الفصل الرابع

مسئولية الوزراء

مسئولية الحكومة – تحميل الوزراء إياها – مسئولية الملك في إنكلترة ومسئولية الوزراء القضائية فيها – نظام الاتهام – نظام الإعدام المدني – الاتهام في الولايات المتحدة – المسئولية الجزائية في الدساتير الفرنسية – زوال المسئولية الجزائية في إنكلترة – الوسائل التي استُعين بها لكيلا يسير رئيس الدولة على غير واسطة أحد الوزراء.

مسئولية السلطة التنفيذية شرط جوهري للحرية السياسية؛ لأنها — وهي التي تُنفِّذ القانون — قد تخرق حرمته أو لا تتقيَّد به، ولأنها — وهي التي تأتي بالأعمال التي لا يَستطيع القانون أن يُنظِّمَها قبلًا — قد تُسيء الاستعمال فيها فتسلك سبيل الإيذاء والإضرار.

وقد يتعذَّر تطبيق تلك المسئولية عندما يقصد به صاحب السلطة التنفيذية نفسه، ويتجلَّى هذا في النظام الملكي؛ حيث تعني مسئولية الملك عن عمل غير قانوني أو مشئوم على البلاد خلع ذلك الملك — أي القيام بثورة — وكذلك في النظام الجمهوري الذي يَسود فيه مبدأ توزيع السلطات وتُسلَّم فيه مقاليد السلطة التنفيذية إلى رئيس مُستقلٍّ؛ لأنه وإن أمكن قانونًا اتهام رئيس جمهورية قبل انقضاء مدته تَحدُث في البلاد أزمة شديدة لا تقلُّ عن ثورة، وفي تلك الحال لا تكون سوى مسئولية واحدة شافية تَبدو عند انصرام مدة الرئيس الذي لا يمنع الدستور من تجديد انتخابه.

غير أنَّ صاحب السلطة التنفيذية لا يقدر — في الحكومات التي ضربت بسهم كبير في التقدم — على عمل كل شيء أو على بتِّه من تلقاء نفسه، وهو يَستعين على ذلك بوزراء يقوم كل منهم بأمور إحدى المصالح العامة، وباسم الصاحب المذكور، فهؤلاء الوزراء ليسوا من العلوِّ بحيث لا تمكن مسئوليتهم، وقد حلَّ الإنكليز أمر المسئولية بأن قرَّروا أن الوزراء مسئولون بدلًا من الملك؛ ومن ثَمَّ توصَّلوا إلى نقل سلطة الملك في البتِّ إلى الوزراء، مُتعلِّلين بأنه لا مسئولية حيث لا حرية في البتِّ، ومسئولية الوزراء في إنكلترة إما أن تكون أمام المحاكم وذلك في أعمالهم غير القانونية، وإما أن تكون أمام مجلسَي البرلمان وذلك فيما يرتكبونه من الخطايا والأعمال الضارة بالأمة، فضلًا عن الأعمال غير القانونية.

ومع أنَّ ذلك الحل صار من مبادئ الحرية في الوقت الحاضر ترى — ولكن على وجهٍ استثنائي — حلًّا قائلًا بأن صاحب السلطة التنفيذية مسئول دون الوزراء، ويكون هذا في أحد الأمرين الآتيَين؛ وهما: إما أن يكون صاحب السلطة التنفيذية معيَّنًا من قِبَل الهيئة الاشتراعية وممكنًا عزله؛ وذلك كما وقع في فرنسا منذ سنة ١٨٧١ حتى سنة ١٨٧٣، وإما أن تَنتخب الأمة رئيس الدولة فيُعلن هذا الرئيس أنه مسئول أمام الأمة وحدها؛ وذلك كما فعله لويس نابليون بعد أن أسقط المجلس النيابي في سنة ١٨٥١، والمسئولية المذكورة لم تكن في غير الظاهر، إذ كانت نتيجتها عرض رئيس الدولة — متى يريد — أعماله على الشعب ليُبدي رأيه فيها حسب طريقة الاستفتاء العام.

وما كانت إنكلترة المملكة الوحيدة التي سعت بين الممالك في تنظيم مسئولية السلطة التنفيذية على الوجه المذكور — أي في تحميل الوزراء إياها — فلقد شوهد مثل ذلك السعي في بلاد المجر والسويد، وفي فرنسا التي ظهر فيها في القرن السادس عشر مبادئ قائلة بذلك الأمر، ولكنَّ إنكلترة هي التي طبقت نظام المسئولية على العمل في بدء الأمر ثم استنبطته في عالم النظر، ومن إنكلترة اقتبسته أمم الغرب.

