الفصل الثالث

انهمك ويليام برنتون في تأمل موقفه مليًّا. كان سيعرف كيف يتصرف لو كان على يقين تام أنه لم يعُد ضحية حُلمٍ. بيد أن شيئًا واحدًا لا يعتريه شكٌّ ألا وهو أنه يشق على النفسِ أن ترى ما رآه في منزله. وحدَّث نفسه بأنه إذا كان موته واقعًا محققًا، أليست الخطة التي رسمها له فيريس هي السبيل الأكثر حكمةً ليسلكه؟ وقف برنتون في أحد الشوارع التي اعتاد التردد عليها. كان الناس — رجالًا ونساءً ممن عرفهم في حياته — يمرون به مرةً والأخرى فيتجاوزونه دون أن تبدو على أحدهم أمارة تدل على رؤيتهم له. عزم على أن يحل المشكلة التي استحوذت على تفكيره إن أمكن، وأن يعرف إذا كان بإمكانه التواصل مع أحد سكان العالم الذي رحل عنه. توقف للحظة حتى يفكر في الطريقة المُثلى لبلوغ غايته. ثم جال في خاطره أحد أصدقائه المقربين إليه والناصحين له، وتمنى في الحال أن يذهب إليه في مكتبه. لكنه وجده مغلقًا، فقرر أن يدخل وينتظره. ظل يشغل وقته في التفكير في وضعه المريب إلى أن وجد نفسه انتظر طويلًا، وحين سمع دق الأجراس، تذكر حينها فقط أن نهار يوم عيد الميلاد أوشك على الانتصاف، وأن صديقه قد لا يحضر إلى المكتب هذا اليوم. ثم تمنى بعدها أن يذهب إلى منزل صديقه، لكن لم تفلح مساعيه؛ فلم يجده في المنزل مثلما لم يجده في المكتب. لكن في المنزل، سادت حالة من الهرج والمرج، فاستمع لما يدور من حديثٍ داخله، فوجد أن موضوع الحديث هو موته، وعلِم أن صديقه قصد منزل برنتون حالما بلغ مسامعه هذا الخبر المفزع صبيحة يوم عيد الميلاد.

توقف برنتون مرةً أخرى ولم يعرف ماذا بوسعه أن يفعل. توجَّه إلى الشارع مجددًا، وكان كل شيء يدفعه إلى التوجُّه إلى منزله. ورغم أنه أعرب لفيريس أن لا نية لديه للأخذ بنصيحته، بدا له — كرجلٍ حكيم — أن تحذير فيريس جدير أن يؤخذ في الحسبان، ولو استطاع أن يقتنع لمرةٍ أن لا سبيل للتواصل بينه وبين من رحل عنهم، ولو عجز عن أن يُخفف عنهم ويُدخل السرور على قلوبهم، ولو رأى أشياء حُجِبت عن إدراكهم ولكنه عجز عن تحذيرهم منها، فلن تزداد نفسه سوى تعاسة على تعاستها دون أن يُخفف عن الآخرين العناء.

تمنَّى لو يعرف أين يجد فيريس لتسنح له الفرصة مرةً أخرى بالحديث معه؛ فقد أبهرته حكمته البالغة. ولكن سُرعان ما وجد نفسه بجوار السيد فيريس ما إن تمنَّى رفقته.

قال في ذهول: «يا إلهي! أنت تحديدًا مَن أردت رؤيته.»

قال فيريس: «بالضبط؛ ولهذا تراني.»

تابع الآخر: «كنت أفكر فيما قلته لي وخطر لي أن نصيحتك راجحة برغم كل شيء.»

رد فيريس وقد علا وجهه ما هو أشبه بالابتسامة: «أشكرك.»

«لكن أمرًا واحدًا أريد أن أصل فيه إلى قناعة ثابتة داخلي. أريد أن أعرف ما إذا كان يمكن التواصل مع أصدقائي. لا شيء سيُسكت صوت الشك في عقلي سوى التجربة الفعلية.»

سأل فيريس: «أولم تكفِك التجربة التي خضتها؟»

ردَّ برنتون بنبرة مترددة: «حسنًا، مررت بتجارب لا بأس بها، لكن يُخيَّل لي أنني في حال مقابلة صديقٍ قديمٍ لي، قد أُشعِره بوجودي بطريقةٍ ما؟»

أجاب فيريس: «في هذه الحالة، إن لم يقنعك شيءٌ غير التجربة الفعلية، فلِمَ لا تذهب إلى بعض من أصدقائك القدامى وتبذل معهم ما في وسعك؟»

«ذهبت لتوي إلى مكتب أحد أصدقائي القدماء ثم إلى منزله. وفي منزله علمت أنه قصد …» صمت برنتون لبرهةٍ ثم واصل حديثه: «منزلي السابق. يبدو أن كل ما حولي يدفعني دفعًا إلى هناك، ولكن إذا أخذت بنصيحتك، فعليَّ إذن أن أتحاشى ذلك المكان بالذات دون كل الأماكن الأخرى.»

