أحدهما كبير في السن والآخر شاب)، وسيوكل إليهما صيانة الأدوات التي تستخدم في عملية التوسعة بما فيها المطارق وغيرها من أدوات البناء. أما ما يتعلق بتناول الطعام، فإن العمال المقيمين بالقرب من هذه القرية عليهم العودة إلى منازلهم لتناول الطعام، وهؤلاء الذين يقيمون على مسافة بعيدة فسوف يتوجهون إلى القرية القريبة من الهويس، فهناك مكان تم إعداده لهذا الغرض. أما النوم، فإن العمال الذين يقيمون بالقرب من القرية فسينامون في منازلهم، وهؤلاء الذين يقيمون بعيدًا فسينامون في الفتحات الواقعة أسفل الجسر (وأشار إلى الفتحات الواقعة أسفل الهويس) حيث ستنام النساء في الاتجاه المقابل للرجال. وقد تم فرش هذه الفتحات بكمية من قش القمح حتى أصبحت مثل السُّرر المعدنية، والتي ستشعرون فوقها بالراحة أيها الملعونون.

– «وانت كمان يا ريس هتنام معانا في الفتحات دي؟»

– «أنا من المسئولين هنا وكمان معايا العجلة بتاعتي. وانا حر في اختيار المكان اللي انام فيه ما تتعبش نفسك انت. وبعدين هو المفروض إن اللي يعمله المعلم يقلده فيه صبيانه؟ روح شوف شغلك يا روح امك انت، وخليكم عارفين إننا مش هناكلكم في مليم واحد، وهندِّي لكل واحد فيكم نص كيلو رز وعشرين قرش، واللي مش عاجبه يورينا عرض كتافه دوقتي حالًا. والقرد ده كمان هنديله نصيبه من الرز والفلوس، وأنا متأكد إنه هيكسب عافيته بمجرد ما يخلص العمل في الهويس.»

ولم يستمع الصبي الأسمر إلى جملة واحدة من حديث النائب ليو. وقد كانت ذراعاه النحيفتان معلقتين بالسياج الحجري، بينما كانت يداه تقبضان على المطرقة الحديدية على شكل قرن الخروف. واستمع الصبي إلى صوت موسيقى مثل شقشقة العصافير وصوت حشرات الخريف التي بدت مثل أنغام الموسيقى قادمة من زراعات الجوت. كما استمع إلى صوت اصطدام الضباب بأوراق وأعواد الجوت. واستمع إلى أصوات حركة الجراد التي بدت مثل صوت القطار أثناء عبور الجسر الحديدي. وكان قد رأى في حلم ذات يوم قطارًا، عبارة عن شيء غريب أعور، يجري بسرعة شديدة أسرع من الخيل، فماذا إذا توقف القطار؟ فما إن توقف القطار في الحلم، حتى أيقظته مقشَّة زوجة أبيه؛ فقد جاءت إليه زوجة أبيه تريده أن يذهب إلى النهر ليساعدها في حمل الماء. حيث كانت المقشة قد سقطت على مؤخرته دون أن تؤلمه، فقط أحس بملامستها لمؤخرته. وبدا له صوت ضربة المقشة مثل صوت إنسان يرفع جوالًا من القطن على مسافة بعيدة جدًّا. وهكذا تحامل حتى تمكن من حمل دلوين ممتلئين بالماء، وما إن حمل الدلوين حتى سمع صوت طقطقة ظهره. وسار على ضفة النهر ممسكًا بمقابض الدلوين بكلتا يديه، وراح يتمايل يمينًا ويسارًا. وكان الطريق الترابي الضيق المؤدي إلى ضفة النهر يبدو ملتويًا وقد امتلأ بأشجار الصفصاف المتراصة على جانبيه. وبدت أغصان الصفصاف وكأنها مزودة بمغناطيس يجذب الدلوين اللذين كان يحملهما. وهكذا جذبت أغصان الصفصاف الدلوين فتناثر الماء في كل مكان، حتى أحس بأنه كان يسير على طريق ممهدٍ بقشر البطيخ. ولم يكد يعرف كيف سقط على الأرض، حتى غمره الماء. واصطدم وجهه بالأرض وبدا أنفه مثل سطح مستوٍ، وتسربت قطرتا دم إلى داخل فمه، استطاع أن يتقيأ إحداهما وبلع الأخرى. وطار الدلوان إلى النهر؛ فهب مسرعًا ليلحق بهما. وقد وقف أحدهما وسط كمية من الأعشاب المائية، بينما حملت مياه النهر الدلو الثاني إلى الأمام، فراح يسير بمحاذاة النهر ليلحق بدلوه، وقد علِقت بقدميه كمية من الأعشاب البرية التي كان يطلق عليها هو ومجموعة من أطفال القرية اسم «بيض الكلاب». وعلى الرغم من أنه كان يسير فوق الأعشاب البرية، فإنها لم تَحُل بينه وبين السقوط في النهر. وكانت مياه النهر دافئة معتدلة ولم تبلغ سرته. وتشبع سرواله بالماء فبدأ يطفو فوق سطح الماء وقد غطى السروال خصره وكأنه محاط بقطعٍ من الصخور البحرية. ومضى يسبح حتى أمسك بالدلو، ثم استدار وراح يسبح عائدًا عكس تيار المياه. وقد كان التيار قويًّا حتى راح يسبح في خط مُنحنٍ. وقد استجاب للتيار واستجمع قوته وثنى رقبته وواصل السباحة. ويبدو أن مجموعة من الأسماك تمكَّنت من إحاطته، وأحس بأن هناك عددًا من الأسماك تحاول تقبيله بين ساقيه؛ فتوقَّف قليلًا يستوضح الأمر؛ إلا أنه ما إن توقف حتى زال ذلك الإحساس. وفجأة هدأت صفحة الماء وكأن الأسماك تفرقت مفزوعة. وما إن واصل تقدمه، حتى عاوده إحساس بالسعادة وكأن الأسماك عاودت التجمع مرة ثانية، فقرر أن يستمر في السباحة دون أن يتوقف ثانية، فاستمر وعيناه شبه مغمضتين.

وفجأة سمع صوتًا يُناديه: «أيها الصبي الأسمر … أيها الصبي الأسمر!»

فأفاق فجأة وفتح عينيه ليكتشف أن الأسماك قد اختفت من جديد. وسقطت المطرقة الحديدية من يده. حتى استقرت في بركة المياه الخضراء أسفل الهويس محدثة فقاعة واضحة في شكل زهرة الأقحوان البيضاء.

فصعد النائب ليو إلى أعلى الهويس وهو يقول: «الواد القرد ده بالتأكيد مجنون». ثم أمسك بأذن الصبي الأسمر وراح يُحادثه بصوتٍ مرتفعٍ: «روح كسَّر الحجارة مع الستات اللي في الموقع يمكن ربنا يرزقك بواحدة تتبنَّاك».

ثم جاءه البناء الشاب وراح يمسح على صلعته وهو يقول: «روح هات المطرقة بتاعتك. وهيتحسب لك كل اللي هتقدر تكسره، وبعد ما تخلص روَّح على طول».

هذا بينما سمع صوت النائب ليو محذرًا: «واوعى تفكر تخدعني وإلا قطعت ودنك وخلطتها بالخمرة».

فمضى الصبي الأسمر يغمغم قليلًا. ثم جعل يتسلل من خلال فتحة داخل السياج، وهو يقبض بيديه على الحجر الأسفل في السياج وقد تعلق جسده أسفل السياج.

فنهره البنَّاء الشاب قائلًا: «إنت عايز تنتحر!» وراح يحاول تخليص يدي الصبي من السياج. وقد أخذ الصبي يثني جسده إلى أسفل حتى التصق بالجزء البارز من دعامة الجسر، وهكذا حتى استطاع أن يخلص نفسه من تلك الورطة. بعدها التصق الصبي بدعامة الجسر مثل نمر ورقي معلق على الحائط، حتى سقط في حوض المياه وعثر على مطرقته الحديدية ثم خرج من الحوض وتاه داخل فتحات الجسر.

وهنا أمسك النائب ليو بذقنه وهو يلعن الصبي قائلًا: «آه من القرد ابن الملعونة ده!»

فخرج الصبي من مخبئه وراح يسير خائفًا صوب جماعة النساء، بينما كانت السيدات ينشغلن بالضحك والسباب، وقد كن يتحدَّثن بكلام قبيح، مما جعل بعض الفتيات يشعرن بالحرج الشديد من سماع الكلام البذيء، حتى احمرت وجوههن. وما إن ظهر الصبي الأسمر أمامهن، حتى توقفن فجأة عن الحديث. وأصَبن بالذهول من رؤية الصبي وبدأن يهمسن بعضهن إلى بعض، وما إن تأكدن من أمر الصبي الذي لم يظهر منه أي ردِّ فعل يُثير قلقهنَّ، حتى عاد صوتهن بصورة تدريجية إلى ما كان عليه.

– «شايفين المسكين ده! إزاي أهله سابوه يطلع عريان كده في البرد الموت ده.»

– «ما فيش أم ممكن تسيب ضناها يطلع عريان كده.»

– «سمعت إن مرات أبوه من الستات إياهم.»

فاستدار الصبي وراح ينظر إلى مياه النهر، وأشاح بوجهه عن أولئك النسوة. وقد بدت له مياه النهر بقعة حمراء وأخرى خضراء، وكانت أوراق الصفصاف تطير فوق الضفة الجنوبية للنهر مثل الفراشات.

ووقفت خلف الصبي الأسمر فتاة متشحة بشال أحمر أرجواني وراحت تسأله بصوت منخفض: «بلدك إيه يا حبيبي؟»

فأومأ الصبي برأسه وألقى نظرة سريعة على الفتاة، وقد لاحظ أن هناك شعيرات ذهبية دقيقة عند فمها، وأنها تمتلك عينين كبيرتين؛ إلا أن تلك العينين بدتا أقرب إلى النعاس بسبب الحواجب الكثيفة التي تحيط بهما.

– «إسمك إيه يا حبيبي؟»

هذا بينما كان الصبي الأسمر في معركة حامية مع عدد من الورود البرية، فكان يدوس على الورد ببطن قدمه حتى تساقطت كمية من أوراقه، ثم راح يفركها بقدمه. وبدت قدمه قوية مثل حوافر البغال، وقد دهست تحتها عددًا من أعواد الورد البري.

فقالت الفتاة والابتسامة تعلو وجهها: «شاطر يا واد يا أسمر أنت، رجليك قوية زي ما تكون ليها حوافر من الحديد. ولكن ليه أنت ساكت كده على طول؟» وراحت الفتاة تربت على كتفه وهي تقول: «إنت سامعني يا حبيبي، أنا باسألك!»

وأحس الصبي أن أصابع يديها الدافئة بدأت تنزل من على كتفه وتستقر عند الجرح الذي في ظهره.

– «ياه! دا أنت مجروح؟»

وهنا تحركت أذنا الصبي. وانتبهت الفتاة إلى أن أذنيه تبدوان كبيرتين بشكل مبالغ فيه.

– «دا ودانك بتتحرك زي ودان الأرانب».

وأحس الصبي أن يد الفتاة تحركت إلى أذنه. وأحس أن إصبعين من أصابعها بدأتا تقرصان شحمة أذنه.

وأمسكت الفتاة بأذن الصبي برفق وجذبته إليها حتى اقترب من صدرها وقالت: «قل لي يا حبيبي اتجرحت كده إزاي؟». ولكن الصبي لم يرفع عينيه لينظر إليها، وراح ينظر في خط مستقيم ليرى عددًا من المربعات الحمراء وضفيرتها التي تتدلى على سترتها المربعة. وسألته: «يا ترى عضك كلب؟ ولا ده دمل؟ ولا اتجرحت وأنت بتطلع الشجرة؟ اتكلم يا حبيبي.»

وهنا تأثَّر الصبي الأسمر بكلام الفتاة حتى رفع وجهه وراح ينظر إلى ذقنها المستدير، ثم أخذ نفسًا عميقًا.

وسألت سيدة ذات وجه مربع وممتلئ الفتاة: «هو انتي يا جيوتزه بتدوري على عيل تتبنيه؟»

فتحركت عينا الصبي، وابيضت حتى بدتا مثل قطعة حلي بيضاء.

وقالت الفتاة موجِّهة كلامها للطفل: «أنا اسمي جيوتزه، من قرية تشيان دون اللي بتبعد عن هنا حوالي خمسة كيلومترات، ولو عايز تتكلم معاي ممكن تناديني بأختي جيوتزه!»

– «يا ترى عجبك الواد ده يا جيوتزه؟ هو أنت بتحبي العرسان الصغيرين؟ … ولكن ده باين عليه صغير قوي ما يقدرش يقوم معاكي بواجب العريس.»

فهبَّت الفتاة تسبُّ أولئك السيدات: «قَطعة تقطع لسانكم!» ثم سحبت الصبي إلى أمام كومة من الأحجار الصغيرة بدت وكأنها تلٌّ صغير، واختارت له حجرًا ذا سطح مستو وقالت: «اقعد هنا يا حبيبي، وشد حيلك في تكسير الحجارة على قد ما تقدر.» كما اختارت لنفسها حجرًا ذا سطح أملس كمقعد تستريح فوقه وجلست بالقرب من الصبي الأسمر. ولم يكد يمر وقت طويل حتى علت أصوات تكسير الأحجار في هذه المنطقة من الهويس. وانشغلت النساء بمناقشة متاعب الحياة وآلامها من خلال ذلك الصبي المسكين، غير أنهنَّ رُحن يخلطن الكثير من الأمور والحقائق، مما جعل جيوتزه لا تعيرهن أدنى اهتمام، واكتفت بمراقبة الصبي المسكين بحرص شديد. وكان الصبي في بداية الأمر ينظر إلى الفتاة نظرات خاطفة، ثم تحولت إلى نظرات متفحصة حتى راحت الفتاة تنظر إليه بقلق واضح؛ حيث كانت يده اليسرى تمسك بقطعة حجر في حين ترفع اليد اليمنى المطرقة عالية، وقد كانت يده اليمنى تبدو في كل مرة منهكة القوى فاقدة السيطرة على المطرقة، حتى كانت الفتاة تكاد تصرخ لتحذره في كل مرة يضرب فيها الحجر؛ إلا أنها لم تفعل، وكانت يده تحدث حركات متعرجة في الهواء حتى تستقر أخيرًا على جسم الحجر.

وكانت عينا الصبي تنظران باهتمام شديد إلى تلك الأحجار، وفجأة استمع إلى صوت غريب قادم من وسط النهر. وكان صوتًا منخفضًا مثل صوت مجموعة من الأسماك، وكان الصوت تارة يبتعد وتارة يقترب منه. فراح الصبي يجتهد بأذنه وعينيه في ملاحقة الصوت. حتى وقعت عيناه على جسم لامع يطفو فوق سطح الماء. وقد اكتشف أن هذا الجسم هو مصدر ذلك الصوت، وتأكد من أن ذلك الصوت لن يُفلت منه طالما حافظَ على مراقبة ذلك الجسم اللامع ثم احمر وجهه بصورة تدريجية، وكشفت أسنانه عن ابتسامة خفيفة. فكان قد نسي منذ وقت طويل مكانه الذي يجلس فيه الآن وماذا كان يفعل، وأحس بأن ذراعيه اللتين كانتا تنشغلان بحمل المطرقة إنما كانتا لإنسان غيره. وفجأة أحس بتنميلة في أصابع يده اليسرى، وأنه فقد السيطرة على حركة ذراعه اليسرى، ثم سمع صوتًا خارجًا من فمه أقرب ما يكون إلى صرخة أو تنهيدة. وما إن طأطأ رأسه ليرى حقيقة الأمر، حتى اكتشف تمزق أظافر أصابع يده إلى قطع صغيرة كانت تنزف بشدة. فانتفضت الفتاة ووقفت أمام الصبي وراحت تسأله: «هو أنت ضربت إيدك؟ وريني كده الجرح؟ يا ترى فيه في الدنيا دي كلها عيل صغير زيك بيشتغل شغلانة صعبة زي دي؟ جسمك وسطينا وقلبك ما حدش يعرف متعلق فين.»

وجعلت الفتاة تلوم الصبي على عدم انتباهه، بينما راح الصبي يكبس الجرح بالتراب؛ فجذبته الفتاة إلى حافة النهر واستمرت في توبيخه قائلة: «أنت اتجننت يا واد أنت! أنت مش عارف إن التراب مليان بالقاذورات!» بينما كان الصبي يسير آنذاك على ضفة النهر التي بدت لامعة، ثم جلس على حافة الماء، وأمسكت الفتاة بيده المصابة وراحت تغمسها في الماء. عندها بدأت كتل التراب تتساقط أمام يد الصبي، أعقبها سيل من الدماء الذي كان يتدفق في الماء مثل الأشعة الحمراء، حتى بدت أظافر الصبي مثل قطع اليشم المتكسرة.

– «حاسس بألم؟»

لم ينبس الصبي ببنت شفة، بينما راحت عيناه تراقبان مجموعة من صغار الأسماك في قاع النهر، وقد كانت تلمع وتتحرك في قاع النهر بصورة جميلة.

وأخرجت الفتاة منديلًا مطرزًا بالأزهار ولفَّت به يد الصبي المجروحة. ثم قادته إلى جانب كومة الأحجار وقالت: «اقعد هنا وما ليكش دخل بأي حاجة يا عفريت أنت.»

وتوقفت النسوة عن الضرب بمطارقهن، وتركزت أنظارهن على موضع الصبي والفتاة، وفجأة ساد السكون المنطقة المحيطة بكومة الأحجار، وأرسلت السماء بالغيوم التي ألقت على المكان بالظلمة المخيفة، والتي لفَّت بين الحين والآخر ضفة ومياه النهر. وبدت على وجوه النسوة ملامح توحي بالوحشة وكأنهن أصبحن مثل الأرض البور. وقد أفقن من هذا الكابوس بعد فترة طويلة، ليعاودن الأخذ بالمطارق وينشغلن بتكسير الأحجار، حتى حطم صوت المطارق السكون الذي كان يلفُّ المكان، وسرت بينهنَّ حالة من الشعور باللامبالاة.

جلس الصبي الأسمر صامتًا، وقد اكتفي بالنظر إلى تلك الأزهار التي تزين المنديل الذي يلفُّ جرحه، حتى انتبه إلى زهرة جديدة إلى جانب أزهار المنديل الحمراء، إنها بقعة من دم أظافره الممزقة. وقد استطاعت النسوة أن ينسين أمره بسرعة، وعُدنَ إلى مزاحهنَّ. قرَّب الصبي يده المجروحة إلى فمه، وانشغل بفك عقدة المنديل بأسنانه. ثم أخذ بحفنة من التراب وغطى بها الجرح. قبل أن تقوم الفتاة بلومه على فعلته، إذا بها تراه يُعاود لف الجرح معتمدًا على يده اليمنى وأسنانه. عندها تنهدت تنهيدة عميقة، ورفعت مطرقتها وراحت تهوي بها بشدة على قطعة حجر وردية اللون، وقد كان الحجر صلبًا للغاية، وذا حوافَّ حادة، وقد نتج عن اصطدام حواف الحجر بسن المطرقة شرر كثيف ظهر جليًّا في وضح النهار.

