روحانيون نحن؟ وبأي معنًى

شهد الله أني ما كتبت حرفًا، أبتغي من ورائه شيئًا إلى أن يحمل عني فكرة أريد لها أن تبلغ القارئ، بلوغًا يقنعه عقلًا، أو يهزه قلبًا، وشهد الله أني لم أكتب حرفًا لأسعى من ورائه إلى مال أو جاه أو شهرة، فهذه أمور — حتى لو سعيت إليها — فليست وسيلتها أن تنثر لها قطرة من المداد في صحيفة أو كتاب، وإنما يتوسل إليها أصحابها بوسائل أخرى تقترن بكتابة أو لا تقترن على حدٍّ سواء، وكل شأني مع الكلمة والقلم، هو أني وجدت أمتي — على تدرج اتساعها مصرية وعربية وإسلامية — أمة ضعيفة بعد قوة، هزيلة بعد عز ومجد وسلطان، متخلفة بعد إمامة وريادة، جاهلة بعد علم ومعرفة، مقعدة بعد قوة وفتوة ومغامرة، تابعة بعد أن كانت في طليعة الدنيا، تحمل اللواء وتشق الطريق لها وللآخرين يجيئون من ورائها تابعين، فسألت نفسي لماذا؟ ثم حملت القلم لأجعل أخوتي في الوطن يشاركونني السؤال، ويحاولون معي أن نجد الجواب.

ونمد أبصارنا إلى ما وراء البحر، فنرى شعوبًا أخرى تمسي في نشاط وتصبح في نشاط، لها ساعة الضحى من كل يوم كشف علمي جديد، ولها ساعة الظهر من كل نهار برهان على قوة وجبروت، ثم لها في ساعات الأصيل من كل يوم إبداع جديد، في الفن، في اختراق الآفاق، في الصناعة، في الطب، في كل شيء يخطر لنا في بال أو في الخيال، أو لا يخطر. نعم، نعم، ولهم كذلك في كل ساعة قتل وفتك وعنف وتخريب، يوجِّهونه إلينا نحن الضعفاء الكسالى والمساكين، أكثر مما يوجِّهونه إلى أنفسهم.

ونسأل: لماذا؟ ماذا أصابنا؟ فلا نجد إلا الحيرة، أو الصمت الذاهل، ولكن ينطق لك مجيب من تحت الغطاء ليقول لك: هم ماديون، ونحن روحانيون! وهنا يتحول السؤال ليكون: أحقًّا ما تقولون؟ وبأي معنًى يا ترى تكون تلك المادية الملعونة وهذه الروحانية المزعومة؟

كلا، لا تغضب، فهو سؤال جاد لا هزل فيه، ومعذرة إذا وجدتي أسير بك ومعك نحو دقة في التحليل، ربما لم تكن قد ألفتها، لكن الأمر هو أمر حياتنا، كرامتنا، وجودنا، فلا يحتمل أن نمر عليه بلمسات على السطح، نستخدم فيها ألفاظًا مبهمة وغامضة، قد لا يكون فيها من القوة إلا تكرارها في أحاديثنا ألف ألف مرة كل دقيقة من نهار أو ليل. فترسخ فينا لتكرارها، فنظنها من حقائق الكون الثابتة، كشروق الشمس مع الصباح، وغروبها مع المساء.

