حسبك من بستان زهرة

قال الغلام إذ بلغنا حافة بستان، كان الربيع قد فرشه ببساط من الزهر، الذي يخطف الفؤاد ويخطف معه البصر، فألوان الزهور متسقة في اختلافها، هادئة الحركة برءوسها، بدفعة خفيفة من الهواء اللطيف، وتحت شمس حانية، قال الغلام بشهقة المأخوذ: الله! ما أجمل الزهور! فقلت له: نعم يا ولدي ما أجملها وأحلاها، لكنك لن تبلغ من حلاوتها وجمالها مرادك، إلا إذا حصرت انتباهك في زهرة واحدة، تتأمل فيها صنعة الذي خلقها وبرأها ولوَّنها وسوَّاها! إن معرفة الإنسان لحقائق الأشياء وأسرارها لن تأتيك إذا أنت رأيتها ﺑ «الجملة»، وإنما تأتيك طائعة إذا أفردت لها عنايتك واحدة واحدة، فلكل كائن على وجه الأرض، صغيرًا كان أو كبيرًا، نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا، شخصيته الفريدة المنفردة، التي يختلف بها عن سائر أفراد نوعه، فكيف به اختلافًا عن سائر الأنواع، حتى ليخيل إليَّ يا ولدي، أن هذه الحقيقة المذهلة عن خلق الله، هي التي كان ينبغي أن تكون الدرس الأول، منذ أول يوم يلتحق به طفل بمدرسة، ليتحقق ذلك الطفل فيما بعد، ماذا تكون «الديمقراطية» بين أفراد الناس في الأمة الواحدة، حتى لا يطمس أحدٌ أحدًا، ولا يتعالى أحد على أحد، لأن كل أحد من الناس، والزهور، والطيور، وحتى ديدان الأرض وخنافسها — إذا تأملته — وجدته فردًا فريدًا، يختلف ولو قليلًا عن سائر أفراد نوعه، ودع عنك اختلافه عن سائر الأنواع.

وأما بعد، فهيا بنا، أنت وأنا، نوجِّه أنظارنا إلى زهرة واحدة، ولنغض البصر مؤقتًا عن بقية البستان، فرؤية المجموع دفعة واحدة تضيع معها حقائق الأفراد، انظر أولًا إلى هذه الزهرة التي أمامنا، في درجات لونها وأطيافه، فلو سألتك: ما لون هذه الزهرة؟ فقد تجيبني متسرعًا: إنها حمراء، لكن دقق النظر يا ولدي، تجد احمرارها هذا الذي أجملته أنت في كلمة واحدة، إنما هو عدة درجات، وإنك لتظلم الزهرة إذا جردتها من تراثها اللوني الغزير، ولست أدري إن كنت وأنت من أنت في سنك الصغيرة، تستطيع أن تفهم عني ما أقوله، إذا قلت لك إنه ربما كان السر في تخلُّفنا بالنسبة إلى من تقدموا من شعوب عصرنا، هو أننا نعلِّم أبناءنا حقائق الأشياء ﺑ «الجملة» ولا نُعنى بتربية العين والأذن وسائر الحواس، قف مع نظيرك من شباب تلك الشعوب الناهضة في بستان كهذا، وانظر كم ترى عيناه منه وكم ترى عيناك، كم تسمع أذناه من أصواته وكم تسمع أذناك، سيأخذك العجب يا ولدي، حين تخرجان معًا، فإذا بزميلك قد عرف الكثير، وأنت لم تعرف إلا أقل من القليل، وذلك لأن أهله عرفوا كيف يربون منه العين والأذن، ليرى وليسمع، ما لا تراه أنت وما لا تسمعه، وأريد لك أن تتنبه — قبل أن نترك لون الزهرة في غناه — إلى أن ذلك النسق اللوني بكل روعته وكثرته إنما هو مأخوذ من هذا التراب الذي تحت قدميك، وأن أريج الزهر الذي تشمه فيها هو عطاء هذا التراب الذي تطؤه بقدميك.

