ثقافة السكون … وثقافة الحركة

المصادفات فعلها عجيب، فكأنما الأحداث التي نطلق عليها اسم المصادفات نعني بهذه التسمية أنها أحداث جاءتنا عمياء، فلم تكن تدري هي نفسها هل تقع أو لا تقع، وإذا هي وقعت فأين تقع ومتى ولا على مَنْ مِن الناس تقع؛ أقول: كأنما تلك الأحداث التي نزعم لها الحيرة والعمى، إنما هي في حقيقة أمرها مدبرة ومرسوم لها الطريق، ومحددة لها الأهداف وكل ما في الأمر، هو أننا نحن البشر لا نعلم عن حقيقتها شيئًا، ولو علمنا، لعرفنا مصادرها ومساراتها وأهدافها.

ومن تلك المصادفات، أنني ذات يوم قريب، شغلت نفسي بسؤال ثم أخذت أبحث له عن جواب، وكان السؤال هو: ما سر هذا الجمود الذي أمسك بأطرافنا، وكأنه سمَّر أقدامنا في مواضعها من الأرض فلا تخطو إلى أمام؟ وما كنت لأسأل سؤالًا كهذا، لولا أنني — في مثل هذا الأمر — لا تخدعني ظواهر الأشياء عن بواطنها، إنك تنظر فترى ما حولك يعج بالحركة، فشوارع المدينة غاصَّة بالمشاة والراكبين، ولا بد أن يكون لكل من هؤلاء غرض يسعى إليه، إذن فهو في حركة نشيطة لا جمود فيها ولا ركود كما تظن أنت وتدعي؛ حتى ما جاء المساء، وجلست أمام التليفزيون لتشهد الدنيا وأهلها وأحداثها، صدمتك ندوة يشارك فيها نخبة من علمائنا ومن شبابنا، وإذا الموضوع الذي يحتد حوله الحوار ويحتدم هو الشوارب واللحى، هل نحفها أو نتركها لتنمو على طبائعها، فعندئذٍ تدرك من هذا الذي يثقل صدور علمائنا وشبابنا بالهموم كم يشل الجمود أطرافنا فلا نتحرك خطوة إلى أمام، برغم ما ملأ شوارع المدينة من ظواهر النشاط والحركة.

وتنظر إلى الصحف والكتب التي تخرجها المطابع كل يوم فترى كلمات الكاتبين متدفقة أمام عينيك أنهرًا وبحورًا، وليس هؤلاء الكاتبون بالمجانين الذي يدفقون المداد على الورق بسنان أقلامهم كما اتفق، ثم يقولون للناس هاكم مقالة أو كتابًا، بل لا بد أن يكون لكل منهم ما يتدبره ويعنيه، لا، بل لا بد أن يكون كل منهم قد تأرق بما يزحم رأسه من معانٍ يريد تبليغها إلى الناس، حتى إذا ما قرأت أو سمعت وجدت بعض ما يشغلهم هو تعليم البنات، أحلال هو أم حرام؟ وعمل المرأة أيجوز أم لا يجوز؟ نعم، إنك تنظر حولك فترى حركة ونشاطًا، ولكن شيئًا ما يضربك آنًا بعد آنٍ ليوقظك من غفوتك، فلا تملك عندئذٍ إلا أن تحس بأننا — بكل مقاييس التقدم في العالم الناهض — جامدون مسمرون عند مواضع أقدامنا حتى ليتعذر عليك أن ترى فارقًا حقيقيًّا بين عامة جمهورنا اليوم وعامة الجمهور كما كانت منذ مائة عام، أيام محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وعبد الله النديم، وقاسم أمين، وإذا كان ذلك كذلك فمن حقنا أن نسأل: لماذا؟

هكذا كنت أسأل نفسي ذات يوم قريب، عندما زارني صديق عرفت فيه نموذجًا نادرًا، من حيث قدرته البارعة على مزجه جد الأمور بهزلها.

قلت: من زمن لم نرك، فأين كنت؟

قال ضاحكًا: كنت أصعد الجبل.