روحانيون نحن؟ وبأي معنًى؟ إننا إذا نزعم المعنى لأي لفظ مما نستخدمه في حديث أو كتابة، فلا بد أن نكون على استعداد لبيان ذلك المعنى، إذا سألنا عنه سائل. على أن «المعاني» ليست كلها من نوع واحد، بل هناك منها عدة أنواع، تختلف باختلاف الألفاظ ذوات المعنى، وأهم تلك الأنواع ثلاثة: أولها هو أن يكون معنى اللفظ شيئًا مجسدًا محسوسًا، يمكنك الإشارة إليه، كأن تسألني عن معنى «تمثال نهضة مصر» فأصحبك إلى التمثال المقام على الطريق المؤدي إلى جامعة القاهرة، وأشير إليه قائلًا هذا هو معنى «تمثال نهضة مصر»، والنوع الثاني هو معانٍ تكون في أذهاننا تصورات عقلية لا هي مجسدة ولا محسوسة، فإذا سألتني عن معنى «الحرية» ما هو؟ أجبتك بشرح يشرح ما «أتصوره» في ذهني عن الحرية. وبعد ذلك قد نجد ذلك التصور مجسدًا في أنماط سلوكية نراها في حياة الناس الفعلية، ويمكن رؤيتها بالعين، وقد لا يكون لها وجود فعلي على الإطلاق، وفي هذه الحالة تكون الحرية بالمعنى الذي أردته لها، مجرد وهم عندي أتخيله، دون أن يكون له تطبيق يجسده في دنيا الواقع، وأما النوع الثالث من ضروب «المعنى» فهو ذلك الذي نجده في الحالات التي يكون فيها الحديث عن كائنات ليس لها وجود في عالم الأشياء وإنما هي من محض الخيال، الذي لا كان ذات يوم أمرًا واقعًا، ولا هو الآن كائن، ولن يكون أبدًا متحققًا في كائن من كائنات الواقع الفعلي، مثل «هاملت» في مسرحية شكسبير، ومثل «طائر الرخ» في حكايات ألف ليلة وليلة، وأمثال هذه الأسماء التي ليس لها مسميات في عالم الواقع، كثيرة الورود في الروايات وما يشبهها من مبدعات الخيال، وفي هذه الحالات، أين نجد «معنى» تلك الأسماء؟ الجواب: نجده في السياق الذي وردت فيه، فهذا السياق هو بمثابة العالم الطبيعي الذي نرجع إليه كلما أردنا أن نتثبت عن شيء مما ورد فيه من أسماء وعبارات، فمثلًا، إذا سألت قائلًا: هل صحيح أن هاملت قتل عمه؟ فأين نجد الإجابة عن سؤالك؟ في المسرحية المعروفة. وهنا أرجو من القارئ أن يركِّز انتباهه، حتى لا تفلت منه هذه الحقيقة الهامة — الهامة جدًّا في تكويننا العقلي — وهي أن هنالك أسماء كثيرة وكلمات لا حصر لعددها، ليس لها معنًى إلا فيما ورد عنها في الكتب التي هي مذكورة فيها، أي إنها لا تعني شيئًا على الإطلاق في دنيا الأشياء والكائنات.

إذا كنت قد صبرت معي خلال الفقرة السالفة، واستوعبت الأنواع الثلاثة ﻟ «المعاني»، فتعالَ ندقق النظر في «الروحانية» التي ننعت أنفسنا بها، ونتخذها تعلة نتعلل بها، كلما تحركت ضمائرنا لتحاسبنا على حياة التخلف التي نحياها في طمأنينة ورضا؛ يقينًا إن معنى «الروحانية» ليس من النوع الأول الذي ضربنا له مثلًا عبارة «تمثال نهضة مصر»، فليس هنالك شيء قائم على الأرض، نشير إليه قائلين: تلك هي الروحانية، كما نشير إلى الهرم الأكبر وجبل المقطم ونهر النيل، والأغلب كذلك أنها ليست من النوع الثالث، الذي يشمل الأشياء التي تسمى كائنات من خلق الخيال، وردت في رواية أو قصيدة شعر، إنها ليست من قبيل واق الواق، أو العنقاء، أو مصباح علاء الدين، وبقي لنا النوع الثاني من أنواع المعنى، الذي قلنا عنه إن المعنى فيه يكون تصورًا عقليًّا يمكننا شرحه للسائلين، وإما أن يكون لذلك التصور تجسيد في عالم الواقع — كما يحدث أحيانًا — وإما ألَّا يكون له مثل ذلك التجسيد — كما يحدث أحيانًا أخرى — وقد ضربنا مثلًا لهذا النوع من المعاني كلمة «حرية» ومثلها في ذلك كلمات كثيرة، وأحسب أن «الروحانية» هي من هذا القبيل، فهي تصور ذهني لنمط معين من السلوك ومن وجهة النظر إلى الكون والإنسان، على أن ذلك التصور الذهني قد يجد في عالم الواقع ما يجسِّده أو لا يجد.