وعند الظهيرة جاء النائب ليو قادمًا من مسقط رأس الصبي، والبنَّاء الشاب، راكبًا دراجة سوداء. وما إن وصل إلى موقع العمل حتى أطلق صافرة انتهاء العمل. ثم أعلن أن المطعم قد بدأ في تقديم طعام الغداء لعمال الموقع، وأن العمال القادمين من قرى تبعد ما يزيد على كيلومترين ونصف الكيلومتر هم فقط من لهم الحق الاستفادة من وجبات مطعم موقع العمل. وهنا سارع العمال بجمع أدواتهم، ووقفت الفتاة، ثم وقف الصبي.

– «هو بيتكم بيبعد قد إيه من هنا؟»

فلم يُعرها الصبي أدنى اهتمام، وقد كان رأسه يدور هنا وهناك وكأنه يبحث عن شيء ما. وراحت الفتاة تقلد الحركات نفسها التي يقوم بها، وما إن توقف الصبي عن الدوران حتى توقَّفت الفتاة، ثم أمعنت النظر إلى الأمام لتستقر عيناها على عيني البنَّاء الشاب الممتلئتين بالحيوية والنشاط فالتقيا برهة. وقال الشاب: «يلا بينا يا بني نروح نتغدى في البيت. ما فيش فايدة من نظراتك دي. مالناش نصيب ناكل في مطعم الموقع هنا، إحنا ساكنين على مسافة أقل من واحد كيلومتر.» فسألت الفتاة البناء: «هو أنتو من بلد واحد؟» فتلعثم الشاب بعض الشيء وراح يشير بيده إلى القرية، وذكر أنه ينتمي والصبي الأسمر إلى تلك القرية التي يشير إليها، وأنها تقع خلف الجسر مباشرة. ثم دخلت الفتاة مع الشاب في حديث عادي غلب عليه الطابع الودي، وعرف الشاب أنها من قرية تشياندون وأن لها الحق في تناول الطعام في المطعم والمبيت في فتحات الجسر المخصصة لإقامة العمال. وأخبرته الفتاة برغبتها في تناول الطعام في المطعم وعدم رغبتها في المبيت في فتحات الجسر؛ حيث إن الفتحات ستكون باردة جدًّا بسبب رياح الخريف الباردة. واستغلت الفتاة الفرصة لتسأل الشاب عما إذا كان الصبي الأسمر أخرس أم أنه يتعمَّد عدم الكلام. وأجابها الشاب بالنفي القاطع، وذكر لها أن الصبي الأسمر يتمتع بذكاء حاد، وأنه عندما كان في حوالي الرابعة أو الخامسة من عمره كان لا يتوقف عن الكلام بصوت مرتفع؛ إلا أن كلامه بدأ يقل بعدها بصورة تدريجية، حتى أصبح هكذا يبدو دائمًا صامتًا مثل التمثال، ولا أحد يعرف ماذا يشغله. فإذا نظرت إلى عينيه السوداوين الغائرتين، فلن يمكنك تخمين ما تخفيه هاتان العينان. وقالت الفتاة إن الصبي يبدو عليه هذا الذكاء، كما أنها لا تعرف لماذا تنجذب إليه وتحبه كل هذا الحب كما لو كان أخاها الصغير. وأجابها الشاب بأن مشاعرها تجاه الصبي إنما تُعبِّر عن طيبتها وعن قلبها الكبير.

وتخلَّف البنَّاء والفتاة والصبي عن غير قصد، حتى وجدوا أنفسهم يسيرون في مؤخرة العمال، فاستغل الشاب هذه الفرصة وتجاذب بعض الأحاديث الودية مع الفتاة، وودَّ لو أنهما يتقدمان خطوة ويتراجعان اثنتين. بينما كان الصبي يسير خلفهما ببطء وحذر شديد، وبدت نظراته وحركاته مثل قطِّ حراسة. وعندئذٍ لحِق بهم نائب الرئيس ليوتاي يانغ الذي تأخر بعض الوقت، وقد أجبره ضيق مساحة الجسر على أن ينزل عن دراجته حتى يستطيع عبور الجسر بسلام.

– «هو انتو بتتسكعوا هنا ليه؟ وانت يا قرد انت عملت إيه في شغلك النهارده؟ وايه اللي جرح حوافرك دي؟»

– «المطرقة جرحت إيده.»

– «يا ابن الملعونة. وانت يا بنَّاء لازم تراجع المشرف على فرقتكم النهارده وتطلب منه تغيير القرد ده، أنا مش مسئول عنه لو حصلت له أي مصيبة!»

فقالت الفتاة بصوتٍ مرتفعٍ: «دي إصابة عمل. ويا ترى قلبك هيطاوعك تسيبه وإيده مجروحة كده؟»

وقال الشاب: «يا ريس ليو، إحنا بنعرف بعض من زمن طويل، ويا ترى أنت شايف إن المسكين ده عالة على المشروع الكبير ده؟ وهيعمل إيه لو رجعناه لإدارة الفرقة بعد ما خلاص بقى إيد واحده؟»

فقال النائب ليوتاي يانغ وقد بدا عليه التردد والحيرة: «آه منك قرد ابن ملعونة. سيبني أشوف لك شغلانة تانية. إيه رأيك تشتغل عند الحداد تساعده في نفخ الكير، يا ترى هتقدر على الشغلانة دي ولا كالعادة؟»

فراح الصبي ينظر إلى البنَّاء الشاب والفتاة نظرات توسل ورجاء.

فقال البناء: «أيوه يقدر، ولا إيه رأيك يا بني أنت؟»

وهزَّت الفتاة رأسها تجاهه لتشجيعه على قبول هذا العرض الجيد من وجهة نظرها.

٢

وفي اليوم الخامس من عمله عند الحدَّاد، تحوَّل جسد الصبي العاري إلى ما يشبه قطعة فحم عالية الجودة تلمع من شدة سوادها، فقط كنتَ ترى عينيه وأسنانه البيضاء تلمع وسط هذا السواد الكثيف، فأصبحت عيناه أكثر رعبًا، فما إن كان يغلق فمه ويخفي أسنانه البيضاء، حتي كان الناظر إليه يشعر بالرعب والفزع من منظر عينيه المخيف. وكان الفحم قد غطى جميع أجزاء جسده، فكان يتساقط من فتحتي أنفه سائل ممزوج بالفحم، كما غطى الفحم شعر رأسه الطويل. وبدأ جميع العمال في الموقع ينادونه بالصبي الأسمر، ولكنه لم يكن يعيرهم أدنى اهتمام ولا مجرد نظرة واحدة. فقط كان يرد على الفتاة جيوتزه والبنَّاء الشاب عندما يتحدثان معه بنظرات من عينيه، وفي منتصف يوم أمس، وعندما ذهب جميع عمال الموقع لتناول الطعام، تعرضت ورشة الحدَّاد لسرقة مطرقة صغيرة ودلو مياه جديد كان يُستخدم في تبريد قطع الحديد، فقام النائب ليو بسبِّ جميع من في الحقل سبًّا موجعًا.

وأسند النائب إلى الصبي الأسمر مهمة جديدة؛ حيث جعله يمكث في موقع العمل خلال أوقات الطعام لحراسة أدوات الحداد، على أن يعود إليه الأسطى الحدَّاد بوجبة من مطعم الموقع. كما قال النائب إنه هكذا يكون قد ساعده في توفير وجبة طعام يوميًّا.

وعندما غادر جميع العمال في الظهيرة، خيَّم السكون على الموقع بعد ساعات عمل صاخبة، وخرج الصبي من إحدى فتحات الجسر، وراح يسير ببطء أمام الهويس. وقد جعل ذراعيه إلى الخلف ووضع كلتا يديه على مؤخرته. وقطب حاجبيه حتى ظهرت على جبهته بعض التجاعيد. راح يحصي فتحات الجسر بينما يخرج من فمه فقاعات صغيرة، وأخيرًا وقف أمام الفتحة السابعة، ثم وضع قدميه على أحجار تلك الفتحة، وراح يتسلق السور بحذرٍ شديدٍ، وما إن بلغ منتصف السور، حتى انزلقت قدماه ليسقط على الأرض فجرحت سرته وسال منها الدم؛ فمال على الأرض وأخذ حفنة من التراب وجعل يكبس الجرح بالتراب، ثم تراجع بضع خطوات ورفع يده ليزيل رباط عينيه، وما إن نظر إلى الشقِّ الذي يربط بين دعامة وجسم الجسر حتى شعر ببعض الاطمئنان.

ووصل بسرعة إلى المكان الذي تقوم فيه النسوة بتكسير الأحجار، ليكتشف اختفاء الحجر الذي كان يجلس عليه طوال النهار، ولكنه نجح في العثور على الحجر الذي كانت تستريح عليه الفتاة جيوتزه، فكان يعرف جيدًا شكل مطرقتها السداسية الشكل؛ فجلس على مقعد الفتاة وراح يتزحزح ويغير من شكل جلسته، وذلك حتى عدل من جلسته ليكون شقُّ الدعامة السابعة أمام عينيه، وعندها استقر في مكانه وعيناه مثبتتان على ذلك الشق.

في صباح ذلك اليوم، كان قد وصل مبكرًا إلى أسفل الهويس، وجلس بداخل الفتحة الأولى من ناحية الغرب، بينما كانت عيناه تراقبان جيدًا ورشة الحدادة، الكماشة، المطارق الكبيرة، المطارق الصغيرة، البراميل المعدنية الصغيرة، معاول الفحم. وقطع الفحم حتى حثالة الفحم. وعندما اقترب موعد بدء العمل في الموقع، أخذ معول الفحم بيده اليمنى وفتح فرن النار، وحاول شدَّ الكير بيده اليسرى، لتتناثر كمية من دخان وتراب الفحم التي تطاير بعضها إلى عينيه، فراح يفرك عينيه بقوة حتى ظهرت آثار دماء داكنة عند تجويف عينيه. وكان المنفاخ قد تمَّت كسوته بطبقة جديدة من ريش الدجاج؛ فكان ثقيلًا جدًّا، مما جعله يجد صعوبة كبيرة في شدِّه بيدٍ واحدةٍ، فاصطدمت أصابع يده اليمنى بالكير. وعندما نظر إلى أصابعه انتبه إلى المنديل الذي يلفُّ به يده المجروحة، واكتشف أن المنديل لم يَعُد أبيض كما كان، في حين أنه لا تزال الأزهار التي تزينه تحتفظ بلونها الأحمر الزاهي. هنا خطرت له فكرة جديدة خرج على إثرها من داخل الفتحة، وجعل يتفحص المكان من حوله. ما إن وصل إلى أمام دعامة الجسر السابعة حتى فك المنديل وأمسك به بفمه، ثم صعد سور الجسر ودسَّ المنديل بين شقوق الجسر … هكذا حتى انطفأت نار الفرن. وتساقطت من جبهته بضع قطرات من العرق. في ذلك الحين سمع صوت خطوات خارج فتحة الجسر، فراح يتراجع إلى الخلف حتى التصق ظهره بجدار الجسر البارد. عندها رأى الصبي الأسمر شابًّا ذا قدمين قصيرتين يدخل إلى فتحة الجسر مُحنيًا ظهره، وبالطبع فإن دخوله بهذه الطريقة يؤكد طول قامته مقارنة بفتحة الجسر القصيرة. فارتسم على وجه الصبي طيف ابتسامة. وما إن انتبه الشاب صاحب القدمين القصيرتين إلى الفرن الذي خمدت ناره، وإلى المنفاخ وإلى الصبي الملتصق بالجدار، حتى راح يسبه قائلًا: «إيه اللي جابك هنا يا كلب أنت؟ النار أهي اطفت والكير كمان اطفى، آه من غبائك يا كلب يا حقير.» عندها سمع الصبي صوت هواء شديد يمرُّ من فوق رأسه، وأحس بيد غليظة تنزل على رأسه بضربة قوية، ثم سمع بعدها صوتًا مدويًا مثل صوت الضفادع عند الهجوم عليها لقتلها.

وواصل الشاب ذو القدمين القصيرتين سبَّ الصبي قائلًا: «غور من وشي، غور ارجع كسَّر حجارة!»

هنا عرف الصبي الأسمر أن هذا الشخص هو الحدَّاد الشاب، وقد كان وجهه ممتلئًا بعددٍ كبيرٍ من حبوب الشباب، وأنفه مفلطحًا مثل أنف الثور. ووجهه يتصبب عرقًا، ثم رآه الصبي وهو ينظف الفرن بمهارة واضحة. ثم راح الشاب يملأ يديه بحفنة من قشِّ القمح المكوَّم إلى جانب الجسر ويلقي بها إلى داخل الفرن، ثم أشعل النار بالقشِّ وشد المنفاخ قليلًا، فظهرت طبقة خفيفة من الدخان الأبيض التي ما لبثت أن تحولت إلى لهبٍ شديدٍ، ثم أخذ الشاب ببعض الفحم وألقى به وسط القش المشتعل واستمر في شد المنفاخ، ثم ألقى بكمية جديدة من الفحم، أعقبها بكمية ثالثة؛ فاشتعل الدخان بشكل كثيف وامتلأ المكان برائحة الفحم المحروق، وأمسك الشاب بالمعول وراح يقلِّب الفحم المشتعل ليعلو اللهب الأحمر.

فشهق الصبي شهقة مسموعة.

– «هو أنت لسه قاعد هنا يا كلب!»

وهنا دخل إلى فتحة الجسر بخطًى متثاقلة شيخٌ طويل القامة نحيف، وسأل الحداد الشاب: «هي النار دي مش كانت اطفت؟ إيه اللي ولعها تاني؟» وبدا صوته مكتومًا وكأنه أجتهد في إخراجه من أعماق صدره. فرفع الحدَّاد الشاب معول الفحم وأشار إلى الصبي قائلًا: «طفاها الكلب ده». فقال الشيخ: «خليه يساعدك في نفخ الكير». وكان الشيخ يلفُّ حول خصره قطعة من المشمع الأصفر في درجة صفار البيض، ويلف قدميه بقطعتين مثلهما. وقد بدت قطع المشمع ممتلئة بآثار شرار اللهب. هنا عرف الصبي أن هذا الشيخ هو الأسطى الحداد الكبير.

قال الشيخ موجهًا كلامه لتلميذه الشاب: «خليه يساعدك في نفخ الكير، وانت كده هترتاح شوية وكفاية عليك الطرق بالمطرقة!» فرد الحداد الشاب بلهجة تعبر عن عدم رضاه بنصيحة معلمه: «هو انت عايزني أرمي مسئولية النفخ على العيل الحقير ده؟ انت مش شايفه عامل زي القرد ازاي، دا أنا خايف عليه إنه لو وقف جنب النار شوية طويلة هيبقى زي العصاية الناشفة!» فاقتحم النائب ليو الحوار وقال وهو يفتح جفنيه: «جرى لك إيه يا حدَّاد انت، مش انت اللي طلع لسانك على صبي صغير يساعدك في النفخ؟»

– «حتى ولو كنت محتاج صبي يساعدني، فأنا مش عايز القرد ده! بص يا ريس على عوده اللي زي البوصة الناشفة، دا أنا خايف إنه ما يقدرش يشيل فاس الفحم، إيه اللي خلاك جبتهولنا بس؟ ولا هو كمالة عدد وخلاص!»

فرد النائب ليو قائلًا: «عرفت قصدك يا ملعون، انت عايز واحدة تساعدك في النفخ؟ وعايزها كمان زي القمر، إيه رأيك في البت أم شال وردي؟ آه من غرورك يا ملعون أقرع ونزهي! يلا يا واد يا اسود انت كمل النفخ، وانت يا حدَّاد يا ابن الملعونة خلي بالك معاه وعلمه الصنعة كويس!»

فوقف الصبي أمام المنفاخ خائفًا يترقب، وراح يتطلع إلى وجه الحداد الشيخ وكأنه ينتظر منه شيئًا ما. وبدا له وجه الشيخ مثل سنبلة قمح حرقتها حرارة الشمس، وأنفه مثل ثمرة الزعرور الناضجة. وقد تقدَّم الشيخ إلى الأمام وراح يُعلِّم الصبي بعض مهارات إشعال النار. وهزَّ الصبي أذنيه وأصغى جيدًا إلى جميع نصائح وتعليمات الشيخ.

وما إن اشتعلت نار الفرن، حتى بدا على وجه الصبي الانشغال التام بعمله الجديد وتصبب جسده عرقًا، وانعكس لهيب النار على بشرته التي بدا عليها التأثر الشديد بسخونة النار. هذا بينما خلا وجه الحداد الشيخ من أي تعبير وبقي وجهه جامدًا مثل قطعة الطوب، حتى إنه لم يلتفت إلى الصبي مجرد التفاتة. وراح الصبي المسكين يعضُّ على شفتيه ويرفع ذراعه بين الحين والآخر ليمسح عرقه، وبدأ صدره يعلو وينخفض، واشتد لهاثه حتى أصبح في نفس قوة صوت المنفاخ الذي يحمله.

وجاء البنَّاء الشاب حاملًا شنيور حفر يرغب في صيانته، وما إن رأى الصبي على تلك الحالة حتى خاطبه قائلًا: «ممكن توقف النفخ شويه؟ سيب يا ابني الشغلانة دي وارجع لتكسير الحجارة أحسن لك!»

واصل الصبي عمله وكأنه لم يسمع شيئًا؛ فألقى البنَّاء الشاب الأداة التي كان يحملها على الأرض وقال غاضبًا: «آه من الكلب ده!» ثم غادر المكان؛ إلا أنه عاد بعد وقتٍ قصيرٍ برفقة الفتاة جيوتزه. كانت جيوتزه آنذاك تلفُّ منديل رأس حول رقبتها وقد بدت في أجمل صورة.

انتبه الحدَّاد الشاب فجأة إلى شيء لامع أمام الفتحة التي كان يعمل بداخلها، فبصق بصقة ثم راح يلعق شفتيه بلسانه. وكان الشاب يتمتع بعينين كبيرتين في حجم عينيي الصبي الأسمر؛ إلا أن عينه اليمنى كانت عوراء، كان بداخلها «زهرة فجلة» في لون قشر بيض البط والتي كانت تمنعه من الرؤية بهذه العين. وقد تسبب اعتماده على عينه اليسرى لزمن الطويل في أن رأسه أصبح يميل قليلًا ناحية اليمين. وأرسلت العين اليسرى شعاعها صوب وجه الفتاة الوردي، هذا بينما كان يثبت بين قدميه مطرقة كبيرة الحجم يصل وزنها إلى ثمانية عشر رطلًا، وكان يُمسك بالمطرقة الثقيلة وكأنها عكاز خفيف.

وعلت ألسنة اللهب حتى امتدت إلى سطح الجسر. وغطى الدخان وجه الصبي الذي راح يسعل، وبدأ صدره يُحدِث صوتًا مسموعًا. نظر الحداد الشيخ إليه ببرود. ثم أخرج من جيب سترته مبسِم التبغ، وبدأ يملؤه ببعض التبغ، ثم أشعله من نار الفرن، وراح ينفث الدخان من فتحتي أنفه، ورأى وسط الدخان المتصاعد من المبسِم البناء الشاب والفتاة جيوتزه واقفَين عند مدخل فتحة الجسر، وعندها وجَّه كلامه للطفل قائلًا: «قلل الفحم شوية.»