قلت: جبل؟ أي جبل هذا الذي كنت تصعده، وقد أصبحت مثلي قعيدًا أو كالقعيد؟

قال: إنه جبل مرسوم على ورق.

قلت: قص عليَّ قصتك، فهزلك يمتع مثل جدك.

قال: أخذني الملل حينًا، فاهتديت في مكتبتي إلى خريطة مكبرة لجزء من جبال الألب في الشمال الإيطالي، وهو جزء من الجبل يجذب إليه هواة الصعود، فنشرت الخريطة أمامي، وأمسكت بقلم، وأمعنت النظر فيما هو منشور أمامي، فما أنا إلا وكأني، بالخيال الناصع، أمام الجبل الحقيقي بصخوره، ووديانه وأشجاره وثلوجه، فأخذت أصعد السفح كما يفعل الهواة، وكل عدتي خيال وقلم يشير إلى مواضع قدمي صخرة صخرة، كان يمكن أن أتعجل الأمر فأقول: ها أنت ذا قد بلغت القمة، لكنني تريثت ممعنًا في كل خطوة أخطوها أحس الصعاب كما يحسها صاعد في الحقيقة، وإذا بلغت شقًّا في صخور الجبل، أخذني خوف من يخشى السقوط إلى القاع السحيق، وهكذا قضيت ساعات طوالًا، وعلى أيام متواليات، حتى أتممت الصعود، ولقد ساعدني على تلك الرحلة الخيالية العجيبة دقة الخريطة في رسم تفصيلات الجبل، فلم يعد فرق بين الصورة والجبل المصور إلا في الحجم.

قلت: ألا إنه لفتح من الله؛ هات لي يدك أصافحها مصافحة الشكور.

قال: ما هذا الذي تقوله؟ فتح من الله، لمن؟ وشكر، على ماذا؟

قلت: لقد حللت لي بحديثك هذا لغزًا كنت أشغل نفسي بحله، عندما جئت.

قال: إذن جاء دورك في الحديث، إنني منصت لما تقول.

قلت: شغلت بسؤال عن حياتنا، ما الذي جمَّدها فلم تعد تخطو خطوة إلى الأمام، برغم ما قد يخدع عين الرائي من حركة ونشاط، كنت أبحث عن السر، وكنت لأمر ما، أحوم حول اللغة التي نكتب بها ما نكتبه، ونذيع بها ما نذيعه؛ إذ كنت أشعر شعورًا غامضًا أن علة فقرنا الفكري تكمن في اللغة كما نستخدمها وكما نفهمها، لكنني لم أضع أصابعي على موضع الداء، إلا بإيحاء من روايتك التي رويتها عن صعودك للجبل فوق الورق.

قال: كيف كان ذلك؟ وضِّح.

قلت: لو كانت اللغة كما نستخدمها، وكما نفهمها، محكومة بالواقع في تفصيلاته، لكانت كل عبارة منها بمثابة خريطة يسير على هداها السائرون، كان سؤالي الذي طرحته على نفسي هو: لماذا نكتب لنغيِّر وجه حياتنا، فلا يتغير منها شيء؟ والآن قد وجدت الجواب، وهو أننا نكتب على نحو يؤكد السكون ولا يبعث على الحركة، وحتى إذا وجدنا بين أيدينا ما كتب ليحرك، قرأناه قراءة السكون.

قال صاحبي ساخرًا: وضِّح يا أخانا وضِّح!

قلت: أنت تعلم أن اللغة التي يستخدمها الإنسان — منطوقة أو مكتوبة — هي بمثابة عقله ووجدانه قد ظهرا في عالم الأشياء بعد أن كانا كامنين، فاللغة هي حقيقة ذلك الإنسان وقد أصبحت مجسدة ظاهرة، في صوت يتموج مع الهواء، أو في كتابة مرقومة على ورق، وأذن المتلقي في الحالة الأولى هي التي تسمع، وعينه في الحالة الثانية هي التي ترى، ومعنى ذلك هو أنك إذا وجدت في لغة المتكلم أو الكاتب خصائص تميزه، كانت تلك الخصائص هي نفسها ما يميز حقيقته الباطنية من عقل ووجدان.