ولننتقل بأبصارنا إلى ورقات الزهرة وكيف رُصَّت صفوفها، وكيف تدرجت أحجامها مع تتابع تلك الصفوف، من الأكبر إلى الأصغر، ولكي أُطلعك على بعض سرها العجيب، أروي لك حقيقة عرفتها عن الأسس الرياضية الكامنة في ذلك الترتيب، فلقد وقفت مرة على نبأ يروي عن رجل إيطالي من رجال الدين في العصور الوسطى، وكان الرجل ذا موهبة رياضية، واسمه فيبوناتشي (في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي) فدفعته موهبته الرياضية إلى النظر في أوراق وردة، ليرى إن كان التدرج في مساحة الورقات، يجري على نسبة رياضية معينة، وما أشد فرحته إذ وجد تلك النسبة، وضبط مقدارها، وإذا لم تكن الذاكرة قد خانتني، فقد وجد فيبوناتشي أن النسبة بين الورقة في أي صف، وأي ورقة في الصف الذي يليه، هي (١: ١٫٦١٨) أي أن اتساع الورقة في الصف الأكبر يساوي اتساع الورقة في الصف الأصغر والتالي له مباشرةً، أكثر قليلًا مرة ونصف المرة، ثم يأتي بعد ذلك ما هو أعجب، فقد فكر الرجل في أن يتعقب ظواهر أخرى في النبات والحيوان، ليرى إن كان في تتابع أجزائها مثل تلك النسبة، فوجد النسبة نفسها قائمة في القشور الخارجية لثمرة الأناناس، وفي خلايا النحل، وفي تناسل الأرانب، ثم اسمع ما هو أعجب وأعجب، فقد اشتدت الرغبة عند الرجل في أن يتوسع في مجال التطبيق، فبحث في فن العمارة الروماني متمثلًا في روائعه، وإذا تلك النسبة قائمة كلما وجد وحدات معمارية متدرجة الأحجام، ونظر في بحور الشعر الروماني، فوجد أن التفعيلات في بعض تلك البحور، تتدرج أطوالها بالنسبة ذاتها، ولنا أن نضيف إلى تلك الحقائق حقيقة أخرى، وهي أن أرسطو فيلسوف اليونان قد ذكر بأن هنالك نسبة رياضية معينة إذا توافرت بين أضلاع المستطيل، كان ذلك المستطيل أحب إلى عين الإنسان من أي مستطيل آخر فيه نسب أخرى بين أضلاعه، ولذلك أطلق عليه أرسطو اسم المستطيل الذهبي، وكانت تلك النسبة الذهبية هي نفسها التي وجدها فيبوناتشي في طائفة كبيرة بحثها، من ظواهر الطبيعة نباتًا وحيوانًا، ومن آثار الفن عمارةً وشعرًا.

والآن فانظر يا ولدي كم وجد رجل واحد في وردة واحدة، وقف عندها فاحصًا باحثًا مدققًا، ولو كان قد اكتفى بنظرة إلى البستان في جملته، بكل ما فيه من أشجار وأزهار وحشائش وأعشاب، وشهق من الدهشة قائلًا: الله! ما أجمله من بستان! كما فعلت أنت عند قدومنا إلى هذا المكان، لما فرح بشيء مما رأى.

