الفصل الثالث

نظام المجلسَين الاشتراعيين

نشوء نظام المجلسين في إنكلترة – لوائح تجديد مجلس اللوردات – تقرير بريس في سنة ١٩١٨ – ذيوع نظام المجلسين: المجالس الأريستوقراطية – المجالس الاتحادية – فائدة المجلسين في كل دولة ولو كانت ديمقراطية ومركزية – نظام المجلس الواحد: دستور سنة ١٧٩١ ودستور سنة ١٨٤٨ الفرنسويان – اختلاف المجلسين من حيث التركيب والوظائف.

تقسيم الهيئة الاشتراعية إلى مجلسين أمرٌ ساد الأمم التي تمارس الحكومة التمثيلية في القرن العشرين، وسنرى قلة الدساتير التي قالت بالمجلس الواحد، وأن وجوب ذلك التقسيم هو المبدأ الذي تستند إليه الحقوق الدستورية في الوقت الحاضر على وجه التقريب، ثم إنَّ الأمم التي اتخذت نظام المجلسين اقتبسته من إنكلترة رأسًا أو بالواسطة، ولم يكن نظام المجلسين في إنكلترة وليد العلم ولا نتيجة ترتيب محكم، بل نشأ عن نشوء تاريخي غير محسوس، ذلك ما عرفه عنه رجال القرن الثامن عشر، وبذا نفسِّر إعراض الروح الفرنسوية عنه في تلك الأزمنة.

فلننظر كيف نشأ نظام المجلسين في إنكلترة، ولماذا انتشر في الخارج؟

•••

عندما دُعِيَ البرلمان النموذجي في سنة ١٢٩٥ كان يُشابه في تركيبه مجالس فرنسا العامة التي دُعيت في القرن الرابع عشر، وذلك بعد أن تَستثنيَ منه تمثيل المقاطعات. فبجانب الأمراء الإقطاعيين والأساقفة الذين دُعوا إليه شخصيًّا، وبجانب النواب الذين انتخبتْهم المدن والمقاطعات، تمثَّل الإكليروس فيه كجمعية خاصة بواسطة رؤساء الكاتدرائيات، ومن المحتمل أنه تألَّف من هؤلاء جميعهم مجلس واحد، وإلى هذا المعنى ذهب كثير من علماء إنكلترة، ومن الجائز أنه تألَّف منهم أربعة مجالس، والواقع يدلُّ على أن ذلك كان يحدث في بعض الأحيان، وإنما الشيء الذي يستبعده الظاهر هو انتهاؤهم إلى مجلسين، وقد وقع ذلك فعلًا، وإليك البيان:

فمِن جهةٍ عدَلَ رجال الإكليروس في القرن الرابع عشر عن أن يتمثَّلوا في البرلمان كجمعية خاصة، على أن يستمرَّ الأساقفة على تبوُّء مقاعدهم فيه كمدعوِّين شخصيًّا، والسبب هو أنه لما كان المقصد الحقيقي من عقد البرلمان فرْض الضرائب التي يحتاج إليها الملك، كان رجال الإكليروس يرجِّحون أن يُقرِّروا ما يخصُّهم منها في مجالس منفصلة تُسمَّى المَحافل فنالوا ما يتمنَّون، وقد حافظوا على هذا الامتياز حتى سنة ١٦٦٤؛ حيث اتَّفق رئيس الأساقفة والوزارة على أن يخضع رجال الإكليروس لنظام الضرائب التي يدفعها أبناء البلاد.

ومن جهة أخرى تجمَّعت العناصر التي بقيت بعد حذف الإكليروس في كتلتَين مختلفتَين؛ الأولى هي الأمراء الإقطاعيون والأساقفة، والثانية هي نواب المقاطَعات والمدن، والتجانس بين أجزاء كل من الطرفين هو الذي أوجب ذلك التكتُّل.

وأول انفصال جليٍّ في مذكرات الفريقَين حدَث في سنة ١٣٣٢، وإن تكن قد أخذت تقع في مكان واحد، وفي سنة ١٣٤١ أصبح لكلٍّ من المجلسَين طابع خاص، وفي سنة ١٣٥١ اتخذ مجلس النواب لنفسه مكانَ اجتماع خاصٍّ، وفي سنة ١٣٧٧ صار لِمجلس النواب رئيس مُنتخَب من قِبَله.

ولما انقسَم البرلمان إلى مجلسَين تَقرَّر مبدأ مساواتهما والمبدأ القائل بأن أكثرية كل منهما ضرورية لإلزام البرلمان جميعه، وقد بيَّنَّا سابقًا كيف تمَّ ذلك لسنِّ القوانين، ومثله وقع لفرض الضرائب، ثم إنَّ كل فريق كان يفرض ضرائبه على انفراد وحسب نسبٍ مختلفة، ولكنه لما تألَّف المَجلسان في غضون القرن الرابع عشر عدلا عن فرض ضرائبهما انفرادًا، ورأيا أن يَرسُما خطة لفرض ضرائب واحدة على جميع الطبقات.

ومع أنَّ التاج كان يَعرض الضرائب على اللوردات أولًا، أصبحت الضرائب منذ أواخر عهد ريشارد الثاني (سنة ١٣٩٥) تُعيَّن من قِبَل مجلس النواب على أن يوافق عليها اللوردات، وفي سنة ١٤٠٧ تقرَّر أن يسمع الملك من فم رئيس مجلس النواب قرار المجلسَين في شأن الضرائب، وفي ذلك اعتراف بأن وضْع الضرائب من حقوق مجلس النواب.

ثمَّ إنَّ تكوين مجلسَي البرلمان أدى إلى نتيجة أخرى؛ وهي أنَّ انفصال مجلس اللوردات عن مجلس الملك وجَعْله كمجلس النواب جزأً من البرلمان أوجَبا أن لا يأتي بشيء إلا إذا كان البرلمان جميعه في حالة السير والعمل؛ ولذا كان حلُّ مجلس النواب أو عطلته يشلُّ مجلس اللوردات حتى يجدَّد انتخاب ذلك المجلس أو يَستأنف عمله، وهكذا نشأ المبدأ القائل بأن أحد المجلسَين لا يقدر على الانعقاد ما دام الآخر غير مُنعقِد.

ذلك ما نراه في نشوء نظام المجلسَين في إنكلترة، فلنوضِّح الآن كيف ثبت مع الوقت تركيب مجلس اللوردات.