ولو أمعنت النظر فيما يقوله الإنسان أو يكتبه، لرأيت صنفين مختلفين من العبارة اللغوية: فصنف منهما يتمثل في العبارة التي تصل إلى المتلقي، فتمده بمعرفة معينة، لكنها لا تحمله على أن ينشط بعمل ما، كأن تقول لصديق لك ساعة لقائه: إنني سعد بلقائك، فيسمع صديقك منك هذا التقرير الذي تصف به نشوتك الباطنية في لحظة اللقاء، لكنه موقف إدراكي لا يترتب عليه أن يؤدي صديقك عملًا، وأما الصنف الثاني من عبارات اللغة، فهو صنف من شأنه أن يحرض المتلقي على فعل يؤديه، كأن تقول لصديقك ذاك الذي التقيت به إن غبارًا علق بردائه، فلا يكاد يسمع منك ذلك حتى يسرع بحركة يزيل بها ذلك الغبار.

وليست كل المواقف بهذه الدرجة من البساطة والوضوح، إذ قد تكون حقيقة الموقف اللغوي بين المتكلم وسامع، أو بين كاتب وقارئ، على درجة من الخفاء والإضمار، ثم يأتي صاحب التحليل فيصب فاعليته التحليلية على المركَّب اللغوي الذي يتناوله بالدراسة، فيكشف له تحليله ذاك إن كان ذلك المركب اللغوي من الصنف الذي يتلقاه من يتلقاه، فلا يجد نفسه مدفوعًا إلى فعل يؤديه، أو كان من الصنف الثاني الذي من شأنه أن يحرك المتلقي إلى عمل ما. على أن الأمر في هذه التفرقة لا ينحصر في المقارنة بين جملة من هذا النوع وجملة أخرى من ذلك النوع، ولو كان الأمر كذلك لما اهتممنا به لكن هذه التفرقة قد يتسع مداها ويتسع حتى يشمل كاتبًا وكاتبًا آخر في جملة ما يكتبانه، بل إنه ليتسع حتى يشمل ثقافة بأسرها لشعب معين، مقارنةً بثقافة أخرى لشعب آخر، وها هنا بيت القصيد.

فإذا قارنت مجمل القول الذي قيل أو كتب في مصر خلال الثلث الأول من هذا القرن، بمجمل القول الذي نذيعه اليوم نطقًا أو نثبته كتابةً، وجدتني أحس بأن ذلك المجمل في الحالة الأولى كان من شأنه أن يحفز المتلقي إلى حركة يؤديها بينما المجمل في الحالة الثانية يقف بالمتلقي حيث هو؛ لأنه لا يرى نفسه مدفوعًا إلى عمل يؤديه، ونضرب مثلًا آخر على نطاق أوسع مرحلتين من التاريخ الفكري في الأمة العربية، إحداهما أربعة قرون امتدت من ظهور الإسلام إلى نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) والأخرى أربعة قرون امتدت من القرن العاشر الهجري إلى الرابع عشر (السادس عشر الميلادي إلى العشرين)، فهنا كذلك نرى الفرق واضحًا بين حياة ثقافية كانت في مجملها تحرك أصحابها إلى ضروب من النشاط مختلفة، في الحالة الأولى، وحياة ثقافية في الحالة الثانية، قد تعج بحركة الأجساد وبالصراخ والضجيج، لكنها من الوجهة الفكرية تترك أصحابها في مواضعهم لا يتقدمون، إذا لم نقل إنهم في أحيان كثيرة يدوسون أرضًا زلقة فينكفئون إلى وراء. وأستأذن القارئ في ذكر حقيقة عن شخصي وما أشعر به، عندما أقارن حالتي المحصلة من جملة ما أقرؤه مما يكتبه أعلام الفكر في أوروبا وأمريكا، بحالتي المحصلة من جملة ما أقرؤه لأعلام القلم في الأمة العربية بصفة عامة؛ إذ أجدني في الحالة الأولى وكأنني أستيقظ من سبات، أو أنتبه بعد غفوة، وأما في الحالة الثانية فأحس بأنني أقرب إلى وقدة تنطفئ، واندفاعة تخمد، ورجاء يخيب.