فراح الصبي المسكين يجتهد في النفخ بقوة، وانعكس لهيب النار على جسده حتى تصبب جسده عرقًا، وقد كدتَ تُميِّز ضلوعه بوضوحٍ شديدٍ من شدة نحافته، وبدأ قلبه يقفز بطريقة مثيرة للشفقة مثل فأر صغير مسكين. هنا سمع صوت الشيخ ينهره: «شد حيلك وانفخ بقوة شوية، وإلا هيضيع كل اللي عملته!»

ما إن رأت الفتاة جيوتزه الدم يسيل من شفة الصبي السفلى، حتى فاضت عيناها بالدموع، وصاحت: «كفاياك من الشغلانة الصعبة ديه، ويلا ارجع معايا لتكسير الحجارة أحسن لك.» ثم تقدمت إلى أمام المنفاخ وأمسكت بذراعي الصبي اللتين كانتا مثل عودي حطب من شدة نحافتهما. هذا بينما حاول الصبي مقاومتها قدر استطاعته مثل الكلب الذي يشتبك في معركة حامية مع إنسان يعترضه؛ إلا أن نحافة جسده جعلت الفتاة تنجح في جذبه إلى خارج فتحة الجسر، بينما تركت قدماه الغليظتان آثارهما على سطح الأرض التي مر من خلالها، ثم بدأت تسمع صوت بعض الزلط المتساقط على الأرض.

وبدأت الفتاة تنصحه قائلة: «لازم تبطل شغل معاهم، أنت مستحيل تقدر تتحمل النار دي. يلا يا حبيبي ارجع مع أختك حبيبتك للشغلانة المريحة في تكسير الحجارة.» وهكذا كانت الفتاة توجِّه له النصيحة وهي تحاول السيطرة عليه وجذبه إلى موقع تكسير الأحجار. وكانت الفتاة تتمتع بيدين قويتين كبيرتين ناعمتين، فكانت تقبض على يد الصبي وكأنها تمسك برجل ماعزة، بينما كان الصبي يحاول الإفلات من بين قبضتها وهو يضرب الأحجار تحت قدميه؛ فتوقفت الفتاة وراحت تعاود نصيحته قائلة: «يلا يا عبيط أنت ارجع معايا أحسن لك!» ثم راحت تقبض على يده بقوة، ثم قالت: «شايف يا عبيط أنت رجليك نحيفة إزاي، دا أنا لو ضغطت عليهم هاطلعهم في إيدي، فازاي هاتقدر تشتغل الشغلانة الصعبة ديه؟» وهنا رمقها الصبي بنظرة قاسية، وطأطأ رأسه ومال على معصم الفتاة الغليظ وعضه عضة قوية؛ فتألمت الفتاة وتأوَّهت قليلًا، ثم ترك الصبي يدها واستدار بجسده وفرَّ هاربًا.

وكان الصبي الأسمر يتمتع بأسنان حادة جدًّا، حتى إنها تركت آثارها واضحة على معصم الفتاة، وقد خلَّفت أنيابه في معصمها. حفرتين غائرتين داميتين. وتقدم البنَّاء الشاب إلى الفتاة باهتمامٍ شديدٍ وأخرج منديلًا ملطخًا بعدد من البقع ولف به يدها؛ فأزاحته الفتاة عنها ولم تعره أي اهتمام، ومالت إلى الأرض وأخذت بحفنة تراب وكبست بها الجرح؛ فصاح البناء الشاب مندهشًا: «خلي بالك التراب ده مليان ميكروبات!»

عادت الفتاة إلى أمام كومة الأحجار، واستراحت على مقعدها، وجلست مذهولة وراحت تراقب مياه النهر دون أن تشغل نفسها بتكسير الأحجار.

– «شايفين أهو المجانين زادوا واحدة النهارده.»

– «الواد الأسمر ده شكله ساحر لها».

هكذا راحت النسوة يهمسن بصوتٍ خفيضٍ.

وعلا صوت البنَّاء الشاب وهو يسبُّ الصبي الأسمر موجهًا سبابه ناحية الفرن قائلًا: «اطلع يا كلب أنت يا اللي بتعض الأيد اللي اتمدت لك!»

فجأة تلقَّى وجه الشاب كمية من المياه المتسخة الدافئة والتي غطت وجهه بالكامل، وقد تأكد من أن هذه المياه التي لم تخطئ نقطة منها وجهه قادمة من داخل فتحة الجسر؛ فانشغل الشاب بتنظيف شعره الأصفر وسترة العمل المصنوعة من المشمع وقميصه الرياضي الأحمر مما علق بها من نفايات الحديد والفحم والمياه المتسخة التي كانت تسيل على جسده من رأسه حتى أخمص قدميه.

هنا بدأ الشاب يوجه سبابه المقزع ناحية فتحة الجسر قائلًا: «مين الأعمى الكلب اللي رش الميه دي؟ اطلع يا جبان خليني أشوفك.»

فلم يُجبه أحد. وبدأ الدخان الأسمر يتطاير من داخل فتحة الجسر، وقد بدت نار الفرن أكثر اشتعالًا. هذا بينما كان الحداد الشيخ يمسك بكماشة ويحاول الإمساك بشنيور يدوي ابيضَّ لونه من شدة النار ليخرجه من وسط اللهب، وبدت حواف الشنيور لامعة من شدة سخونتها؛ فوضعه الشيخ على السندان وجعل يضرب على حوافه بمطرقته الصغيرة وهو يسمع رنين صوت المطرقة. وقد كان يُمسك بالكماشة بيده اليسرى التي كانت تقبض بدورها على الشنيور، بينما كانت يده اليمنى تنزل عليه بالمطرقة بضربات متتالية. وكانت مطرقة الحداد الشاب الثقيلة تضرب على المكان نفسه الذي تصيبه مطرقة الحداد الكبير الصغيرة. وقد بدت المطرقة الصغيرة مثل الطائر الذي ينقر الأرض بحثًا عن الحَبِّ، فيما كانت مطرقة الحداد الشاب الكبيرة مثل الطائر الذي يتفحص المكان جيدًا حتى يصل إلى مبتغاه، وهبَّت داخل فتحة الجسر موجة من الهواء الساخن. ووسط ضربات المطرقتين المتتالية. تطاير الشرر من الشنيور في كل مكان، حتى غطى سترتَي الحداد الشيخ وتلميذه الشاب، ثم ظهرت هالة من الدخان الأبيض، كما تطاير الشرر إلى وجه الصبي الأسمر، الذي زمَّ شفتيه حتى كشف عن أسنانه البيضاء التي بدَت مثل أنياب الذئب الصغير. وترك الشرر آثاره على جلد الصبي الذي خلا وجهه من أي تعبيرات تدل على تألمه، وبدأ يحدِّق في الشرر ورفع كتفيه النحيفتين وانكمشت رقبته من شدة الخوف، وقد عقَد ذراعيه على صدره، وأمسكت يده بذقنه وامتلأ وجهه بالتجاعيد.

وبعد أن انتهت عملية الضرب على الشنيور الساخن، تغيَّر لونه إلى اللون الأحمر الداكن ثم إلى اللون الأبيض الفضي، وتساقطت طبقة من نفايات الحديد التي تسببت في اشتعال كومة من القش، والتي نتجت عنها كمية من الدخان.

نظر البنَّاء إلى الحداد الشاب غاضبًا ثم سأله: «مين ابن الملعونة اللي رش الميه الوسخة ديه؟» فنظر إليه الحداد وجسده يبرق، وهو يقبض بيديه على المطرقة الكبيرة ثم هزَّ رأسه هزة خفيفة وقال مستخفًا بسؤاله: «أنا اللي رشيتها، إيه اللي جرى يعني؟»

– «هو انت عميت؟»

– «أيوه عندي عين واحدة عميا، وده شرف كبير ليك إني جات عليك الميه ديه».

– «ممكن تتكلم بأدب شوية؟»

فراح الحدَّاد الشاب يستجمع قوته في قبضة يده، وقد بدا امتلاء ذارعيه ثم قال: «الواحد باين عليه الصحة السنة دي.»

فتقدَّم إليه البنَّاء الشاب وهو يشتاط غضبًا، ثم قال: «قرب مني يا اعور وانا هاعمي لك عينك التانية.» هذا بينما تقدَّم الحداد الشيخ خطوة إلى الأمام وكأنها خطوة عن غير قصد ثم دفعه دفعة سريعة. شعر البنَّاء الشاب فجأة أن عيني الشيخ تخفيان شيئًا ما، وأحس بأن عضلات جسمه بدأت تتفسخ ثم رفع الحداد وجهه وراح يتغنَّى بكلمات يبدو أنها جملة مسرحية أو كلمات أغنية معروفة قائلًا:

– «فاكر أيام زمان اللي عشناها مع بعض على الحلوة وعلى المرة، وذقنا كل ألوان العذاب. كانت الأرض فرشتنا والسماء غطانا، شفنا العذاب ألوان.»

وما إن انتهى الحداد من التغنِّي بهذه الكلمات حتى توقَّف فجأة، وبدا كأنه ابتلع تتمة حزينة كان ينوي الانتهاء بها. فعاود النظر إلى البناء الشاب. ثم أخفض رأسه وراح يبرِّد الشنيور الذي انتهى من الضرب عليه بالمطرقة. وقبل البدء في عملية التبريد، قام برفع كُم يده اليمنى وغمسها داخل برميل المياه ليتفحص درجة حرارتها. وقد كشف الكُم عن دُمَّل أحمر داكن، وبدا الدُّمَّل مستدير الشكل بارزًا بعض الشيء، وقد أحس البنَّاء الشاب أن ذلك الدُّمل مثل عين غريبة لا تتوقف عن رمقه بنظرات مريبة، فزمَّ الشاب شفتيه وشعر بحيرة شديدة وكأنه أصيب بنوبة جنون، ثم فرَّ من داخل فتحة الجسر ليعمَّ المكان صمت رهيب بعد ظهر ذلك اليوم.

أحس الصبي الأسمر بألم في عينيه. وسخونة شديدة في صلعته، فانتفض من فوق مقعد الفتاة وعاد إلى فرن الحداد، واستطاع وسط الظلام الذي كان يلفُّ المكان أن يستريح فوق مقعد الحداد الشيخ، وفجأة أحس بألم في يديه من شدة سخونتهما، فأسرع بوضعهما على جدار السُّور البارد ومضى يفكر في المصاعب التي ذاقها خلال الأيام الأخيرة.

قبل ثلاثة أيام مضت، كان الحداد الشيخ قد عاد في إجازة إلى بيته ليأتي ببعض الملابس القطنية وغطاءً يحتمي به من برودة الجو، وحيث كان قد انتهى بعد تفكير طويل إلى أنه قد تقدمت به السن ما سيعوقه عن العودة إلى المنزل يوميًّا، فانتهى إلى تجهيز مكان للنوم إلى جانب الفرن حتى لا يموت من البرد. (نظر الصبي الأسمر إلى سرير الأسطى الشيخ، وقد أحاطت به دعائم الجسر من ناحية اليسار، وتسرب إليه شعاع من الضوء انعكس على سترة الشيخ القطنية المحشوة بشعر الكلاب) واستغل الأسطى الشاب عودة معلمه إلى البيت وأعلن نفسه سيدًا على هذه الفرن. ففي صباح ذلك اليوم، دخل الحداد الشاب الفرن نافخًا صدره مبرزًا عضلات بطنه. وأصدر أوامره للصبي قائلًا: «شد حيلك يا بنى وأشعل النار، الأسطى الكبير خلاص رجع بيته والفرصة قدامنا علشان نثبت للكل إننا نقدر نشتغل من غيره.»

فنظر إليه الصبي نظرة فاحصة.

فقال الحداد الشاب: «بتبص لي ليه كده يا قرد أنت! أنت بتستخف بصنعتي؟ لعلمك أنا باشتغل مع الأسطى الكبير بقالي تلات سنين كاملة شربت فيهم صنعة الحدادة.»

فبدأ الصبي في إشعال النار متكاسلًا. فأصدر الشاب صوتًا مزهوًّا بنفسه، ثم قام بوضع عدد من أدوات تكسير الأحجار التي لم يتمكن من صيانتها بالأمس داخل الفرن لتسخينها، بينما اجتهد الصبي في إذكاء النار التي انعكس لهيبها على وجهه. وفجأة قال الشاب ضاحكًا: «شايف جسمك مليان بآثار الجروح في كل مكان كأنك عايز تقول للناس إنك محارب مخضرم خاض كل الحروب!»

فاجتهد الصبي في إذكاء النار.

– «هو بالمناسبة ليه البنت اللي عامله فيها إنها متبنياك بقى لها كتير ما جاتش تطمن عليك؟ إنت ما لكش حق لما عضيتها في دراعها. بالمناسبة لحمها طعمه أيه؟ حلو ولا مر؟ دا أنت محظوظ يا كلب أنت. عارف لو جات لي الفرصة أدوق طعم لحمها هاقضم فيه زي ما باقضم في الخيار البلدي.»

فرفع الصبي الكماشة وأمسك بأداة تم تسخينها للدرجة المطلوبة، ثم ألقى بها على السندان؛ فقال الحداد الشاب: «برافو عليك إنك خلصت بسرعه!» هذا بينما كان الحداد الشاب يُمسك الكماشة بإحدى يديه وبالأخرى مطرقة متوسطة الحجم ويطرق بها بقسوة على بعض الأدوات، والصبي يراقبه وهو شارد الذهن. كان الحداد الشاب يتمتع بقوة جسدية جيدة، فكان يُمسك بالمطرقة الحديدية ويهوي بها على الأدوات المختلفة، حتى كنت تميَّز بوضوح جميع أسنان أدوات التكسير التي يقوم بصيانتها وكأنها مرسومة رسمًا دقيقًا. بينما راح الصبي ينظر بحزن إلى مطرقة الحداد الكبير الصغيرة. وكان الحداد الشاب يلقي بالأدوات التي انتهى من الضرب عليها بالمطرقة إلى برميل المياه للتبريد، وكان يستخدم طريقة التبريد نفسها التي يستخدمها الحداد الكبير. ثم استمر الصبي في تأمل المطرقة الصغيرة الملقاة على السندان، والتي بدا مقبضها الخشبي لامعًا مثل قرون بقرة عجوز.

هكذا استطاع الحداد الشاب بمهارته الفائقة وخلال فترة قصيرة، استطاع الانتهاء من صيانة ما يزيد على عشر من أدوات تكسير الأحجار المصنوعة من الحديد. عندها جلس على مقعد معلمه يلفُّ السجائر مزهوًّا بنفسه، ثم وضع السيجارة بفمه فور الانتهاء من لفها، وأمر الصبي أن يقدم له قطعة فحم لإشعال السيجارة.

– «شفت بقى إننا بنعرف نشتغل من غير الأسطى الخرفان بتاعنا ازاي!»

وفي اللحظة التي كان الحداد فيها في غاية الزهو بنفسه وبمهارته، جاء إليه عدد من البنَّائين حاملين أدوات تكسير الأحجار التي استلموها منه منذ قليل.

– «إيه الصنعة الوسخة دي؟ دا الأدوات بتاعتنا كلها اتكسرت واتَّنت من أول ضربة. لعلمك يا حداد يا ملعون أنت إحنا بنستخدم الأدوات دي في تكسير الحجارة مش في طحن فول الصويا. ولو كنت مش قد الصنعة دي، أحسن لك تستنى لما يرجع المعلم بتاعك، وبلاش تجرب فينا.»

وألقى البنَّاءون بأدواتهم المعيبة على الأرض ثم انصرفوا في الحال. وتغيرت ملامح الحداد الشاب؛ فأمر الصبي الأسمر أن يشعل النار، ثم انكب على تلك الأدوات المعيبة حتى انتهى من صيانتها وتبريدها في أسرع وقت وقام بتوصيلها إلى أصحابها بنفسه، إلا أنه ما إن وطئت قدمه الفرن عائدًا من موقع العمل حتى لحق به أصحابها وألقوا بها على الأرض، ثم أمطروه بسيل من السباب المقذع قائلين: «يا بن الملعونة! كفاية استخفاف بينا وأعرف حدودك! شايف كل الأدوات اللي أنت صلحتها اتكسرت من أول ضربة!»

نظر الصبي الأسمر إلى الحداد الشاب، وقد ارتسمت على شفتيه بعض العلامات التي لم يتبين منها إذا ما كان سعيدًا أم متأثرًا بما تعرض له الحداد. أمسك الحداد بالأدوات وألقى بها على الأرض لتحدث صوتًا قويًّا، ثم جلس على الأرض حابسًا أنفاسه، ثم أشعل سيجارة، وبدأت عينه السليمة تنظر في جميع الاتجاهات وهي تبرق، وبدأت حواجبه الخفيفة تهتز بشدة. فألقى بعقب السيجارة وهبَّ واقفًا ثم صاح بصوت مرتفع:

– «ولاد الملعونة! لازم يعرفوا إني فاهمهم كويس. وإنهم مش هيقدروا يهددوني بكلمتين! يلا يا بني شد حيلك وقوم نكمل شغلنا!»

فعاود الصبي النفخ وهو فاقد القوة والعزيمة على العمل. وحركته تتباطأ شيئًا فشيئًا؛ فراح الحداد يحثُّه على العمل ويسبُّه، بينما واصل الصبي تجاهله له، ثم انتهيا من تسخين أدوات التكسير المعيبة؛ فضرب عليها الحداد بالمطرقة ضربات بسيطة، ثم ألقى بها في عجالة إلى داخل برميل المياه لتبريدها. ولم يتبع هذه المرة طريقة التبريد التي تعلمها من معلمه بأن يقوم بتبريد القطعة جزءًا جزءًا، وإنما قام هذه المرة بغمس القطعة كاملة في الماء؛ فسمع بعدها صوت ارتطام الأجسام الساخنة بالماء البارد، ورأى الفقاعات تعلو فوق سطح الماء، ثم مدَّ الحداد يده وأخرج الأداة التي غمسها في الماء، ورفعها وراح يتأمل نقوشها ولونها، ثم وضعها فوق السندان وبدأ يضرب عليها بمطرقته ضربات خفيفة، فانقسمت إلى نصفين، فألقى الحداد بالمطرقة على الأرض وهو في غاية الحزن، ثم ألقى بجزء من الأداة المكسورة إلى خارج فتحة الجسر، حتى استقرَّ فوق كومة الأحجار أمام فتحة الجسر وقد تحوَّل إلى قطعة حديد خردة يُرثى لحالها.

وأمر الحدَّاد الصبي غاضبًا: «روح اجري هات لي الشنيور ده بسرعة!» فتحركت أذنا الصبي دون أن يتحرك من مكانه. وهنا تلقت مؤخرته ركلة قوية. وتلقت كتفه وخزة بالكماشة، ثم سمعت أذناه صوتًا قويًّا يصيح قائلًا: «روح بسرعة يلا!».

فتقدَّم الصبي إلى خارج الفتحة مطأطئًا رأسه، ثم جعل يحني ظهره شيئًا فشيئًا حتى أمسك بالأداة المكسورة؛ فسمع صوت اصطدام يده بها وكأنها قبضت على حشرة زيز، وشم رائحتها التي بدت له مثل رائحة قطعة لحم خنزير محمرة، ثم سقطت الأداة الثقيلة على الأرض. فذهل الحداد الشاب قليلًا، ثم انفجر ضاحكًا: «آه دا أنا نسيت أقول لك إنه كان لسه سخن مولع. أهو لسع حوافرك!»