قال فيريس: «لو كنت مكانك لفعلت الآن. لكن ما يمنعك أن تحاول مع أي من السائرين حولك؟»

نظر برنتون حوله. وجد أناسًا يمرون جيئةً وذهابًا بالمكان الذي وقفا يتحدثان فيه معًا. لم تكف الشفاه عن تبادل عبارات التهنئة. وفي نهاية المطاف، قال برنتون بنظرة متحيرة على وجهه:

«يا رفيقي، لا يمكنني أن أتوجه بالحديث إلى أي منهم. فأنا لا أعرفهم.»

ضحك فيريس وقال له:

«لا أظن أنك ستصدمهم كثيرًا جرب فقط.»

«جيد، ها هو ذا صديق أعرفه. انتظر هنا لحظة، سأقترب منه وأتحدث معه.» ومع اقتراب برنتون منه بسط يديه وتحدث، لكن ذلك الشخص السائر لم يعِره انتباهًا. ومر وكأنه لم يرَ أو يسمع شيئًا.

بادره فيريس بعد أن لمس أمارات الإحباط على وجهه: «أؤكد لك أن الأمر لن يختلف عن سابقه، مهما حاولت. وكما تعرف تلك المقولة القديمة التي تذكِّرنا بأن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. ليس بوسعك أن تجمع بين كل ما يميز هذا العالم وذلك العالم الذي فارقته. وفي رأيي، عمومًا، أنك يجب أن تريح بالك وتَقنع بما أنت فيه، على الرغم من أن الراحلين عن العالم الآخر دائمًا ما كانوا يتألمون حين انقطعت بهم أسباب التواصل مع أصدقائهم، لكن على الأقل تضمن لهم السعادة في عالمهم الحالي.»

رد برنتون: «يبدو لي أن في ذلك عزاءً كبيرًا لمَن لا يزالون هنا ومَن رحلوا عنه.»

أجاب الآخر: «حسنًا، لا أعرف. في النهاية، ماذا تمثل الحياة في العالم الآخر؟ ما هي إلا مجرد مرحلة إعداد لننتقل إلى هذا العالم. لا تدوم إلا لفترةٍ قصيرة إذا قورنت بالحياة التي نعيشها هنا لدرجة تجعلها لا تستحق العناء لأن نتصادم معها بطريقةٍ أو بأخرى. كلما طال بك العمر هنا مثلي، تكشَّفت لك هذه الحقيقة.»

تنهَّد برنتون وقال: «ربما أدرك ذلك يومًا ما. لكن في تلك اللحظة، ماذا أفعل بنفسي؟ أشعر وكأني رجل أمضى حياته كلها في عمل ونشاط لا ينقطع، ثم قرر دون مقدماتٍ أن يستمتع بفعل لا شيء. وهذا الأمر يكاد يقضي على عدد لا بأس به من الرجال، لا سيما إذا أرجئُوا قرار استراحتهم من العمل حتى مرحلة متأخرة من العمر كما يفعل أغلبنا.»

قال فيريس: «حسنًا، لا يوجد ما يضطرك للبقاء دون عمل. لكن قبل أن تشرع في أي عمل يشغلك، دعني أسألك إذا كان ثمة مكان ممتع في العالم تستهويك زيارته؟»

«بالتأكيد؛ فلم أحظَ إلا بزيارة أماكن قليلة من العالم. وهذا مما أندم عليه وأنا أغادره.»

قال فيريس: «مدهش! لكنك لم ترحل عنه.»

«عجبًا! أظنك قلت إني ميت؟»

أجابه فيريس: «بالعكس، لقد أصررتُ أكثر من مرةٍ على أنك لم تبدأ الحياة إلا الآن. والآن، أين تحب أن نُمضيَ اليوم؟»

«ما رأيك في لندن؟»

«لا أظنه اقتراحًا مناسبًا؛ إن أجواء لندن تميل إلى الكآبة قليلًا في هذا الوقت من السنة. لكن، ما رأيك في نابولي أو اليابان، أو إن لم تكن لديك رغبة في الخروج من الولايات المتحدة، ما رأيك في الذهاب إلى متنزه بلوستون؟»

سأله برنتون متشكِّكًا: «هل لنا أن نصل إلى تلك الأماكن قبل أن ينقضي اليوم؟»

«حسنًا، سأوضِّح لك قريبًا كيف نتمكن من كل ذلك. ليس عليك سوى أن تتمنَّى مرافقتي وسأصحبك طوال الطريق.»