ولنعد إلى مصر بين مرحلتين: الثلث الأول من هذا القرن والمرحلة التي نجتازها اليوم، ففي الفترة الأولى، من ذا يقرأ للشيخ محمد عبده ولا يجد في نفسه بعد ذلك ميلًا نحو أن يضع عقيدته تحت ضوء يظهر ما بينها وبين العلم الحديث من وشائج القربى، ومن ذا يقرأ لقاسم أمين ولا يجد نفسه بعد ذلك وقد ازداد إيمانًا بحق المرأة في التعليم وفي العمل، ومن ذا يقرأ لأحمد لطفي السيد، ولا يكتسب بعد ذلك إيثارًا للعقل على العاطفة والهوى، عندما يكون مجال النظر مشكلة تمس السياسة أو التعليم أو ما إلى ذلك من شئون الحياة، ومن ذا يقرأ لطه حسين ولا تشتد به الرغبة في أن تتحقق للإنسان العربي صيغة للحياة جديدة، تندمج فيها الهوية العربية بمقومات الرؤية العصرية، ومن ذا يقرأ للعقاد ولا يجد نفسه مدفوعًا إلى هدف يحقق له فرديته الحرة المستقلة التي لا تنطمس معالمها أمام جبروت خارجي، لكن انظر إلى ما نقرؤه اليوم، ماذا يفعل بك سوى أن تحمد الله على لقمة العيش إذا وجدتها.

أريد للقارئ أن يفرق ين ضربين من النشاط والحركة، فهناك ذلك الضرب المألوف المعتاد المكرر كل يوم على طريق ممهد مدقوق بأقدام السائرين، وأعني به تلك الحركة التي ينشط بها الإنسان في أدائه لواجباته اليومية، والتي هي حركة قوامها عادات تكررت مع صاحبها حتى صيرته كالآلة، يؤدي ما يؤديه وهو سارح الفكر مغمض العينين، كالزارع يحرث أرضه ويرويها، وكالصانع يسوي الخشب ويقطعه ليجعل منه بابًا أو نافذة، وكربة البيت تنظِّف البيت وترتبه وتطهو الطعام، وكسائر العاملين حيث تكون الحياة رتيبة تجيء في يومها كما جاءت في أمسها، فمثل هذه الحياة لا فضل فيها لإنسان على حيوان، بل إن العكس يجوز أن يكون هو الصحيح؛ إذ أين تجد الإنسان الذي تبلغ حياته العملية الرتيبة المكررة، في دقتها دقة النحل في خلاياه ودقة النمل في بيوته، ودقة الطير في أعشاشه، في مثل هذه الحياة العملية الحيوية قد يخطئ الإنسان سبيله، لكن الحيوان لا يخطئ.