عاد الصبي إلى داخل فتحة الجسر، ثم غمس يده المصابة داخل برميل الماء دون أن ينظر إلى الحداد، ثم خرج من الفتحة ثانية، وقد حمل أداة تكسير الأحجار بين يديه وجعل يتأملها؛ فرأى لونها الفضي وسطحها السميك الممتلئ بعدد كبير من النقاط الصغيرة، وقد علِقت بسطحها كمية من التراب. أحنى الصبي ظهره قليلًا لترتفع مؤخرته وينزل معها سرواله الذي كشف عن فخذه ذي اللون الفاتح قليلًا. ثم أبقى على إحدى يديه فوق ظهره ومدَّ الثانية ليقبض بها على الأداة، وقد بدأ يتساقط عليها بعض المياه محدثة صوتًا مسموعًا. توالى سقوط الماء على السطح المعدني في صورة نقاط مياه صغيرة تتسع شيئًا فشيئًا ثم تضيق حتى تتلاشى. وسرت سخونة أداة الحفر إلى أظافر يده ثم إلى قلبه.

سمع الصبي صوت الحداد الشاب يسبه من داخل فتحة الجسر: «يا بن الملعونة أنت بتعمل إيه عندك، وموطِّي ليه كده زي بتوع عصابات التهريب!» فقبض الصبي على الأداة الساخنة، وراح يغمغم بكلمات غير مسموعة، ثم وضع يده اليسرى على مؤخرته واستدار عائدًا إلى داخل الفتحة، وما إن رأى الحداد الصبي ممسكًا بالأداة والدخان يتطاير من يده حتى قال مذعورًا: «ارميها بسرعة! ارميها بسرعة!» ثم تغيرت نغمة صوته لتصبح مثل مواء القطط وقال: «ارميها بسرعة يا عبيط أنت!» فجلس الصبي أمام الحداد، وقد خلَّص يديه من الأداة الملتهبة وراح يفركهما، بينما ترك الأداة ترقد أمام قدمَي الحداد. وجلس الصبي يتأمل في وجه الحداد؛ فقال الحداد وهو يرتعش: «ما تبصليش كده يا كلب يا حقير أنت.» ثم أشاح بوجهه من أمام الصبي؛ فهبَّ الصبي واقفًا ثم غادر المكان … ويذكُر الصبي أنه عند خروجه من فتحة الحداد، كان قد تأمَّل السماء ليجدها خالية من السحب القزحية، فقط رأى بها قمرًا صغيرًا وكأنه سحابة صغيرة جدًّا.

ومضى الصبي يفكِّر حتى أعيته كثرة التفكير، فنهض من فوق المقعد وتقدَّم ناحية سرير الحداد الكبير، ثم اضطجع أمام السرير، وأسند رأسه إلى السترة القطنية حتى استسلم للنوم. وبينما هو هكذا أحس بشخص يلمس وجهه ويديه؛ فتألم بعض الشيء، وحاول تحمل الألم، ثم تساقطت من عينيه دمعتان، نزلت إحداهما بين شفتيه حتى ابتلعها، بينما سالت الثانية على أرنبة أنفه.

– «قوم يا بني الحق معاد الأكل.»

وأحس بملوحة في أنفه، فانتفض في عجالة ثم نظر إلى الفتاة، وقد كانت هناك دمعتان تحاولان الهروب من عينيه؛ إلا أنه اجتهد في منعهما.

فتحت الفتاة منديلها الوردي ومدت له شيئًا ما قائلة: «خد الأكل ده ليك.» وكانت الصرة تحتوي على فطيرتين، إحداهما كانت محشوة بقطعة خيار مخللة، بينما كانت الأخرى محشوة ببصلة، وقد احتوت الفطيرتان على خصلة شعر طويلة صفراء؛ فمدت الفتاه يدها لتلتقط خصلة الشعر، ثم ألقت بها على الأرض لتحدث صوتًا سمعه الصبي بوضوح؛ فمسحت الفتاة على رقبة الصبي وقالت لتداعبه: «اتفضل كل يا كلب يا صغير!» فراح الصبي يلتهم البصلة والخيارة والفطير، وهو ينشغل بمضغ الطعام تارة وتارة أخرى يتوقف ليتطلع إلى وجه الفتاة.

– «إيه اللي لسع إيدك دي؟ هو برضوا الأعور الكلب اللي لسعك؟ ويا ترى ناوي تعضني تاني؟ شايف أنيابك عملت إيه في إيدي يا كلب يا مسعور!»

هذا بينما كان الصبي يهزُّ أذنيه، وهو يغطي وجهه بكلتا يديه ممسكًا الفطيرة بيده اليسرى، والبصلة والخيارة بيده اليمنى.

٣

في مساء تلك الليلة، تعرض موقع العمل فجأة لموجة من الأمطار الرعدية، وعندما حان وقت بدء العمل في صباح اليوم التالي، انتبه العمال إلى كومة الأحجار في موقع العمل وقد غسلتها مياه الأمطار، كما بدا الطريق الرملي نظيفًا، وزادت كمية مياه الخزان أسفل الهويس، وانعكست بقايا غيوم على صفحة المياه الزرقاء، وهبَّت رياح الخريف الباردة وكأن الطقس أعلن عن موجة برد مفاجئة، كما أن الأصوات القادمة من زراعات الجوت الفسيحة، كانت سببًا في رعشة شديدة سرت في قلوب الجميع. وظهر الحداد الشيخ مرتديًا سترته القطنية التي بدت كالدرع، وقد كانت السترة خالية تمامًا من الأزرار، مما اضطره لأن يضمَّ جانبي السترة إلى بعضهما البعض ليتقي شر البرد الشديد، كما لفَّ حول ظهره سلك كهرباء أحمر اللون. هذا بينما كان الصبي لا يزال يرتدي سرواله الطويل، عاري الظهر حافي القدمين؛ إلا أنه لم يَبدُ عليه التأثر ببرودة الطقس. ولا أحد يعرف أين ذهبت قطعة القماش التي كان يلفُّها حول خصره، فهو الآن قد استبدلها بكبل سلك أحمر اللون. كما طال شعر رأسه مؤخرًا بشكل جنوني، فقد وصل طوله حوالي ٢ تسون٤ وكان شعر رأسه واقفًا مثل شعر القنفذ. وما إن أنتبه إليه عمال الموقع وهو يدوس فوق بقايا مياه الأمطار التي كانت تغطي الأحجار حافي القدمين، حتى شعر الجميع نحوه بشيء من الشفقة والإعجاب بهذا المسكين الصغير.

فسأله الأسطى الحداد الشيخ بصوت خفيض: «أنت سقعان؟»

فراح الصبي يتطلع إلى الحداد وهو في حَيرة شديدة، وكأنه لم يفهم سؤال معلمه؛ فأعاد الحداد السؤال بصوت أعلى من المرة الأولى قائلًا: «أنا باسألك أنت سقعان ولا لأه؟» وهنا تلاشت تعبيرات الحيرة، وأخفض الصبي رأسه ثم بدأ في إشعال النار. كان ينفخ المنفاخ بيده اليسرى، ويقبض بيده اليمنى على معول الفحم، وعيناه تراقبان قشَّ القمح المشتعل؛ فأخذ الأسطى الشيخ من فوق سريره بجلباب ملطخ بالزيت وألقى به على جسد الصبي؛ فارتعش الصبي رعشة شديدة ليعبر عن مدى حاجته لهذا الثوب؛ إلا أنه ما إن غادر الأسطى الحداد المكان، حتى خلع الصبي الجلباب وألقى به فوق السرير؛ فهز الأسطى رأسه ثم جلس على الأرض وأشعل سيجارة.

تثاءب الحداد الشاب وقال بعدم اكتراث: «أيوه أنا كده فهمت انت ليه مش عايز تسيب الأسطى الحداد، تاريك بتدور على مصلحتك يا بن الملعونة، دا انت طلعت مكار بشكل!»

وسمع العمال صوت صافرة النائب ليو الذي طلب منهم التجمع؛ فاحتشد جميع العمال الرجال والنساء في المنطقة الواقعة أمام الهويس. وراح الصبي الأسمر يسترق النظر إلى ما بين شقوق فتحة الجسر السابعة وقد بدت على وجهه علامات الحَيرة. قال النائب ليو: بما أنه اقترب دخول الشتاء ذي البرد القارس؛ فإن علينا أن نبادر بالعمل في ورديات إضافية، وذلك حتى يمكننا الانتهاء من أعمال الخرسانة قبل أن تتجمد مياه الحوض. وبدءًا من اليوم سنحدد توقيت الوردية الإضافية: «من الساعة السابعة حتى العاشرة مساءً، وسيُصرف لكل عامل ربع كيلو أرز وعشرين قرشًا». ولم يعترض أحد على كلام النائب ليو. وظهر على كلِّ وجه من تلك الوجوه التي يزيد عددها على مائتي وجه تعبيرات خاصة. وقد انتبه الصبي إلى وجه البنَّاء الشاب الأبيض الذي تحول إلى اللون الأحمر ثم الأرجواني، وإلى وجه الفتاة الوردي الذي تحوَّل إلى اللون الرمادي ثم الأبيض.

وفي المساء تمت إضاءة موقع العمل عند الهويس بعدد ثلاثة مصابيح غازية، وامتد شعاع الضوء المنعكس من المصابيح الثلاثة والذي كان يؤذي العين من شدته، وتم تثبيت إحدى هذه المصابيح لإنارة منطقة عمل البنَّاءين، وآخر لإنارة المكان الذي تقوم فيه النسوة بتكسير الأحجار. وكان معظم النسوة لديهن إلى جانب العمل أطفالهن وواجباتهن المنزلية، مما اضطرهنَّ إلى رفض مكافأة الوردية الإضافية: ربع كيلو من الأرز وعشرين قرشًا. ومن ثم فقد بقي منهنَّ تحت المصباح ما يزيد على عشر فتيات فقط، واللاتي كنَّ أتين من مناطق بعيدة، مما جعلهن يتشجعن ويتفقن على النوم معًا في إحدى فتحات الجسر، والتي كانت مغلقة من الجانبين بعدد من الأحجار، وقد تركت فتحة في المقدمة يستخدمنها في الدخول والخروج من الغرفة. أما الفتاة جيوتزه فكانت أحيانًا تنام في فتحة الجسر، وأحيانًا أخرى تقصد القرية القريبة (حيث كانت لها في تلك القرية ابنة خالة متزوجة، والتي كان زوجها يبيت أحيانًا في عمله بالمدينة، وعندها كانت ابنة خالتها تطلب منها أن تقيم معها حتى يعود زوجها). أما المصباح الثالث فكان يستخدم لإنارة فرن الحداد، وبالتحديد المكان الذي يجتمع فيه الحدَّادان والصبي الأسمر. علَت أصوات أدوات تكسير الأحجار في موقع العمل، وامتلأت سماء المكان بالشرر الأحمر، وبدأ البنَّاءون يعملون بكل ما أوتُوا من قوة، واشتعل حماس البناء الشاب حتى خلع سترته ولباسه الرياضي. وجلست الفتيات حول المصباح الكبير وقد أضفَين على المكان الكثير من عناصر الجمال والبهجة. وقد كنت تسمع أحيانًا ضحكاتهنَّ بصوت مرتفع. وأحيانًا أخرى يتهامسن بصوتٍ خفيضٍ وهنَّ منشغلات بتكسير الأحجار. هذا بينما كان يتخلل تلك الأصوات صوت جريان مياه النهر. وضعت الفتاة جيوتزه مطرقتها، وتسللت إلى ضفة النهر، وقد انعكس ضوء المصباح على جسدها حتى كان يظهر خيالها بوضوح على رمال الشاطئ. فشيَّعتها إحدى الفتيات قائلة: «خلى بالك يا حبيبي أحسن يخطفك حد من العزاب.» فأسرعت جيوتزه بالهروب من المنطقة المضيئة حتى لا تراها صديقاتها. وهكذا حتى وصلت إلى منطقة شبه مظلمة إلَّا من نقاط صغيرة تضيء جنبات المكان. هكذا حتى وصلت إلى منطقة مضيئة، وفجأة فكرت في زيارة الصبي الأسمر لتعرف ما يقوم به الآن من أعمال؛ فجعلت تتخفَّى عن الضوء ومضت تتسلل إلى الفتحة الأولى من فتحات الجسر؛ فرأته يتحرك بنشاط ملحوظ مثل الفراشات الصغيرة، وقد سطع ضوء المصباح على جسده العاري فبدا وكأنه مطليٌّ بطبقة من المينا اللامعة. وكأن جلده مدهون بطبقة من الخزف ذي اللون النحاسي، وكان يبدو مطاطًا وقويًّا في الوقت نفسه. كما بدا الصبي أسمن مما كان عليه منذ أيام، ولا غرابة في ذلك أبدًا؛ حيث كانت تعود إليه ظهيرة كل يوم بكمية معقولة من أطايب الطعام من مطعم الكومونة الجماعي. كان الصبي نادرًا ما يعود إلى بيته لتناول الطعام، كان يعود إليه فقط في المساء للنوم، في بعض الأحيان كان لا يعود إلى بيته أبدًا.

ففي صباح يومٍ ما، كانت الفتاة قد لمحته لحظة خروجه من داخل فتحة الجسر وقد امتلأ شعر رأسه ببقايا القش. وهكذا كان الصبي الأسمر يجتهد في نفخ الكير وهو يتلوَّى من شدة التعب وكأنه هو الذي يتعرض للنفخ وليس الذي يقوم به. وقد كان ينحني ويرتفع بجسده بحركات سريعة وقد بدا رأسه مثل ثمرة بطيخ تطفو على سطح مياه النهر، وعيناه السوداوان تبرقان من شدة التركيز والتعب.

هذا بينما كان الحدَّاد الشاب يقف كعادته إلى جانب السندان، ويقبض بيديه على مطرقة حديدية، وقد كان يميل عليها برأسه وينظر إليها نظرات فاحصة.

وأمسك الحداد الشيخ بأداة ملتهبة وأخرجها من الفرن، وعندها ألقى الصبي بأخرى معيبة في المكان نفسه من الفرن، وبدت الأداة الملتهبة التي تم إصلاحها بيضاء مخضرة، وقد أخذ بها الحداد الشيخ ووضعها فوق السندان وراح يطرق عليها بالمطرقة الصغيرة، في حين أمسك الحداد الشاب بالمطرقة الكبيرة وجعل يهزُّ الأداة بقوة، وما إن كانت المطرقة الكبيرة تسقط على الأداة حتى كان يتطاير منها الشرر الذي يملأ المكان، وما إن كان الشرر يصطدم بالسور الحجري حتى كان يتحوَّل إلى كمية كبيرة من الشرر البسيط الذي يتوالى سقوطه على الأرض، كما كان بعضه يصطدم بجسد الصبي العاري، ثم يتساقط في شكل قوس، وتنتج عن هذا كله سخونة شديدة تسري في أرجاء المكان. كان الحداد الشاب يبدو من الضربة الأولى وكأنه قد أفاق من حلم طويل، فكان يطرق بالمطرقة الكبيرة بسرعة تزداد شيئًا فشيئًا، بينما كانت الفتاة تراقب تلك الأشكال الغريبة التي تظهر على السور الحجري، وصوت المطرقة العالي يرنُّ في أذنيها. وقد أثارت انتباهها مهارة الحداد الشاب الفائقة في الضرب على الحديد. وبقيَ للحداد الشيخ أن يلقي بالأداة على السندان، حيث كان الحداد الشاب على علم تام بالموضع الذي يتطلب الضرب عليه بقوة. وعندما أمسك الحداد الشيخ بالأداة وجعل يتأملها لتحديد الموضع المراد الضرب عليه بالمطرقة الكبيرة، إذا بالحداد الشاب ينزل عليها بمطرقته في الموضع نفسه الذي حدده معلمه وقبل أن يُشير إليه.

هذا بينما كانت الفتاة تراقب بذهول مهارة الحداد الشاب، ولا يفوتها أن تسترق النظر إلى الصبي الأسمر والحداد الشيخ. وقد انتبهت إلى أن اللحظة التي كانت تتجلَّى فيها مهارة الشاب الفائقة، كان يعقبها شرود الصبي (حيث كان يغلق عينيه ويكتم أنفاسه)، وهي ذاتها اللحظة التي يُخيِّم فيها الحزن على وجه الحداد الشيخ، وكأن الشاب لم يكن يضرب على قطع الحديد، وإنما يضرب كرامة وسمعة معلمه.

وانشغل المعلم الشيخ بتبريد قطع الحديد التي انتهى منها الشاب، وقد راح يرمي تلميذه بنظراتٍ حادةٍ وهو يزمُّ شفتيه، الأمر الذي جعل الشاب في ذهول تام من نظرات معلمه. وراحت الفتاة تراقب الشيخ وهو يتحسس بيده مياه البرميل، ثم يرفع الأداة الساخنة عالية ليتفحصها، ثم يميل بجسده ناحية البرميل ويأخذ بالأداة ويحاول غمسها في الماء برفق حتى يستمع إلى الصوت الناتج عن احتكاك الحديد الساخن بالماء البارد، والتي تنتج عنها كمية من البخار الذي يكبس على أنف الشيخ. بعدها بقليل يرفع الشيخ الأداة أمام عينيه ويتأمل رأسها المدبب وكأنه يستمتع بقطعة فنية رائعة، هذا بينما تبدو على وجهه ملامح السرور، ثم يهزُّ رأسه ويغمس الأداة كاملة في الماء البارد وكأنه تلقَّى ما يفيد التأكيد على دِقة صنعته. هذا بينما يتصاعد البخار الذي يملأ أرجاء فتحة الجسر. واشتدَّ توهج المصباح الغازي وملأ دخانه أرجاء المكان، وما إن خمد دخان المصباح، حتى لفَّ المكان صمت وسكون رهيب، حيث انشغال الصبي المسكين بالمنفاخ. وشرود الشاب وحزن الشيخ.

أخذ الحداد الشيخ بأداة أخرى، وكرر الحركات نفسها التي انتهى منها منذ قليل؛ إلا أنه حدث بعض التغيير عند بلوغه مرحلة تبريد الأداة؛ فما إن مد يده ليتحسس مياه البرميل، حتى قام بإضافة قدر من الماء البارد. وعندما أوشك الشيخ على البدء في عملية التبريد، اقترب الشاب من برميل الماء ومد يده اليمنى داخل مياه البرميل. وهنا وبدون أدنى تفكير، قام الشيخ بإلقاء الأداة الساخنة على يد الشاب. فخرجت على الفور رائحة عفنة عبقت أرجاء المكان، حتى تسربت إلى أنف الفتاة التي كانت تراقب المشهد من مكان غير بعيد.

فتأوَّه الشاب محدِثًا صوتًا مسموعًا، ثم انتصب وراح يوجِّه حديثه إلى معلمه وقد علت وجهه ابتسامة ماكرة قائلًا: «يا أسطى، دا أنا تلميذك من تلات سنين!» فألقى المعلم الشيخ الأداة داخل البرميل؛ لتظهر كمية كبيرة من الفقاعات والبخار الذي غطى المكان؛ مما جعل الفتاة تعجز عن رؤية وجهي المعلم الشيخ والشاب بوضوح، فقط سمعت تحذير المعلم لتلميذه قائلًا: «على العموم افتكر اللسعة دي كويس!»