قف — يا ولدي — عند جزئية واحدة، من المجموعة التي أنت بصددها، وتعقب دقائقها وأسرارها، تزدد علمًا أكثر ألف ألف مرة مما تزداده الآن بتلك النظرات السريعة الشاملة، فسألني الغلام عند هذا الموضع من حديثي إليه قائلًا: وهل كنت تفعل ذلك منذ طفولتك وصباك؟ أجبته بقوله: لا، لقد كنت مثلك عندما كنت في مثل سنك، أنظر النظرات الخاطفة، وأطلق الأحكام السريعة الشاملة، بل ظللت كذلك حتى أوغلت في مرحلة الشباب، وإني لأذكر جيدًا كيف كنت أزور متاحف الفن، إذ كنت أهرول في أبهاء المتحف وغرفه، أنظر هنا، أنظر هناك، بل وأمشي أحيانًا وكأن العينين مغمضتان عما حولي، ثم أزعم أني زرت المتحف الفلاني، أما بعد أن تعلمت كيف أنظر، فقد أصبحت أزور المتحف من متاحف الفن، لأقضي النهار كله في غرفة واحدة، وأذكر مرة رأيت لوحة من الفن الحديث، موضوعها شاطئ البحر في الصيف، أغرتني بالجلوس أمامها متأملًا دقائقها مدة ساعتين، ولو طاوعت نفسي لواصلت الجلوس والتأمل، وذلك لأن اللوحة تكاد تشيع حولها برودة البحر ومرح المصطافين، على نحو يدفعك دفعًا إلى الشعور بأنك بالفعل في ذلك المكان، فأردت أن أتتبع مكونات اللوحة واحدًا واحدًا، ومجموعة مجموعة، لعلي أقع على سر ذلك الإشعاع والنشوة.

إن الفرد من عامة الناس — يا ولدي — يعرف الماء والهواء والخضر والحديد والنحاس، يعرف القطن والقمح والفول والعدس، يعرف ذلك كله، ويستخدمه في حياته العملية، لكن قارن معرفته تلك بمعرفة العلماء في مجالاتهم المختلفة، تجد العالِم يطيل الوقوف عند جزئية واحدة من مجال بحثه، قطرة واحدة من الماء — مثلًا — أو جزئية من جزئيات النحاس، ويظل يحلل ويحلل، حتى يخرج للناس من ذلك التحليل بالعناصر التي يتركَّب منها الماء، أو بخصائص النحاس حتى يصل فيها إلى عدد الكهارب المكونة لكل ذرة من ذراته، وإنك يا ولدي ترى الضوء كما يراه العالِم، وتسمع الصوت كما يسمعه، لكن انظر إلى العالم كيف يرى ويسمع، إنه يبحث ويبحث حتى يصل إلى الأطوال المختلفة لموجات الضوء وموجات الصوت، ويقيس سرعة الضوء وسرعة الصوت، أتدري ما نتيجة مثل هذه الرؤية الباحثة الفاحصة؟ إن العلماء وقد عرفوا من قطرة الماء كيف تتركب، بأن في مستطاعهم أن يصنعوا الماء، وأن العلماء وقد عرفوا تفصيلات الموجة الصوتية والموجة الضوئية، استطاعوا أن ينقلوا الصوت بالراديو، وأن ينقلوا الضوء (اللون) بالتليفزيون.

قف طويلًا عند الجزئية الواحدة من أي شيء تريد معرفته، حتى لو كان الأمر يتطلب منك في النهاية أن تلقي النظرة الشاملة على الكيان في مجموعه، فإن علمك بالجزئيات التي دخلت في إقامة ذلك الكيان، يجعلك فيما يشبه النور، انظر إلى الفرق بين رؤيتك لجسم الإنسان من ظاهره، ورؤية العالِم بتشريح ذلك الجسم تشريحًا يعرف به المكونات الداخلية من أجهزة مختلفة وكيف تعمل، وتفصيلات كل جهاز منها على حدة، وتفصيلات علاقاته بسائر الأجهزة. كنت فيما مضى أقرأ كتاب الله مرة كل شهر — أقرأ جزءًا كل يوم — ثم تعلمت كيف أقرؤه سورة سورة، وآية آية، ويدهشك — يا ولدي — إذا بيَّنت لك الفرق بين الحالتين، إن استطلاع السطح لا يغنيك شيئًا عن ارتياد الأعماق. وبمناسبة حديثي إليك عن المقومات الداخلية في الجزئية الواحدة، أذكر لك يومًا وقفت فيه طويلًا طويلًا عند سورة التين، وقصة ذلك بشيء من التفصيل، هي أني صادفت في أحد أسفاري باحثة بريطانية مستشرقة، أو قل على وجه التحديد إنها مستعربة، تدرس ما أمكنها أن تدرسه من اللغة العربية والفكر العربي، والأدب العربي، فلما عرفت أني مسلم، سألتني: أرجوك أن ترشدني إلى أي الأنبياء تشير كلمة «التين» في سورة: والتين والزيتون، وطور سينين وهذا البلد الأمين؟ فقلت لها: إنني لا أعرف أنها تشير إلى نبي. قالت: ولكن الأسماء الثلاثة التالية لها في القسم تشير كلٌّ منها إلى نبي. فالزيتون إشارة إلى عيسى، وطور سينين إشارة إلى موسى، والبلد الأمين إشارة إلى محمد (عليهم جميعًا الصلاة والسلام)، قلت لها: إن الذي أعرفه هو أن مثل هذه الإشارة إنما يقتصر على طور سينين؛ لأنه جبل موسى، والبلد الأمين؛ لأن المقصود به هو مكة المكرمة، أما التين والزيتون فلا أعلم عنها ذلك.