قال برنتون: «ماذا عن مدينة فينيسيا؟ لم أرَ حتى نصف هذه المدينة كما أردت.»

أجاب رفيقه: «فكرة جيدة. لنذهب إلى فينيسيا.» وأخذت المدينة الأمريكية التي كانا يقفان فيها تختفي بعيدًا عنهما، وقبل أن يستوعب عقل برنتون ما يحدث وجد نفسه يسير مع رفيقه في ميدان سان مارك.

قال برنتون: «سفر لا أسرع منه يفوق أي تصور خطر بذهني، لكنه يؤصِّل داخلي الشعور بأنني في حُلم.»

أجاب فيريس: «ستعتاد قريبًا على التنقل هكذا وحينها ستتجلَّى لك وسائل السفر التي أرهقتنا في الدنيا بحجمها الصحيح.» ثم صاح فيريس قائلًا: «مرحبًا! أقدِّم لك رَجلًا يسرني أن تقابله. بالمناسبة، لا أعرف اسمك أو نسيته.»

رد برنتون: «ويليام برنتون.»

«سيد سبيد، يسعدني أن أقدم إليك السيد برنتون.»

رد السيد سبيد بلطف: «آها، وافد جديد. ضحية من ضحاياك يا فيريس؟»

رد برنتون: «بل قل أحد تلاميذه.»

figure
في فينيسيا.

قال السيد سبيد: «حسنًا، لم يختلف الأمر كثيرًا. منذ متى وأنت معنا؟ وهل أعجبك البلد هنا؟»

قاطعه فيريس: «كما تلاحظ يا سيد برنتون، لقد كان جون سبيد رجلًا من رجال الصحافة، ولا بد أن يسأل الغرباء عن مدى إعجابهم بالبلد. كان يسأل كثيرًا عن رأي الأجانب عند إجراء حوارٍ معهم لصالح الجريدة التي كان يعمل بها لدرجة أنه لا يستطيع أن يكف عن طرح سؤاله المعتاد. لقد انضم السيد برنتون إلينا ولكن منذ فترةٍ قصيرة …» ثم واصل فيريس حديثه: «كما تعرف يا سبيد، من الصعب أن تتوقع منه أن يجيب عن هذا السؤال الذي لا يمكن الفرار منه.»

وجَّه سبيد سؤاله إلى برنتون: «من أين أنت تحديدًا؟»

أجابه برنتون وهو يشعر كأنه سائح أمريكي يجوب قارة أوروبا: «سينسيناتي.»

«من سينسيناتي حقًّا؟ أهنئك. لا أعرف مكانًا آخر لأموت فيه قريبًا — كما يقولون — غير سينسيناتي. كما ترى فأنا من شيكاجو.»

لم يُعجب برنتون بالروح الهزلية التي بدا بها ذلك الصحفي، واستغرب أنه انتبه أن في عالم الأرواح هناك أشياء تعجبه وأخرى لا تعجبه مثل حاله على الأرض.

قال برنتون دون أن يبديَ رأيه صراحة: «شيكاجو من المدن الممتعة والمليئة بالمغامرات.»

رد عليه سبيد بلهجةٍ جادة: «بل شيكاجو يا عزيزي هي الأولى والوحيدة. سترى بعينك أن شيكاجو ستصبح أعظم مدينة في العالم قبل أن تصل إلى المائة من عمرك. على أي حال يا سيد فيريس …» ثم بدا وكأنه تذكر شيئًا فجأة: «لقد جئت بسومرز برفقتي هنا.»

قال فيريس «آها! هل تسدي له معروفًا؟»

«أجل، أيها الصغير العزيز، حسبما أعتقد.»

قال فيريس: «ربما يهتم السيد برنتون بمقابلته. أظنك يا برنتون قد سألتني مِن قبلُ إذا كان هناك أي جحيم أو عقاب هنا. السيد سبيد يمكنه أن يريك رجلًا في الجحيم.»

