الدكتور في «المرجيحة»

كان اليوم التالي يوم إجازة في المؤتمر، وكم كانت مفاجأةً ﻟ «تختخ» أن يوافق الدكتور «الفار» على أن يذهب معه إلى مدينة الملاهي، وقد شجَّع والد «تختخ» الدكتور على الذهاب قائلًا: إنك محتاجٌ إلى راحةٍ ذهنية من أعمال المؤتمر، وخيرٌ لك أن تذهب مع هؤلاء الأولاد فتقضي يومًا مرحًا، وأنصحك أن تركب «المرجيحة».

وضحك الجميع على هذا الاقتراح، ولكن الدكتور «الفار» لم يتردَّد عندما وصلوا إلى مدينة الملاهي أن يركب «المرجيحة». وكان منظرًا مثيرًا حقًّا للأصدقاء وﻟ «نازك» أيضًا أن يروا العالم الكبير المحترم يركب «المرجيحة» الدوَّارة معهم، ويضحك وهو يمسك بالحصان الخشبي كطفلٍ صغير!

أمَّا «تختخ» فقد اعتذر عن الركوب معهم، وانطلق إلى المهمة التي حضر من أجلها؛ فقد جاء خصوصًا ليُراقب المهرِّج.

كان المهرِّج يقف أمام خيمةٍ صغيرة تُعرَض بها بعض الألعاب، وهو يجتذب الناس بكلماته الضاحكة، وبحركاته المضحكة، كان ينادي قائلًا: تعالَوا … تعالَوا … اتفرجوا … اتمتعوا … الساحر العجيب … الفتاة التي تنشر جزءَين … البيضة التي تخرج منها الحمامة في دقيقة … تعالَوا … تعالَوا.

اقترب «تختخ» من الرجل، وأخذ يتأمَّله ويفحصه، كان يُشبه «الخنفس» … إلى حدٍّ كبير؛ نفس الطول، وملامح الوجه. وتحت الدهان الثقيل الذي كان يُغطِّي وجهه، استطاع «تختخ» أن يلمح «ندبةً» فوق شفتَيه، ولكن هذه الندبة كانت طويلةً ترتفع حتى تحت العين. وفكَّر «تختخ»، ثم قال في نفسه: إنه على كل حال يمكن أن يطليها بطريقةٍ ما حتى يُخفي شخصيته، المهم الآن أن أرى هذا الوجه بلا أصباغ، وهذه الرأس بلا طرطور … وهذه الأيدي بلا قفَّاز … لا بد أن أراه على طبيعته بدون ثياب المهرِّج.

عندما اطمأن المهرِّج إلى دخول الناس إلى الخيمة، أسرع يقفز من فوق المنصة التي كان يقف عليها، ثم اتجه مسرعًا إلى حيث لعبة «النشان». أسرع «تختخ» خلفه، ولكن البهلوان لم يذهب إلى لعبة «النشان» نفسها؛ فبجوارها كانت الفتاة التي تجلس بجانب قفص الفئران البيضاء. إنها نفس الفتاة، «لعبة» التي تحدَّث عنها الأصدقاء، والتي تُشبه «الخنفس»، وكم كانت دهشة «تختخ» عندما لم يجد الفتاة وحدها! لقد كانت بجوارها السيدة العجوز التي رآها في المؤتمر!

كانتا تجلسان معًا، تناديان الزبائن ليروا «بختهم» قائلتَين: بقرشٍ واحد يسحب لك الفأر الأبيض ورقةً تقرأ فيها «بختك». وشاهد «تختخ» البهلوان وهو يتجه إلى السيدة العجوز، ويُسلِّم عليها باحترام، ثم يقف بجوار الفتاة «لعبة» ويتحدَّث إليها. سأل «تختخ» نفسه: ما هي العلاقة بين هؤلاء الثلاثة «البهلوان … ولعبة … والسيدة العجوز؟» وكان الرد المنطقي أن العجوز هي أم «لعبة»، وأن «البهلوان» هو زوج «لعبة» أو خطيبها، ولكن المهم التأكُّد من هذه المعلومات، فكيف السبيل إلى هذا؟ وكيف السبيل إلى رؤية البهلوان بلا ملابس، ولا أصباغ؟! دارت في رأس «تختخ» مجموعةٌ من الأفكار، ثم استقرَّ على فكرةٍ معيَّنة، وهكذا غادر مكانه مسرعًا ليلحق بالأصدقاء عند «المراجيح» … وكانت في انتظاره مفاجأة؛ لقد داخ الدكتور «الفار» من «المرجيحة»، وغادر المكان منذ قليل وحده، وبقي الأصدقاء ليكملوا بقية الصباح في مدينة الملاهي. فكَّر «تختخ» أن الدكتور وهو لم يزُر المعادي من قبل، وهو دائخٌ أيضًا، قد يضل طريقه إلى المنزل، فاستأذن من الأصدقاء بعد أن طلب منهم مراقبة البهلوان، وانطلق مسرعًا في إثر الدكتور.

كانت المفاجأة الثانية ﻟ «تختخ» أن يرى الشاويش بثيابٍ عادية وليس بالثوب الرسمي، يسير أمامه خارجًا من مدينة الملاهي، وكأنه يتبع شخصًا؛ فقد كان ينظر إلى الأمام في اهتمام، ويسير بخطواتٍ واسعة.

واتجه بصر «تختخ» إلى حيث ينظر الشاويش، وكم كانت دهشته أن رأى الدكتور «الفار» وهو يُسرع الخطو!