وانتهزت أول فرصة مواتية، ورجعت إلى تفسير الطبري، فوجدته — كما توقعت — يقول عن التين إنه التين الذي يؤكل، وعن الزيتون إنه الزيتون الذي يعصر، إذن فليس هو جبل الزيتون الذي هو ذو شأن في حياة المسيح — عليه السلام — ولم أقف في تفسير الطبري عند هذا الحد، بل أكملت قراءته إلى نهاية السورة، وهي سورة كنت قد عشت معها ساعات، أستبطن معانيها وأعماقها قدر استطاعتي، فوجدت بين تفسير الطبري لها، ورؤيتي لها، اختلافًا أبعد ما يكون الاختلاف، وبالطبع حين يكون اختلاف في مجال كهذا، بين عابر سبيل مثلي، وبين إمام كالطبري، تكون الأولوية لرأيه، ولكن تلك الأولوية لا تلغي وجودي، فما زلت أدهش لما قاله الطبري عن معانيها، ولا أملك إلا أن أجعل الرجحان لرؤيتي، وإني إذ أستعين بالله وأستغفره، سأعرض وجهتَي النظر في إيجاز.

بعد أن أقسم الله سبحانه وتعالى، بالتين والزيتون، وطور سينين وهذا البلد الأمين، قال جلَّ شأنه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.

يرى الإمام الطبري أن «أحسن تقويم» معناه أعدل خلق وأحسن صورة، وأن «أسفل سافلين» هو أرذل العمر، أي مرحلة الهرم التي تذهب فيها العقول ويحدث الخرف، أي إن مجمل المعنى هو: لقد خلقنا الإنسان في أجمل صورة، ثم رددناه إلى قبح الشيخوخة إذا صحبتها حالة الضعف العقلي، ويمضي الطبري في هذا الخط في تفسيره، فيكون معنى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا … أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات تصان لهم صحتهم وقوة شبابهم، وهؤلاء المؤمنون «لهم أجر غير ممنون»، أي إنهم ينالون أجرًا غير منقوص؛ إذ هم يظلون أقوياء على العمل.

وأستعين الله وأستغفره مرة أخرى، إذا قلت إن تفسيرًا كهذا لا يصادف عندي قبولًا، ولا ما يقترب من القبول؛ لأنه يضيع علينا قوة المعنى الصحيح وعمقه واتساع آفاقه؛ وأول الاختلاف بين الرؤيتين، هو في معنى «أحسن تقويم»، فلا أظن أن التقويم هنا يشير فقط إلى الشكل الخارجي والصورة الظاهرة في جسم الإنسان، وإنما الإشارة هنا إلى ذلك الجهاز الإدراكي القادر، الذي وضعه الله جلت قدرته، في الإنسان، فهنالك في باطن الإنسان قدرة عاقلة أولًا، تعرف كيف تستدل استدلالًا صحيحًا عمَّا يعرض لها من أحداث ومواقف، ومع تلك القدرة العقلية هنالك العواطف والمشاعر والمواهب المختلفة ثم الغرائز الحيوية، ذلك هو «التقويم»، وبالطبع تعد الحواس الظاهرة والحواس الباطنة جزءًا من ذلك التقويم، فليس التقويم الذي خلق الله الإنسان عليه، والذي قدَّم له بقسم يشير إلى الأنبياء هو شكل الجسم وصورته، بل هو «حشو» الجسم — إذا صح هذا التعبير — حشوه بكل ما فيه من قدرات. ولنلحظ أننا حين نقول عن شيء ما إن «قوامه» هو كذا وكذا، فإنما نعني بذلك عناصره و«مقوماته» فضلًا عن أن «القيم» مشتق لفظها من الأصل اللغوي الذي تفرعت عنه كلمة «التقويم».