كان مجلس اللوردات في البداءة مؤلَّفًا من الأمراء الإقطاعيِّين، ولكنه طرأ عليه في عهد إدوارد الأول (١٢٧٢–١٣٠٧) شيء من التغيير؛ إذ قلَّل هذا الملك عدد الأمراء الإقطاعيين الذين كانوا يُدْعون إليه، ومنذ ذلك الحين أصبح حق الاشتراك في المجلس المذكور منوطًا بإرادة الملك لا بالإقطاعات، ثم أوجب العُرف الشرعيُّ في القرن الرابع عشر أن يُصبح من حقِّ كل شخص يُدْعَى مرة واحدة إلى البرلمان ويُجيب الدعوة أن يُدْعَى في كل مرة، وأن يَنتقل حقُّه هذا إلى وارثه البِكْر فالبِكْر إلى أن تَنقرض ذريته، وبين هذه المرحلة والمرحلة التي يُنعِم بها الملك في عهدٍ صريحٍ قاطع لورديات إرثية لم يبقَ سوى خطوة واحدة وقد قُطِعَت سريعًا.

على تلك الصورة تألَّف مجلس اللوردات في إنكلترة، ثم تعقَّد هذا التأليف بعد ضمِّ اسكتلندا وأيرلندا إليها، فقد كان لهما مجلس لوردات أيضًا، وقد بقيا على رغم ضمِّ البلادين إليها، إلا أنه لم يُسْمَح لغير عدد يَنتخِبانه بأن يَشترك في البرلمان البريطاني، وهذا العدد كنايةً عن ستة عشر لوردًا اسكتلنديًّا يُجدَّد انتخابهم في كل دورة انتخابية، وثمانية وعشرين لوردًا أيرلنديًّا يُنتخَبون مدى حياتهم.

وكان مجلس اللوردات يَحتوي أيضًا على أكابر رجال الدين، ونَعني بأولئك الرجال أساقفة المَملكة ورهبانها، ومع أنَّ عدد الأساقفة قلَّ منذ عهد إدوارد الثالث ظلوا من الكثرة بحيث يتألَّف منهم ومن الرهبان أكثرية مجلس اللوردات، ولكنه لما أُلْغِيَت الأديار في عهد هنري الثامن وغاب الرهبان عن البرلمان، ضَعُف نفوذ رجال الدين لقلَّة عددِهم، وفي سنة ١٦٤٠ — أي في عهد شارل الأول — أُخْرِجوا منه ثم أعيدوا إليه في سنة ١٦٦١، وقد بقيَ أساقفة الإنكليكان جميعهم معدودين أعضاءً في مجلس اللوردات حتى سنة ١٨٤٧؛ حيث أقيمت أسقفية مانجستر فتقرَّر حينئذٍ أن لا يزيد عدد الأساقفة في البرلمان على ما هو عليه، وإن زاد عدد الأسقفيات. ولما أُنشئت أسقفية سنت1 البنز في سنة ١٨٧٥، وأسقفية تريورو2 في سنة ١٨٧٦، وأسقفية ليفربول، وأسقفية نيوكاستل،3 وأسقفية ساوثويل،4 وأسقفية ويكفيلد5 في سنة ١٨٧٨؛ لم يطرأ على القرار المذكور تعديل، وهكذا نرى للإنكليكان سبع أسقفيات لا تشترك في مجلس اللوردات، ولكل من رئيس أساقفة كنتربري6 ورئيس أساقفة يورك،7 ولكل من أساقفة لندن ودرهام8 وونيشستر9 كرسيًّا في مجلس اللوردات، وأما بقية الأساقفة فمتى خلا كرسيُّ أحدهم أُعْطِيَ لأقدم الأساقفة وظيفةٌ مِن غير أن يفرَّق بين الأسقفيات.

وقد اكتسب مجلس اللوردات — مع الزمن — صفة محكمة استئنافية عليا لتَنظر في أحكام المحاكم الإنكليزية العليا، غير أنَّ هذه الصفة كادت تزول في الوقت الحاضر؛ إذ ألغاها قانون سنة ١٨٧٣، ولكن تنفيذه أُجِّلَ إلى سنة ١٨٧٤، ثم إلى اليوم الأول من شهر نوفمبر سنة ١٨٧٦، وقبل حلول ذلك اليوم سُنَّ قانون آخر قرَّر بقاء الصفة المذكورة مع شيء من التعديل، وإذا بقيَتْ تلك الوظائف القضائية فلأنها لا تعود إلى مجلس اللوردات جميعه إلا في الظاهر فقط، فمِن الطبيعي أن لا يكون مجلس اشتراعيٌّ كثير العدد أهلًا للقيام بأمور القضاء المدني أو الجنائي، ومِن أجْل هذا نصَّ قانون سنة ١٨٧٦ على أنَّ المذاكرة في الاستئناف وبتَّه لا تُمكِن في مجلس اللوردات إلا في حضرة ثلاثة من الرجال الذين يَحملون لقب لورد الاستئناف على الأقل؛ وهم: قاضي القضاة الحالي واللوردات الذين نالوا منصبه في الماضي، واللوردات الذين كانوا — أو لا يَزالون قضاة — في لجنة المَجلس الخاص القضائية، والذين هم قضاة في المحاكم العليا ومستشارو الاستئناف، ويعني هذا أن الاستئناف القضائي لدى مَجلس اللوردات انتقل بالحقيقة إلى لوردات الاستئناف. نعم، يُعَد حقوقيًّا أن مجلس اللوردات جميعه هو الذي يباشر تلك الوظيفة، ولكنه لا يُستحبُّ أن يشترك الأعضاء الذين ليسوا من لوردات الاستئناف في بتِّ القضايا، ثم إنَّ قانون سنة ١٨٧٦ يسمح للوردات الاستئناف بأن يقوموا بوظائفهم في أثناء العطلة البرلمانية، حتى في أيام انحلال مجلس النواب إذا أذن التاج لهم في ذلك.

وقانون سنة ١٨٧٦ بنصِّه على «لوردات الاستئناف» لم يفعل سوى تنظيمه عادة قديمة؛ إذ كان من العُرْف السابق أن لا يُباشِر أمور القضاء غيرُ ذوي الاطلاع القانوني من اللوردات، حتى إنَّ بقية اللوردات صاروا منذ سنة ١٨٤٥ يَعدُّون عدم التدخُّل في القضاء واجبًا أدبيًّا، ومما جاء في القانون المذكور أنَّ التاج يستطيع أن يعيِّن أربعة لوردات استئناف ليَخدموا في مجلس اللوردات، على أن يكون مرتَّب الواحد منهم ستة آلاف جنيه في السنة، وكان يُدْعَى هؤلاء إلى البرلمان كأعضاء في مجلس اللوردات على أن يَبقوا فيه ما داموا لوردات استئناف، وكان يمكن عزلهم بناءً على عريضة يقدِّمها المجلسان، وبقيَ ذلك إلى أن سُنَّ قانون سنة ١٨٨٧ حيث مُنِحوا حق البقاء في البرلمان مدى الحياة وإن استعفوا من لوردية الاستئناف.

