الفصل الثالث عشر

التفت ستيفن رولاند بهدوءٍ وأنزل اليد من أعلى كتفه. كان واضحًا أنه تعرَّف على ستراتون في الحال.

سأل الطبيب: «هل هذه دعابة من شيكاجو؟»

«لو كانت دعابة، يا سيد رولاند، فأظنك ستجدها مزحةً جادةً للغاية.»

«ألا تخشى أن تجدها أنت دعابةً جادة؟»

أجاب الصحفي: «لا أجد داعيًا يدفعني إلى الخوف مما قلت.»

«سيدي العزيز، ألا تدرك أن بوسعي أن أطرحك أرضًا أو أرديك قتيلًا بالرصاص جزاءً لما فعلت، وسيكون لي من الأسباب ما يبرر فعلي؟»

أجاب الآخر: «سواء طرحتني أرضًا أو أطلقت النار عليَّ، فسيكون عليك أن تفعل ذلك بسرعةٍ فائقة؛ لأني قد أوقعت بك فريسةً بين يدي، بلغة أهل الغرب المتوحشين. في جيب معطفي هذا مسدسٌ في وضع الاستعداد وسبابتي على الزناد. إذا بَدَرت منك أي حركة عدائية؛ فسأجعل جسدك يشع ضوءًا كضوء النهار بسرعةٍ فائقة ستعجزك حتى عن إدراك ما أصابك.»

أجاب الطبيب، بنبرةٍ هادئة: «أظنك تقصد ضوءًا كهربائيًّا. حتى الرجل من شيكاجو قد يستعصي عليه أن يصعق شخصًا في هذا الوقت من المساء. ربما تكون مثل هذه الأمور من عادات وخلق أهل شيكاجو، لكن أؤكد لك أنها لا تصلح هنا في سينسيناتي. لقد أوقعت بنفسك تحت طائلة القانون إذا كنتُ عابئًا باستغلال هذه النقطة، لكنني لا أعبأ بذلك. عد معي إلى مكتبي. أريد التحدث معك.»

تسلَّل إلى ستراتون شعور لا يعرف من أين أتاه بأنه قد تصرف بحماقة جعلته أضحوكة. لقد فشل مخططه فشلًا ذريعًا. كان الطبيب أكثر هدوءًا وتماسكًا منه بكثير. رغم ذلك، ساوره شعور عميق بالشك في ذلك الرجل، ولهذا أبقى مسدسه في متناول يده خشية أن ينطلق الآخر راكضًا ويلوذ بالفرار منه. عاد الرجلان معًا دون أن يتفوه أحدهما بكلمةٍ إلى الآخر طوال الطريق إلى أن وصلا إلى مكتب الطبيب. دلفا إلى المنزل، وأوصد الطبيب الباب وراءهما. شك ستراتون أن ثمة احتمالًا كبيرًا في أنه ينجر إلى فخ، لكنه كان يرى أنه متأهب لوقوع أي طارئ مفاجئ. دخل الطبيب إلى غرفة المكتب، ثم أوصد بابها مجددًا. حالما أسدل الستائر، أشعل الغاز إلى أقصى درجة ثم جلس إلى طاولة، وأشار إلى الصحفي بالجلوس على الجانب الآخر.

تحدَّث إلى ستراتون في هدوء قائلًا: «إن السبب في عدم امتعاضي من إساءتك غير المبررة هو؛ أنك تحاول بضميرٍ حي أن تصل إلى أصل هذا اللغز. وأنا كذلك. الدافع الذي يحركك هو رغبتك في أن تُحرز انتصارًا لصالح الصحيفة التي تعمل بها. أما دافعي فمختلفٌ تمامًا، لكن هدفنا واحد في النهاية. والآن، ساقتك مجموعة من الملابسات الغريبة إلى استنتاج أنني أنا من ارتكبت الجريمة. هل أنا محق؟»

أجاب ستراتون: «محق مائةً في المائة، أيها الطبيب.»

«عظيم، إذن. أؤكد لك أنني بريء تمامًا. وبالطبع، أتفهَّم أن هذا التأكيد لن يؤثر بأي قدر في رأيك، لكن لدي فضول لمعرفة ما دفعك إلى هذا الاستنتاج، ولعلنا إذا تشاركنا الأفكار، حتى إن كان كل منا يضمر كراهيةً للآخر، فقد نرى ضوءًا في الأفق بشأن هذا اللغز الذي لا يزال سره غير معلوم حتى الآن. أظنك لا تمانع على الإطلاق أن تتعاون معي؟»

كانت الإجابة «لا مانع لديَّ مطلقًا.»