سأله برنتون «أحقًّا هذا؟»

أجابه سبيد: «أجل، لو اجتمع البؤس في شخصٍ واحد، فسيكون هو حتمًا. هذه هي مشكلة سومرز. حسنًا، مات سومرز متأثرًا بمرض الهذيان الارتعاشي، وبالطبع تعرف كيف كان يبدو الأمر. ظل سومرز يعاقر ويسكي شيكاجو طيلة خمسة وثلاثين عامًا دون انقطاع، ولم يكن يخففه مطلقًا بماء شيكاجو المثير للاشمئزاز. أظنك تعرف كيف أصبحت حالته الجسدية والعقلية. سعى كثيرون لإصلاح حال سومرز؛ لأنه كان رجلًا ذكيًّا حقًّا، لكن لم تفلح محاولاتهم. أصبح العطش مرضًا ملازمًا له حتى بات يعاني من أثر هذا المرض على عقله، بالرغم من أن احتياجه جسديًّا لم يَعُد له وجود بالطبع. قد يهب سومرز مستقبله كله مقابل كأسٍ واحدة من ويسكي كنتاكي المعتق. يتأمله على طاولات البيع ويظل يشاهد رجالًا يتلذذون بشربه وهو واقف بجوارهم بنفسٍ معذَّبة. لهذا أتيت به إلى هنا. حسِبت أنه لن يرى لون الويسكي وهو يلمع في الكأس، لكنه الآن في مقهى كوادرا يشاهد رجلًا وهو يشرب. قد تجدونه جالسًا هناك بوجه يشع حسرةً على عجزه عن إشباع رغبته.»

سأله برنتون: «وماذا تفعل مع رجل مثله؟»

«أفعل؟ حقيقة، ليس هناك ما يمكن فعله معه. لقد أبعدته عن شيكاجو على أمل أن أخفف متاعبه قليلًا، لكن لم يأتِ ذلك بنتيجة تُذكر معه.»

قال فيريس بعدما لاحظ نظرات تأثر على وجه برنتون: «سيصبح أفضل قريبًا. هذه فترة إصلاح عليه أن يمر بها وستنتهي. ما يمر به ليس إلا معاناته وآلامه التي كان سيعانيها على الأرض لو حُرِم فجأةً من مُسكِراته المفضلة.»

ختم سبيد كلامه قائلًا: «حسنًا، ألن تأتيَ معي إذن؟ لا بأس، إلى اللقاء. أتمنَّى أن ألقاك مجددًا يا سيد برنتون.» وعندئذ تفرَّقوا.

قضى برنتون يومين أو ثلاثة أيام في فينيسيا، لكن حنينه إلى منزله القديم كان يلازمه طوال الوقت. اشتاق لسماع أخبار عن سينسيناتي. أراد العودة إلى هناك، وأخذته أمنيته إلى هناك عدة مرات، ولكن ما يلبث أن يعود في الحال. وفي النهاية قال لفيريس:

«أنا متعب. لا بد أن أذهب إلى المنزل. لا بد أن أرى كيف تسير الأمور.»

figure

«لم أكن لأفعل ذلك لو كنت مكانك.»

«بلى، أعرف أنك لم تكن لتفعل ذلك. فاللامبالاة طبعك. أفضِّل أن أكون تعيسًا على علمٍ بما يجري على أن أكون سعيدًا متجاهلًا لمن حولي. إلى اللقاء.»

في المساء، وجد نفسه في مدينة سينسيناتي. كانت الأجواء مشرقةً صافيةً تغلب عليها البرودة. عند وصوله إلى المدينة التي يُطلِق عليها وطنه، كانت أقدام الرجال تصدر صوتًا عند سيرهم على الرصيف المكسو بالثلج، وتبدو الشوارع بإطلالتها البهية التي اعتادت أن تستقبل المسافرين بها عند عودتهم إليها. أما بائعو الجرائد فكانوا يهرولون في الشوارع يصيحون بأعلى صوتٍ لديهم لترويج صحفهم. سمع أصواتهم لكنه انتبه قليلًا.

«تفاصيل حادثة القتل! آخر الأخبار! تفاصيل قضية التسمم!»

شعر أنه لا بد أن يلقي نظرةً على الصحيفة؛ لهذا دخل مكتبًا في أحد الفنادق ووجد رجلًا يقرأ إحدى الصحف، ثم لمح من أعلى كتفيه الصفحة التي يفتحها أمامه، وأصابه الذعر لِما رأى من كلمات مفجعة تصدَّرت العناوين الرئيسية في الصحف:

مقتل برنتون

تشريح الجثة كشف أن المورفين هو السم المستخدم

العثور على ما يكفي لقتل عشرات الرجال

القبض على زوجة السيد برنتون لارتكابها الجريمة المروِّعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