لا يَزال مجلس اللوردات قائمًا على الأسس القديمة، محافظًا على تألُّفه التقليدي، وهو — إذا استثنينا ما فيه من اللوردات الروحانيِّين ولوردات اسكتلندا وأيرلندا ولوردات الاستئناف — كنايةً عن مجلس أريستوقراطي إرثي، وهنالك تبايُن حقيقي بين مجلس اللوردات والجو السياسي الذي حدث في إنكلترة في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، فعلى رغم زيادة الديموقراطية في إنكلترة وتسرُّبها في أنظمتها واستيلائها على مجلس نوابها ظلَّ مجلس اللوردات أريستوقراطيًّا إرثيًّا، وقد زادت هذه الروح فيه بتقريره أنَّ الملك لا يَستطيع إحداث لوردات عُمْرِيين ما عدا لوردات الاستئناف، وأمرٌ مثل هذا مؤدٍّ بحكم الضرورة إلى البحث في إزالة التباين المذكور أو تخفيفه بإصلاح مجلس اللوردات، وقد بدت الخُطط الموصلة إلى هذا الغرض باكرًا، إذ وُضِعَ أولها في سنة ١٧١٩ ومنذ هذا التاريخ حتى سنة ١٨٩٣ كانت الخطط التي رُسِمَت في الموضوع ذات صبغة سلمية، ومنها ما عرضه اللورد سالسبري في سنة ١٨٨٢ وسنة ١٨٨٣ واللورد كنري10 في سنة ١٨٨٨.

وأول ما أضرم النفوس رفْض مجلس اللوردات في سنة ١٨٩٣ للائحة الحكم الذاتي الأيرلندي التي عرضها عليه المستر غلادستون؛ فقد نعَت الأحرار آنئذٍ مجلس اللوردات بأنه غير تمثيليٍّ، وقالوا بإصلاحه أو بخضوعه.

على أنَّ ذلك التصادم أدَّى إلى عرض لوائح جديدة على مجلس اللوردات؛ لتكون وسائل دفاع إزاء الحملة التي كان الغرض منها حرمان اللوردات جزءًا مهمًّا من حقوقهم وامتيازاتهم، وقد ظُنَّ أنه بإعادة النظر في تأليف ذلك المجلس — أي بتخفيف شأن المبدأ الإرثي السائد له وإدماج عناصر انتخابية فيه — تُصبح تلك الحقوق والامتيازات مشروعة من جديد، وتظل باقية، وأول لائحة وُضِعَت كانت من فعل اللورد نيوطن،11 وقد رُفِضَت بعد المذاكرة فيها سنة ١٩٠٧، ثم اقترح اللورد كودور12 انتخاب لجنة «للبحث في الاقتراحات التي قيلت من وقتٍ إلى آخر لزيادة نفوذ مجلس اللوردات في أمر الاشتراع.» وقد انتُخِبَت هذه اللجنة فعلًا، وباشرت عملها برآسة اللورد روزبري،13 فوضعت تقريرها المهمَّ في ٢ ديسمبر سنة ١٩٠٨، ولكن مجلس اللوردات لم يُناقش فيه، وقد صرَّح اللورد روزبري بعد مدةٍ بأنَّ عدم المناقشة فيه نشأ عن كون الحكومة لم تُرِدْ أن تضمَّ صوتها إليه.
والأفكار التي دارت آنئذٍ حول إصلاح مجلس اللوردات تُلَخَّص في مبدأين، وهما:
  • أولًا: وجوب التفريق بين اللوردية وعضوية مجلس اللوردات، وعدم تضمُّن الأولى للثانية بحكم الضرورة، وتقرير حقِّ الاشتراك في مجلس اللوردات لعدد محدود من اللوردات، وبذا يَضعُف المبدأ الإرثي في مجلس اللوردات، ويقلُّ أعضاؤه الذين زادوا كثيرًا.
  • ثانيًا: إدخال عناصر من الخارج إلى مجلس اللوردات في أدوار معيَّنة، وبذا تتجلَّى رغائب الرأي العام ومناحيه فيه.
ولما اشتدَّ العراك بين المجلسين عند رفض مجلس اللوردات الاقتراع للميزانية، اقترح اللورد روزبري — في ٢٢ مايو سنة ١٩١٠ — على مجلس اللوردات أن يتقوَّى بتفريقِه بين اللورد وعضو مجلس اللوردات، وعلى رغم المعارَضة الشديدة التي لقيَها اقتراحه وافقَتْ أكثرية مجلس اللوردات عليه، ومنها زعيم المُحافظين في مجلس اللوردات — اللورد لانسدون14 — الذي أعرب عن خوفه من بعض جهاته، وعلى أثر ذلك عَقَدَ رؤساء حزبَي الأحرار والمُحافظين مؤتمرًا لحلِّ الخلاف، وحينما أصاب الفشل هذا المؤتمر في شهر نوفمبر سنة ١٩١٠ استأنف اللورد روزبري اقتراحاته القائلة «بأن يتألَّف مجلس اللوردات من لوردات البرلمان، على أن يُنْتَخب هؤلاء من قِبَل الذين نالوا اللورديات بالإرث، وأن يعيَّنوا من قِبَلِ التاج، وأن تكون مُدَدُ عضوياتهم واحدةً، ويُستثنى من ذلك الموظَّفون الذين يتبوَّءون مقاعدهم في البرلمان ما داموا قابضين على زمام وظائفهم.» فوافق مجلس اللوردات عليها.

وقع ذلك في ١٧ نوفمبر سنة ١٩١٠ — أي قُبيل حلِّ مجلس النواب — وقد ظنَّ حزب المحافظين عندما عرض نفسه على الناخبين أنه اكتسب بذلك قوة كبيرة، ومما قاله اللورد روزبري في خطبة انتخابية طويلة ألقاها أنه كان قضى على مجلس اللوردات، وأنَّ الأحرار وحدهم هم الذين حاولوا إطالة بقائه، ولكنَّه لما عاد حزب الأحرار إلى المَجلس المذكور بأكثرية تُماثل الأكثرية السابقة واستأنف مشروعه البرلماني عارَضه حزب المحافظين فيه، وفي ٨ مايو سنة ١٩١١ وضع اللورد لانسدون لائحةً في إصلاح مجلس اللوردات فاستوقفت الأنظار؛ إذ بموجبها يكون هذا المجلس مؤلَّفًا من ثلاث مائة وعشرين عضوًا، منقسمين إلى ثلاث طبقات، وتكون مدة العضوية فيه اثنتي عشرة سنة، على أن يتجدَّد انتخاب ربع الأعضاء في كل ثلاث سنوات:

فالطبقة الأولى تحتوي على مائة لورد وراثي مُنتخَبين من قِبَل اللوردات الوارثيين جميعهم حسب طريقة التمثيل النسبي، والطبقة الثانية تحتوي على مائة وعشرين عضوًا منتخبين من قِبَلِ أعضاء مجلس النواب، وللوصول إلى هذا الغرض تُقسم المملكة إلى دوائر كبيرة على أن يكون للواحدة منها حسب طريقة التمثيل النِّسبي ثلاثة لوردات برلمانيين على الأقل، واثنا عشر لوردًا برلمانيًّا على الأكثر، والطبقة الثالثة تَشتمِل على مائة عضو يُعيِّنهم التاج من مجلس اللوردات وخارجه حسب قائمة الأسماء التي يَعرضها عليه مجلس الوزراء، وتُراعَى فيها نسبة الأحزاب في مجلس النواب.