وأهم ما نلفت النظر إليه هنا هو أن ذلك الجهاز الإدراكي والمحرك للإنسان وهو على فطرته، يكون «محايدًا» ويستطيع صاحبه أن يستخدمه في أعمال صالحات، كما يستطيع أن يستخدمه في السوء، وإرادته ساعة اختيار هذا الطريق أو ذاك هي التي تجعله إما بين الذين آمنوا، الذين يؤجرون أجرًا لا يمن عليهم به؛ لأنهم يستحقونه (وإني لأعجب من تفسير الطبري للأجر غير الممنون بأنه الأجر غير المنقوص). وإما تجعله بين الذين يردون أسفل سافلين يوم الحساب.

استرسلت في حديثي ذاك، وكأنني نسيت الغلام الذي كان هدف الخطاب، وكنَّا عندئذٍ نجلس في الحديقة على مقعد خشبي، فنظرت إليه لأجده قد أثنى عنقه إلى الوراء قليلًا، ليسدد بصره إلى شفتي، ليرى كيف يتحركان بعبارات، ربما فهم بعضها وغاب عنه المعنى في بعضها الآخر، فلما لمحت ذلك في عينيه، قلت: لقد كنت أحدثك يا ولدي في ضرورة الوقوف عند جزئية واحدة مما نريد أن نفكِّر فيه، لكي نحسن التصور والفهم؛ لأن أخذ الموضوع ﺑ «الجملة» من شأنه أن يضيع علينا رؤية الدقائق، فافرض — مثلًا — أنك تريد أن تعرف بدقة ووضوح موقف الأمة العربية في حالتها الراهنة، فلا يجديك كل الجدوى أن تسمع عن آلاف الملايين من الدراهم أو الدنانير أو الدولارات أو الجنيهات، التي أصبحت تجري كالأنهار تحت أقدامنا، لكن الصورة تكون أشد وضوحًا، إذا أنت وقفت طويلًا عند نبأ يقول إن شابًّا عربيًّا من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، قد أُرغم تحت تهديد السلاح من جندي إسرائيلي أن يسير على أربع — على اليدين والقدمين — نابحًا كما تنبح الكلاب، فهل تصدقني يا بني، إذا قلت لك إن عيني قد دمعتا حين قرأت النبأ؟ نعم، ولقد قرأت كذلك بعدئذٍ أن الحكومة الإسرائيلية قدمت جنديها إلى المحاكمة؟ لكن ما حدث قد حدث، وإنه لمن أركان المنهج العلمي أن واقعة واحدة تنفي زعمًا مزعومًا، تكفي لرفض ذلك الزعم، حتى لو أيدته آلاف الوقائع الأخرى، فانظر ماذا تجد، إذا سمعت منَّا ادعاءنا، عن الأمة العربية أنها — في يومنا هذا — بخير، بدليل الملايين التي تجري كالأنهار تحت أقدامها، ثم سمعت عن هذه الواقعة الواحدة، تحدث لشاب عربي واحد، فماذا أنت قائل؟

إنه لسوء طوالعنا نحن البشر ألا يكون لنا ذلك الخيال القوي، الذي نتصور به حقائق الناس في يأسهم وفي بؤسهم، ونحن على مبعدة منهم، وهل كان يمكن — لو كان للبشر مثل هذا الخيال الناصع، الذي يرى الأحداث وبشاعتها، حين تحدث على غير مرأى من العين — هل كان يمكن لإنسان أن يقدم على إقامة عمارة فوق أسس من الغش والخديعة، لتنقض على رءوس ساكنيها؟ قف يا ولدي عند جزئية واحدة لتتصور وتفهم؛ لأنك إذا اكتفيت بالحقائق في تعميمها وتجريدها، كنت كمن يسمع معادلة رياضية لا يعلم من رموزها إلى أي شيء تشير، قف من قصة العمارات المنهارة عند ذلك الرجل الذي ترك زوجته وأولاده في المسكن «الجديد»، وذهب ليؤدي صلاة الجمعة ثم عاد ليجد العمارة أنقاضًا مكومة على جثث زوجته وأولاده.