يُرد نظام مسئولية الوزراء في إنكلترة إلى ثلاثة أصول؛ وهي: أولًا عدم مسئولية صاحب السلطة التنفيذية. ثانيًا مسئولية الوزراء في كل عمل غير قانونيٍّ يأتون به، وفيما يَقترفونه من الخطايا والأفعال الضارة بالبلاد. ثالثًا وجوب إشراك الملك أحد وزرائه في الأعمال التي هي من وظائف التاج، وإليك تفصيل هذه الأصول:
  • أولًا: لم يفعل العرف الإنكليزي — بتقريره عدم مسئولية الملك — سوى تعبيره عن الحقيقة القائلة بأنَّ مسئولية الملك لا تتجلَّى إلا بثورة، وقد عبَّر العرف المذكور عن مبدأ عدم مسئولية الملك بعبارة صارمة؛ وهي: «أن الملك لا يستطيع أن يفعل الشر.» ومن هذه العبارة استُنْتِجَ أنه لا تقدر محكمة أن تنظر في الأعمال التي يأتي بها الملك ولو كانت من نوع الجرائم، ويتَّضح هذا من الغرض القائل بأنَّ الملكة لو قتلَتْ بيدها رئيس الوزراء ما استطاعت محكمة أن تنظر في ذلك. وهذا الغرض يؤدِّي إلى فرض آخر قائل بأنه لا يستطيع امرؤ أن يستشهد بأمر ملَكيٍّ في تبرير عمل غير شرعي اقترفه؛ لأنه لا وجود لمثل هذا الأمر في عالم الحقوق.
  • ثانيًا: تُعد مسئولية الوزراء الشخصية في إنكلترة من قواعد الحقوق العامة، قال الأستاذ ديسي: «إنَّ المبدأ القائل بمساواة الكل أمام القانون الذي تُطبِّقه المحاكم النظامية محترم في إنكلترة كل الاحترام، فكل موظَّف عام فيها — سواء وزيرًا كان أم جابيًا — مسئول كبقية أبناء البلاد عن أعماله التي لا يُبرِّرها قانون. وإنَّ حاكم المستعمرة والضابط في الجيش ومستشار الدولة وكل موظف مسئولون كأفراد الناس عن كل عمل لا يجيزه القانون، ولو أثبتوا أنهم فعلوه تنفيذًا لأمر رؤسائهم.»

    وليست تلك المسئولية التي لم تشمل غير الأعمال المخالفة للقوانين من نوع المسئولية الوزارية القديمة التي كانت في القرون السابقة سلاحًا مُنثلمًا؛ لخلو القضاة إذ ذاك من سلطة كافية للحكم على الوزراء، وقد اقتضى الوصول إليها سلوك الطريقة القائلة باتهام مجلس النواب للوزير أمام مجلس اللوردات الذي يكتسب صفة المحكمة، وكان ظهور تلك الطريقة في القرن الرابع عشر، ولم تلبس حلَّة المبدأ إلا بعد سوابق مكررة، وبتلقين مجلس اللوردات اتخذها مجلس النواب أول مرة. ويسهل تفسير حق مجلس اللوردات في رؤيتها بأن نبيِّن أن هذا المجلس حافظ على حقه القضائي منذ تأسيسه، وأن التقاليد اقتضت أن يُرْفَعَ إليه كل اتهام يمسُّ أكابر الموظَّفين في الدولة، وأما حق مجلس النواب في الاتهام فيُمكن إيضاحه بقولنا: إن الحقوق الإنكليزية قررت أن كل محاكمة جنائية لا بد لها من اتهام تقول به هيئة محلفي الاتهام التي كانت تستقرُّ في أدوار معينة في كل مقاطعة من مقاطعات المَملكة، وإنه لما كان مجلس النواب ممثِّلًا لهذه المقاطعات أمكن اعتباره هيئة محلِّفي إنكلترة الكبرى، ومهما يكن الأمر فإنَّ مبدأ الاتهام المذكور برَز في سنة ١٣٧٥ — أي في عهد إدوارد الثالث — وقد استمرَّ على حاله حتى عهد أسرة تيودور؛ حيث أوجبت أسباب كثيرة انقطاع عمله مدة كبيرة، ولما جاءت أسرة ستوارت استأنف عمله وأصبح آلةَ كفاحٍ قوية بيد مجلس النواب، ومن الصواب أن نعزو إلى هذا القضاء — الذي هو بحقٍّ أمر سياسي — إحداث مبدأ مسئولية الوزراء في إنكلترة.