ولم تَغفل اللائحة المذكورة عن اللوردات الروحانيِّين؛ فقد جاء فيها: «أنه يكون لرئيسَي الأساقفة مقعدان دائمان في مجلس اللوردات، ويكون فيه خمسة أساقفة ينتخبهم رئيسا الأساقفة وهيئة الأساقفة، على أن يُجَدَّد انتخابهم في كل ثلاث سنوات.»

وقد تركَتْ تلك اللائحة للتاج أمر إحداث لوردات وراثيين بشرط أن لا يكون لهم — لأجل هذه الصفة — كراسٍ في مجلس اللوردات، وبشرط «أن لا يُنعم باللوردية على أكثر من أربعة أشخاص في السنة» ما لم يكن المُنعَم عليه من الوزراء الحاليين أو السابقين، ثم إن اللائحة المذكورة جعلت للوردات حقًّا في ترشيح أنفسهم؛ ليكونوا أعضاءً في مجلس النواب.

ومما تقدَّم ترى النفوذ الكبير الذي يُعْطَى لمَجلس النواب في تأليف مجلس اللوردات، والغاية من ذلك أن يُرْفَعَ عن هذا المجلس لوم الأحرار الذين يقولون: إنَّ أكثريته المُحافظة ترفض كل لائحة تلائم مناحي الأحرار أو تبترها أيام يَقبضون على زمام الحكم وتقترع حرفيًّا لأية لائحة تَعرضها الوزارة عندما تكون من المُحافِظين.

تناقَشَ مجلس اللوردات في لائحة اللورد لانسدون فوافق عليها في ٢٢ مايو سنة ١٩١١، غير أنَّ إصلاحًا مثل ذلك لا يتمُّ إلا إذا دعمته الحكومة وأدارته بنفسها، وقد صرَّح المستر أسكويث — أكثر من مرة — بوجوب إقامة مجلس ثانٍ حسب المبدأ الديمقراطي من غير أن يكون له ما لمَجلس النواب من سلطان، فشاطره زملاؤه في الوزارة وزعماء الأحرار رأيه، ويرجِّح الأحرار أن يحافظ على الأمور التي جاءت في قانون سنة ١٩١١ البرلماني على إصلاح مجلس اللوردات حسب ذلك الوجه. ومن الأمور المذكورة أن لا يكون لمَجلس اللوردات — مع محافظته على تركيبه الحاضر — سوى وقف تنفيذ اللوائح التي يقترع لها مجلس النواب.

ظلَّت مسألة إصلاح مجلس اللوردات على حالها حتى ٢٣ مايو سنة ١٩١٧؛ حيث أعربت الحكومة لمَجلس النواب عن عزمها على إنجاز عهدها الذي وعدت به في سنة ١٩١١ إتمام القانون البرلماني، وللوصول إلى هذه الغاية ألَّفت في ٢٥ أغسطس سنة ١٩١٧ لجنةً برآسة اللورد بريس15 المشهور بسعة علمه القضائي وخبرته السياسية، وبعد أن نظمت هذه اللجنة تقريرها عرضه اللورد بريس على رئيس الوزارة، وقد نُشِرَ في جريدة النظم البرلمانية في ٢٤ أبريل سنة ١٩١٨، وسوف نرى — عندما نبحث في مكان آخر عن نشوء الحكومة البرلمانية في إنكلترة — أن التقرير المذكور يقترح تقليل خصائص مجلس اللوردات على أن يَبقى له شأنه الاشتراعي.

ومما أشارت إليه اللجنة المذكورة أن يؤلَّف مجلس اللوردات من الرجال الذين اختَبروا المصالح العامة والمسائل الزراعية والمالية والعسكرية والاستعمارية، ومن الذين — مع ما لهم من قابلية للقيام بالخدم العامة — ليسوا من النشاط الجثماني بحيث يستطيعون أن يرشحوا أنفسهم لمجلس النواب، ومن الرجال المعروفين باستقلالهم الفكري.

ولم تقل تلك اللجنة بحق التاج في تعيين اللوردات، كما أنَّها لم تَقُلْ بانتخابهم جميعهم من قِبَل لجنة مُشتركة بين المجلسَين، وإنما قالت بأن يَنتخب أعضاء مجلس النواب أكثرية مجلس اللوردات، ولكي يُجْتَنب تنازع الأحزاب في ذلك اقترحت أن تُقسَّم بريطانيا العظمى إلى ثلاث عشرة دائرة على أن يَنتخب نواب كل دائرة عددًا معينًا من اللوردات، وأن يَتبعوا في ذلك طريقة الاقتراع بحسب القائمة، وطريقة التمثيل النسبي، وطلبت تلك اللجنة أن تكون مدة العضوية في مجلس اللوردات اثنتي عشرة سنة، على أن يجدَّد انتخاب ثلث الأعضاء في كل أربع سنوات.

وقد رغبت اللجنة المذكورة في احترام التقاليد ومبدأ الارتباط التاريخي وبقاء اللوردات الذين اختَبروا الإدارة والحياة البرلمانية، فقالت بأن تَنتخب لجنة دائمة مشتركة بين المجلسين ربع أعضاء مجلس الشيوخ من اللوردات الوراثيين والأساقفة لمدة اثنتي عشرة سنة على أن يُجدَّد انتخاب ثلث هؤلاء في كل أربع سنوات.

ثم إنَّ اللجنة المشار إليها قررت أن يَبقى قاضي القضاة وغيره من لوردات الاستئناف أعضاءً في مجلس الشيوخ ما دام هذا المجلس محافظًا على سلطته القضائية التي نصَّ عليها قانون سنة ١٨٧٦.

وهكذا ترى تلك اللجنة أن يُنزع من الأريستوقراطية الإنكليزية امتيازٌ ثمين تتمتَّع به، فمتى يتمُّ إصلاح مجلس اللوردات على هذا الوجه تنتصر الديموقراطية في إنكلترة انتصارًا نهائيًّا.

وأما مجلس النواب الإنكليزي فهو انتخابيٌّ منذ إحداثه، وتَنتخِب المقاطعات والمدن أعضاءه على الدوام، وإنما الذي تحوَّل فيه هو نظام الانتخاب الذي اختلف مدة كبيرة في المُقاطعات عنه في المدن؛ فقد أخَذ هذا النظام يَتقارب في كلا الطرفين منذ الإصلاح العظيم الذي تمَّ في سنة ١٨٢٢ وإصلاح سنة ١٨٨٤، وقد تحقَّقت وحدته تقريبًا في قانون تمثيل الشعب الذي نُشِرَ في ٦ فبراير سنة ١٩١٨.