فما هي العناصر الأساسية، التي نتوقع لها أن تكون مكونة لمفهوم «الروحانية» في أذهاننا؟ لا بد أن يكون واضحًا أمامنا — بادئ ذي بدء — أن اسم الروحانية منسوب إلى الروح، وأن الإنسان في تصوره العقلي، إذا ما ذكر الروح، قابله بالجسد، فالإنسان يتصور نفسه ذا جانبين: أحدهما مشتق من عالم المادة، والآخر آتٍ إليه من حيث لا يدري أحد من أمره شيئًا، سوى الخالق سبحانه وتعالى، فالزاعمون بأنهم «روحانيون» في طريقة حياتهم، لا بد أن يكون بعض ما يقصدون إليه هو دورانهم في حياتهم حول محور ذلك العنصر المجهول من كيانهم البشري، أي «الروح»، وأما البدن وحاجاته فيكتفي في شئونه بالحد الأدنى الذي يضمن للإنسان استمرار الحياة، من طعام وشراب وسائر ما هو خاص بالوجود البدني.

وأما عن حياة الروح، فأهم ما يرد عنها إلى الخاطر هو عبادة الله جل شأنه، وعلى الرغم من أن العبادة في معظم أركانها تعتمد على الجسد، فالشهادة ينطق بها اللسان ومعه سائر أجزاء الجهاز الصوتي، والصلاة وقوف وركوع وسجود ونطق، والصيام امتناع الجسد عن الطعام وغير الطعام مما يتصل بحاجات الجسد، والحج طواف ووقفة على عرفات وعبارات تقال ورمي للجمرات … إلخ، وكلها يؤديها الجسد، أقول إنه على الرغم من أن الجسد أداة ضرورية لأداء العبادات، إلا أنه في ذلك مجرد أداة، وأما الغاية فهي من شأن الروح التي لا يعرف أمرها وسرها إلَّا ربها.

إلى هنا والتقسيم بسيط وواضح، وخلاصته أن من يزعم عن نفسه أنه روحاني، فإنما يعني أنه لا يُعنى بحياة بدنه إلا من حيث هو أداة، وأن عنايته تنصب على العبادات، وهو تقسيم، إذا وسعناه، استطعنا أن نجعل شطريه — بدل قولنا جسد وروح — دنيا وآخرة، فالحياة الدنيا لا بد منها، لكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما قُصد بها أن تكون معبرًا لما هو غاية في ذاته، وأعني الحياة الآخرة، ومن هنا كان وصف الإنسان لنفسه بأنه «روحاني» يتضمن اكتفاءه من شئون الدنيا بالحد الأدنى الضروري للبقاء، فهي — كما قيل عنها — دار مفر لا دار مقر.

لكن تعالَ معي نمعن النظر أكثر فأكثر، فيما تتضمنه «العبادة» ومفهومها، إنها وإن تكن في معظمها تتجلى في صورة حركات بالجسد، بما في ذلك ما ينطق به اللسان من كلمات وعبارات، فإن هذا كله لا يكون شيئًا إذا لم نجاوزه إلى دلالاته، وليس هنا الموضع الذي نتناول فيه تلك الدلالات بالتفصيل، لكن الذي يهمنا منها في سياق حديثنا هذا هو ما تنطوي عليه العبادات من «قيم» مطلوب لها أن تنتقل من مجرد كونها كلمات ينطق بها العابد، لكي تصبح ضوابط للسلوك الفعلي الذي يمارسه ذلك العابد في حياته العملية اليومية، وقارئ كتاب الله الكريم إنما يقرأ في كل آية من آياته عن قيمة من القيم العليا، التي من شأنها أن تجعل من الإنسان الفرد إنسانًا كاملًا، وأن تجعل من ذلك الإنسان الفرد حين يواطن آخرين ويشاركهم في وطن واحد وفي أمة واحدة، مواطنًا كاملًا، و«الروحاني» هو ذلك الذي يحيا حياته وفق المعايير التي تفرضها تلك القيم.