لاذت الفتاة بالفرار قبل أن تتبخر كمية الضباب الذي غطى المكان، وقد وضعت يدها على فمها تتقي الضباب الكثيف، بينما تسربت رائحته إلى معدتها. وهنا بدأت فتاة أخرى كانت تجلس على كومة الأحجار في مضايقة جيوتزه فسألتها: «يا ترى يا جيوتزه اختفيتِ المدة دي كلها مع الشاب إياه في حقول الجوت؟» فلم تجِبها جيوتزه، في حين سمعت صوت سقوط الفتاة من أعلى كومة الأحجار، وقد وضعت يديها حول حنجرتها محاولة كتم صوتها.

أطلق رئيس العمال صافرة انتهاء العمل؛ لتعلن الصافرة انتهاء ثلاثة ساعات قضتها الفتاة سابحة في عالم الخيال. راحت زميلاتها يحاولن إفاقتها: «يلا بينا يا جيوتزه، ولا أنت لسه سرحانة في حبيب القلب؟» فتسمرت جيوتزه في مكانها، ومضت تتأمل ظل ذلك الشخص الذي كان يتراءى لها تحت ضوء المصباح.

هنا سمعت صوت البناء الشاب يناديها من خلفها قائلًا: «يا جيوتزه، جوز أختك طلب مني أبلغك إنك تروحي تباتي معاها النهارده، يلا بينا بقى؟»

– «يلا بينا؟ قصدك إيه؟»

– «إيه اللي جرالك يا جيوتزه، هو البرد لسه تاعبك ولا إيه؟»

– «مين اللي البرد تاعبه؟»

– «إنتي طبعًا!»

– «ما تتكلمش عني كده».

– «طيب خلاص يا ستي يلا بينا بقى؟»

– «يلا.»

ما إن سمعت جيوتزه صوت المياه أسفل الجسر حتى توقفت عن السير. هذا بينما كان البناء الشاب يتقدم عنها بمسافة خطوة واحدة. وجعلت الفتاة تنظر خلفها، فرأت المصباح المعلق في الفتحة الأولى من فتحات الجسر لا يزال مشتعلًا، هذا بينما خمد المصباحان الآخران، فسارت نحو موقع العمل عند الهويس.

– «إنتي عايزة تدوري على الواد الاسمر؟»

– «أيوه عايزة أطمن عليه.»

– «طيب يلا بينا ندور على الكلب الصغير ده، وخلي بالك أحسن رجلك تزحلق من غير ما تاخدي بالك.»

أحست الفتاة أن الشاب قد أصبح على مسافة قريبة جدًّا منها، حتى كاد يسمع دقات قلبها المتواترة، فواصلت طريقها، وما إن حرَّكت رأسها قليلًا حتى وجدت رأسها تصطدم بكتف الشاب القوية، ثم مالت بجسدها إلى الخلف، فإذا بذراع البنَّاء الشاب القوية تعترضها؛ حيث سارع الشاب بوضع كفة يده الكبيرة على صدر الفتاة وجعل يمسح على صدرها برفق، بينما كان قلب الفتاة يتقلب تحت يده مثل الحمامة المنزعجة في عشها الجديد، وقد جعلت الفتاة تسرع من خطواتها نحو الهويس للهروب من هذه الورطة، وما إن بلغت المنطقة المضيئة، حتى راحت تخلص صدرها من قبضة الشاب، وطاوعها الشاب في ذلك ودفع يده عن صدرها؛ فعلَا صوت الفتاة وهي تنادي: «أيها الصبي الأسمر!» وكرر الشاب: «أيها الصبي الأسمر!»

نظر الحداد الشاب إلى الفتاة والبناء بعينه العوراء. هذا بينما كان الحداد الشيخ يضطجع على سريره المصنوعة من القش ويقبض بيديه على لفافة التبغ وكأنه يقبض على زناد مسدس، ثم بدأ الشيخ يتفحص بعينيه الفتاة جيوتزه ذات الوجه الأحمر الداكن والبناء الشاب ذا الوجه الأصفر الذابل، ثم قال بصوت متعب مرحبًا بقدومهما: «اتفضلوا استريحوا، الواد الأسمر هيرجع بعد شوية.» وإذا بالصبي الأسمر يظهر صاعدًا ضفة النهر حاملًا دلو مياه فارغًا. فبعد أن انتهى العمل في ذلك اليوم، كان الحداد الشاب قد استلقى على الأرض ليستريح من عناء العمل وراح يأمر الصبي الأسمر قائلًا: «يا واد يا أسود، الجوع قرص بطننا خلاص، خد الدلو ده وروح ناحية حقول الجوت اللي في شمال الموقع وهات لنا كام راس فجل على كام حبة بطاطا، خلينا نتعشى ونملا بطننا.»

فراح الصبي ينظر إلى الحداد الشيخ متناومًا؛ حيث كان الشيخ لا يزال يجلس على سريره المصنوع من القش وقد بدت على وجهه آثار التعب.

فانتفض الحداد الشاب من جلسته وراح ينهر الصبي قائلًا: «بتبص على إيه يا كلب أنت؟ يلا قوم روح زي ما أمرتك!» هذا بينما ألقى الشاب نظرة خاطفة على معلمه الملقى على السرير. وكان الشاب لا يزال يتألم من الجرح الذي أصاب ذراعه؛ إلا أن تلك النشوة التي كان يعيشها خلال نوم معلمه جعلته يتناسى جرحه.

حمل الصبي الأسمر دلوًا فارغًا، ومضى إلى خارج فتحة الجسر، وما إن وجد نفسه خارج الفتحة، حتى بدا بريق عينيه من وسط ظلمة الليل، فإذا به يقرفص من شدة الخوف، ثم أغمض عينيه قليلًا. وما إن فتح عينيه ثانية، حتى انتبه إلى تغير لون السماء التي أشرقت نجومها لتنعكس على وجهه وعلى المنطقة المحيطة به.

مدَّ الصبي يده للتخلص من بعض أعواد نباتات النيلة التي كانت تغطي حافة النهر، وقد اجتهد في التخلص من تلك النباتات وراح يشقُّ طريقه إلى الأمام، حتى اصطدمت قدماه بشيء طري وساخن، ثم سمع صوتًا قادمًا من أسفل قدميه، فإذا بذلك الشيء طائر السمان الضاحك الذي انتفض مسرعًا، حتى سقط مثل حجر وسط زراعات الجوت محدثًا صوتًا مسموعًا؛ فراح الصبي يتحسس بقدمه المكان الذي اختفى فيه طائر السمان، حتى توصل إلى المكان الذي اختاره الطائر والذي كان عبارة عن مجموعة حشائش جافة لا تزال تحتفظ بحرارة جسم الطائر. وما إن بلغ الصبي حافة النهر، حتى سمع الفتاة والبنَّاء الشاب يناديانه؛ فضرب الصبي على الدلو ضربة خفيفة؛ فتوقفت الفتاة والشاب عن صياحهما، وسمع الصبي صوت جريان مياه النهر. ثم سمع نعيق بومة فوق إحدى أشجار القرية، وتذكَّر على الفور أن زوجة أبيه أشد ما تخاف صوت الرعد ونعيق البوم، وهو يتمنى ألا ينقطع صوت الرعد، وألا تغادر جماعات البوم نافذة زوجة أبيه. بلل الندى الذي كان يغطي أشجار الصفورا ذراعيه. فراح يمسح ما علِق بذراعيه من قطرات الندى في سرواله. هذا حتى نزل من على الطريق المحاذي لضفة النهر، وعندها كانت عيناه قد تعودتا على الظلام، وأصبح يمكنه رؤية الأشياء بوضوح تام، بل أصبح بإمكانه التمييز جيدًا بين درجات لون الطمي وأوراق البطاطا؛ فجلس القرفصاء، وراح يقتلع عروش البطاطا ويأخذ ثمار البطاطا ملقيًا بها داخل الدلو. وبعد وقت قليل، انتبه إلى سقوط شيء ما من بين أصابعه مما أحدث صوتًا خفيفًا بين أوراق البطاطا. وما إن تحسس ذلك الشيء حتى اكتشف أنه عبارة عن ظُفره الذي تعرض منذ قليل للكسر. حمل الصبي الدلو الثقيل وسار صوب الشمال، وسار وسط حقل الفجل وقد نجح في اقتلاع ستة رءوس من الفجل، ونزع أوراق الفجل ملقيًا بها على الأرض، بينما ألقى برءوس الفجل إلى داخل الدلو.

وسأل البنَّاء الحداد الشاب وهو في غاية القلق: «أنت بعت الواد فين؟»

فأجاب الحدَّاد: «وأنت قلقان عليه كده ليه؟ هو كان ابنك ولا ابنك!»

فحملقَت الفتاة في عين الحداد متسائلة: «فين الولد؟»

فأجابها الحداد الشاب بصوت هادئ: «على العموم استني شويه هو راح يجيب لنا كام حبة بطاطا وجاي، يا ريت تقعدي لما تأكلي معانا بطاطا مشوية».

– «أنت بعتُّه يسرق؟»

فأجابها الحداد الشاب في ثقة: «قصدك إيه بالسرقة دي؟ طالما إننا مش بناخد البطاطا ونروح بيها لأهلنا، فاحنا كده مش بنسرق!»

– «وليه ما رحتش أنت بنفسك؟»

– «أنا الأسطى.»

– «كلام فارغ!»

– «وما له، كلام فارغ كلام فارغ!» ثم مسح الحداد المنطقة بعينيه وراح يوجه سبابه ناحية المنطقة الواقعة خارج الجسر قائلًا: «شوف الواد ابن الملعونة، يا ترى راح يجيب البطاطا منين؟ هو راح يستوردها من ألبانيا ولا إيه؟»

عاد الصبي من رحلته حاملًا دلوه مُرخيًا كتفَيه منحنيًّا قليلًا من ثقل الحمولة، وقد تلطَّخ جسده كله بالوحل وكأنه كان يتمرغ في الوحل.

ما إن رآه الحداد الشاب على تلك الهيئة حتى راح يلومه ساخرًا: «شوفوا الواد المفتري، قلت لك تروح تجيب لنا كام حبة بطاطا، تيجي وانت مالي الدلو بحاله!» ثم قال: «يلا روح بسرعة اغسل البطاطا كويس في حوض الميه».

فتدخلت الفتاة قائلة: «كفاياك بقى يا حداد تتأمَّر على الولد المسكين ده.» ثم قالت: «ولع أنت النار، وأنا هروح أساعد في غسل البطاطا.»

فقام الحداد بصفِّ البطاطا حول النار في شكل دائرة، ثم راح يشعل النار. وعادت الفتاة جيوتزه حاملة رءوس الفجل بعد غسلها، ثم وضعتها فوق حجر نظيف؛ فسقطت فجلة وتدحرجت على الأرض؛ فتلطَّخت ببعض بقايا الحديد وظلت تتدحرج حتى استقرت أخيرًا عند قدم البنَّاء الشاب الذي التقطها على الفور.

– «هات أروح أغسلها تاني وآجي.»

فقال البناء الشاب: «ما فيش داعي خلاص، ناكل الخمس فجلات دول وكفاية.» ثم مدَّ يده ووضع الفجلة المتسخة فوق السندان.

تقدَّم الصبي الأسمر إلى أمام المنفاخ، وأراد أن يتولى النفخ بدلًا من الحداد؛ فنظر الحداد إلى الفتاة نظرة خاطفة، ثم وجَّه حديثه إلى الصبي قائلًا: «دا أنا كان قصدي أسيبك ترتاح شوية. هو وحشك الشغل ولا إيه؟ طيب خلاص خد أنت أنفخ وأنا كده عداني العيب، بس خلي بالك انفخ بالراحة لاحسن البطاطا تتحرق.»

هذا بينما كان البنَّاء الشاب والفتاة جيوتزه يجلسان جنبًا إلى جنب على السور الحجري الواقع غرب فتحة الجسر، وكان الحداد الشاب يجلس خلف الصبي، في حين كان الحداد الشيخ لا يزال يجلس فوق سريره ناحية الشمال، وكان لا يزال يقبض بيديه على مبسِم الدخان الذي انتهى من إشعاله منذ وقت طويل.

كان الوقت متأخرًا جدًّا، بينما كان الصبي لا يزال يتولى عملية النفخ ببطء ملحوظ، حتى انخفض صوت المنفاخ فأصبح مثل صوت شخير الرضيع، وأصبح صوت جريان مياه النهر في غاية الوضوح، حتى بدا وكأنه صوت ذو شكل ولون واضحين، حتى يُخيَّل إليك وكأنك لا تسمعه فقط بل إنك تسمعه وتراه. وعمَّ السكون أرجاء ضفة النهر، حتى إنه إذا سار في تلك المنطقة حيوان صغير جدًّا، فسيكون بإمكانك أن تستمع إلى حركاته بوضوحٍ تامٍّ، ثم سمع صوتًا وسط زراعات الجوت الممتدة شمال الهويس، والذي كان ناتجًا عن اصطدام أوراق الجوت بعضها ببعض، والذي خمد أخيرًا ليعاود المكان صمت رهيب. كان المصباح الذي ينير فتحة الحداد هو المصباح الوحيد الذي كان لا يزال مشتعلًا في منطقة العمل، بينما خمد المصباحان الآخران، فراحت الحشرات الليلية تقصد المصباح المشتعل وبدأت تتجمع حول فرن الحداد، وظلت تصطدم بزجاجة المصباح بحثًا عن شعاع الضوء؛ فتقدَّم الحداد الشاب من المصباح وأمسك بمقبضه ونفخ فيه نفخةً قويةً؛ فأحدثت نفخته القوية فتحة في غطاء المصباح الزجاجي استغلتها إحدى الحشرات وألقت بنفسها داخل المصباح، وسقط المصباح ليُخيِّم الظلام على المكان. انتظر الحداد بعض الوقت حتى استطاع أن يرى أمامه بوضوح، بينما كان الصبي الأسمر لا يزال يجتهد في النفخ حتى نضجت البطاطا وامتلأ المكان برائحتها الذكية؛ فأمسك الحداد الشاب بكماشة وجعل يُقلِّب البطاطا قليلًا. ما جعل رائحتها الذكية تنتشر أكثر فأكثر، وهكذا حتى أخذ كل منهم بيده بعضًا من البطاطا والفجل وبدءوا يستمتعون بوجبة طيبة. وقد زاد نصيب الحداد الشاب عن الآخرين بمقدار رأس فجل وثمرتين من البطاطا، بينما لم يحصل الحداد الشيخ الذي كان يجلس وحيدًا مثل التمثال على أدنى قدر من هذه الوجبة الطيبة.

وجَّهت الفتاة سؤالها إلى الصبي قائلة: «يا ترى جه وقت الرجوع للبيت ولا لسه؟»

فأخرج الصبي لسانه وراح يلعق بعض بقايا البطاطا حول شفتيه. وقد كانت بطنه يُصدر بعض الأصوات المسموعة.

وقال البناء الشاب: «ويا ترى مرات أبوك هتخليك تدخل البيت في الوقت المتأخر ده؟ ولا هتبات في الطل هنا وسط القمح؟»

فسعَل الصبي الأسمر سعلة شديدة، ثم ألقى بقشر البطاطا وسط نار الفرن، وجعل ينفخ فيها حتى احترقت قشرة البطاطا؛ لينتج عن ذلك راحة قوية عبَّقت المكان.

فقال الحداد الشاب: «هتعمل إيه يا كلب أنت! أحسن لك تطلع من دماغك فكرة رجوع البيت دي وتخليك معايا هنا أتبناك، وتبقى ابني وتلميذي، وهاضمن لك تاكل أحسن أكل وتشرب أحسن شرب.»

وسط صمت الحدَّاد الشاب، ارتفع وسط المكان صوت غناء حزين ومثير؛ فأحس البنَّاء الشاب بشيء من السعادة بسماع ذلك الصوت، حيث إنه كان قد استمع إليه على ما يبدو في مطلع مسرحية ما:

– «فاكر أيام زمان اللي عشناها مع بعض على الحلوة وعلى المرة، وذقنا كل ألوان العذاب، كانت الأرض فرشتنا والسما غطانا، شفنا العذاب ألوان».

أسند الشيخ ظهره إلى سور الجسر، وتلقَّت صلعته موجة من الرياح القوية المتسللة عبر أحد شقوق السور والقادمة من زراعات الجوت، بينما بدأت بضع خصلات من شعر رأسه الأبيض تهتز مع حركة اشتعال نار الفرن. لم تتوقف وجنتاه عن الحركة السريعة مثل دودة الأرض، واشتد بريق عينيه. ومضى يتغنَّى:

– «نسيت السنين اللي عشناها مع بعض على الحلوة وعلى المرة، نسيت إخلاصي وحبي ليك. نسيت إني كنت غطا وستر عليك، ولما ضحكت لك الدنيا رمتني لوحدي وحيدة ورميت نفسك في أحضان غيري. آه آه على تعاستي، وآه يا عذابي وحرماني.»

تأثَّرت الفتاة جيوتزه بغناء الحداد الشيخ، وتسمَّرت في مكانها وراحت تستمع إليه بإنصات تام وعيناها تتابعان حركة حنجرته. هزَّ ذلك اللحن الحزين قلب الفتاة، وما إن كادت تجهش بالبكاء حتى تغيَّر اللحن إلى لحن جعلها تسبح في عالم بعيد، فمالت بجسدها في حركة طبيعية على كتف البنَّاء الشاب، وراحت تداعب بيديها يد الشاب الكبيرة، وعيناها تدمعان متأثرة بما تسمع، وغرقت في بحر أغنية الحداد الشيخ، وأحست بأنها تنجذب إلى هالة من النور الذي يطلقه وجه الحداد النحيف. وكأنها قد عثرت على نفسها من خلال هذه الكلمات.

ضمَّ البنَّاء الشاب الفتاة بين ذراعيه بحنان ودفء، وراح يداعب ثمرتي الرمان المعلقتين على صدرها. أما الحداد الشاب الذي كان يجلس حينها خلف الصبي الأسمر، فقد كان في غاية التوتر ولم يَعُد يطيق سماع صوت معلمه القبيح وكأنه نهيق حمار عجوز. وفجأة عمَّ المكان صمت رهيب؛ فجعل الحداد الشاب يجلس في وضع شبه القرفصاء، ومال برأسه وثبت نظراته جيدًا على وجه الفتاة. وما إن رأى البنَّاء الشاب يداعب صدر الفتاة برفق وحنان، حتى أحس الحداد الشاب بلهيب شديد يسري من معدته مرورًا إلى حنجرته ثم إلى فتحتي أنفه حتى يخرج من فمه، وأحس بأنه معلق في الهواء، ولكنه راح يتحمَّل ويعضُّ على أسنانه.