وإنَّ مجلسَي البرلمان الإنكليزي ظلَّا موجودَين منذ فُصِلَ أحدهما عن الآخر، ولم يطرأ على وجودهما معًا انقطاع حتى ١٩ مارس سنة ١٦٤٩ حين أُلْغِيَ مجلس اللوردات، وفي شهر ديسمبر سنة ١٦٥٧ دعا كرومويل أناسًا لتأليف مجلس لوردات، ولما مات كرومويل ودُعِيَ البرلمان — الذي أصبح كنايةً عن مجلس النواب وحده منذ سنة ١٦٤٩ — مال الرأي العام إلى تأسيس مجلس لوردات، فأعيد تأليفه السابق الذي بقيَ موجودًا حتى الآن.

وما تقدَّمَ جعل عددًا كبيرًا من الفقهاء منذ القرن الثامن عشر يعتبرون نظام المجلسَين عنصرًا ضروريًّا للحكومة التمثيلية الحرَّة التي استطاع الإنكليز وحدهم أن يَستنبطوها في أوربة وأن يُطبِّقوها، وقد انتشر ذلك النظام بالتدريج في أنحاء أوربة، حتى أصبح اليوم من الحقوق السائدة للأمم الحرة ما عدا بعضها، غير أن هذه الحركة أوجبت أمرَين: أحدهما البحث في نظرية نظام المجلسَين والتدقيق في مزاياه التي يُمكن أن تكون في كل زمان ومكان، والثاني البحث في كون الأُمم التي اقتبسته من إنكلترة طبَّقته لحماية مختلف المصالح، وسأبحث في الأمر الثاني أولًا.

•••

إنَّ المصلحة الأولى التي أدَّت إلى تأليف مجلس ثانٍ هي القائلة بأن يكون للطبقة الأريستوقراطية الموجودة في الأمة تمثيل خاصٌّ، ذلك ما أوجب تأسيس مجلس اللوردات الذي مثَّل الأمراء الإقطاعيِّين في البداءة، ثم مثَّل الأريستوقراطية الأرضية الإرثية المنجلية في عهد من الملك، قال مونتسكيو في كتاب رُوح القوانين: «في كل دولة أناس مُمتازون من غيرهم بنسبهم أو ثرواتهم أو شرف أفعالهم، فإذا اختلطوا بالشعب وصار صوتهم كصوت الآخرين أصبحت الحرية العامة استعبادًا لهم، ورأوا من منفعتهم أن لا يدافعوا عنها، إذًا فليكن شأنهم في الاشتراع بنسبة ما لهم في الدولة من فوائد؛ وذلك بتأسيس هيئة منهم على أن يحقَّ لها أن تقف مشاريع الشعب كما يحقُّ للشعب أن يقف مشاريعها؛ أي يجب أن تفوض السلطة الاشتراعية إلى هيئة من الأشراف وهيئة تمثِّل الشعب.»

والمصلحة الثانية تتجلَّى في الجمهوريات الاتحادية؛ وبيان ذلك أن الجمهوريات الاتحادية تحتوي على دولة واحدة مشتملة على الأمة جميعها، وعلى دول خاصة لكلِّ واحدةٍ منها سيادتها الداخلية، ولكي تثبت الموازنة بين الطرفين يجب أن يتمثَّلا في مجلسين اتحاديين: أحدهما مُنتخَب بنسبة السكان وممثِّل للأمة كهيئة واحدة مُتجانسة، والثاني منتخب من سكان كل دولة خاصة ممثِّل لها قائم على مبدأ المساواة بينها وإن اختلفت أهمية كل واحدة منها. ومن الأمثلة على ذلك مجلسا المؤتمر في الولايات المتَّحدة، ومجلسا البرلمان الاتحادي في سويسرة. ومثال سويسرة يستوقف النظر أكثر من مثال الولايات المتحدة؛ إذ لما كانت التقاليد الإنكليزية سائدةً للولايات المتحدة كان من المُنتظَر أن يَحتوي مؤتمر الاتحاد فيها على مجلسين؛ وذلك بعكس سويسرة التي لم يكن لمقاطعاتها سوى مجلس واحد، والتي هي مع مخالفة نظام المجلسين لروحها الديموقراطية أسست — بحسب دستورها الذي سُنَّ في سنة ١٨٤٨ — مجلسَين اتحاديين؛ للمحافظة على مساواة مقاطعاتها واستقلالها، ولمنع مقاطعاتها الكبيرة من الاستيلاء على مقاطعاتها الصغيرة.

وتتجلَّى المصلحة الثالثة في البلدان الجديدة الكثيرة الديموقراطية؛ حيث تفوقُ المسائل الاقتصادية المسائل السياسية، وقد برَّر الأستاذ جنكس16 نظام المجلسين في حكومة فيكتوريا «أوستراليا» بأن بيَّن أن أحدهما يمثِّل العمل، والثاني يمثِّل رأس المال، وإليك ما يقول: «لو نظرنا إلى الأمر في مجموعه لرأينا أن مجلس الشيوخ ممثِّلٌ لرأس المال، فالاقتراع المحدود الذي هو مصدره وعدم نَيل أعضائه رواتب واشتراط كونهم من أصحاب الأملاك كلها أمورٌ تدلُّ على أنه يتألَّف من الأغنياء الذين ينظرون إلى الأحوال من الجهة المالية، وعكس ذلك مجلس النواب الممثِّل للعمل، والقائم على أُسس أخرى، ولما كان من الضروريِّ أن يتمثَّل كلٌّ من الفريقين في حكومة البلاد فكل اقتراح قائل بإلغاء أحد المجلسَين يحرم أحد الحزبين الاشتراك في سير الأمور، ومن ثم يكون جائرًا.»
وأوستراليا هي التي عناها الأستاذ جنكس في ما تقدَّم ولم تتحقَّق ظنونه؛ ففي كل جزء من أوستراليا حزب عمال قوي يسعى في الاستيلاء على الحكومة، وفي انتخابات سنة ١٩١٠ نال حزب العمال أكثرية في مجلسَي الاتحاد فألَّف المستر أندرو فيشر17 وزارةً اشتراكيَّة.