نعم إن «العلم» لا يكون إلا بالتجريد والتعميم واستخلاص الأحكام العامة من المعطيات الجزئية المحسوسة، فعلم النبات — مثلًا — يدرس هذه الزهرة التي بدأنا بها حديثنا هذا، لا يدرسها ليقف عندها، بل ليستخرج منها القوانين العامة التي تصدق عليها وعلى جميع أفراد نوعها، فإذا ما تحققت له تلك القوانين، نسي الزهرة وأهمل شأنها، لكن الإنسان — يا ولدي — بقدر ما يريد «العلم» في تعميماته وتجريداته تلك، فهو كذلك مضطر أن يحيا حياته اليومية العملية مع أفراد الناس ومفردات الأشياء، فأنت لا تتعامل مع «الإنسانية» أو مع «الأمة»، وإنما تتعامل مع إسماعيل وأحمد وفاطمة وزينب، وأنت لا تتعامل مع «الدولة» أو مع «الحكومة»، بل تتعامل مع هذا الموظف الواحد المعين الجالس إلى مكتبه يقرأ الصحيفة ويقضم الساندوتش ويرفض إنجاز شئونك في مواعيدها.

أريد لك أن تفتح عينيك وأذنيك وقلبك وعقلك، حتى لا تفلت منك الأفراد والمفردات في ضجة العبارات العامة المبهمة الغامضة، فإذا قيل لك — مثلًا — إن «الهدف» الأسمى الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا جميعًا هو قوة الوطن وازدهار الشعب، فانظر بدقة إلى «الوسائل» التي تخطط لتحقيق ذلك «الهدف» النبيل، فإذا وجدت من الوسائل أن تُكَم الأفواه وتُجوَّع المَعِدات وتُذَل النفوس، فارفض أن يكون سمو الهدف مبررًا لسفالة الوسيلة؛ لأن هذه الوسيلة هي فلان الفلاني الذي خُلِقت له معدة لتأكل، ولسان ليتكلم، وعقل ليفكر وهو حر.

لعلك قد سمعتني أوجه تهمة «السطحية» إلى كثرة غالبة من شباب هذا الجيل، حتى لقد سألتني مرة قائلًا: ماذا تعني بهذه الكلمة؟ لم أجبك ساعتها، لأني ظننتك عندئذٍ — وكان هذا منذ عامين — أصغر من أن تستوعب الجواب، وها أنا ذا الآن أذكر لك أطرافًا مما كنت أعنيه، فلقد رأيت شبابًا بالألوف — وأنت تعلم أن تعليم الشباب هو مهنتي — رأيتهم يقرءُون ما يقرءُونه وكأنهم مسافرون في طائرة لا يرون من نوافذها تفصيلات الطريق، فالرحلة تنتهي وهم لا يعرفون هل مروا على صحراء أو على أرض مزروعة؟ إنهم لم يدربوا على الوقوف عند التفصيلات، فأصبحت تصنعهم العبارات المجوفة والألفاظ المفرغة من معانيها.

أما أنت يا ولدي فأريد لك أن تفتح عينيك وأذنيك وقلبك وعقلك، فمن كل بستان يصادفك في حياتك وفي دراستك، حسبك منه زهرة واحدة تمعن فيها وتجيد فحصها، ولك بعد ذلك، أو عليك بعد ذلك، أن تقيم الصورة الكلية الشاملة للبستان، على أسس ثابتة من دراستك للمحتوى زهرة زهرة، فإذا كان بستانك كتابًا، فادرسه كلمة كلمة، ومعنًى معنًى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