وكان الصبي الأسمر لا يزال يتولى عملية النفخ، وقد تضاءلت قوة النار، وأصبح الناظر يرى أمامه بقايا لهب أزرق وأصفر ترتفع أعلى قطع الفحم، وقد كان اللهب يرتفع أحيانًا متأثرًا بقوة النفخ، ويظل يرتفع شيئًا فشيئًا حتى ينتهي. أدرك الصبي أنه الآن بمفرده، فراح يحاول تثبيت إحدى عينيه على اللهب الأزرق والأخرى على اللهب الأصفر؛ إلا أن محاولته باءت بالفشل فعدل عن فكرته هذه وغض الطرف عن اللهب المشتعل أمامه وقد شعر بشيء من خيبة الأمل، ثم جعل يجول بعينيه من حوله حتى استقر نظره فجأة على السندان. وقد تراءى له مثل حيوان ضخم؛ ففزع الصبي مما رأى مُصدِرًا صوتًا مسموعًا (وقد اختفى صوت الصبي وسط صوت غناء الحداد الشيخ). كان الصبي يمتلك عينين كبيرتين لامعتين، وقد ازداد لمعان عينيه الآن حتى أصبح بريقهما مثل شعاع مصباح كهربي، ورأى الصبي منظرًا غريبًا وجميلًا في آن، إنه منظر السندان اللامع، وقد انعكس عليه بعض الضوء الأخضر. ثم استقرت عيناه على رأس فجلة ذهبية أعلى السندان اللامع. كانت الفجلة تشبه في شكلها وحجمها ثمرة الكمثرى، وقد زودت الفجلة بذيل طويل بدا مثل شريط طويل من الريش الذهبي. وكانت الفجلة عبارة عن فجلة كريستالية شفافة، يكشف لحاؤها الذهبي اللامع عن سائل فضي، ذي خطوط جميلة تكشف بدورها عن هالة من البريق الذهبي. وقد كان البريق ذهبيًّا طويلًا كبريق سنابل القمح، وقصيرًا مثل بريق الجفون … ثم بدأ صوت غناء الحداد يبتعد عنه شيئًا فشيئًا حتى استحال إلى صوت أشبه ما يكون بحفيف الذباب؛ ففزَّ الصبي متجاوزًا المنفاخ ووقف أمام السندان، ثم مد يده الصغيرة الملطخة بالطمي وبقايا الفحم والمليئة بآثار الجراح، وانتبه إلى رعشة شديدة تسري في يده … وما إن هم الصبي بمد يده للقبض على الفجلة، حتى انقض عليه الحداد الشاب وركل دلو المياه القريب منه، فانسكبت مياهه حتى أغرقت سرير الحداد الشيخ المصنوع من القش. وقد نجح الشاب في خطف الفجلة من يد الصبي، ثم انهال عليه بسيل من السباب المقذع: «حتى أنت يا كلب يا حقير ليك نفس تاكل فجل! مش شايف الأسطى بتاعك جعان ازاي وعايز حاجه تسد جوعه!» ثم فتح الشاب فمه المغلق على أسنانه السوداء واستعد لتناول الفجلة. وهنا قفز الصبي قفزة بمهارة فائقة ومدَّ يديه النحيفتين ليختطف الفجلة من بين أنياب الشاب؛ إلا أنه ما إن تمايل جسده قليلًا حتى سقطت الفجلة من يده. فتلقاه الشاب بركلة قوية في مؤخرته، حتى وجد الصبي رأسه يستقر في حضن الفتاة، فقلب البنَّاء يده الكبيرة بسرعة لتفصل بين الصبي وصدر الفتاة.

توقف الحداد الشيخ عن الغناء، ثم وقف على مهل، ووقفت الفتاة والبناء الشاب، وراحوا يحدقون في الحداد الشاب. كان الصبي قد أصيب ساعتئذٍ بدوار شديد، فراح يرى جميع الأشياء أمامه تتحرك في حركات سريعة، ثم جعل يهز رأسه. وانتبه إلى أن الحداد الشاب قد تغلب عليه واختطف الفجلة وها هو يلقي بها في فمه؛ فأخذ الصبي بقطعة من حثالة الفحم وألقى بها نحو الشاب، فإذا بها تمرُّ من جانب وجنته وتصطدم بسور الجسر حتى استقرت أخيرًا على سرير الحداد الشيخ.

فعلَا صوت الحداد الشاب يسبُّه: «هاموِّتك يا كلب!»

فتقدَّم البنَّاء خطوة إلى الأمام، ثم قال: «أنت بتستقوى على الواد المسكين ده؟»

وقالت الفتاة: «رجَّع فجلته!»

– «مش هارجَّعها!»، ثم خرج الحداد الشاب من فتحة الجسر وأشاح بذراعه بقوة حتى استقرت الفجلة بعد وقت طويل في عرض النهر محدثًة صوتًا مسموعًا.

هنا اشتدَّ الدوار بالصبي، حتى سقط في المسافة القصيرة التي تفصل بين البنَّاء والفتاة.

٤

ما إن اصطدمت الفجلة بسطح الماء، حتى تناثرت فوق سطح الماء كمية من الرذاذ، وطفت الفجلة قليلًا. ثم غاصت ببطء إلى قاع النهر، وظلت تتدحرج تحت سطح الماء حتى غطَّتها طبقات الرمال المترسبة في قاع النهر. وتصاعدت فوق المنطقة التي سقطت بها الفجلة كمية من الضباب الكثيف، وعند الفجر غطى الضباب الكثيف أرجاء الوادي. ووقف على حافة النهر عدد من طيور البط التي خرجت مبكرًا، وبدأت تحدِّق النظر في الضباب وقد بدت عليها ملامح الخوف. وخرجت من بينها بطَّة جريئة لم تحتمل الصبر على متابعة الضباب الكثيف وراحت تسير نحو النهر، فاعترضها الضباب الذي كان يغطي الحشائش الواقعة بالقرب من النهر؛ فراحت البطة تحاول التقدم دون جدوى، فتراجعت إلى زميلاتها وقد ارتفع صوتها بالشكوى من اعتراض الضباب لها. وما إن أشرقت الشمس معلنة ميلاد يوم جديد، حتى شقَّ ضوءها الضباب إلى مجموعة من الأزقة والممرات، ورأت جماعة البط خلال الأزقة شيخًا طويل القامة يسير على حافة النهر ناحية الغرب وقد حمل على ظهره صرة ملفوفة وعددًا من الأدوات الحديدية، وقد أحنى الشيخ ظهره من شدة حمولته التي ظهر تأثيرها على كتفيه، حتى كان يمدُّ رقبته أمامه مثل الإوزة البرية. وما إن اختفى الشيخ الكبير، حتى ظهر أمام جماعة البط صبي أسمر عاري الظهر حافي القدمَين؛ فراح ذكر البط يتبادل النظرات مع بطة كانت تقف إلى جانبه، وكأنه يسألها قائلًا: «يا ترى أنت لسه فاكرة الولد ده؟ دا هو اللي شفناه المرة اللي فاتت شايل الدلو، وفاكرة لما اصطدم الدلو بشجرة الصفصاف ووقع في النهر واتجمعت عليه الناس علشان يطلعوه من النهر، وفاكرة كمان إن الدلو كان هيموت دكر البط أبو فروة اللي ما وراهش غير مضايقة البط في الميه.» وهنا تدخلت البطة على وجه السرعة قائلة: «أيوه أيوه، فاكرة طبعًا، وفاكرة دكر البط أبو فروة اللي كان بيضايقني كل يوم في الرايحة والجاية.» وظل الصبي يسير على حافة النهر ببطء ملحوظ، وقد حدق في الضباب الذي يغطي المكان من حوله. وسمع الصبي بطبطة البط على حافة النهر المقابلة، ثم جلس القرفصاء ووضع رأسه على ركبته ولفَّ يديه حول ساقيه النحيفتين الباردتين وأحس الصبي بطلوع الشمس وبضوئها الشديد الذي كاد يحرق ظهره العاري وكأنه كان يستند إلى فرن الحداد. لم يَعُد تلك الليلة إلى منزله، وقضى ليلته داخل إحدى فتحات الجسر. وعند صياح الديكة، سمع معلمه الحداد الشيخ يصيح ببضع كلمات، ثم ساد المكان صمت رهيب. طار النوم عيني الصبي، فجعل يسير على الطريق الرملي البارد حتى وصل إلى حافة النهر، فرأى هنالك ظل الحداد الشيخ المنحني، وما إن فكر الصبي في اللحاق بمعلمه حتى انزلقت قدمه فسقط على مؤخرته، وعندما استجمع قوته ونهض على قدميه إذا بالحداد قد اختفى وسط الضباب الكثيف؛ فعاد ليقرفص ويتأمل ضوء الشمس الذي شقَّ الضباب وكأنه قطع من جبن الصويا، ثم راح يتبادل النظر مع جماعة البط على الضفة المقابلة. سطعت أشعة الشمس على مياه النهر حتى عجز عن رؤية قاع النهر، فشعر بشيء من خيبة الأمل، ثم سمع صياحًا قادمًا من موقع العمل، إنه صوت نائب رئيس العمال ليوتاي يانغ الذي كان لا يتوقف عن السباب، قائلًا: «يا ولاد الملعونة كلكم، إيه اللي حصل لفرن الحداد، الراجل الكبير مشى من غير ما يسيب خبر، والصبي بتاعه هرب وراه، هو خلاص المكان ما بقالوش كبير ولا إيه؟»

– «أيها الصبي الأسمر!»

– «أيها الصبي الأسمر!»

– «بص هناك كده، مش هو ده الولد الأسمر اللي قاعد على حافة النهر؟»

فتقدَّم نحوه كلٌّ من الفتاه جيوتزه والبناء الشاب، ومالَا على الصبي وأنهضاه من جلسته.

مدت الفتاه يدها وجعلت تنظف رأسه مما علق به من بقايا قش القمح قائلة: «إيه اللي مقعدك هنا يا بني يا حبيبي؟ أنت مش حاسس بالبرد الشديد ده؟»

– «روح خلِّي الحداد الأعور يشوي لك قطع البطاطا المتبقية من ليلة امبارح».

قالت الفتاة بلهجة يملؤها الأسى: «الأسطى الكبير خلاص اختفى.»

– «آه، اختفى.»

– «طيب وبعدين؟ يا ترى هنسيب المسكين ده للحداد الأعور؟ طيب وهنعمل ايه لو استغله الأعور الكلب زي عادته؟»

– «ولا يهمك يا حبيبتي، الولد ده خلاص جتته خدت على الشغل والمرمطة. وما تنسيش إننا دايمًا جنبه، وبعدين ما نلومش عليه إنه مش قادر يتحمل الشغل في فرن الحداد.»

اصطحب الحبيبان الصبي وساروا نحو موقع العمل، بينما كان الصبي لا يتوقف عن النظر إلى الخلف؛ فضغط البنَّاء الشاب على ذراع الصبي النحيف قائلًا: «أسرع يا عبيط أنت، أنا مش عارف إيه اللي عاجبك في النهر ده؟»

ظهر نائب رئيس العمال ليوتاي يانغ وراح يخاطب الصبي الأسمر قائلًا: «هو أنت لسه قاعد يا أسود أنت، دا أنا كنت فاكرك هربت مع الأسطى بتاع الستات!» … ثم سأل النائب ليو الحداد الشاب: «وأنت يا أعور، أديك خلاص عرفت تخلص من الأسطى بتاعك، ولكن إياك تأخر العمل في الفرن. ولو اكتشفت إنك بتلعب بديلك هاقلع لك عينك العورة».

ابتسم الحداد الشاب بغرور، ثم قال: «هتشوف مني يا ريس ليو الشغل على أصوله، ولكن ده بشرط إنك تديني نفس الفلوس اللي كان بياخدها الأسطى بتاعي».

– «خليني أشوف شغلك الأول وبعدين أحكم عليك. لو كويس هاديك اللي تطلبه، ولو غير كده يبقى أحسن لك تحصل الأسطى بتاعك يا أعور الكلب.»

هنا أصدر الحداد الشاب أوامره إلى الصبي قائلًا «ولَّع النار يا بني!»

قضى الصبي المسكين صبيحة يوم كامل في العمل الشاق داخل الفرن، وقد بدا عليه التعب والإرهاق، فكان أحيانًا يُلقي بجاروف كبير من الفحم داخل الفرن فيتعالى الدخان الأسمر الكثيف ليملأ أرجاء المكان، وأحيانًا أخرى كان يضع الأداة المراد صيانتها داخل الفرن بالمقلوب، فينتج عن ذلك زيادة نسبة العطب في الأداة، فانتبه إليه الحداد الشاب وراح يسبُّه غاضبًا: «بتفكر في إيه يا كلب أنت؟» وقد كان الشاب يعمل بجدٍّ حتى تصبب جسده عرقًا. ورأى الصبي معلمه الشاب يقوم بوضع يده داخل الدلو لاختبار درجة سخونة المياه قبل قيامه بعملية التبريد، كما انتبه الصبي إلى أن الشاب كان يلفُّ جرح يده بقطعة من القماش، وشمَّ الصبي رائحة كريهة مثل رائحة أسماك فاسدة تنبعث من جرح الشاب وحجبت الغيوم وجه الصبي وقد كان في مزاج سيِّئ للغاية. بعد الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم، بدا ضوء الشمس أكثر إشراقًا وجمالًا. وسطعت أشعة الشمس على الجدار الغربي لفتحة الجسر لتبدو في غاية الإشراق. وما إن انتهى الحداد الشاب من تبريد أدوات الحفر، حتى حملها ليسلِّمها بنفسه إلى كبير البنائين لتقييمها. ألقى الصبي بما في يده من أدوات العمل وقصد إلى خارج الفتحة في حذرٍ شديدٍ فاعترضته أشعة الشمس التي أصابته ببعض الدوَّار. ظل يتردد بعض الوقت قبل أن يفرَّ مسرعًا حتى وجد نفسه في غضون ثوان معدودة على حافة النهر. فراحت تتأمله الأعشاب الممتلئة بفضلات الكلاب، وبدأ ورد النيل ذو الأزهار البنفسجية ونباتات السعد ذات الدرنات البنية العطرة تشم رائحة الدخان المنبعثة من جسده. فانتشرت رائحة النباتات العطرة ورائحة أسماك الشوب؛٥ فأثارت تلك الروائح أنفه ورئتيه اللتين بدأتا تتحركان حركات سريعة كأنها تطير مثل الحمام. وهكذا تغطَّت صفحة المياه بالأبيض والأسمر والبنفسجي، وأحس بوخزة في عينيه؛ إلا أن ذلك لم يمنعه عن الاستمرار في تأمل صفحة الماء. بدأ الصبي يرفع سرواله ثم نزل النهر. في البداية بلغ الماء ركبته. ثم تقدَّم إلى الأمام حتى بلغ فخذه؛ فهَمَّ الصبي يرفع السروال حتى انكشفت مؤخرته، عندها كان الصبي قد بلغ منتصف النهر. وأصبح هدفًا واضحًا للأشعة التي تسلطت على جميع أجزاء جسده وعينيه اللتين اصطبغتا بلون كلون الموز الأخضر. اشتدَّ جريان الماء، فبدأت أمواجه تضرب ساقيه النحيفتين؛ فاحتمى الصبي بالوقوف على كتلة رملية صلبة؛ إلا أن هذه الكتلة الصلبة لم تنجُ من قوة جريان الماء، فوجد نفسه يقف داخل حفرة وسط الماء. حتى تبلل سرواله كاملًا. فبقيَ نصفه ملتصقًا بساقه، بينما انتفخ النصف الآخر خلف مؤخرته، وتحولت بقعة من الماء إلى صفحة سوداء بسبب ذوبان بعض فضلات الفحم التي كانت عالقة بالسروال. غاصت قدمه وسط الرمال، وتناثرت على وجهه قطرتا ماء. بدأ يتحرك وسط الماء وهو يتلمس الطريق بقدمه باحثًا عن شيء ما.

– «أيها الصبي الأسمر! أيها الصبي الأسمر!»

سمع الحداد الشاب يناديه من أمام فتحة الجسر.

– «إنت عايز تنتحر؟»

وسمع وقع خطوات الشاب الذي وصل إلى حافة الماء؛ إلَّا أنه لم يلتفت إليه، فاكتفى الشاب بالنظر إلى ظهر الصبي ذي اللون الأزرق.

فأمسك الشاب بكتلة طمي وقذف بها إلى الصبي وهو يصيح «اطلع يا بني بسرعه!» فلامس الطمي شعر الصبي ثم سقط وسط الماء، فأمسك الشاب بكتلة جديدة من الطمي، وقبل أن يصيب الطمي ظهر الصبي. إذا به يرمي بنفسه إلى الأمام حتى لامست شفتاه الماء، فاستدار الصبي وسار إلى حافة النهر وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة. ثم وقف أمام الحداد الشاب وقد تبلل جسده بالماء، وبدأت قطرت الماء تتساقط من على جسده محدثة صوتًا مسموعًا. وبدا سرواله ملتصقًا بجسده، وقد كشف عن عضوه الذَّكري الصغير الذي بدا مثل دودة القز. رفع الشاب كفَّه الكبيرة في حجم كف الدب وهَمَّ أن يصفع الصبي على وجهه، عندها أحس الشاب بأن شيئًا ما يجثم على قلبه، بينما كان الصبي يُحملِق في وجهه.

فراح الشاب يُربت على رقبة الصبي وهو يقول مزهوًّا: «يلا ولع النار بسرعة، وبُص على صنعتي اللي ما تقلش عن صنعة وخبرة الأسطى الكبير!»

خمدت نار الفرن بعض الوقت، وأخذ الحداد الشاب بعض قطع البطاطا المتبقية من ليلة أمس لشوائها. هبَّت رياح خفيفة قادمة من زراعات الجوت، وتسللت أشعة الشمس إلى داخل فتحة الجسر، وبدأ الشاب يقلب ثمار البطاطا مستعينًا بكماشة من الحديد، وهو يتحدَّث إلى الصبي وقد بدت عليه علامات السرور: «من بكين حتى نانجينغ وأنا طول عمري ما شفت سروال بينوَّر، يا ترى أنت يا واد يا أسود شفت قبل كده سروال بينوَّر؟ ويا ترى سروال أمك من نوعية السراويل اللي بتنوَّر!» وقال الشاب بلهجة الذي تذكَّر فجأة أمرًا مهمًّا: «يلا يا بني روح بسرعة هات لنا كام راس فجلة، وهاديك قطعة بطاطا مشوية.» فلمعت عينا الصبي فجأة، وأحس الشاب بأنه يرى قلب الصبي يقفز بين ضلوعه، وما إن همَّ الشاب بالحديث، إذا بالصبي يفرُّ مسرعًا كالأرنب.

