الفصل الثاني

السيادة القومية

  • القسم الأول: مبدأ السيادة القومية – نظرية روسو: الحالة الطبيعية والعقد الاجتماعي – تاريخ نظرية العقد الاجتماعي – الشكل الذي ألبسها إياه روسو: الإدارة العامة والسيادة، الحكومة – المسوغات الأخرى لمبدأ السيادة القومية – الحقوق الإلهية – التصرف الطويل – المبادئ التي استنبطها علم الاجتماع – قدرة الرأي العام العليا والسيادة القومية.
  • القسم الثاني: نتائج مبدأ السيادة القومية: (١) السيادة القومية وشكْل الدولة – مطابقة السيادة القومية للشكل الجمهوري – التوفيق بين السيادة القومية والشكل الملكي – تعذُّر بيع السيادة – ما أتى به من توفيقات أخرى: نظرية روسو – دستور سنة ١٧٩١ – الدستور البلجيكي – الإمبراطورية الأولى والإمبراطورية الثانية – إنكلترة – مبدأ السيادة القومية والسلطات العمرية – عدم قابلية السيادة القومية للتجزؤ وقابليتها له. (٢) السيادة القومية وحق التصويت السياسي – مبدأ التصويت السياسي: التصويت المباشر أو غير المباشر، والتصويت على درجات كثيرة – الأكثرية عنوان الإرادة القومية – الوحدة الانتخابية – تقسيمها إلى دوائر انتخابية – تمثيل المنافع – نتائج أخرى لمبدأ السيادة القومية: التمثيل القومي – السكان أساس التمثيل – مسألة النيابة الانتخابية – تمهيد الانتخاب النسبي: قائمة الفرد وقائمة الأسماء – مسألة الأكثرية المطلقة والأكثرية النسبية – الانتخاب النسبي: أصله ومبدؤه – انتقاده – نتائجه العملية والسياسية – تركيبه – التصويت الناقص أو المحدود – التصويت الجمعي – طريقة هار – طريقة تزاحم القائمات – طريقة هونت – أساس حقوق التصويت السياسي وطبيعتها – الحقوق الفردية – نتائجها – تصويت النساء – تصويت النساء في إنكلترة والولايات المتحدة وأوستراليا وألمانيا – لوائح تصويت النساء في بلجيكا – نتائجه – عمله الاجتماعي – تاريخ حق التصويت السياسي العام أو المحدود – المجالس العامة في فرنسا – حق التصويت في إنكلترة في القرن الثامن عشر – حق التصويت السياسي في فرنسا: دستور ١٧٩١ – دستور سنة ١٧٩٣ – دستور السنة الثالثة – دستور السنة الثامنة – دستور سنة ١٨١٤ – دستور سنة ١٨٣٠ وقانون سنة ١٨٣١ – دستور سنة ١٨٤٨ – قانون سنة ١٨٥٠ ومرسوم سنة ١٨٥١ – حق التصويت السياسي في خارج فرنسا في أيامنا – التصويت العام في الولايات المتحدة وسويسرة وإسبانية والدينمارك وألمانية وبلجيكا – قانون سنة ١٩١٨ الإنكليزي – نظام القابلية والتعليم الابتدائي. (٣) السيادة القومية والحكومة التمثيلية – صفة الممثِّل – هل تلائم السلطة الاشتراعية التمثيلية مبدأ السيادة القومية؟ – نظرية روسو – نظرية مونتسكيو – نظرية دولولم – نظرية سيايس – انتقاد الحكومة المباشرة في أمر الاشتراع – دور العهد – الدور القنصلي والإمبراطورية الأولى – الاستفتاء العام الذي وقع في سنة ١٨٥١ وفي الإمبراطورية الثانية – الحكومة المباشرة في أمر الاشتراع والدستور في الولايات المتحدة – الحكومة المباشرة في سويسرة – تطبيقاتها السابقة – نظام الرفرندم الحديث – النظم الديموقراطية في المقاطعات – أشكالها المختلفة – الرفرندم وحق الاقتراح الشعبي في أمر الدستور الاتحادي – اقتراح الرفرندم الشعبي في فكتورية ونيوساوث ويلس وأوسترالية الجنوبية وبلجيكا – لوائحه في إنكلترة – تطبيقه على الدستور الألماني – انتقاد الرفرندم والاقتراح الشعبي – سقوط اعتباره في فرنسا. (٤) السيادة القومية ومسئولية الموظفين والممثِّلين – المسئولية والعزل – مسئولية السلطة التنفيذية والسلطة القضائية أو عدم مسئوليتهما – حق الحل الشعبي – عزل النواب من قِبَلِ الناخبين في الولايات المتحدة.