«عظيم، إذن. لا تلقِ بالًا لمشاعري على الإطلاق، لكن أخبرني تحديدًا عن سبب اشتباهك في كوني القاتل.»

أجاب ستراتون: «حسنًا، لا بد أولًا أن نبحث عن دافع. يبدو لي أن ثمة دافعًا بداخلك لارتكاب الجريمة.»

«وهل تسمح لي أن أسألك ما هو، أو ماذا كان، ذلك الدافع؟»

«هل ستقر بأنك كنت تكره برنتون؟»

«أجل، سأقر بذلك.»

«عظيم. وهل ستقر كذلك بأنك كنت … حسنًا، كيف لي أن أصوغها؟ لنقل، تهتم بأمر زوجته قبل زواجها به؟»

«أجل، سأقر بذلك.»

«ولعلك ستعترف بأنك تهتم بأمرها في الوقت الحالي؟»

«وإن كنت لا أرى أي ضرورة للاعتراف بذلك، لكن مسايرةً لوقائع القضية، فسأعترف بذلك. استمر.»

«جيد للغاية. ها هو الدافع وراء ارتكاب الجريمة، وهو دافعٌ قويٌّ للغاية. أولًا، سنفترض أنك واقع في غرام زوجة الرجل الذي قُتِل. ثانيًا، على فرض أنك رجل جشع، سيصبح في حوزتك مبلغ كبير من المال في حال زواجك من أرملة السيد برنتون. النقطة التالية، ثمة شخص ما على تلك المائدة سمَّمه. هذا الشخص لم يكن السيدة برنتون التي صبَّت له فنجان القهوة. لقد وُضِع فنجان القهوة أمام برنتون، ورأيي أنه لم يكن هناك أي سم في الفنجان حتى اللحظة التي وُضع فيها أمامه. لم يكن في نفس القتيل البائس أي شكوكٍ على الإطلاق؛ ولذلك كان من السهل تمامًا على أي شخص أن يدس قدرًا كافيًا من السم في ذلك الفنجان دون أن يلحظه أي من الجالسين على المائدة، وبذلك عندما احتسى قهوته لم يستطع أن ينجيه أحدٌ من الهلاك. ثم غادر المائدة وهو يشعر بالإعياء، واتجه إلى غرفته ثم فارق الحياة. مَن كان بإمكانه أن يضع ذلك السم في فنجان قهوته؟ لا بد أنه واحد من الشخصَين الجالسَين عن يمينه ويساره. كانت تجلس عن يمينه سيدة شابة. وحتمًا ليست هي من ارتكبت الجريمة. وأنت، ستيفن رولاند، مَن كنت تجلس عن يساره. هل تنكر أيًّا من الوقائع التي سردتها لك؟»

«هذه سلسلة عبقرية من الأدلة الظرفية. بالطبع لا تظن أن هذه الأدلة قوية بما يكفي لإدانة شخص بجريمة خطيرة كالقتل؟»

«بلى؛ أدرك تمامًا ثغرات القضية حتى هذه النقطة. ولكن هناك المزيد لنتتبعه. لقد اشتريت قبل هذا العشاء بأربعة عشر يومًا من متجر العقاقير عند ملتقى شارعَي بلانك ستريت ونيمو أفنيو ثلاثين ذرة مورفين. ثم عبأت السم في كبسولات تحتوي الواحدة منها على خمس ذرات. ما رأيك في هذا الدليل الذي أُضيف إلى سلسلة الأدلة العبقرية كما قلت؟»

عقد الطبيب حاجبَيه واتكأ في مقعده.

ثم قال: «يا إلهي! أنت محق. لقد اشتريت هذا المورفين بالفعل. تذكَّرت الآن. لا أرى مانعًا من أن أخبرك بأن لديَّ عدد من التجارب أعمل عليها، كشأن أي طبيب، وعبَّأت هذه الكبسولات في متجر العقاقير، لكن وقوع هذه المأساة أنساني الأمر برمته.»

«هل أخذت المورفين معك، يا دكتور؟»

«لا، لم آخذه معي. ولا أظن أن علبة الكبسولات قد فُتحت. لكن هذا أمر يسهل التثبت منه.»