•••

لا تكون المصالح المذكورة — التي تَقتضي نظام المجلسين — في الدول الموحَّدة القائمة على مبدأ المساواة؛ حيث السيادة واحدة وحيث لا يُبحث في التمثيل حسب الطبقات لمساواة أبناء البلاد حقوقًا، ومع ذلك نرى ما يبرِّر وجود نظام المجلسين في هذه الدول أيضًا، وإليك البيان:
  • أولًا: إنَّ تقسيم الهيئة الاشتراعية إلى مجلسَين مؤدٍّ إلى إضعاف نفوذ سلطتها الاشتراعية الواسعة الخَطِرة في الحكومات التمثيلية؛ إذ تميل السلطة الاشتراعية — لِما لها من الوظائف — إلى الاستيلاء على الحكومة، وهي تَقدر على وقف سيرها بأن تسنَّ قوانين تنظِّم بها شئون السلطات الأخرى في المسائل التي لم ينصَّ عليها الدستور المكتوب وفي مسائل الجباية، ولكي يحال دون هذا الخطر وما ماثله يرى أن تقسم الهيئة الاشتراعية إلى مجلسين تقسيمًا تخسر به قدرتها المذكورة، وتُصبح مساوية للسلطات الأخرى، قال الأستاذ ستوري18 في كتابه الذي شرح فيه دستور الولايات المتحدة: «إنَّ الحقيقة هي أنَّ السلطة الاشتراعية في كل حكومة حرَّة أكبر وأعلى سلطة، وقد لُوحظ أن هذه السلطة تميل — على الدوام — إلى توسيع سلطانها، وإلى أن يَشمل سيلها الجارف أية سلطة كانت، فإذا كانت في قبضة مجلس واحد لم يكن هنالك ما يقفها عمليًّا عند حدٍّ وَيمنعها من كل اغتصاب قد تُبرِّره بقولها: إنَّ الضرورة أو المنفعة العامة اقتضته.» وقال الأستاذ الفاضل والسياسي الإنكليزي المحنَّك بريس19 عندما بحث في الجمهورية الأمريكية الكبرى: «إن نظام المجلسين أصبح اليوم قاعدةَ علم السياسة، وقد قام على المعتقَد القائل بأنَّ كل مجلس يَميل — بغريزته — إلى التسرُّع والاستبداد والفساد يجب زجرُه بمجلس آخر ذي سلطان مساوٍ لسلطانه؛ لهذا الاعتبار يقيِّد الأمريكيون سلطتهم الاشتراعية بتقسيمها كما كان الرُّومان يقيِّدون سلطتهم التنفيذية بإقامتهم قنصلَين مقام الملك.»
  • ثانيًا: لما كانت السلطة التنفيذية مختلفة عن السلطة الاشتراعية أمكن تصادمهما في كل وقت، ولما خيف أن يَنقلِب هذا التصادم إلى عنف رُؤي أن يُحلَّ حَلًّا سلميًّا تتوازن به السلطتان؛ وذلك بأن تقسم السلطة الاشتراعية؛ ففي الغالب يقع التصادم بين أحد المجلسين والسلطة التنفيذية، وحينئذٍ يحُول المجلس الآخر دون العنف ويقوم حكمًا، وإذا اتحد المجلسان في أثناء التصادم المذكور كان الحق بجانبهما، وكانت كلمتهما نافذة، ثم قد تكون السلطة التنفيذية ناظمةً عندما يتصادم المجلسان.

    ولا ريب في أنَّ القدرة الطبيعية التي تتمتَّع بها السلطة الاشتراعية تَستدعي حماية السلطة التنفيذية إزاءها حسب التدبير المذكور، غير أنه قد يقع العكس — أي قد تتَّفق السلطة التنفيذية وأحد المجلسَين للتغلُّب على المجلس الثاني — وذلك كما وقع في ١٨ برومر الجمهوري حين استند بونابرت إلى مجلس الشيوخ لإبطال مقاومة مجلس الخمس مائة، ومَنْ يدقق يرَ أن هذا غير صحيح من بعض الوجوه؛ فالسلطة التنفيذية الضرورية للتوازُن كانت مفقودة بعد استعفاء أربعة من خمسة مديرين، وعاد المدير الخامس — وهو بونابرت — غير صالح لأن يكوِّن سلطة تنفيذية بل أصبح قائدًا طامعًا متذرِّعًا بأنواع العنف في سبيل منفعته الشخصية.

  • ثالثًا: إنَّ تقسيم الهيئة الاشتراعية إلى مجلسين يفيد في تلافي الأضاليل والسقطات التي يسهل صدورها عن المجالس الاشتراعية؛ لأنَّ وجود مجلس واحد يكسو هذه الأضاليل والسقطات حُلَّة القانون ويجعل تداركها صعبًا، وهي لا تُلغى بقانون آخر إلا بعد أن يُمس اعتبار المجلس، وأما إذا كان النظام السائد نظام المجلسين فيُمكن أحدهما أن يتلافى ما وقع فيه الآخر قبل أن تُصبح اللائحة قانونًا، وأمرٌ مثل هذا يكون مفيدًا على الخصوص في البلدان التي يحقُّ لأعضاء مجالسها اقتراح القوانين؛ لأنَّ هذه الاقتراحات تُنظَّم — في الغالب — بسرعة وعلى وجه غير علميٍّ، ومن تلك البلدان نذكر فرنسا ثم نذكر الولايات المتَّحدة التي انحصر حق اقتراح قوانينها في مجالسها الاشتراعية.

وهذه الأسباب تكفي لتبرير نظام المجلسَين وذيوعه؛ فقد اتخذتْه أُمم أوربة الكبرى، والدول الصغيرة هي التي اكتفت بمجلس واحد؛ كاليونان ودوكية لوكسنبرغ وصربيا. ومع أن لكل مقاطعة في سويسرة مجلسًا واحدًا اتخذت دولها الاتحادية نظام المجلسين، وفي العالم الجديد نرى كيان الولايات المتحدة السياسي قائمًا على النظام المذكور؛ إذ نصَّ عليه دستورها الاتحادي ودستور كل واحدة من الدول التي تتألَّف منها، وقد نسجت جمهوريات أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية على منوال دستور الولايات المتحدة، فقالت بنظام المجلسين، ثم انظر إلى المستعمرات البريطانية ترَ أنها اقتبسته من إنكلترة.

•••

وعلى رغم ذلك الاتفاق الذي يقرب من الإجماع نرى لنظام المجلس الواحد أنصارًا كثيرين، وقد قام هذا النظام مرتين في فرنسا: إحداهما في سنة ١٧٩١ والثانية في سنة ١٨٤٨.