السيادة القومية أهمُّ المبادئ التي أعلنتْها الثورة الفرنسية، وإنَّا إذا استثنينا دستور سنة ١٨١٤ نرى دساتير فرنسا جميعها اعترفت بالسيادة القومية واتخذتها أساسًا لها، وقد انتشر هذا المبدأ بالتدريج في أنحاء العالم، وهو حيث يدخل يميل إلى تحويل النظم المشتقة من مصدر آخر، وإن بساطته وملاءمته لمَنازع العدل والمساواة في الإنسان سر قوته، ويُمكن تلخيصه بالكلمة الآتية القائلة بأنَّ الأمة موئل السيادة، ولا تكون السيادة في غيرها، ولكنَّه يُثير في علم السياسة مشاكل كثيرة لا بدَّ لمعرفتها من البحث في المسألتين الآتيتَين وهما: أولًا: بماذا يُسوَّغ مبدأ السيادة القومية؟ ثانيًا: ما هي نتائجه؟

(١) القسم الأول

مبدأ السيادة القومية

كان رجال القرن الثامن عشر يرون ما يُسوِّغ مبدأ السيادة القومية في نظرية العقد الاجتماعي التي عرَضها جان جاك روسو في كتابه الشهير الذي نشَره في سنة ١٧٦٣.

ولنظرية روسُّو حدَّان لازمان؛ وهما:
  • أولًا: «الحالة الطبيعية» التي تقدَّمت تأسيس المجتمَعات المدنية، والتي كان يتمتَّع فيها كل رجل راشد باستقلال مُطلَق من غير أن يهيمن أحدٌ عليه، وقد رأينا أنَّ الحالة الطبيعية مما قال به مذهب الحقوق الطبيعية وأصحاب العلوم النظرية المُتقدِّمون من فقهاء وعلماء كلام، والحالة الطبيعية كانت تتخيَّل لهؤلاء على شكل جيلٍ ذهبيٍّ من الآدميِّين، وكانت تَمتزج عند المتكلِّمين بالصلاح وسلامة الطويَّة، وهي لم تكن عند رجال مذهب القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر ملازمةً للحيوانية الخالصة، بل كانوا يرون أنَّ الإنسان — وهو مخلوق عاقل — كان يتمتَّع فيها بقوانين طبيعية أملاها العقل وضرورة البقاء.
  • ثانيًا: «العقد الاجتماعي» الصريح أو المُضمر الذي قضى الناس به على الحالة الطبيعية بالإجماع؛ وذلك بإحداثهم سلطة أعلى من عزائم الأفراد، وقد طرَح روسو كل مصدر للسيادة ما عدا العقد الاجتماعي، فبيَّن أنه لا يُمكن السلطة الاجتماعية أن يكون مصدرها المشروع في نظام الأسرة، ولا في أفضلية بعض الطبقات على الأخرى، ولا في خضوع إحدى الأمم بقوة الفتح والرق.
ولم يكن العقد الاجتماعي عند روسو مصدر السيادة وحدَها، بل مصدر الأمة أيضًا؛ فالناس — بحسب تلك النظرية — كذرات حرَّة مختارة، وهم لم يتألَّف المجتمع والأمة منهم إلا بقبولهم الإجماعي، ولا يخصُّ هذا الرأي روسو وحده فهو مُشترك بينه وبين مذهب الحقوق الطبيعية، وقد أبرَزَه لوك بقوة ووضوح يَستوقِفان النظر، حتى إنَّ له أصولًا في كُتُب الفقهاء وعلماء الكلام في القرون الوسطى، وإنما كان هؤلاء يَعتبرون المُجتمع كأمر ضروري مُكتفِين في الغالب بتشبيهه بجسم الإنسان، وبالقول بأنه آلة طبيعية مثله، والذين كانوا منهم يَذهبون إلى مدًى أبعد من ذلك كانوا يُشاطرون أريسطوطاليس رأيه القائل بأنَّ الإنسان وُجِدَ ليعيش في المجتمع، وبأنَّ مَيله الغريزيَّ المذكور هو الذي أدَّى إلى تكوين المجتمع البشري؛ وذلك من غير أن يبحثوا في العهد الذي ألَّف الناس به هذا المجتمع، وبمثل هذا الرأي كان يتمسَّك فقهاء القرن السادس عشر، ومع ذلك نعدُّ من بين علماء الكلام الذين ظهروا في القرن المذكور أناسًا رأوا أن المُجتمع المدني قائم على عقد حقيقيٍّ وضعه أعضاؤه الأولون، ولكنَّهم من غير أن يعتبروا هذا العقد مصدر السيادة؛ فالعقد الاجتماعي عندهم شرط السيادة، والألوهية علَّتها. ولم تُستنبط نظرية العقد الاجتماعي كما اقتبسها روسو وأنعشها إلا بعد أن أصبحت علمانية ولبست ثوب المذهب، وعند جيرك1 أنَّ ألتوسيوس2 الألماني هو أول شارح لها، وقد حدَّدها غروسيوس3 بوضوح، ثمَّ تناولها مذهب الحقوق الطبيعية من بعده.