نهض الطبيب، ثم اتجه إلى خزانته، وفتحها. من بين عدد من العُلب اختار علبةً صغيرة، وأحضرها إلى مكتبه، ثم وضعها أمام الصحفي.

«ها هي العلبة. بداخلها، كما تقول، ثلاثون ذرة مورفين موزعة على ست كبسولات تحتوي الواحدة منها على خمس ذرات. وكما ترى، العلبة مغلقة تمامًا مثلما خرجت من متجر العقاقير، افتحها وانظر بنفسك. ها هو الميزان، إذا أردت أن تتحقق مما إذا كانت ذرة واحدة مفقودةً أم لا، فلْتتأكد بنفسك.»

قال الصحفي: «ربما من الأفضل أن ندع هذا التحقيق للسلطات المختصة.»

«والآن، أما زلت على اعتقادك بأنني مَن قتلت ويليام برنتون؟»

«أجل، لا أزال عند ظني.»

«جيد للغاية، كما تشاء. لكن، أعتقد أنه من منطلق الإنصاف لشخصي، عليك أن تبقى هنا، وتتأكد أن يدًا لم تعبث بهذه العلبة حتى تأتي السلطات المختصة كما تقول.»

ثم أضاف وهو يضع يديه على الجرس: «مَن تريد أن أرسل إليه؟ رجل شرطة عادي، أو شخص من المكتب المركزي؟ لكن، بما أنني أفكر بالأمر الآن، إليك الهاتف. بإمكاننا أن نستدعي من تشاء إلى هنا. وأفضِّل ألا يغادر أيٌّ منَّا هذه الغرفة حتى يحضر ذلك المسئول.» ثم قال الطبيب، متجهًا إلى الهاتف: «أخبرني باسم المسئول الذي ترغب في استدعائه إلى هنا، وسأستدعيه في حال كان في المدينة.»

كان الصحفي مرتبكًا ومندهشًا. فلم تكن أفعال الطبيب تبدو كأفعال رجلٍ مذنب. لو كان مذنبًا، حتمًا سيكون قلقًا أكثر من أي شخص قابله ستراتون على الإطلاق. لذلك تردد. ثم قال:

«اجلس لحظة، يا دكتور، لنتناقش في هذا الأمر.»

علَّق رولاند، وهو يسحب كرسيه مرةً أخرى: «كما تريد.»

أخذ ستراتون العلبة، ثم تفحَّصها بعناية. بدا واضحًا يقينًا أنها على الحالة التي خرجت بها من متجر العقاقير، لكن هذا كان أمرًا يمكن بسهولة أن يفعله الطبيب بنفسه.

قال لرولاند: «أظن أن بإمكاننا فتح هذه العلبة؟»

قال الطبيب: «بكل سرور، تفضل.» ثم دفع إليه بسكين صغير كان على الطاولة.

أخذ الصحفي العلبة، ثم مرر السكين حول حافَّتها، ثم فتحها. كان بداخلها ست كبسولات، معبأة، كما ذكر الطبيب. التقط رولاند واحدةً منها، وأخذ يتفحَّصها بدقة.

ثم قال: «أؤكد لك، رغم يقيني التام بأنك لن تصدق كلمةً واحدةً مما أقول، أنني لم أرَ تلك الكبسولات من قبل.»

جذب ناحيته قطعةً من الورق، وفتح الكبسولة، ثم أفرغ المسحوق الأبيض على الورقة. نظر إلى المسحوق نظرةً فاحصة، ثم اعتلى وجهه نظرة ذهول. التقط السكين، ثم أخذ جزءًا ضئيلًا على طرفه، ولمسه بلسانه.

قال ستراتون: «لا تستهتر في التعامل مع هذا الشيء.»

قال الطبيب: «مهلًا، يا عزيزي، فالكميات الضئيلة من المورفين لا تسبب التسمم.»

بيد أنه في اللحظة التي تذوق فيها الطبيب المورفين، التقط الورقة فجأة، ثم وضع خمس ذرات على لسانه، وابتلعها.

هبَّ الصحفي واقفًا في الحال. وتبيَّن له على الفور السبب وراء كل هذا الهدوء المصطنع. لقد كان الطبيب يكسب وقتًا فحسب لكي ينتحر.

صاح الصحفي: «ماذا فعلت؟»

«ما الذي فعلته، يا عزيزي؟ لم أفعل شيئًا على الإطلاق. هذا ليس مورفين؛ هذه سلفات الكينين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