    على أنه كان لنظام الاتهام جهتان ضعيفتان؛ الأولى هي أنه لما كان نوعًا من المرافعات في أمر العقوبات اقْتُضِي تطبيقه عند اقتراف الوزير جرمًا مخالفًا لقانون العقوبات فقط، وقد تُرِكَ هذا الوجوب المنطقي في القرن السابع عشر؛ حيث قيل بتطبيق قاعدة الاتهام على الأعمال التي تضر البلاد وإن لم تكن جنايةً أو جنحةً، ولمجلس اللوردات حينئذٍ حقُّ تقدير العمل وتقدير الجزاء، ثم إنَّ البرلمان — لكي يَقضيَ على خصومه وعلى أعداء البلاد — كان يتمتَّع بنظام الإعدام المدني، الذي هو كناية عن مزج السلطة الاشتراعية بالسلطة القضائية، وعن خرْق أبسط مبادئ العدل خرقًا شائنًا؛ وأعني بهذا النظام قدرة المجلسَين على وضع قرار يتمكَّنون به — بعد موافقة الملك — من القضاء على حياة الشخص وأمواله وإن لم تنصَّ القوانين المُزاولة على معاقبة الشخص المذكور بالعمل الذي أُخِذَ به، وفي بعض الأحيان كان يقوم نظام الإعدام المدني مقام نظام الاتهام عندما يَرفض الشخص المتَّهم أن يُجيب عن الاتهام ويفرُّ من المحاكمة.

    وجهة الضعف الثانية في نظام الاتهام هي أن ملك إنكلترة كان كمَلِك فرنسا في ذلك الوقت يملك حق العفو ولو كان شخصيًّا؛ فقد كان يَقدر به على إنقاذ الوزير المُتَّهم بإزالة التهمة عنه، ولكنه تقرَّر بعدئذٍ أن دائرة العفو لا تشمَل اتهامًا قال به مجلس النواب.

    ومبدأ اتهام الوزراء من قِبَل مجلس مُنتخَب هو من الأمور التي تجيء في دساتير الأمم الحرة عندما تقتبسها من إنكلترة، ولو لم تقل هذه الأمم — لأسباب كثيرة — بمبدأ مسئولية الوزراء السياسية أو المدنية أمام المحاكم النظامية، وإنَّ القضاء ليختلف بحسب البلدان، فإذا كان فيها مجلسان يقوم مجلس الشيوخ في الغالب بوظائفه. وفي الولايات المتحدة تُسمَّى هذه الحالة «الاتهام الذي يأتي به مجلس الممثِّلين أمام مجلس الشيوخ»، وهي بذلك لا تعني الوزراء وحدهم بل تعني رئيس الجمهورية ونائبه وموظفي الولايات المتحدة، ويسهل فَهْم هذا عند الاطلاع على ما لمسئولية الوزارة من الشأن المفقود في نظام الولايات المتحدة السياسي.

    وفي فرنسا نرى الطريقة الإنكليزية قُبِلَت منذ سنة ١٧٩١ مع شيء من التعديل، وقد تجلَّت في دستور سنة ١٧١٤، ودستور سنة ١٨٣٠، وفي دستور الإمبراطورية الذي وُضِعَ سنة ١٨٧٠، وقوانين فرنسا الدستورية التي سُنَّت سنة ١٨٧٥، وتجلَّت أيضًا في الدساتير التي لم تَقُلْ بمسئولية الوزراء السياسية؛ كدستور سنة ١٧٩١، ودستور السنة الثالثة، ودستور سنة ١٨٤٨.