ولم يسعَ روسو في إثبات صفة العقد الاجتماعي فقط، بل حدَّد شروطه أيضًا؛ فقد بيَّن أنَّ من الضروري أن يكون هذا العقد قُبِلَ بالإجماع؛ لأنه لم يَفقِد أحدٌ استقلاله الطبيعي من غير أن يريد، وأنه وجب أن تكون شروط العقد واحدة بالنسبة إلى الجميع؛ لأنه كان يتعذَّر — بغير هذا — اتفاق الجميع الأوَّلي، ثم قال: «تُردُّ هذه الشروط إلى واحد؛ وهو: بيع كل مُشترِك في المجتمع نفسَه وحقوقَه كلَّها للمُجتمع، فلما وهَب كل واحد نفسه للمجتمع تساوى الكل من هذه الجهة، ولما تساوى الكل لم يفكِّر أحدٌ في جعله ثقيلًا صعبًا على الآخرين.» ومن ثَمَّ لا يمكن أن تكون السلطة العامة — التي هي وليدة التضحية الفردية — إلا في المجتمع كله «ووليُّ الأمر — الذي هو صاحبُها — مركَّب من الأفراد الذين يتألَّف المجتمع منهم.» وإرادة المجتمع العامة عند روسو هي ناظمة المجتمع، ويُعبَّر عنها بالقانون؛ أي إنَّ روسو يرى أن السلطة الاشتراعية هي السيادة نفسها، ثم إنَّ هذه الإرادة العامة لا تعني عنده إرادة أبناء الوطن الإجماعية، بل إرادة أكثريتِهم، وإن الخضوع لقَرار هذه الأكثرية من شروط العقد الاجتماعي الضرورية؛ إذ القول بإجماع الكل حتى يكون إلزاميًّا لدى الكل مما يُقْصَد به القضاء على المُجتمَع بالوهن والانحلال، حتى إنَّ روسو ذهب إلى الرأي الغريب القائل بأنَّ الأكثرية تُعبِّر — بحكم الضرورة — عن الإرادة العامة الحقيقية، ومنها إرادة الذين اقتَرعوا ضدَّها.

أُهْمِلَت نظرية العقد الاجتماعي في الوقت الحاضر بعد أن أثَّرت في القرن الثامن عشر تأثيرًا عامًّا، فهي تُلاقي — قبل كل شيء — اعتراضًا بسيطًا ثقيلًا؛ وهو أنَّ العقد الاجتماعي يُبْرَز كعمل أوَّلي وكأساس ابتدائي للمُجتمعات البشرية، ولكنه لا يؤتى معه بمثال تاريخي مُشابه له، ولقد حاول لوك أن يجيب عنه بقوله: إنه لا شيء يوجب العجب في قلَّة ما ينصُّ عليه التاريخ من الأخبار عن الرجال الذين كانوا يَعيشون في الحالة الطبيعية؛ لأنَّ الوثائق التاريخية أقل قِدَمًا من تأسيس الحكومة والمُجتمَع المدني، إلى أن قال: «ومع ذلك، هل يُنْكَر أنَّ أصل البندقية وروما كناية عن اتحاد كثير من الرجال الأحرار المُستقلِّين بعضهم عن بعض، والذين لم يكن بينهم أية أفضلية طبيعية أو حال خضوع؟» ثم استشهد بمثال اقتبسه يوسيفس أكوستا4 من قبائل أميركا الفطرية والقائل: «بأنَّ سكان فلوريدا وشيريكانه5 والبرازيل وشعوبًا أخرى غيرهم يختارون رؤساءهم كما يروقهم؛ وذلك بحسب ما تَستدعيه الحرب أو السلم من أحوال ومناسبات.» وغير هذا ما سلكه رجال القرن الثامن عشر، فهم لم يَنظروا إلى العقد الاجتماعي كحادث تاريخي، بل اعتبروه ضرورةً منطقية لا يُمكن إدراك السلطة العامة بدونها، وقد ذهب روسو إلى أنَّ شروط العقد الاجتماعي «قُبِلَ بها قبولًا مُضمَرًا، وأنه يُحْتَمل أن لا يكون نُطِقَ بها نطقًا صريحًا.» وإلى أنها تُجدَّد تجديدًا مضمَرًا جيلًا بعد جيل بمجرد الإقامة في أرض القوم، وكلام بلاكستون6 أوضح من ذلك؛ فهو يقول: «إنَّ المجتمع مع عدم اشتقاقه من عهد وضعه الأفراد بفعل الحاجات والخوف ترى الناس يتَّحدون بفعل ما فيهم من ضعف وعدم كمال، وبذا تَثبُت ضرورة الاتحاد، وهذا ما نقصده من العقد الاجتماعي الأصليِّ الذي — على رغم عدم ذكره عند وضع نظام الدولة الأول — يجب القول به قولًا مُضمَرًا في كل عمل يرمي إلى الاشتراك والاتحاد، ومِن ثَمَّ على المجتمع أن يحميَ حقوق كل فرد من أفراده، وعلى كل فرد أن يخضع لقوانين المجتمع تعويضًا عن ذلك.»

وليس العقد الاجتماعي الذي صُوِّرَ على ذلك الشكل سوى فرض شرعيٍّ قُبِلَ به للتعبير عن الفكرة العادلة القائلة بأنَّ الفرد الحرَّ العاقل المسئول مصدر الحقوق العامة كما هو مصدر الحقوق الخاصة، وبأنَّ السلطة العامة لم تكن إلا في مصلحة الأفراد الذين يتألَّف المجتمع منهم، وبأنَّ هذه السلطة لا تُباشَر مباشرة مشروعة إلا باحترام أوليات العقل وحقوق الفرد، على أن لفرض العقد الاجتماعي محذورين:

الأول: هو أنها مع اتخاذها الحقوق الفردية مبدأً لها تُضحِّي بها في آخر الأمر؛ وذلك لأنها تؤدي إلى بيع الفرد وحقوقه للمجتمع. ثانيًا: إنها تُسند حقوق الفرد إلى حرية أولى مطلقة ناشئة عن الحالة الطبيعية، والواقع أن الحالة الطبيعية كالعقد الاجتماعي من الافتراضات التاريخية المناقضة لأخبار التاريخ وعلم الاجتماع؛ فالإنسان لم يُشاهَد في مكانٍ في الحالة الطبيعية المحض، وإنما يُرى له شيء من النظام الاجتماعي مهما كان ابتدائيًّا؛ فحيث لا يكون لغير الأسرة المحدودة شيءٌ من الثبات تتَّفق الأسر — ولو مؤقتًا — ليدافع بعضها عن بعض ولتقوم بأمور صيد البر والبحر، وفي قسم مهمٍّ من البشرية يَظهر أن الأسرة ليست أقدم الزُّمَر، وأن أقدم زمرة هي الفصيلة أو القبيلة أو القرية، وأنَّ الأبوة الشرعية لم تبدُ إلا مؤخرًا؛ وذلك بفضل تلك البيئة، ومهما يكن الأمر فما هي أهمية مبادئ قدماء الفطريين وأعمالهم في تعيين حقوق الرجال المتمدِّنين الذين يعيشون اليوم في أُممٍ عظيمة؟ إنَّ تكوين إحدى الأمم أمر قد تمَّ بالتدريج، وهو وليد تطور طبيعي طويل لم تؤثِّر فيه عزائم الأجيال المُتعاقبة الشاعرة ولا مُختلف العقود الصريحة التي وضَعها الأشخاص سوى تأثير قليل؛ فوجود مختلف الأمم المُتمدِّنة حادث اجتماعي يجب التسليم به كما هو عند البحث حقوقيًّا في أي جهة تكون السيادة؛ لأنَّ للحقوق الدستورية دائرة مختلفة عن دائرة علم الاجتماع.

•••

وعلى أيِّ المبادئ يجب أن تقوم السيادة القومية بعد الإقلاع عن فرض العقد الاجتماعي؟ أرى لذلك مبدأين؛ وهما مظهران لحقيقة واحدة من حيث الأساس:

الأول: هو المبدأ الذي يقول العقل به بداهةً، وهو أنَّ السلطة العامة والحكومة التي تمارسها لم تكونا إلا في مصلحة الأفراد الذين تتألَّف الأمة منهم، وقد قال بهذا المبدأ علماء اللاهوت في القرون الوسطى ولا سيما القديس توما داكن،7 ودافع عنه مارسيل دوبادو8 في القرن الرابع عشر، وأوضحه فيليب بوت9 في خطبته الشهيرة التي ألقاها في المجالس العامة الفرنسية في سنة ١٤٨٤، ثم رآه مؤسسو مذهب الحقوق الطبيعية في طريقهم، ومنه تُسْتَخْرَج النتيجة القائلة بأنَّ كل ما يوضع في سبيل الكل يجب أن ينظمه الكل؛ أي أن يَشترك أبناء البلاد جميعهم في سَنِّه مع مراعاة ناموس الأكثرية، فما يُسَنُّ على هذا الوجه يُصبح شرعًا للجميع، ويكون أحسن وسيلة عملية لإدارة المصالح العامة إدارةً حسنة.
على تلك الصورة استولى مبدأ السيادة القومية على عالم الأفكار من غير انقطاع، وقد مارسته الجمهوريات القديمة بغريزتها ومن دون أن تسعى في تسويغه، وكذلك الإمبراطورية الرومانية اعتنقته منذ أوائلها، ومع أن الشكل الملكي أصبح عامًّا في القرون الوسطى ظهر المبدأ المذكور فيها باكرًا، وعلى رغم تعلُّق القديس توما داكن بمبدأ الحكومة المختلطة الذي مدحه أريسطوطاليس كان يرى من الكمال اشتراك الشعب كله في ممارسة السلطة العامة ونظام التصويت العام، ويمكننا أن نقول: إنَّ ذلك كان يبدو في عالم النظر فقط، وقد اتخذ شكلًا آخر لما أصبح مدارًا للمنازعات السياسية التي تَرمي إلى الإشراف على السلطة الملكية أو تحديدها، وأول ما وقع ذلك في الأزمة الكنسية التي حدثت أيام الانشقاق الديني في ديار الغرب؛ فعلماء اللاهوت الذين ودُّوا إذ ذاك أن يكون للكنيسة والمجمع الديني العام أفضلية على البابا اعترفوا لكل مُجتمَع سياسي بالسيادة التامة؛ وذلك لطمعٍ في اقتباس الكنيسة هذا المبدأ من الدولة، ونذكر من أولئك العلماء نيقولا كوزانوس10 وجيرزون11 على الخصوص، ثم بَدَتْ نظرية سيادة الشعب الأصلية الدائمة دوامًا مضمرًا في الزعازع والمنازعات التي أوجبها الإصلاح الديني في أوربة في القرن السادس عشر والثورة البيوريتانية في إنكلترة في القرن السابع عشر؛ ففي تلك الحوادث كانت النصوص والمبادئ الدينية تُمثِّل دورًا كبيرًا، والأمر الرئيس الذي أثار وقتئذٍ حوله مجادلات عنيفة هو: أيحقُّ للشعب أن يخلع الملوك ويحاكمهم أم لا؟
وقد كان أيضًا لمبدأ السيادة القومية في فرنسا في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر مدافعون آخرون، فهؤلاء المدافعون هم الذين كانوا يريدون أن يُنْعِشوا المجالس العامة الفرنسية بالاعتراف لها بحقوق مُقيِّدة لسلطة الملك، ونعُدُّ منهم رجلَين أعربا عن فكرهما بكل جلاء، وَجَدَّا في إقامته على أُسُسٍ متينة؛ وهما: فيليب بوت وهوتمان،12 اللذان استَشهدا في تأييد ذلك بملاحظات تاريخية فضلًا عن مبدأ البداهة العقلية؛ فأما فيليب بوت فقد أورد الجمهورية الرومانية وأكبرها، وأما هوتمان فقد أراد أن يُثبت أن الشعب الفرنسي حافظ بنشوء تاريخي غير منقطع على سيادته، وأن المجالس العامة الفرنسية مُتمِّمة لمجلس الكونسيليوم13 الذي كانت السيادة تخصُّه أيام ملوك الفرنج. نعم، إنَّ نظريات تاريخية مثل هذه من المزاعم التي يجادل فيها، ولكن الأساس المتين الحقيقي الذي كانت تستند إليه هو المبدأ القائل بأن السلطة العامة والحكومة لم تكونا إلا في مصلحة الأمة جميعها، وبأن من واجبات الأمة أن تنظر إليهما وتراقب أمورهما.
ثم إنَّ هوتمان — فضلًا عما في نظريته التاريخية من ابتكار خاص — معدود من المؤلفين المشهورين الذين سعوا في النصف الثاني من القرن السادس عشر — أي في دَور الحروب الدينية — أن ينشروا في فرنسا مبادئ الحرية السياسية، وقد حاول هؤلاء أن يُثبِتوا الأمرَين الآتيَين؛ وهما: أولًا: إنَّ الأمة هي موئل السيادة في البداءة. ثانيًا: إنها لم تَبِعْ هذه السيادة بنقل ممارستها إلى الملك الذي يجب اعتباره كممثِّل للأمة، ولكن هذا المذهب لم يلبث أن سقط نفوذه في فرنسا فاسحًا المجال لمبدأ سيادة الملك المُطلَقة الذي بشَّر به بودان14 وكُتِب له الفوز مادة ومعنى، وقد اقتضى سلوك كُتَّاب فرنسا في القرن الثامن عشر طريقًا جديدًا لإقامة حقوق الشعب التي فتَح مذهب الحقوق الطبيعية بابها.
يكتسب مبدأ السيادة القومية قوة عجيبة عند مصاقبته للمبادئ التي تُباينه؛ وبيان ذلك أن الأمة إذا لم تكن موئل السيادة — في البداءة على الأقل — وجَب أن تخصَّ فردًا أو طبقة من الناس، فما هي الحُجج التي يمكن هؤلاء أن يُثبتوا بها حقوقهم؟ يمكن هؤلاء أن يُدْلُوا بحجَّتين؛ وهما:
  • أولًا: حجة الحقوق الإلهية؛ فالملوك منذ دور القصائد الهوميروسية حتى الدور الذي قُضِيَ فيه على أسرة ستوارت والبوربون كانوا يَزعمون — في الغالب — أنهم يستمدُّون سلطانهم من مقام الألوهية لا من الشعب، ولكنه يُخرَج بهذا من دائرة الحوادث والعقل ليُدْخَلَ في دائرة ما بعد الطبيعة أو في دائرة الدين، ولا مكان لمثل هذه النظرية في المُجتمَع المدني الحديث الذي يَعتبر الدولة مستقلَّةً عن المجتمعات الدينية ومختلف المذاهب اللاهوتية، وفضلًا عن ذلك فإنَّ عند أئمَّة المذهب الكاثوليكي لم يَظهر رجل نُصِّبَ ملكًا من طرف الله رأسًا سوى شارل وخلفائه، وعندهم أنَّ السلطات السياسية الأخرى وضَعها الله على وجهٍ غير مُباشر؛ يعني أن الله — مع تنظيمه شئون الطبيعة ومنحه البشر غريزة طبيعية تدفعهم إلى العيش في المجتمع — وهَبَ لهم قدرةً على تنظيم السلطة العامة واختيار رؤساء لهم.
  • ثانيًا: حجة وضع اليد المديد؛ أي تجمُّع السيادة في غضون التاريخ في قبضة رجل واحد أو طبقة من الناس، وقد عُدَّت هذه الحجَّة أحسن الحُجَج عند كُتَّاب القرن السادس عشر الذين أثَّرت فيهم مبادئ المجتمع الإقطاعي؛ حيث كان مرور الزمن والعادة مصدرَي الحقوق الرئيسَين.