ذلك — إذن — ضرب من الحركة التي ينشط بها الإنسان في أدائه لواجباته يومًا بعد يوم، لكنه ليس هو الضرب الذي نعنيه حين نأخذ على حياتنا الحاضرة ركودها وخمودها وعمقها ومواتها، وأما الضرب الآخر، فهو ذلك الذي تراه حين يكون المجتمع فائرًا بقوة الشباب وفتوته، يلقي بنفسه في المجهول مغامرًا حتى يرفع عن ذلك المجهول غطاءَه الذي يُخفي حقيقته وطبيعته. إن روح المغامرة حين تشيع في جماعة ناهضة طامحة، إنما تعلن عن وجودها في شتى الميادين؛ فهي بادية في طموح العلماء والباحثين، وهم يسعون — كلٌّ في مجاله — نحو إضافة جديدة يضيفونها إلى العلم، وعندئذٍ لا تجد ذلك النوع من الرجال الذين نطلق عليهم صفة العلماء، حين يكونون في حقيقتهم تلاميذ كبارًا حفظوا الدروس ليلقوها على الدارسين محاضرات أو مذكرات، أقول إن روح المغامرة حين تشيع في جماعة طامحة تراها بادية في ألف صورة وصورة، فهي بادية في شباب يركب الصعاب ليحقق المحال، فهو يجوب البحر ويرتاد الصحراء ويصعد الجبال؛ وإني لأعجب وتأخذني الحسرة، كلما تابعت شباب الغرب في طموحهم الجريء، فمنهم من يغوص في البحر أيامًا بعد أيام ليرسم بدقة بالغة آثارًا غارقة في البحر منذ آلاف السنين، ومنهم من يعبر المحيط وحيدًا في مركب صغير يعده لنفسه بنفسه، ومنهم من يلف كوكب الأرض ماشيًا على قدميه، ومنهم من ينفق أعوامًا في غابة استوائية ليرقب صنفًا معينًا من الحشرات أو الزواحف أو الطيور إلى آخر تلك المغامرات إذا كان لها عند هؤلاء الطامحين آخر، والأمثلة التي سقتها ليست من خيالي، ولكنها جزء مما تابعت حدوثه في صيف واحد، بل وأضيف إليها مثلًا آخر كان فريدًا في نوعه، وهو أن القائمين على التعليم في بريطانيا أخذوا في اختيار عدد من الدارسين الممتازين من طلاب المدارس الثانوية، ليرسلوهم في رحلة تدريبية إلى منطقة القطب الشمالي مكلَّفين بالقيام ببحوث استكشافية محددة، يجرون فيها على نهج المستكشفين الكبار، أقول إني لأعجب وتأخذني الحسرة كلما تابعت مغامرات الشباب في الجماعات الطامحة لأني لا أملك في كل حالة إلا أن أرتد بعين خيالي إلى شبابنا في معظمه، لأراه في ضعف ومسكنة منكمشًا باهتماماته في تفاهات، كأن يشغل نفسه بشوارب الرجال ولحاهم، متى تقص ومتى ترسل، وإذا قصت فكم مليمترًا يبقى منها، وإذا أُرسلت فإلى أي الحدود. هما ضربان مختلفان من الثقافة والتثقيف، ضرب منهما يميل بالناس إلى السكون والقعود والركود، والضرب الآخر يحث الناس على الحركة والمغامرة والكشف عن الجديد، الضرب الأول ينتهي بأصحابه إلى مواقع التبعية الذليلة الضعيفة الفقيرة المريضة، والضرب الثاني لا يدع أصحابه إلا وهم يشقون جلاميد الصخر صعودًا إلى الذرا: علمًا وأدبًا وفنًّا وريادةً وسيادةً وثراءً. وهل نعجب بعد هذا إذا رأينا أولئك الطامحين المجاهدين المغامرين الكاشفين المنتجين، أحرارًا في أوطانهم فلا انقلاب من أجل الحكم، ولا اغتصاب، ولا اعتقال لمن يعارض ولا تعذيب ولا اختفاء للمتمردين في قبور تجمع بقاياهم ألوفًا ألوفًا، وذلك لأنهم مشغولون بالبناء والكشف والإنتاج، وأما الهدم والتخريب والجهل والرجوع إلى الوراء لياذًا بالماضي ليحميهم من قسوة الحاضر، فأمور متروكة لمن دب في أرواحهم هزال اليأس والضعف والمرض.

وبين أيدينا قرآن كريم لو عشناه لكانت الحرية لنا، والريادة لنا، والعدل فينا، وكل مقومات الكرامة والرفعة والطموح البنَّاء في نفوسنا. ولكن السؤال هو: كيف نعيشه؟ إننا نقرؤه، نعم، ولكن هل نحياه؟ سأضرب لك مثلًا واحدًا أوضح به ما أريده.