فكم مرة يقرن الكتاب الكريم إيمان المؤمن بما يعمله من صالحات؟ وكم مرة يحض الكتاب على الصدق والإخلاص والأمانة؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى فك الرقاب وإطعام المسكين ورعاية ذوي القربى؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى الجهاد في سبيل الله؟ كم مرة ينادي بوجوب الرحمة والعدل؟ كم مرة يشجع المؤمن على النظر في خلق الله والتعقل والحكمة والتدبر؟ فحياة «الروحاني» هي حياة تجمع من هذا كله ما استطاعت قدرة البشر، لقد شاء لي الله في لحظة مباركة أن ألحظ فارقًا عظيمًا في مغزاه، بين تصور الإسلام للقيم الأخلاقية وتصور غيره من عقائد ومذاهب، وهو أنه بينما «المثل العليا» عند تلك العقائد والمذاهب إنما هي «نماذج» يتصورها الإنسان ليجعلها غاية يسير نحوها، مع استحالة أن يحققها هنا في هذه الدنيا، أي إنه يتحتم بحكم الضرورة أن تكون هنالك فجوة بين المثل الأعلى من جهة وسلوك الإنسان الفعلي من جهة أخرى، مهما بلغ ذلك السلوك من درجات الكمال، ترى التصور الإسلامي يدمج الطرفين معًا فيما هو ممكن للإنسان أن يحققه، بمعنى أن سلوك المسلم الحق، هنا على هذه الأرض، يمكن أن يتطابق مع ما هو مثل أعلى، ذلك لو أخلص المسلم لعقيدته، وصدق فيها، وآمن بها على النحو الذي يصوِّر به الكتاب الكريم جماعة المؤمنين، مفرقًا بين من أسلم مجرد إسلام، وبين من أسلم وآمن، وهذا هو «الروحاني» في حياته وفي رؤيته، وفي تعامله مع الناس، إن الكتاب الكريم يشير إلى فرق بين من يقنع في حياته بمجرد «حياة» (بغير أداة التعريف) وبين من يحيون «الحياة» (بأداة التعريف) كما ينبغي لها أن تكون.

وبعد أن رسمنا هذه الصورة الموجزة ﻟ «الروحاني» فإنه من حقنا أن ننظر إلى صور من الحياة الفعلية التي يحياها أولئك الذي يرفضون علوم العصر، وفنون العصر، وأدب العصر، ونظم العصر لأنهم «روحانيون». أما أبناء العصر فماديون حقت عليهم اللعنات، وهنا أترك لكل قارئ أن يراجع خبراته بمسالك الناس من حوله وفي دواوين الحكومة وفي الأسواق وفي أي ميدان آخر يختاره للمراجعة والنظر، ليرى إن كان فيما يراه ويراجعه من «الروحانية» ما يساوي أن نتخلف على طريق الحضارة، تاركين لغيرنا أن يكونوا هم العلماء، وهم المبدعون.