وتبدو الحجَّة المذكورة في أيامنا على شكل علميٍّ أكثر من ذلك؛ فقد أثبت علم الاجتماع والتاريخ أن تكوين الأمة وارتقاءها ليسا أمرًا مصنوعًا، بل كناية عن حادثة طبيعية تمَّت بفعل العِرْق والبيئة والأحوال التاريخية، وأن كل أمة ترتقي بنشوء خاص ونظام سياسي خاص وتعقُّل خاص، وأن لكل أمة تتكوَّن على هذا الوجه حياة خاصة مختلفة عن حياة الأفراد الذين تتألَّف منهم في أحد الأوقات؛ حيث تَختلط جهود الأجيال الماضية وأفكارها بجهود الأجيال الحاضرة وأفكارها، ويتقرَّر مصير الأجيال القادمة، ولكن الأمر إذا كان كذلك أفلا يُهيمِن النظام الذي هو وليد الأمة الطبيعي على عزائم أفرادها؟ أولا تكون السيادة الناشئة عن التطور التاريخي هي السيادة الشرعية؟

أجل، توجب هذه الملاحظات على الناس أن يسيروا بحكمة كبيرة فيما يضعونه من الإصلاحات السياسية، ويثبت التاريخ أن التبدُّل الذي يطرأ على النظم لا يكون مفيدًا دائمًا إلا إذا تمَّ بحكمة وكان أصل هذه النظُم في النُّظُم التي تقدمتْها، ولكن سنن التاريخ ليست موجدة الحقوق، فالحقوق وليدة الحرية لا وليدة القدر، ومَنْ يستطيع أن يجادل الناس الأحرار المَسئولين أدبيًّا والذين تتألَّف الأمة منهم في الساعة الراهنة في حقِّ التصرُّف في مقاديرهم السياسية ضمن دائرة حريتهم وضمن المنطقة الخاصة التي رسمتْها الحقوق الطبيعية لهم؟ إنَّ العقل يمنع الناس من أن يتصرَّفوا في مقادير الأجيال القادمة تصرُّف المُتعمِّد الجازم فقط، ولكنهم إذا وعظوا باحترام الماضي يخاطب عقلهم وحريتهم في ذلك، وعندي أنَّ لذلك المذهب الذي أناهضه نتيجتين مضرَّتين: الأولى هي أنه يؤدِّي إلى إنكار التقدم العلمي القائم على التأمُّل، وإلى وقوف كل رقيٍّ في التقاليد. والثانية هي أنه يؤدِّي إلى إنكار الحقوق الفردية، وإلى التضحية بحقوق الأفراد الأحياء وإرادتهم في سبيل الغريزة القومية الغامض أمرُها.

•••

ولا تقوم السيادة القومية على العقل وعلى الحقوق الفردية فقط؛ فهي أيضًا المعبِّر الشرعي التام الوحيد عن إحدى الحوادث الاجتماعية اللازمة التي لا ريب فيها.

مهما يكن مصدر السيادة الشرعي في الأمة ومهما تكن اليد التي تسلَّمتها لا تبقى دائمة، ولا تمارس فعلًا إلا إذا أطاعها أبناء الوطن أو الرعية، ولكن هذه الإطاعة لا تتمُّ إلا بأحد الوجهَين: استعمال القوة أو مُوافَقة الرأي العام.

لا تَستطيع القوة أن تكون دعامة السيادة الشرعية على الدوام إلا في أحوالٍ استثنائية؛ كأن تُفْرَض هذه السيادة على شعب مُنحطٍّ منحلٍّ من قِبَل شعب أرقى أو أقوى منه، ولكن هذا لا يقع في أمة مستقلة رشيدة؛ إذ لا قوة مادية تقدر على إبقاء سيد قابضًا على زمام الأمور على رغم إرادة أكثرية الشعب، والفيلسوف رينان15 وحده هو الذي تصوَّر مثل هذه القوة؛ فهو يفرض وجود صفوة من الأذكياء توصَّلوا بفضل مُبتكَرات العلم إلى اقتناء أسلحة ووسائل للتخريب لا يعرف سواهم سرَّها وكيفية استعمالها، وأنهم من القوة بحيث يقدرون على سحق كل مَنْ يُقاومهم، وعلى تخريب الكرة الأرضية جميعها، فبعد أن يتسلَّح هؤلاء على هذه الصورة يستولون بما يُوجبونه من الرعب والهول على بقية الناس، ثم قال الفيلسوف المشار إليه: «وحينئذٍ لا تكون حاجة إلى البحث في أمر السلطة، وكلمة السلطة لا تدلُّ إذ ذاك على غير قوة الرأي التي تعود غير مؤثرة.» ومن خلال هذه الرؤيا الوهمية يبدو للناظر اعترافٌ بأنَّ إرادة الأكثرية وفكرها دعامة السياسة بين البشر.
تتجلَّى الإرادة العامة في الدول على اختلاف أشكالها؛ فهي تتجلَّى في الملكيات تجلِّيها في الجمهوريات، وفي الملكيات المطلقة كما في الملكيات المقيَّدة، وهي تكون شاعرةً حرة بحسب البيئات، وقد تُمليها المعتقدات الدينية أو روح التقاليد، ولكنها تكون فعلًا في كل مكان، ولا تبقى حكومة بدونها؛ فقد نعتها ميرابو16 «بسيد المشترعين وأكثر الجبابرة إطلاقًا.» وقال توكفيل:17 «مِن الخطأ أن يُظنَّ أن سلطة القيصر الواسعة لم تَقُم على غير القوة؛ فهي مستندة إلى عزائم الروس وعواطفهم الشديدة على الخصوص؛ وسبب ذلك أن مبدأ سيادة الأمة أساس كل حكومة، ويَنطوي تحت أقل الأنظمة حرية.»