هل كان الشاويش يتبع الدكتور؟! ولماذا؟! قرَّر «تختخ» أن يتبعهما عن قربٍ لعله يجد إجابةً عن السؤالَين. وبعد فترةٍ من الوقت تأكَّد «تختخ» أن الشاويش يتبع الدكتور فعلًا؛ فقد كان يمشي خلفه وقد ثبَّت عينَيه عليه، ولكن لماذا؟ خطرت ﻟ «تختخ» فكرةً غريبة: هل يشك الشاويش في الدكتور؟ هل يظن أنه «الخنفس»؟ … هنا تذكَّر «تختخ» شيئًا غاب عن باله طول الوقت؛ لقد كان الدكتور يُشبه «الخنفس» إلى حدٍّ بعيد؛ نفس الطول، نفس الشعر الخشن، نفس الملامح تقريبًا، عدا النظارة السوداء التي يمكن أن تكون أداةً جيدةً للتنكُّر! وكذلك «الندبة» التي يُجيد إخفاءها!

هزَّ «تختخ» رأسه غير مصدِّق، هل يمكن أن يكون الدكتور «الفار» هو «الخنفس»؟! غير معقول! غير ممكن!

وفي نفس الوقت كان الدكتور «الفار» قد أحسَّ بالشاويش يتبعه، وكان ما زال يشعر بالدوخة من أثر «المرجيحة»، فهو يسير بخطواتٍ متعثِّرة، وقد اختلطت عليه الأمور فلم يعد يدرك إن كان يسير في الطريق الصحيح أم لا.

أمَّا الشاويش فقد كانت شكوكه تتزايد مع كل خطوة؛ فهذا الرجل غريبٌ عن المعادي، وشكله يُشبه «الخنفس»، وهو يسير بخطواتٍ مضطربة وينظر حوله في كل اتجاه وكأنه يُخبِّئ شيئًا. وهكذا قرَّر الشاويش أن يلحق بالدكتور فورًا؛ فقد يكون هو «الخنفس» فعلًا، ويختفي من أمامه فجأةً وتُصبح كارثة.

بدأ الشاويش يُسرع في المشي خلف الدكتور، الذي أحسَّ بسرعة الشاويش فبدأ يُسرع هو أيضًا … وهو يُفكِّر في هذا الرجل الذي يتبعه: أهو أحد اللصوص أم ماذا؟ ولماذا يُسرع الخطو خلفه؟!

ضاعف «تختخ» من سرعته هو الآخر حتى يلحق بالرجلَين، وهو يبتسم للمطاردة الغريبة، وبعد دقائقَ استطاع الشاويش أن يلحق بالدكتور «الفار»، الذي فزع جدًّا وهو يُحس بيد الشاويش الثقيلة وهي تهبط على كتفه، وصوت الشاويش وهو يقول: انتظر هنا!

استدار الدكتور ليُواجه الشاويش، وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والفزع، فقال الشاويش: من أنت؟ ولماذا تمشي مسرعًا بهذه الطريقة، كأنما تهرب من شيءٍ ولماذا تتلفَّت حولك؟ هل هناك ما تخشاه؟ قال الدكتور بصوتٍ مضطرب: أهرب؟! لماذا؟! إنني عائدٌ إلى المنزل، وليس هناك شيءٌ آخر.

الشاويش: هل أنت من سكَّان المعادي؟

الدكتور: لا، إنني من الإسكندرية.

الشاويش: ما اسمك، وصناعتك؟

الدكتور: اسمي «الفار»، وأنا دكتور.

رنَّت كلمة «الفار» في رأس الشاويش؛ ﻓ «الخنفس» مشهورٌ بتدريب الفئران، ولا بد أن هذا الرجل الغريب هو «الخنفس» أو قريبٌ له.

وقبل أن يستمرَّ الشاويش في شكوكه وأسئلته، تدخَّل «تختخ» قائلًا: معذرةً يا حضرة الشاويش، هل ارتكب الدكتور مخالفة؟

صاح الشاويش بضيق: وما دخلك أنت؟ ومن أين عرفت أنه دكتور؟ فرقع من هنا ولا تُعطِّلني، فإنني أقوم بمهمةٍ خطيرة.

قال «تختخ» بهدوءٍ ولكن كلماته كانت كالقنابل في وجه الشاويش: أحب أن أؤكد لك يا حضرة الشاويش أن الدكتور «الفار» ليس هو «الخنفس» الذي تُطارده، وكونه اسمه «الفار» ليس دليلًا على أنه على صلةٍ بالمجرم الهارب، فلا تُضيِّع وقتك ووقت الدكتور.

ثم وضع ذراعه في ذراع الدكتور وسار، والدكتور لا يُصدِّق أنه نجا من هذه المطاردة.

أمَّا الشاويش فقد أذهلته المفاجأة: من أين عرف هذا الولد أن هناك مجرمًا اسمه «الخنفس»؟ وكيف عرف أنه يشك في هذا الشخص أنه المجرم؟ ومن أين أتى؟

عشرات الأسئلة دارت في رأس الشاويش، فأحسَّ أن الدنيا تدور به لحظات، ثم تمالك نفسه وقال: لعل هذا الولد يُريد أن يضحك عليَّ، ويقبض هو على «الخنفس»، وانطلق مسرعًا للحاق بهما.

عندما اقترب الشاويش من «تختخ» والدكتور، كانا قد اقتربا من منزل «تختخ» وسمعهما يضحكان، وهما يجتازان باب الحديقة، ويستقبلهما والد «تختخ» بابتسامة، وهو يُحيِّي الدكتور باحترام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