ما إن بلغ الصبي حافة النهر. حتى سمع صوت الفتاة جيوتزه تناديه من بعيد. فالتفت إليها، فاعترضته أشعة الشمس الشديدة. نزل الصبي من على حافة النهر وجعل يتسلل إلى داخل زراعات الجوت. وكانت نباتات الجوت تنتشر وسط الزراعات في شكل فوضوي، بعضها كثيف وذو أعواد رفيعة جدًّا مثل أصابع اليد والقلم الرصاص، وبعضها خفيف ذو أعواد عريضة بعض الشيء مثل راحة اليد ومقبض المنجل؛ إلا أن جميع النباتات كانت متساوية الارتفاع؛ فوقف الصبي يتأمل حقل الجوت وكأنه ينظر إلى بحيرة هادئة وجميلة، وبدأ يقتلع عددًا من نباتات الجوت ليُفسح لنفسه الطريق إلى الأمام، وقد أصابه بعض الشوك القوي بجروح خفيفة، بينما توالى سقوط أوراق الجوت الناضجة على الأرض. استطاع أن يبلغ بسرعة مكانًا موازيًا لحقل الفجل الذي يقصده. ثم انحرف قليلًا ثم سار ناحية الغرب، وما إن وصل إلى حقل الفجل حتى انبطح على الأرض وبدأ يزحف ببطء، حتى رأى كميات كبيرة من أوراق الفجل الخضراء. وقد انعكس ضوء الشمس حتى جعله يرى من خلال الأوراق الخضراء عددًا من رءوس الفجل الأحمر. ما إن همَّ بالخروج من حقل الجوت، حتى عاد ثانية إلى مكانه؛ حيث رأى شيخًا كبيرًا يزحف وسط حقل الفجل وهو يُخرج من جيبه عددًا من حبات القمح ويزرعها في الشقوق المجاورة لرءوس الفجل. وقد سطعت شمس الخريف على ظهره. وكان الشيخ يرتدي جلبابًا أبيض مبللًا عند ظهره. وهبَّت رياح خفيفة محملة بالأتربة؛ فتراجع الصبي بضع خطوات إلى الخلف، وانبطح على الأرض وجعل يضع يديه تحت ذقنه وينظر إلى رءوس الفجل من خلال أعواد الجوت، وأحس بأن هناك الكثير من الأعين الحمراء تراقبه من داخل حقل الفجل، كما تراءت له أوراق الفجل وكأنها شعر أسود لامع، وقد كانت تهتزُّ مثل ريش الطيور.

ظهر رجل ذو وجه وردي وتقدم حتى وقف خلف الشيخ الكبير، وقال فجأة: «يا عم شينغ، يا ترى الغيط بتاعك اتسرق امبارح ولا لأه؟»

فأجابه الشيخ الذي كان منشغلًا بما في يديه من الحبوب قائلًا: «أيوه اتسرقت، الحرامي سرق سِت فجلات وتمن بطاطات، وساب لي وراه ورق الفجل وعروش البطاطا مرمية وسط الغيط.»

– «أنا خايف ليكون ورا السرقة دي العمال الملاعين بتوع تصليح الكوبري. وعلى العموم خلي بالك وأحسن لك تتأخر شوية في ميعاد الرجوع للبيت للغداء.»

فقال الشيخ: «كلامك صح يا ريس.»

تابع كل من الشيخ والصبي ذلك الرجل ذا الوجه الوردي حتى وصل إلى ضفة النهر. جلس الشيخ وسط حقل الفجل في المنطقة المقابلة للمكان الذي يختبئ به الصبي؛ فأخذ الصبي يتراجع إلى الخلف وقد بدا عليه الاضطراب الشديد، هكذا حتى اختفى خلف نباتات الجوت الكثيفة.

– «أيها الصبي الأسمر!»

– «أيها الصبي الأسمر!»

هكذا وقفت الفتاة جيوتزه والبناء الشاب أعلى ضفة النهر وراحا يصيحان بأعلى صوتهما تجاه زراعات الجوت، وقد سلَّما ظهرهما لأشعة الشمس التي سطعت على وجوه العمال المغادرين موقع عملهم لتناول الغداء.

قالت الفتاة: «أنا شفته وهو داخل جوا زراعات الجوت، وكنت فاكراه رايح يفك عن نفسه!»

تساءل البنَّاء: «يا ترى ممكن يكون الحداد الأعور بدأ يضايقه تاني؟»

– «أيها الصبي الأسمر!»

– «أيها الصبي الأسمر!»

ارتفع صوت الحبيبان وسط زراعات الجوت وكأنه صوت سنونو يصيح أثناء تحليقًا عاليًا، حتى أزعج صوتهما بعض عصافير الجنة التي كانت تبحث عن الطعام على أعواد الجوت. وقف الحداد الشاب أمام فتحة الجسر وراح ينظر إلى هذين الحبيبين الواقفين إلى جوار بعضهما البعض، وقد شعر الحداد بانتفاخ في بطنه، وقد بدت له نغمة صوت الفتاة والشاب وهما يناديان الصبي وكأنهما يناديان ابنهما؛ فجعل الحداد يهمس وهو يعض على أسنانه قائلًا: «هاوريكم يا ولاد الكلب!»

عادت الفتاة تنادي: «أيها الصبي الأسمر! أيها الصبي الأسمر!» ثم قالت: «أنا خايفة يكون كبس عليه النوم جوا حقل الجوت!»

فأجابها البناء الشاب بلهجة المتوسل إليها: «طيب إيه رأيك نروح ندور عليه جوا الجوت؟»

– «ندور عليه؟ يلا بينا!»

نزل الحبيبان من على ضفة النهر وهما متشابكا الأيدي، وقصدا إلى داخل زراعات الجوت. ولحِق بهما الحداد الشاب إلى أعلى الضفة وراح يشاهد أوراق الجوت الكثيفة وأعواده التي تصدر أصواتًا مسموعة، كما استمع إلى صوت الفتاة والشاب وهما يناديان الصبي بصوت خفيض وكأنه يخرج من بين باطن الماء.

تعب الصبي من الانبطاح على الأرض لمدة طويلة، فجعل يأخذ نفسًا طويلًا، ثم انقلب لينام على ظهره، وقد وجد نفسه ينام على تربة رملية مغطاة بطبقة من أوراق الجوت المتساقطة. أراح رأسه على يديه. وأرتفع بطنه لأعلى، وفجأة سقطت عليه ورقة نبات ذابلة بها بقع حمراء وغطت صرته الملطخة ببعض بقايا الفحم. بدأ الصبي ينظر إلى أعلى، فرأى ضوءًا أزرق ينعكس من خلال أوراق الجوت، حتى بدت له أوراق الجوت وكأنها مجموعة من العصافير تطير في جماعات. كانت العصافير تبدو أحيانًا وكأنها مجموعة من الفراشات. وبدت له البقع السوداء التي تزين أجنحة الفراشات وهي تتحرك بسعادة مثل زهرة الفجل البنية داخل عين الحداد الشاب.

– «أيها الصبي الأسمر!»

– «أيها الصبي الأسمر!»

أيقظه هذا الصوت المألوف من حلمه، فجلس على ركبتيه وراح يهزُّ أعواد الجوت الكبيرة القريبة منه.

– «يا ترى النوم كبس على الولد المسكين ده؟»

– «مش ممكن يكون نايم ومش سامع صوت صراخنا. ده بالتأكيد روَّح البيت يرتاح شوية من شغل الحداد».

– «شوف الكلب …»

– «المكان هنا جميل أوي.»

– «آه مكان جميل.»

وخفَّت حدة الصوت شيئًا فشيئًا، حتى انتهى إلى ما يُشبه صوت سمكتين تلفظان الماء على سطح الماء. أحس الصبي بتوتر شديد، وكأن جسده تعرض لصعقة كهرباء مفاجئة، فجلس على ركبتيه، وهز أذنيه، وعدل من مجال رؤيته. حتى استطاع أخيرًا أن يرى جسدَي صديقيه من خلف نباتات الجوت. وبعد لحظات سكون شهدتها زراعات الجوت، هبَّت موجة رياح خفيفة هزت بعض أوراق الجوت، في حين أنها عجزت عن تحريك أعواده، ثم تساقطت مجموعة من أوراق النبات، وقد استمع الصبي إلى صوت سقوطها جيدًا ثم شاهد باستغراب وشاحًا أحمر يتساقط ببطء على أعواد الجوت، وقد اعترضته بعض الأشواك حتى بدا وكأنه راية صامتة، ثم سقط الوشاح على الأرض. أحس بأن نباتات الجوت تتدافع إليه وكأنها موجة شديدة، فوقف ببطء. ثم استدار بجسده وبدأ يسير إلى الأمام في خط مستقيم، وفجأة أحس الصبي بشعور غريب.

٥

مرَّ ما يزيد على عشرة أيام، بدت خلالها الفتاة وصديقها البنَّاء الشاب وكأنهما قد نسيا الصبي، فلم يقصدا الجسر لزيارته والاطمئنان عليه. وفي ظهيرة ومساء كل يوم من تلك الأيام، كان الصبي يستمع إلى غناء طيور القُبَّرة القادم من حقل الجوت، وما إن يسمع الصبي ذلك الصوت حتى كانت تعلو وجهه ابتسامة باردة، وكأنه كان يعرف جيدًا سبب غناء القُبَّرة، في حين أن الحداد الشاب قد توصَّل إلى سبب غناء القُبَّرة بعد ذلك ببضعة أيام؛ حيث كان قد يختبئ داخل فرن الحدادة ويتابع مصدر الصوت، حتى اكتشف في النهاية هذا السر الغامض؛ فما إن يعلو غناء القُبَّرة حتى كان البنَّاء الشاب يختفي من موقع العمل، وتبدو الفتاة جيوتزه مضطربة وتظل تمسح المكان بعينيها، ثم ترمي بالمطرقة وتتسرب من بين زميلاتها، ويتوقف صوت القُبَّرة بعد اختفاء الفتاة بلحظات قليلة. عندها كان وجه الحداد الشاب يبدو أكثر قبحًا، ومزاجه أكثر عصبية، ويبدأ في تناول نبيذ البطاطا الذي كان الصبي الأسمر يعبُر يوميًّا الجسر الحجري إلى القرية المجاورة لمساعدته في تعبئة زجاجة منه.

في مساء ذلك اليوم بدت السماء صافية، وارتفع صوت غناء القُبَّرة، وهبَّت موجة رياح منعشة قادمة من حقول الجوت نحو موقع العمل. رفع الحداد زجاجة النبيذ إلى فمه فأفرغ نصفها في جوفه جرعة واحدة، وفاضت عينه السليمة بالدموع من نشوة الشراب. وكان نائب رئيس العمال ليوتاي يانغ قد عاد آنذاك إلى مسقط رأسه للزواج، مما تسبَّب في حالة هرج ومرج كبيرة داخل موقع العمل، وترك معظم العمال الورديات الليلية وانشغلوا بالتدخين داخل غرف الجسر، وبالتالي لم تكن هناك أدوات تكسير بحاجة للصيانة؛ فخبَت نار فرن الحدادة.

اشتعل نبيذ البطاطا الساخن في معدة الحداد؛ فهبَّ في الصبي قائلًا: «رُوح يا بني أنت هات لمعلمك كام راس فجل يملا معدته الخاوية.»

فتسمَّر الصبي في مكانه بجوار المنفاخ، واكتفى بالنظر إلى الحداد.

– «مستني إيه يا عبيط أنت؟».

وجد الصبي نفسه وسط الحقول المنيرة بضوء القمر، وجعل يلفُّ حول حقل الجوت، ثم اجتاز حقل البطاطا المغطَّى بعروش البطاطا الخضراء، حتى وصل إلى حقل الفجل، وما إن عاد الصبي إلى فتحة الجسر حاملًا رأسًا من الفجل، حتى وجد الحداد الشاب نائمًا على سرير القش؛ فوضع الصبي الفجلة فوق السندان وجعل يعبث بنار الفرن التي يبدو أنها كانت قد خمدت تمامًا؛ فغيَّر الصبي زاوية رؤيته وراح يتأمل الفجلة الملقاة فوق السندان؛ فتراءت له قبيحة جدًّا وكأنها ملفوفة بقطعة قماش حمراء بالية؛ فصرف الصبي نظره عنها وقد شعر بشيء من الحزن.

ولم يهنأ الصبي بنوم مريح مساء تلك الليلة؛ حيث قضى ليلته يتقلب داخل إحدى فتحات الجسر. واستغلَّ العمال غياب النائب ليو فعادوا للنوم في منازلهم. وخلت فتحة الجسر من كل شيء إلا من طبقة رقيقة من قش القمح، وسطع ضوء القمر داخل المكان الذي سرت فيه برودة الليل. وتسللت إلى أذني الصبي أصوات مياه النهر ونباتات الجوت وصوت شخير الحداد الشاب القادم من الفتحة الواقعة في أقصى الناحية الغربية، وبعض الأصوات الغريبة الأخرى. وقد بدا قش القمح يلمع فوق الأحجار، حتى كان يؤذي عينه، فبدأ الصبي يجمع القش مكوِّنًا تلًّا صغيرًا من القش، ثم دس نفسه وسط تل القش، وقد ترك مكانًا للرياح لتؤنسه في مضجعه، وحاول جاهدًا أن ينكمش داخل التل لعله يدخل في النوم، ولكن باءت محاولته بالفشل. لم يتوقَّف عن التفكير في شكل الفجلة: هل فجلة ذهبية أم شفافة؟ وظل يتخيل نفسه واقفًا أحيانًا وسط الماء. وأحيانًا أخرى وسط حقل الفجل، وهو يبحث عن فجلته.

في صباح اليوم التالي، قبل أن تُعلن الشمس ميلاد يوم جديد، عبرت مجموعة من الغربان موقع العمل، وقد خلَّفت وراءها كمية من بقايا الريش. وظهرت في الناحية الشرقية بعض الغيوم. وما إن خرج الصبي من مخبئه، حتى شعر ببرودة شديدة تهز أوصاله، وأحس بالإحساس نفسه الذي كان يغلبه خلال إصابته بالملاريا. كان نائب رئيس العمال ليوتاي يانغ قد عاد بالأمس، وما إن قام بجولة داخل الموقع حتى غضب غضبًا شديدًا، ولم ينجُ أي من العمال من سبابه، فجاء جميع العمال اليوم منذ الصباح الباكر، وقد استماتوا في العمل لإرضاء السيد ليو، وارتفعَت أصوات أدوات التكسير حتى غدت مثل نقيق الضفادع في البرك والمستنقعات، كما كثر اليوم عدد الأدوات التي هي بحاجة إلى الصيانة، فقام على صيانتها الحداد الشاب مُبديًا مهارة فائقة، ولم يبخل عليه أصحاب تلك الأدوات بكلمات الثناء. حتى إنهم أشاروا بأن مهارته في التبريد تفوق مهارة معلمه الشيخ الكبير، كما أن الأدوات التي ساعدهم الشاب في صيانتها تتميز بكونها حادة وذات فعالية جيدة في تكسير الأحجار.

ما إن علت شمس ذلك اليوم، حتى جاء البنَّاء الشاب بزوج من أدوات التكسير ليساعده الحداد في صيانتها. وكانت الأداتان جديدتين يصل سعر الواحدة إلى أربعة أو خمسة يوان صيني؛ فرماه الحداد الشاب بنظرة سريعة، وقد لمعت عينه العوراء ببريق بارد؛ إلا أن البنَّاء لم ينتبه إلى تعبيرات وجه الحداد؛ فالوجه السعيد يرى جميع الوجوه سعيدة. هنا شعر الصبي الأسمر ببعض الخوف؛ حيث فهم من تعبيرات وجه الحداد أنه حتمًا يستعد لخداعه. قام الحداد بتسخين الأداتين تسخينًا شديدًا، ثم ألقى بهما على السندان وظل يطرق على مقدمتهما، ثم غمسهما في الماء للتبريد.

انصرف البنَّاء حاملًا أدواته. بينما ارتسمت على وجه الحداد ابتسامة يملؤها الزهو، ووجَّه كلامه إلى صبيه الأسمر قائلًا: «يا ترى مقام الكلب ده من مقام الصنايعية اللي باصلح أدواتهم؟ ولا انت إيه رأيك؟» هذا بينما كان الصبي قابعًا في مكانه في ركنٍ ما، وهو يحاول جاهدًا يردُّ على معلمه. بعد لحظات قليلة، عاد البنَّاء إلى فرن الحدادة، ثم ألقى بالأدوات في وجه الحداد الشاب وهو يسبُّه قائلًا: «إيه قولك يا أعور الكلب في الصنعة دي؟»

فقال الحداد: «خير يا حبيبي بتزعق ليه كده؟»

– «افتح عينك العورا وبص كويس!»

– «دا الشنيور بتاعك باين عليه مكسور!»

– «شوف الكلب الملعون، هو أنت قاصد تعمل كده؟»

– «وحتى لو كنت قاصد إني أعمل كده؟ خلِّي بالك أنا ما باحبش أصطبح بوشك العكر ده!»

فاشتاط البنَّاء غضبًا ثم جعل يتوعده قائلًا: «انت! انت!» ثم قال: «طيب اطلع لي لو كنت راجل!» فنزع الحداد قطعة المشمع الملفوفة حول خصره، حتى صار عاري الظهر، ثم قفز نحوه قفزة سريعة، وهو يردد: «ومين قال إني خايف منك!»

وقف البنَّاء أمام الهويس وسارع بخلع سترته وقميص رياضي أحمر، وأبقى فقط على قميص صغير؛ فبدت قامته السامقة، ووجهه الذي يشبه وجوه التلاميذ، وبنيانه القوي مثل جذع شجرة ضخمة. هذا بينما كان الحداد لا يزال يرتدي المشمع في قدميه. وقد راح يتحرك فوق قطع الأحجار محددًا صوتًا مسموعًا، وبدا أنه يمتلك ذراعين طويلتين وقدمين قصيرتين وعضلات قوية جدًّا، فنظر الحداد إلى البنَّاء بازدراء قائلًا: «اختار لك طريقة نتعارك بيها؟»

فرماه البنَّاء بنظرة مشابهة قائلًا: «اللي يعجبك انت.»

– «أحسن لك تروح تخلي أبوك يكتب لي ورقة تنازل إنه مستغني عنك، لاحسن يحسبك عليَّ راجل وييجي يطالبني بتعويض!»

– «وانت أحسن لك تروح تخلي أهلك يجهزوا النعش ويستعدوا لدفنك!»

وبعد أن تبادل الطرفان سيلًا من الشتائم، اقتربا من بعضهما البعض. وجلس الصبي الأسمر على مسافة بعيدة منهما وهو يرتعش من شدة البرد. وانتبه الصبي إلى أن الطرفين بدآ القتال وكأنهما يمزحان مع بعضهما البعض. ورأى البنَّاء وهو يبصق في وجه الحداد، بينما رفع الحداد يده عالية وأحكم قبضته، وقبل أن ينزل بها على وجه البنَّاء، إذا به يتراجع خطوة إلى الخلف فتضيع قبضة الحداد في الهواء. وظل الطرفان بعض الوقت بين البصق واللكم والتراجع والهروب؛ إلا أنه قبل أن يبادر البنَّاء بتوجيه بُصاقه للحداد للمرة الثالثة، إذا بالحداد يستعجله بقبضة قوية على كتفه، فاهتز جسد البنَّاء هزة واضحة.

تجمع حشد من العمال وراحوا يصيحون بصوت مرتفع: «كفاية بقى، كفاياكم عراك.» وذلك دون أن يتقدَّم أحد للفصل بين الشابَّين، ثم توقف الجمهور عن الصياح واكتفوا بمشاهدة حلقة المصارعة بين الشابين اللذين يتمتعان ببنية جسدية مختلفة تمامًا. وبدا وجه الفتاة جيوتزه شاحبًا، فاستندت على كتف فتاة أخرى تقف إلى جوارها، وكلما كان حبيبها يتعرض لضربة من قِبَل الحداد، كانت تتألم وتصيح نحوه بصوت منخفض، وتبدو عيناها حمراوين في حمرة زهور الأقحوان.