ولكنه إذا كان الرأي العام مصدر القوة السياسية ومنبع السيادة فإنَّ السيادة الشرعية عندما يكون موئلها غير الأمة — التي هي أصل الرأي العام — لا يُباشر الرأي العام سلطانه إلا على وجه ناقص غير منتظم ثوري؛ أي لا يعبِّر عن نفسه إلا بما يُبْدِيه من الرغائب المُبهَمة غير الشافية التي إما أن تُدْمَجَ في عرائض وضيعة يَعرضها على وليِّ الأمر الشرعيِّ، وإما أن يوجبها عليه بواسطة الفتنة أو الثورة، وفي ذلك من عدم الانسجام بين الحقوق والأفعال ما لا يُنْكَر، ويحدث هذا الانسجام بوضع السيادة الشرعية في موئلها الضروري، وإن الاعتراف بالسيادة القومية وتنظيمها واحترامها يَعني منح الرأي العام قوة عالية وقيمة قانونية وحكمًا قضائيًّا وسلطة شرعية، والرأي العام لكي يتمَّ سلطانه ويُعبَّر عنه تعبيرًا شرعيًّا يُذْهَب إلى مبدأ حرية الصحافة وحرية الاجتماع.

(٢) القسم الثاني

نتائج مبدأ السيادة القومية

أبحث في نتائج السيادة القومية من حيث الأوجه الآتية؛ وهي: أولًا: من حيث شكل الدولة. ثانيًا: من حيث التصويت السياسي. ثالثًا: من حيث الحكومة التمثيلية. رابعًا: من حيث مسئولية الموظَّفين والممثلين.

(٢-١) السيادة القومية وشكل الدولة

ينشأ عن مبدأ السيادة القومية نتيجةٌ لا خلاف فيها، وقد عبَّرت عنها المادة الثالثة من تصريح حقوق الإنسان والوطني الذي نُشِرَ في سنة ١٧٨٩، وإليكها: «إنَّ الأمة موئل السيادة من حيث الأساس، فلا يقدر أحد ولا هيئة على ممارسة سلطة لم تصدَّر عنها.» وهنا يُطْرَح سؤال دقيق وهو: هل يلائم مبدأ السيادة القومية من الوجهة الحقوقية كل شكل للدولة؟

•••

فأما ملاءمته للجمهورية الديموقراطية فأمرٌ جليٌّ؛ إذ الجمهورية الديموقراطية خلاصة الطبيعة، فبما أنَّ الأمة في هذه الجمهورية هي التي تمنح السلطات في أوقات معينة تكون السيادة القومية فيها متصلةً وتتجلَّى في أدوار مقرَّرة.

ولكنه لا يُمكن التوفيق بين مبدأ السيادة القومية والملكية المُطلقة الوراثية منطقيًّا؛ فالسيادة القومية تقضي بأنَّ الشعب موئل السيادة، والملكية المُطلَقة تقول بأن الملك موئلها، وكل ما يُوفَّق به بين الطرفين هو القول بأنَّ الشعب صاحب السيادة نقَلها إلى أحد الملوك وإلى ذريته من بعده، ذلك ما ذهب إليه أكثر مؤسِّسي مذهب الحقوق الطبيعية الذين أعلنوا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر نظرية العقد الاجتماعي؛ ومن هؤلاء نَذكُر: غروسيوس وفولف، حتى إنَّ غروسيوس يَعزو ذلك النقل إلى عدة أسباب؛ منها القدر والقوة، وأصوب منه فولف الذي قال: إنَّ السيادة أمر يخص الشعب، وإن الشعب يقدر على التصرف بها ونقلها إلى مَنْ يشاء، وإنه يستطيع أن يقيِّد هذا النقل بحدود وشروط كأن يجعله قابلًا للفسخ أو غير قابل، وأن يجعله مؤقتًا أو مدى حياة الملك أو وراثيًّا، وأن يجعله كليًّا أو جزئيًّا، وهذه النظرية تؤدي إلى بيع الشعب للسيادة وصيرورة الملك مالكًا لها بالتمام.

وإزاء ذلك اعترض روسو فبيَّن أنَّ بيع السيادة القومية أمر مُتعذِّر ولم يأتِ روسو بشيء جديد؛ فقد ظهَر قبله علماء قالوا: إنَّ هذا التعذُّر وصف جوهري للسيادة مهما كان موئلها، وفي القرن الثامن عشر كان يُنادى بسيادة الملك، فحوَّل روسو هذه السيادة إلى السيادة القومية القائمة على العقد الاجتماعي، ودليله على ذلك بسيط إلى الغاية؛ فقد قام على توحيد السيادة والإرادة العامة؛ جاء في كتابه الذي سمَّاه العقد الاجتماعي ما يأتي: «ولما كانت السيادة ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أن تُباع.» إلى أن قال: «والسلطة التنفيذية — لا الإرادة — هي التي يمكن نقلها.»