وقفت طويلًا طويلًا عند الآيات الكريمة التي تقول: … أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ … فارتسمت في ذهني صورة مؤداها أن الحرية والعدل واجبان على المسلم بحكم الكتاب، فالمعنى كما استخلصته هو هذا: إننا جعلنا للإنسان وسيلة يدرك بها الحق ووسيلة يعبر بها للآخرين عن الحق الذي رآه، وهديناه ليرى صعوبتين تقفان في طريقه لكي يذللهما ويقهرهما، لكنه وقف أمام تلك العقبة لا يحاول اقتحامها، وما هي العقبة التي نشير إليها، هي أن تحرر من قيدت حريته وأن تطعم من حالت الظروف دون إطعام نفسه وأن ترعى من فقد الوالد الذي يرعاه.

فالمحوران الرئيسيان هنا اللذان يحققان الحياة الكريمة، هما: أن يكون الناس أحرارًا، وأن تقوم بينهم عدالة اجتماعية تقضي بالتعاون بين أفراد الجماعة تعاونًا لا يهمل معوزًا ولا ضعيفًا عاجزًا، لكن تحقيق ذينك المحورين ليس بالأمر اليسير؛ لأن في الإنسان من غرائز الحيوان ما يميل به نحو التملك الذي يسلب من الآخرين حرياتهم، ونحو النهم الذي لا يشبع حتى ولو حُرم الآخرون، فتلك عقبة كامنة في غرائز الإنسان، ولا بد من تذليلها بالتربية التي تجعل الرجحان في طبيعة الإنسان، للحرية له وللآخرين، وللعدالة الاجتماعية، تقام بينه وبين الآخرين.

فهل يمكن لمسلم أن يعيش هذه الأسس ويحياها، ثم يسكت عن طغيان يسلب الناس حرياتهم، ويغض بصره عن تفاوت بين الأفراد، تفاوتًا يبيح أن يكون إلى جوار الجائع من يملك الملايين؟ ليست المسألة هنا متروكة لاختيارنا، فإما جاهدنا نحو تحقيق الحريات وإما سكتنا. كما أنه ليس متروكًا لاختيارنا، فإما أقمنا عدالة بيننا وإما صرفنا عنها النظر. بل الأمر هنا أمر عقيدة دينية تأمر وعلينا التنفيذ. تلك هي الصورة التي خرجت بها من تلك الآيات الكريمة، لكنني أردت الرجوع إلى المفسرين لأرى ماذا يقولون، وإذا بي أجد تفسيرًا يصعب على عقلي قبوله، فأولًا هو تفسير لا يستند إلى معاني الألفاظ التي أمامنا، وثانيًا — وهو المهم — هو تفسير ينتهي بنا إلى حياة السكون الخامد، لا إلى حياة الحركة الطامحة إلى رفعة الإنسان وكرامته، فقيل في النجدين إنهما طريق الخير وطريق الشر، فمن أين تأتي هذه التفرقة وكلاهما نجد، أي أن كلًّا منهما بمثابة المرتفع من الأرض الذي يقف حائلًا في طريق السائر، وكيف يتسق المعنى مع قوله تعالى بعد ذلك مباشرةً «فلا اقتحم العقبة» على أن الذي نريد لفت النظر إليه هنا بصفة خاصة، هو السؤال: وما أدراك ما العقبة، ثم التعقيب على السؤال بما يجيب عنه، وهو أن العقبة التي لا بد من تذليلها هي أن الإنسان الذي يتحكم في الرقاب يجب أن يفك تلك الرقاب، والإنسان الذي يملك الثراء يجب أن يؤخذ من ثرائه لأجل الآخرين، لكن ماذا يفيدنا أن يقول لنا المفسرون إن العقبة هي جبل في جهنم، ومن أين يأتي هذا المعنى، والذي أمامنا هو كلمة عقبة ثم توضيحها الذي ورد بعدها، وهو أن العقبة هي أن نطلق للناس حرياتهم، وأن نقيم بيننا وبينهم تعاونًا.

بين أيدينا كتاب كريم، إذا عشناه كنَّا نحن الأحرار، وكنَّا نحن العادلين، وكانت حياتنا آخر الأمر هي الحياة القوية الوثابة الطموح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