استمر القتال بين الطرفين حتى أصبح من الصعب الحكم بتفوُّق أيٍّ منهما؛ حيث كان البنَّاء يتميز بقامته الطويلة، وكانت ضرباته تبدو منظمة ومتلاحقة؛ إلا أنها كانت تبدو ضائعة وضعيفة؛ في حين كان الحداد يتحرك حركات بطيئة بعض الشيء، وكانت ضرباته تبدو قوية وقاسية؛ حيث كان البنَّاء يتلوى بشدة إثر تعرضه لضربة من يد الحداد. ثم تعرض الحداد لضربة من قِبَل البنَّاء فشعر ببعض الدوَّار؛ فانتهز البنَّاء الفرصة ونزل عليه بسيلٍ من الضربات المتتالية؛ فجعل الحداد يقحم نفسه تحت إبط البنَّاء، وبدأ يمسك قدمَي البنَّاء بذراعيه الطويلتين؛ فسارع البنَّاء وجعل يُحكم قبضته على رأس الحداد. هكذا اشتبك الطرفان في محاولات مستميتة، حتى خارت عزيمة البنَّاء فسقط على الأرض ووجهه نحو السماء.

وهنا تعالت صيحات الجمهور، ووقف الحداد وجعل يبصق بعض الدم وهو يهز رأسه كالديك المنتصر، فراح البنَّاء يزحف، ثم انقض على الحداد ليدخل الطرفان في جولة جديدة من القتال. وقد جعل البنَّاء هذه المرة يواجه الحداد منحنيًا بعض الشيء محاولًا حماية عورته من هجمات الحداد، اشتبك الطرفان مع بعضهما البعض، وكان البنَّاء يتمكن أحيانًا من السيطرة على الحداد ويهزه بشدة، ولكنه كان يفشل في أن يطرحه أرضًا. عندها بدأ البناَّء يتنفس بصعوبة وبصوت مسموع وقد تصبب جسده عرقًا، في حين أنه لم تسقط قطرة عرق واحدة من جسد الحداد. وانهارت قوة وعزيمة البنَّاء، وبدأ يتعثر في المشي، فضمَّه الحداد من خصره ودفعه دفعة قوية ليطرحه أرضًا.

وفي الجولة الثالثة. تدهورت حالة البنَّاء تدهورًا شديدًا، فقام الحداد بمساعدته على النهوض ثم ركله ركلة قوية ألقت به على مسافة مترين.

تقدَّمت الفتاة جيوتزه وجعلت تساعد البنَّاء في النهوض وهي تبكي بصوت مسموع، ومن إن سمع الحداد صوت بكائها، حتى علا الحزن وجهه بعد أن كان مُنتشيًا بالنصر، ثم وقف مذهولًا. فنهض البنَّاء بمساعدة حبيبته، ثم أبعد عنه يديها، وأخذ بحفنة من الرمال وألقى بها في وجه الحداد؛ فأصاب الرمل عين الحداد السليمة، فراح يصيح بصوت مرتفع كالوحوش، وراح يفرك عينيه بقوة؛ وانتهز البناء الفرصة كعادته، وأحكم قبضته حول رقبة الحداد حتى تمكَّن من أن يطرحه أرضًا، وانهال على رأسه بسيل من الضربات المتتالية.

في تلك الأثناء خرج من بين أقدام الجمهور ظلٌّ أسود. إنه الطفل الأسمر، الذي فرَّ بسرعة فائقة كطائر عملاق حتى وقف خلف البنَّاء، وقبض بيديه — اللتين بدتا كمخالب الديك — على وجنتي الشاب وجعل يشدهما بقوة، فتألم الشاب وراح يصيح بأعلى صوته حتى تمكن الصبي من أن يطرحه أرضًا.

جاهد الحداد الشاب حتى تمكَّن من النهوض بمفرده، وملأ يديه بحفنة من الحصى وجعل ينثرها حوله، وانهال على الجمهور بسيل من الشتائم: «أيها الحيوانات! أيها الكلاب!» وهو لا يتوقف عن نثر الحصى في وجوههم، حتى راح الجمهور يهرب من أمام الشاب الهائج. وفجأة صدر عن الفتاة جيوتزه صوتٌ حزينٌ؛ فتوقَّفت يد الحداد وكأنها أصيبت فجأةً بشلل تام، وكانت الحصوة التي أصابت عينه السليمة قد استقرت في حدقة عينه وقد نتجَ عنها ثقب واضح، واستطاع أن يرى عين الفتاة جيوتزه اليمنى وقد أصابتها حصوة بيضاء وتعلقت بها كقرط فضي؛ فصرخ الحداد صرخة مثيرة، ووضع يده على عينه وسقط على الأرض وهو يتألم بشدة.

ما إن سمع الصبي صرخة الفتاة حتى رفع يديه عن البنَّاء، وقد تركت أصابعه آثارًا دامية واضحة على وجنتي العامل الشاب، ثم استغلَّ الصبي حالة الهرج والمرج بين الجمهور المحتشد وفرَّ عائدًا إلى مخبئه داخل الجسر، وجلس في ركن مظلم وبدأت أسنانه تصطك من شدة البرد، بينما يحاول أن يسترق النظر إلى الجمهور المحتشد في ساحة المعركة.

٦

شهد اليوم التالي للمعركة اختفاء البنَّاء والفتاة جيوتزه من موقع العمل، وقد خيَّم على المكان صمتٌ رهيبٌ، وهبَّت موجة رياح قوية هزَّت نباتات الجوت المجاورة حتى ارتفع صوت العصافير وهي تحاول النجاة من وسط حقول الجوت. ومرت الرياح القوية بفتحة الجسر لتثير أمامها عاصفة ترابية قوية؛ فاصفرَّت سماء المكان. واستمر هبوب الرياح حتى ما بعد الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم، إلى أن استقرَّت أحوال الطقس.

اشتدَّ غضب نائب رئيس العمال السيد ليوتاي يانغ الذي فوجئ بهذه المصائب فور عودته من إجازة الزواج؛ فوقف أمام فرن الحداد وجعل يكيل للحداد الشاب سيلًا من السباب واللعنات. وود أن لو اقتلع عينه السليمة وقدمها للفتاة تعويضًا عن عينها التي أُصيبت في المعركة. بينما التزم الحداد الصمت التام، وقد احمرت ندبات وجهه الأسمر، وظلَّ يلهث بصوت مسموع وهو يتجرع النبيذ.

انكبَّ البنَّاءون على العمل بتفانٍ كبيرٍ، وخلَّفوا وراءهم كومة كبيرة من أدوات البِناء التي أصبحت بحاجة إلى الصيانة، والتي قاموا بتكديسها إلى جانب ورشة الحدادة. أما الحداد الشاب فقد ارتمى أعلى الحشية المصنوعة من الأعشاب مثل واحدة جمبري كبيرة الحجم وهو يتجرَّع النبيذ، حتى فاحت رائحة النبيذ في جميع أرجاء المكان.

اشتاط نائب رئيس العمال غضبًا، فراح يركل الحداد السكران وهو يسبه: «أنت خايف يا جبان؟ خلاص كده عرفت حدودك؟ عامل فيها ميت علشان تتهرب من الشغل؟ قوم بسرعة علشان تصلح الأدوات دي، لو صلحتها يمكن أسامحك على اللي حصل منك يا جبان.» فألقى الحداد بزجاجة النبيذ بعيدًا حتى اصطدمت بسور الجسر، فتساقطت كمية من بقايا الزجاج المكسور المخلوط بالنبيذ على رأس نائب رئيس العمال، ثم قفز الحداد وفر مسرعًا وهو يصيح بأعلى صوته: «أنا مش خايف من حاجة؟ أنا مش باخاف من أي حاجة حتى الموت نفسه!» ثم صعد إلى أعلى الهويس واستمر في صياحه: «أنا مش باخاف من أي حد على وش الدنيا دي» وهنا اصطدمت قدماه بالسياج الحجري. فمال جسده بعض الشيء، ثم سمع صوتًا يناديه من أسفل: «أوعى يا حداد تتزحلق تقع من على الكوبري!» فضحك الحداد بصوت مرتفع وهو يهزأ من مناديه قائلًا: «ده مين ده اللي يقع من على الكوبري؟» ثم قفز إلى أعلى السياج الحجري، فأصيب الجمع أسفل الجسر بذهول شديد، ولفَّ المكان صمتٌ رهيبٌ.

فتح الحداد ذراعيه حتى بدتا وكأنهما جناح طائر كبير ممتلئان بكمية كبيرة من الريش، وراح يسير فوق السياج الحجري وجسده يتمايل يمنة ويسرة. ثم جعل يسرع من خطاه بطريقة لافتة للمحتشدين أسفل الجسر؛ فاضطر المحتشدون إلى وضع أيديهم فوق عيونهم حتى لا يرَوا ذلك المشهد المثير، بينما كانوا يحاولون أن يسترقوا النظر إلى الحداد المعلَّق فوقهم.

استمر الحداد يتمايل فوق السياج الحجري، حتى انعكس ظلُّه بوضوح فوق صفحة مياه النهر الزرقاء، وقد انتقل من أقصى غرب السياج إلى شرقه، ثم من الشرق إلى الغرب، وواصل الجري بسرعة وهو يتغنى قائلًا: «من نانجينغ إلى بكين، طول عمري ما شفت سروال بينوَّر، طول عمري ما شفت سروال بينوَّر …»

صعد إلى أعلى الهويس عدد من البنَّائين الشجعان، وأمسكوا بالحداد وأنزلوه من أعلى السياج، وقد حاول الحداد مقاومتهم، وهو لا يتوقف عن سبابهم قائلًا: «سيبوني يا ولاد الكلب، دا أنا فنان أكروبات كبير أوي، لو كان فنانين السيما بيمشوا على الحبال، فأنا قدامكم أهو بمشي على الحيطان، شوفوا بقى مين فينا الأقوى يا ولاد الكلب.»

شعر البنَّاءون بالتعب وراحوا يتنفسون بصعوبة وتمكَّنوا أخيرًا من توصيله إلى فتحة الجسر حيث ورشة الحدادة، فارتمى على السرير المصنوع من القش كالجثة الهامدة، وراح يبكي بصوتٍ مسموعٍ قائلًا: «يا أمَّه، دا أنا خلاص هاموت من التعب، يا ابني يلا انقذ الأسطى بتاعك واسرع هات له كام راس فجل يتقوَّى بيهم.»

اكتشف الجمع فجأة أن الصبي يرتدي الآن سترة كبيرة تغطي مؤخرته، وقد كانت سترة مصنوعة من قطعة قماش كانفاش خشنة جديدة وسميكة. وحيث يتميز هذا النوع من القماش بأنه متين جدًّا، يمكن ارتداؤه لمدة خمس سنوات دون أن يبلى. وقد كشفت سترة الكانفاش عن رأس سرواله الذي بدا وكأنه جزء من السترة. كما كان الصبي يرتدي في قدمَيه حذاءً رياضيًّا، وكان الصبي قد أحكم ربط الحذاء جيدًا بسبب كبر حجمه، حتى كانت فردتي الحذاء تبدوان وكأنهما زوج من القراميط ذات الشكل القبيح. فراح شيخ كبير من البنَّائين يضرب بأنبوب التبغ على ظهر الصبي وهو يسأله: «سمعت يا واد يا اسود؟ سمعت أوامر الأسطى بتاعك.»

فرَّ الصبي من داخل فتحة الجسر إلى ضفة النهر، ثم تسلل إلى داخل حقل الجوت. كان هناك مدقٌّ يقسم حقل الجوت. وقد تشعبت النباتات على جانبي المدق. ومضى الصبي يسير وسط الحقل، حتى توقف فجأة؛ حيث رأى مجموعة من النباتات متدلية على الأرض وكأن أحدًا قد تدحرج فوقها، فجعل الصبي يفرك عينيه ثم تألم بصوت خفيض وواصل السير وسط حقل الجوت، وتقدَّم لمسافة قصيرة ثم انبطح على الأرض وبدأ يتسلل إلى داخل حقل الفجل. وما إن تأكد من غياب الشيخ النحيف، حتى رفع ظهره وتقدَّم حتى بلغ منتصف حقل الفجل، فجلس القرفصاء ورأى بعض البراعم البنفسجية لنباتات القمح المزروعة وسط قنوات الفجل، ثم جلس على ركبتيه واقتلع رأسًا من الفجل، وقد صدر صوت مسموع نتيجة اقتلاع جذر الفجلة؛ فأصغى الصبي إلى هذا الصوت جيدًا حتى انتهى تمامًا، وتأمل سماء المكان التي كانت صافية حتى انعكس ضوء شمس الخريف على حقل الفجل.

رفع الصبي الفجلة وراح يتأملها تحت ضوء الشمس. وتمنَّى من أعماق قلبه أن تبدو هذه الفجلة تحت ضوء الشمس المبهر شفافة وذهبية وكريستالية كتلك الفجلة التي سقطت منه في النهر، ولكن هذه الفجلة خذلته. نعم حيث لم تكن شفافة ذهبية، بل كانت خالية من السائل الفضي الذي يكشف عنه غلافها الذهبي، فاقتلع فجلة ثانية، ورفعها ليتفحصها تحت ضوء الشمس المبهر، فشعر بالإحباط للمرة الثانية، ثم توالت الحركات نفسها بضع مرات؛ حيث كان يتقدَّم على ركبتيه ويقتلع الرأس من الفجل ويرفعه ليتفحصه تحت ضوء الشمس، ثم يلقي به بعيدًا، ثم يقتلع ويتفحص ويلقي و…

أما الشيخ حارس الحقل فكان ذا عينين غير صافيتين، وكان آنذاك يجلس وسط حقل الخس يطارد حشرات دودة الأرض، وكان يُمسك بالحشرة ويفركها بين يديه حتى تموت، ثم يأتي بغيرها. وقُبيل الظهيرة، نهض الحارس من جلسته وفكَّر في أن يذهب ليوقظ رئيسه الذي كان ينام آنذاك داخل غرفة الحراسة. وكان رئيسه هو الذي يسهر على حراسة الحقول، وكان عدم سكون القرية نهارًا يَحول بينه وبين أخذ قسط من النوم خلال ساعات النهار، وأنه قد استطاع الآن لحسن الحظ. أن يأخذ غفوة داخل غرفة الحراسة. وكان الحارس الشيخ ما إن يرفع ظهره حتى يسمع إلى صوت عظامه من شدة التعب، ثم رأى فجأة حقل الفجل الذي اكتسى بحمرة واضحة تحت أشعة الشمس المبهرة، وكأنه غطى بألسنة من اللهب الأحمر؛ فارتدى عصابة العينين وجعل يتقدم إلى الأمام حتى وصل حقل الفجل، ليكتشف أن تلك الصفحة الحمراء التي رآها من بعيد هي عبارة عن عدد من رءوس الفجل التي تم اقتلاعها قبل نضوجها.

صرخ الشيخ صرخة قوية «حرامي!» حيث رأى أمامه صبيًّا جالسًا على ركبتيه منشغلًا برفع رأس فجلة كبيرة يتفحصها تحت ضوء الشمس. كان الصبي يتمتع بعينين كبيرتين لامعتين مخيفتين؛ إلَّا أن ذلك كله لم يمنع الشيخ من القبض على الصبي وجره إلى غرفة الحراسة، ثم سارع بإيقاظ رئيسه.

– «مصيبة يا ريس! الولد ده مسكته وسط الغيط مقلَّع شوية فجل كتير.»

فأسرع الرئيس إلى حقل الفجل ليتحقق من الواقعة وهو شبه نائم، وعاد من الحقل وهو مشتاطٌ غضبًا؛ فركل الصبي ركلةً قوية في مؤخرته؛ ليرقد الصبي على إثرها فترة طويلة على الأرض. وقبل أن يتمكن من النهوض، إذا بالرئيس ينزل على وجهه بصفعةٍ قويةٍ.

– «جيتنا من أنهى داهية يا بن الكلب أنت؟»

فطفقت عينا الصبي الحائرتان تذرفان الدموع.

– «ومين اللي وزَّك على السرقة؟»

فبدت عينيا الصبي صافيتين كالنبع الصافي.

– «واسمك إيه يا حرامي انت؟»

فراحت عنيا الصبي تتحركان حركات سريعة.

– «طب اسم ابوك إيه؟»

فبدأت الدموع تطفر من عينيه.

– «شوف ابن الملعونة، ده باين عليه أخرس».

فتحرَّكت شفتا الصبي حركة خفيفة.

فقال الشيخ النحيف: «خلاص بقى يا ريس، نسيبه يروح لحاله.»

فردَّ الرئيس مبتسمًا: «نسيبه يروح لحاله؟ أيوه طبعًا هاسيبه يروح لحاله!»

وقام رئيس العمال بتجريد الصبي من سترته الجديدة وحذائه الجديد وسرواله، ولفَّهم في صُرَّة واحدة ثم ألقى بها إلى أعلى ثم وجَّه حديثه للصبي قائلًا: «يلا يا شاطر روح لأبوك خليه يجي ياخد هدومك! يلا غور من وشي!» فاستدار الصبي ثم فرَّ مسرعًا، وقد كان في بداية الأمر يغطي عورته بيديه من شدة الخجل، ثم بدأت يداه تنسحب عنها شيئًا فشيئًا. وما إن رأى الحارس الشيخ الصبي على تلك الحالة عاريًا كما ولدته أمه، حتى راح يبكي دونما صوت.

ألقى الصبي بنفسه وسط حقول الجوت الواسعة ليشعر داخلها بالأمان وكأنه سمكة تسبح وسط محيط كبير. وشهد المكان اهتزاز أغصان الجوت، وسطوع شمس الخريف.

أيها الصبي الأسمر، أيها الصبي الأسمر!

١  قوانغدونغ: اسم مقاطعة تقع في جنوب الصين، عاصمتها مدينة قوانغجوو أو كانتون التي تعتبر من أشهر المدن التجارية في الصين، وتبعد مقاطعة قوانغدونغ عن مقاطعة شاندونغ —التي تدور فيها أحداث الرواية ‏— ما يزيد على ٢٠٠٠ كليومتر. (المترجم)
٢  دستور الكلمات الثماني: أو كما يُطلق عليه أيضًا دستور ماو تسي تونغ الزراعي. يشير إلى الإجراءات الثمانية التي طرحها الزعيم الصيني ماوتسي تونغ عام ١٩٥٨م للنهوض بالزراعة في الصين وفقًا للإمكانات المتاحة ووسائل التكنولوجيا الحديثة والتي تتضمن كلمات التربة، الخصوبة، الماء، السلالات، الكثافة الحماية، الإدارة والتصنيع. وقد تم اختصار هذه الإجراءات في تسمية «دستور الكلمات الثماني». (المترجم)
٣  حبوب بايتزه يانغشين: نوع من الحبوب المصنوعة من الأعشاب تستخدم لعلاج حالات الإرهاق وقلة النوم وضعف الذاكرة وغيرها من الأعراض. (المترجم)
٤  تسون: وحدة لقياس الطول في اللغة الصينية، ١ تسون يساوي حوالي عشر الذراع الصيني (الذي يساوي ثلث المتر). (المترجم)
٥  أسماك الشوب: الشوب اسم للعديد من أسماك المياه العذبة التي تعيش في آسيا وأوروبا وشمال أمريكا. هذه الأنواع تنتمي إلى الشبوط والداس والسمكة السفراء والمنُّوه. تعيش أسماك الشُّوب في الأنهار والبحيرات تتغذى بالحشرات واللافقاريات الأخريس والأسماك الصغيرة حتى الضفادع. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