أهو «مادي» من يُفني حياته منقبًا في الأرض، وغائصًا في البحر، وطائرًا في الهواء وما يجاوز الهواء، ليزداد علمًا بخلق الله؟ وهل هي «الروحانية» أن نتربع على الأرض جلوسًا، في انتظار «الخواجة» ليخرج لنا من أرضنا بترولها وحديدها ونحاسها؟ أهو «مادي» ذلك الذي صنع لنا «القمر الصناعي العربي» الذي يُنتظَر استخدامه بعد قليل، والذي إذا سمعت ما سوف ينجزه للأمة العربية ذلك القمر الصناعي فكأنك سمعت المذهلات من سحر الساحرين؟ وهل «الروحانية» هي أن نجمد كالمُقعَد الأشل، انتظارًا لما يصنعه لنا ذلك «المادي» الملعون، فننعم نحن بما صنع؟ أحقًّا تكون أجهزة كأجهزة الحاسبات الإلكترونية «مادية» وهي تؤدي ما يؤديه «العقل» في دقة لا تستطيعها عقول البشر في حالتها الفطرية؟ إن جهازًا من تلك الأجهزة إنما هو عقل مجسد، فكر مجسد، علم مجسد، وليس هو قطعة من حجر الأرض ملقاة في فلاة، أهي «مادية» تلك الأجهزة الدقيقة التي تصور للطبيب حنايا القلب في مريضه، وثنايا أمعائه، ليقوم بالعلاج على بصيرة وهدًى؟ متى، وأين، منذ كان على الأرض إنسان خلت حياة الإنسان من استخدمه للآلات في زراعة أرضه وإقامة بيوته ونسج ثيابه؟ فهل تكون روحانية إذا ظلت تلك الآلات على سذاجتها الأولى، وتنقلب «مادية» إذا زادها الإنسان لنفسه دقةً وتهذيبًا؟

أم يريد أولئك الذين يضربون الطبول وينفخون في الأبواق تنفيرًا للناس من عصرهم وحضارته، إني أسأل: أم يريد هؤلاء بالمادية تلك الفنون والآداب، من موسيقى وشعر، وتصوير، وعمارة، التي قصارى جهودنا حتى الآن أن نحاكيها فنزداد بالمحاكاة غزارة وثراءً ونورًا، فكيف بنا إذ كنا نحن الأصلاء المبدعين؟ كنت أتمنى للدعاة الذين يملئون علينا الهواء صياحًا، في محاربة العصر وعلوم العصر وفنون العصر، ويصدقهم الناس، كنت أتمنى لهم ألا يجدوا أنفسهم مضطرين اضطرارًا أن يستخدموا في صياحهم تلك الأجهزة والآلات والوسائل التي هي «مادية» صنعها «الماديون» الأشرار، لكنهم يصيحون صياحهم في مذياع هو من صنع الماديين، وفي تلفاز هو من صنع الماديين، أو هم ينشرون صياحهم مطبوعًا بمطابع هي من صنع الماديين، ويكتبون ما يكتبونه بأقلام هي من صنع الماديين، ويلبسون ثيابًا نُسجت بمكنات من صنع الماديين، ويسكنون عمارات بنيت على طراز معماري هو من فن أولئك الماديين، أحلال لنا أن نستخدم كل هذه الوسائل، وحرام على أصحابها أن يبدعوعها؟ اللهم سبحانك.

لا، لا، يا رجل — هكذا قد يصرخ في وجهي مَن يصرخ — ليست هذه الأمور المادية التي نعنيها، وإنما نعني «الأخلاق»، ففي حياة تلك الشعوب المتحضرة بحضارة العصر — والعياذ بالله — فوضى بين الرجال والنساء تأباها الأخلاق، وفي حياتهم خمر، وقنابل ذرية تفتك بالبشر … إلى آخر ما يقولون، فمن ذا يصدق أن حياة فيها من الفوضى الخلقية ما يزعمون تستطيع أن تبلغ من العلم ما بلغوه، ومن الفكر والفن ما بلغوه، ومن النظام في شئون الحياة اليومية ما بلغوه؟ ومع ذلك فليس الأمر بيننا هجومًا ودفاعًا، فعصرنا مثقل بمشكلاته، فلماذا لا ننظر النظرة الصادقة ونعد العصر عصرنا ومشكلاته مشكلاتنا؟