ففي سنة ١٧٨٩ اقترحت لجنة الدستور في اللائحة التي عرضتها على المجلس التأسيسي إحداث مجلس شيوخ مؤلَّف من مائتي عضو، على أن لا تقلَّ سنُّ الواحد منهم عن خمس وثلاثين سنة، وأن يبقوا أعضاء مدى الحياة، وأن يُنتخبوا من قِبَل المجلس الاشتراعي أو من قِبَل الأقاليم، وأن يُوافِق الملك على انتخابهم في المرة الأولى، وأن يحقَّ للملك — بعد هذه المرة — أن يُعيِّنهم من الأسماء التي تَعرضها الأقاليم عليه، وعلى أثر ذلك تَناقش المجلس التأسيسي في مبدأ تقسيم الهيئة الاشتراعية ومبدأ توحيدها، وقد استمرَّت مناقشاته فيهما منذ ٣١ أغسطس سنة ١٧٨٩ حتى ١٠ سبتمبر سنة ١٧٨٩؛ فاستحقَّت الإعجاب لِما فيها من الوضوح والتدقيق والإخلاص، غير أنه لما تجلَّت للقائلين بنظام المجلسَين أكثرية ساحقة قائلة بمبدأ المجلس الواحد؛ أخذوا يَستشهِدون بمجلس الشيوخ في جمهورية الولايات المتحدة، فضلًا عن مجلس اللوردات الإنكليزي، وقد قلَّلوا مطاليبهم فَرَضُوا بأن يكون المَجلس الثاني مُنتخَبًا كالأول من قِبَل الشعب، مع مراعاة مسألة السنِّ، ولكن على غير جدوى؛ إذ خُتِمَت المناقشة في ١٠ سبتمبر من تلك السنة، فاقترع لنظام المجلس الواحد ٤٩٠ عضوًا، واقترع لنظام المجلسين ٨٩ عضوًا فقط، وإذا صرفنا النظر عن الحجج التي أُدْلِيَ بها في سبيل مبدأ المجلس الواحد، والتي يمكن الاستشهاد بها في كل وقت لتأييده، رأينا هنالك أمرَين أوجَبا تلك الأكثرية الساحقة؛ وهما: خشية المجلس التأسيسي من أن يكون مجلس الشيوخ نواةً أريستوقراطية لاحقةً بعد إلغاء الأريستوقراطية السابقة، ثم اعتقاد ذلك المجلس أن نظام المجلس الواحد هو الذي يُمكن به إتمام إصلاحات الثورة الكبرى.

ولتأسيس مجلس واحد في سنة ١٨٤٨ أسباب ذكَرَها توكفيل20 في مذكرته؛ وأهمها: ضرورة إقامة سلطة اشتراعية قوية قادرة على مُقاوَمة رئيس الجمهورية الذي انتخبه الشعب رأسًا، فاكتسب بذلك قوة عظيمة، وقد خلب هذا السبب قلوب رجال عقلاء كالموسيو دوفور،21 مع أن توكفيل حاول أن يُثبت أنه يَنطوي تحته نزاع وعنف.

وإنَّا لنضيف إلى تلك المُلاحظات المفيدة القائلة بنظام المَجلس الواحد أدلَّة عقلية اطَّلع عليها أعضاء مجلس سنة ١٧٨٩ ومجلس ١٨٤٨ التأسيسيين، وهي تَنتهي إلى دليلَين أساسيين؛ أحدهما نظري قُحٌّ والثاني عملي.

فأما الدليل الأول؛ فهو أنه لا يُمكن أن يكون في البلدان التي لم يبقَ أثرٌ للأريستوقراطية فيها، والتي تسودُها سيادة الأمة غير تمثيل واحد — أي تمثيل السيادة القومية — وقد قال روسو: إنَّ القانون ليس سوى عنوان الإرادة القومية التي تعينها أكثرية الناخبين السياسيين؛ ففي أحد المواضيع ولزمان معيَّن إما أن تتجلَّى هذه الإرادة وإما أن لا تتجلَّى، ومن المستحيل أن تريد البلاد وأن لا تريد في آنٍ واحد، الأمر الذي قد يقع في نظام المجلسين.

نتيجة ذلك البرهان مُوافقة لمقدَّمته، ولكن مبادئ الحكومة التمثيلية أمر آخر. نعم، لا يكون في الأمة الموحِّدة القائلة بمبدأ المساواة تمثيلٌ سياسيٌّ غير تمثيل سيادة الأمة، غيرَ أنَّ ذلك يتضمَّن أن يُشتقَّ المجلسان وسلطانهما من هذه السيادة فقط، ثم إنه ليس من الصحيح أن يكون القانون في الحكومة التمثيلية عنوانَ إرادة الأمة؛ فالنظام التمثيلي يقوم على المبدأ القائل بأنَّ الأمة صاحبة السيادة عاجزة عن صَوغ إرادتها بنفسها في شكل قانون، وبأنها لكي يكون لها قوانين رشيدة مُحْكَمة الوضع تفوِّض أمر سنِّها — بحُرية تامة — إلى ممثِّلين مُنتخَبين، وبأنه لما كانت مُمارسة ممثِّلي الأمة لهذا الحق قد يؤدِّي إلى أضاليل ومظالم تُلْقِي الأمة مقاليد الاشتراع إلى مجلسَين لا بدَّ مِن اتفاقهما لسنِّ أيِّ قانون كان، وبأنه متى تمَّ اتفاقهما على قانون يكون هذا القانون عادلًا مفيدًا ملائمًا لرأي البلاد المتوسِّط أي لإرادة الأمة.

وأما الثاني — وهو الدليل العمليُّ — فقائلٌ بأنَّ نظام المجلسين يعوق الاقتراع للقوانين وإن كانت مما لا يُجادَل فيها، ويسدُّ الباب في وجه الإصلاحات مدةً طويلة، أو لا يَرضى بها إلا بعد بتْرها، قال ستوري: «إنَّ تقسيم الهيئة الاشتراعية إلى مجلسَين هو عند فرانكلن22 كعربة يَجذبها حصان من أمام وحصان من خلف.»

وإنَّا لنأسف على هذا المَحذور الواقع، غير أنه يَتلاشى عند إنعام النظر فيه بل يَنقلب إلى حسنة؛ لأنَّ الذي يهمُّ الأمة هو أن تكون ذات قوانين قويمة وإن قلَّ عددها، ثم إنَّ محاذير تبديل الاشتراع تبديلًا متَّصلًا أكثر من فوائده؛ فالمنافع التي تقود المُجتمَع تحتاج إلى شيء من الثبات في مادة الاشتراع، ولا شيء أشدُّ خطرًا على الإصلاحات المهمة من أن تُقْطَفَ قبل نضجها؛ إذ لا تلبث عندما لا يستمرئها الرأي المتوسط أن تعود إلى حيث أتت وهي تُؤتي أُكُلها عند وضعها حسب نظام المجلسَين وضعًا معتدلًا.

•••

وما هو الاختلاف الذي يجب أن يكون سواءً في تركيب المجلسَين أم في وظائفهما؟ إنَّ الذي يُمْلِي في كل بلد تركيبَ المجلس الثاني (مجلس الشيوخ) هو حال الأمة الاجتماعي، والقدر الذي اعتنى به مبدأ السيادة القومية؛ فحيث قيل بهذا المبدأ — مع نتائجه الضرورية أو الطبيعية — وجب أن يكون المجلس الثاني كالأول منتخَبًا انتخابًا عامًّا، بَيْدَ أنه وقع الإجماع في كل مكان على أنه من المفيد لا من الضروري أن يختلف المجلسان تركيبًا.