    ومع ذلك فإنَّ الإنكليز يَعدُّون في هذه الأيام نظام الاتهام الذي تسرَّب في دساتير الوقت الحاضر ساقطًا من العمل، فهو لم يُطبَّق منذ أكثر من قرن سوى مرتين؛ الأولى في سنة ١٧٨٨ ضد وران هاستنع،1 والثانية في سنة ١٨٠٥ ضد اللورد ملفيل،2 وقد ظلَّ راقدًا منذ هذا التاريخ؛ وسببه أن مسئولية الوزراء السياسية جعلت النظام المذكور لا طائل تحته، وقضت عليه بالدثور؛ إذ يَستطيع مجلس النواب أن يُسقط الوزراء متى أراد من غير أن يحتاج إلى اتِّهامهم، ومِن الطبيعيِّ أن يحدث مثل هذه النتيجة في البلدان التي اعتنقَت نظام الحكومة البرلمانية.
  • ثالثًا: لم يُصَغ المبدأ القائل بإشراك الوزير في أعمال التاج الإنكليزي في كلمة جامعة إلا بالتدريج، وقد نشأ — ككثير من مبادئ الحقوق الإنكليزية المهمَّة — عن مسألة شكلية؛ وبيان ذلك أن الإنكليز ذهبوا إلى أن إرادة الملك — لكي تكون إلزاميةً في القضاء — لا بد لها من أن تَبرُز في شكل عهدٍ مختوم ببضعة خواتيم، وقد قالت العادة بأن يَختم كل واحد من هذه الخواتيم وزير، والوزير بختمه العهد المذكور يُصبح مسئولًا، ولم يُكتفَ بذلك، بل صار من الضروريِّ أن يُشرك الوزير في الأمور التي لا قيمة قضائية لها ولو كانت من نوع المفاوَضة الشفهية التي قد تُلْزم التاج، وبذا أضحى من واجبات وزير الخارجية أن يحضر كل مقابلة تقع بين الملك وسفير إحدى الدول الأجنبية، وصارت كل مفاوَضة خاصَّة بين ملك إنكلترة وسفراء الدول الأجنبية مخالفة لرُوح الدستور البريطاني، وكذلك إنجاز الأعمال — التي هي في الظاهر شخصيةٌ — كمزاولة حق العفو أصبح يتطلَّب تدخُّل الوزير وموافقته، وقد لُخِّصَ ذلك كله في الكلمة المأثورة القائلة بأن الملك لا يَقدِر على السير وحده.
    ثم إنَّ العادة منَعت الملك من الإتيان ببعض الأعمال ولو ساعده وزيرٌ على ذلك، فمع أنَّ الملك في نظر القانون مفروض حضوره محاكمه ليس فوق القانون ولا يستطيع أن يَفصل أية قضية مدنية أو جنائية إلا بواسطة قضاته، وهو لا يقدر أن يحضر — كما في الماضي — جلسات مجلس اللوردات ولو كمُستمع؛ وذلك خشية استيلائه عليه وتأثيره فيه، وكذلك لا يستطيع أن يأمر بحبس أحد، وعلى ما لملوك إنكلترة من الحق في قيادة جيوش الإمبراطورية لم يقد ملكٌ منذ عهد جورج الثاني تلك الجيوش في ساحة القتال، وعكس ذلك لا يُلائم النظام البرلمان كما قال تود والبول.3

يتألَّف من تلك القواعد شبكة ضاقت حلقاتها بالتدريج، حتى صار يتعذَّر على أي مظهر من مظاهر إرادة الملك أن يمرَّ منها وحده، ولكن هذا نظام كثير التعقيد، خاصٌّ بمزاج الإنكليز العقلي، ولما أراد الفرنسيون أن يُدْخِلوا إلى دستورهم الأول مبدأ مسئولية الوزراء اتخذوا أقصر الطرق فقالوا: إنه لا بد من أن يوقع وزيرٌ أي أمر يوقِّعه الملك بيده، وقد جاء في الدستور المذكور الذي سُنَّ في سنة ١٧٩١ أنه لا يمكن تنفيذ أمر الملك ما لم يكن مذيَّلًا بتوقيعه وتوقيع أحد الوزراء. ومثل ذلك جاء في قانون فرنسا الدستوري الذي سُنَّ في ٢٥ فبراير سنة ١٨٧٥، ومما هو جدير بالملاحظة أننا إذا استثنينا ثلاثة من دساتير فرنسا نرى الأخرى لم تحتوِ ما يدلُّ على المبدأ المذكور، والدساتير الثلاثة هي دستور السنة الثامنة ونظام دساتير الإمبراطورية الإضافي، ودستور سنة ١٨٤٨، ومما يَقضي بالعجب عدم ذكر ذلك المبدأ في دستور سنة ١٨١٤ ودستور سنة ١٨٣٠ وإن طُبِّقَ عملًا بقوة العرف.

هوامش

(1) Warren Hastings.
(2) Melville.
(3) Todd–Walpole.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