الوقفة الصحيحة التي ننادي بها، ليست رفضًا للعصر وحضارته، على زعم أنه عصر الفوضى الخلقية التي تتنافى مع تراثنا وتقاليدنا، بل هي وقفة نقبل فيها حضارة العصر بكل مقوماته الأساسية ثم نحاول أن نضيف إليه من تراثنا وتقاليدنا بُعدًا إنسانيًّا خلقيًّا يكمل وجه النقص فيه، فليس الرأي الصواب فيما بيننا وبين الغرب مبدع الحضارة القائمة، هو أن نقول إما نحن وإما هم، بل الرأي الصواب هو أن نخلق صيغة حياتية جديدة تشمل مقومات حضارتهم من علوم وصناعات ومنهج وفنون وطائفة صالحة من النظم السياسية والاجتماعية، كما تشمل في الوقت نفسه مقوماتنا الخلقية وغيرها مما يشكِّل وجهة النظر وفلسفة الحياة. لا ليس الصواب هو: إما نحن وإما هم، بل الصواب هو: نحن وهم في صيغة واحدة، بها لهما من الخطأ أن نشير إلى مبدعي الحضارة الجديدة بضمير الغائب «هم»، والصحيح هو أن نستخدم ضمير المتكلم الجمع «نحن»، وفي نحن هذه نضع كل ما يسلكنا في الحياة الحضارية بالصورة التي ترضينا، وإلَّا كنَّا كمن يحكم مسبقًا علينا بالعقم الذي لا يرجى منه مشاركة في إنتاج علمي وفني وتكنولوجي نشارك به في إقامة البناء.

البديهية التي يفوتنا إدراكها هي أنه كان من الممكن أن يكون السلطان والتقدم والازدهار ما يزال معقودًا للمسلمين وفي تلك الحالة الافتراضية كان هذا العلم كله والتقنيات كلها والفنون كلها، ليكون من إبداع مسلمين. فليس في إسلام المسلم ما يمنعه من أن يكون هو الذي كشف عن أسس العلم الجديد ونهض بالصناعات الجديدة وصعد إلى القمر، وأنشأ كل ما يتميز به العصر من سمات؛ أقول ليس في إسلام المسلم ما يمنع هذا، سوى ما أصاب المسلمين من ضعف وتخلُّف حضاري تبعه ضعف وتخلُّف اقتصادي وسياسي حتى أصبح نهبًا مباحًا لكل من أراد أن يغزو ويسيطر. إن أولئك الذي يهاجمون أسس الحضارة العصرية يوحون للناس بأن مبادئ الإسلام وتلك الأسس نقيضان لا يجتمعان، ومن هنا تشيع فينا دعوى أننا روحانيون على سبيل الدفاع عن النفس في عجزها وقصورها.

لكن الروحانية بالمعنى الذي حددناه لها، والذي يجعلها متمثلة في العبادات أولًا ثم متمثلة في القيم الخلقية التي تسري في دنيا العلم والعمل لا تتناقض مع أن يكون الروحاني عالمًا في ميادين العلم الطبيعي بكل فروعه ولا يتناقض مع أن يكون الروحاني هو الذي ابتكر الحاسبات الإلكترونية وغيرها، بل العكس هو الصحيح؛ لأن الكشف عن أسرار خلق الله من شأنه أن يزيد الروحاني روحانية أي — والمعنى واحد — أن يزيد العابد إخلاصًا في عبادته لله عز وجل، كما يجعل ذلك العابد نفسه ينقل الأسس الخلقية من ساعات العبادة ليقيمها كذلك في ساعات العلم والعمل.

ولقد بدأت لك الحديث بعنوان جاء في صيغة سؤال: روحانيون نحن؟ وبأي معنًى؟ والآن أترك لك أنت أن تجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