يكون ذلك الاختلاف طبيعيًّا عندما تكون غاية المجلس الثاني الرئيسة تمثيل طبقة معينة أو منفعة خاصة، ويكون صعبًا في الدول الموحَّدة الديموقراطية القائلة بمبدأ المساواة، على أنه يُمكن نيل الاختلاف المذكور في هذه الدول من غير أن تُمسَّ سيادة الأمة؛ وذلك بأن يمثِّل كل من المجلسين أحد الانتحائين اللذين يحاك منهما نسيج حياة المجتمعات؛ وهما: روح الترقِّي وروح التقاليد والمحافظة، ويتمُّ هذا التمثيل بالوسائل الآتية، وهي: أولًا: أن يتفاوت المجلسان عددًا، فالمجلس الذي يكون أعضاؤه مُعادلين لنصف أعضاء المجلس الآخر يختلف عنه روحًا وميولًا. ثانيًا: أن تتفاوت أسنان المجلسين، فإذ شُرِطَ لأعضاء المجلس الثاني أسنان أقدم من أسنان أعضاء الآخر أصبح مجلس شيوخ، وقد اكتفى دستور السنة الثالثة الفرنسي بهاتين الوسيلتين لإحداث مجلس شيوخ يُنتخَب مِن قِبَل ناخبي مجلس الخمس مائة. ثالثًا: جعْل مدة النيابة لأحد المجلسَين أطول من مدة الآخر، وجَعْل دوائر أحدهما الانتخابية أوسع من دوائر الآخر، وتطبيق نظام التجديد الجزئي على أحدهما دون الثاني. رابعًا: اتخاذ طريقة الانتخاب على درجة واحدة لأحدهما وطريقة الانتخاب على درجات كثيرة للآخر.

وبهذه المناسبة نَذكُر أن مجالس الشيوخ في الدول التي تتألَّف الولايات المتحدة الأميركية منها تختلف عن مجالس الممثِّلين بالأوصاف الآتية، وهي:
  • أولًا: إنَّ الدوائر الانتخابية لانتخاب مجلس الشيوخ أوسع مرتين أو ثلاث مرات من دوائر مجلس الممثِّلين، ويكون عدد أعضاء مجلس الشيوخ أقل من أعضاء مجلس الممثلين بهذه النسبة.
  • ثانيًا: إنَّ مدة نيابة الشيوخ أطول من مدة نيابة الممثِّلين.
  • ثالثًا: إنَّ مجالس الشيوخ في أغلب الأحوال تتجدَّد قسمًا قسمًا بدلًا من أن يتجدَّد جميعها مرة واحدة كمَجالس الممثِّلين، فيسود تلك ما ليس في هذه من رُوح الاستمرار.
  • رابعًا: إنَّ السنَّ المشروطة لأعضاء مجالس الشيوخ في بعض تلك الدول أكبر من التي تُشْرَط لأعضاء مجالس الممثِّلين.

ونذكر أن دستور أوستراليا الجديد يقرِّب مجلسَي الاتحاد أحدهما من الآخر انتخابًا وتركيبًا، فالناخبون أنفسهم في كل دولة من دول أوستراليا الاتحادية ينتخبون أعضاءَ مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وشروط الترشيح للمجلسين فيها واحدة تقريبًا، وإنما يتجلى الاختلاف الحقيقي بينهما في أن النواب يُنْتَخبون لثلاث سنوات والشيوخ لستِّ سنوات، على أن يتجدَّد نصف هؤلاء في كل ثلاث سنوات، وأن يتجدَّد أولئك مرة واحدة.

وهل يجب أن تكون وظائف كلٍّ مِن المجلسين واحدة أو مختلفة؟

لكي يأتي نظام المجلسين بما يُنتظَر منه من النتائج الجوهرية يجب أن تكون وظائفهما وسلطاتهما واحدة، وهما لا يكونان مجلسين حقًّا إلا إذا اشتركا في إنجاز أمر واحد بهمة واحدة، ولكن يجب أن يَنحصِر ذلك في مادة الاشتراع، وأما في المسائل الأخرى فاختلافهما في الوظائف والسلطات كثير الفائدة، وسنبيِّن ذلك عندما نبحث في الحكومة البرلمانية.

ومصدر هذا المبدأ هو الدستور الإنكليزي الذي تسرَّبت فيه أيضًا وحدة الوظيفة والسلطة بفعل التحول التاريخي لا بفعل التأمُّل العلمي.

ولكنه ظهَر مبدأ آخر في بيئات أخرى، ومنه ما جاء في دستور السنة الثالثة الفرنسي الذي جعل مجلسَيه مُتماثلَين تركيبًا، مختلفين في وظائفهما الاشتراعية؛ أي إنه وإن قال بوجوب اتفاق المجلسَين على صيغة واحدة للقوانين التي تُسنُّ جَعَلَ حق اقتراحها لمَجلس الخمس مائة وحده، وحرم مجلس الشيوخ حقَّ التعديل مبينًا أنه لا يحقُّ له سوى الاقتراع لها أو عليها جملةً واحدة، وعلى ما في هذا النهج من المناقَضة للقواعد الدستورية يُحتمَل أن يَنال شيئًا من الحظوة بعد التعديلات التي جاءت في قانون سنة ١٩١١ الإنكليزي، والقائلة بأن تُصبح سلطة مجلس اللوردات كناية عن القدرة على رفض القوانين التي يَقترع لها مجلس النواب رفضًا وقفيًّا، وعن الاقتراع للقوانين المالية مرةً واحدةً من غير أن تُعدلها.

ولم تبقَ إنكلترة موطن نظام المجلسين المتساويين في الاقتراع للقوانين؛ إذ تنزَّلت عن مكانها في هذا الشأن لفرنسا والولايات المتحدة؛ حيث المجلسان متساويان منتخَبان، وقد ذكر مجلس الشيوخ الفرنسي في المناقشات التي دارت في إنكلترة سنة ١٩١٠ وسنة ١٩١١ وسنة ١٩١٨ ذِكرًا حسنًا، وكان موضع استحسان الفقيه الدستوري الأستاذ ديسي على الخصوص.

هوامش

(1) Saint–Albans.
(2) Truro.
(3) New–Castle.
(4) South well.
(5) Wakefield.
(6) Canterbury.
(7) York.
(8) Durham.
(9) Winchester.
(10) Lord Kenry.
(11) Newton.
(12) Cawdor.
(13) Rosebery.
(14) Lansdowne.
(15) Lord Bryce.
(16) Jenks.
(17) Andrew Ftsher.
(18) Story.
(19) Bryce.
(20) Tocqueville.
(21) Dufanre.
(22) Franklin.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