نعم، إنَّ قوة هذا البرهان ضعيفة ضعف نظرية العقد الاجتماعي، ولكنَّه يُصبح حقيقيًّا إذا قيل: إنَّ البيع لا يشمل سوى دائرة الحقوق الخاصة — أي المنتجات البشرية التي لها قيمة عند المقايَضة — وإنه يتعذَّر تطبيقه على الحقوق العامة والخصائص الإنسانية؛ فكما أنَّ الشخص لا يمكنه أن يبيع نفسه، كذلك الأُمَّة لا يُمكنها أن تبيع نفسَها حقوقيًّا. وكما أنَّ الحرية الشخصية لا تباع كذلك الحرية السياسية لا تباع، حتى إنه مع التسليم بأنه لا يُتصور أنَّ السيادة لا تُنْقَل وجب اعتبار العقد الذي تنقلها الأمة به لوقت معيَّن باطلًا؛ فالذي نقدر على نقله هو ما يخصُّنا، والواقع أن السيادة القومية لا تخصُّ الجيل الحاضر الذي يمارسها، بل تخصُّ الأمة المتمثِّلة في الدولة؛ أي تخصُّ سلسلة من الأجيال المُتعاقبة، وهي وديعة مقدَّسة ينقلها الجيل إلى الجيل الذي يجيء بعده ثم بعده وهكذا.

وقد أُدْمِجَ هذا المبدأ في دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي الذي جاء فيه: «إنَّ السيادة لا تُجَزَّأ ولا تُباع ولا تزول بمرور الزمن.»

•••

وقد أتى بتوفيقات أخرى بين السيادة القومية والشكل الملَكي، ونذكر قبل كل شيء أن روسو لا يرى بينهما أقل تناقُض منطقي، وذلك ناشئ عن أفكاره الخاصة في السيادة، فهو مِن جهة يوحِّد السيادة والسلطة الاشتراعية، ومن جهة أخرى لا يتصوَّر السلطة الاشتراعية إلا مُباشَرةً مِن قِبَل الأمة رأسًا، وأما السلطة التنفيذية فلا يعدُّ ممارستها من أعمال السيادة. وهو يرى أن الأمة لا يمكنها أن تمارسها كصاحبة السيادة، وأنَّ الأفضل أن لا يمارسها أبناء الوطن جميعهم، وأن يُفوِّض الشعب أمرها إلى شخص أو أكثر، وأنه يُمكن تسليمها إلى مَلِك بشرط أن تبقى السلطة الاشتراعية — وإن شئتَ فقل السيادة — بِيَدِ الأمة كلها، وعند روسو أن الملكية التي تكون على هذا الوجه هي جمهورية بالحقيقة؛ وذلك لكون السيادة فيها ديمقراطية جمهورية النزعة، ثم إنه يتسرَّب في نظرية روسو مبادئ أخرى لحصر عمل الملك في ممارسة السلطة التنفيذية، ولإمكان نزعها من يده متى أراد الشعب ذلك.

لا يتصوَّر نظام روسو إلا بقَبول مبادئه الخاصة، وهو لم يُعْمَل به قط، غير أن هنالك دساتير حديثة هي مع قبولها مبدأ السيادة القومية وإعلانها إياه قرنته بالشكل الملكي، وهي تختلف عن نظام روسو بقولها بالحكومة التمثيلية في مادة الاشتراع، وباعتبارها السلطة الاشتراعية من خصائص السيادة لا السيادة نفسها، وبعدِّها السلطة التنفيذية قرنًا للسلطة الاشتراعية، وتَقترب الدساتير المذكورة بعضها من بعض بمنحها الملك ممارسة بعض خصائص السيادة، لا تملُّك هذه السيادة التي تَبقى في الأمة على الدوام، ولدينا دستوران سعيًا على الخصوص في التوفيق بين هذه القواعد المُختلفة توفيقًا مضبوطًا، وهما:
  • أولًا: دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي الذي وضع مبدأ الحكومة التمثيلية الأساسي بنصه على «أنَّ الأمة — وهي التي تَصدُر السلطات عنها وحدها — لا تستطيع أن تمارس هذه السلطات إلا بواسطة نوابها، وأنَّ الدستور الفرنسي تمثيلي، وأنَّ الممثلين هم الهيئة الاشتراعية والملك.» وقد نُعِتَ الملك إذ ذاك بأنه «الموظف العام الأول»، وبأنه يمارس السلطة التنفيذية ويتمتَّع بحق رفض القوانين رفضًا وقفيًّا. ثم إنَّ الدستور المذكور — مع عدم منحه الأمة حق خلع الملك، ومع تصريحه بأن شخص الملك مقدَّس ولا يُمس — بيَّن أحوالًا يسقط الملك فيها ويُصبح كبقية أبناء الوطن.
  • ثانيًا: دستور بلجيكا الذي سُنَّ في ٧ فبراير سنة ١٨٣١؛ فهذا الدستور يُشتق من المبادئ التي اشتُقَّ الدستور الأول منها، ولكن بشدة أقل من ذلك؛ فهو على رغم تصريحه «بأنَّ السلطات كلها تصدر عن الأمة، وبأنها تمارس حسب الوجه الذي قرره الدستور.» وعلى رغم إشراكه الملك في ممارسة السلطة الاشتراعية ونصه على «أنَّ الملك لا يباشر غير السلطات التي منحه إياها الدستور والقوانين الخاصة التي سُنَّت بمقتضى الدستور.» يقرِّر «أن السلطة التنفيذية تخص الملك حسب ما جاء في الدستور.» ثم إنه لم ينصَّ على حال يسقط به الملك سوى «الحال الذي يتعذَّر عليه أن يحكم به.»

ونُظم مثل هذه مما بُثَّ في دساتير الإمبراطورية الأولى والثانية، فقد أظهر مرسوم السنة الثانية عشرة مقام الإمبراطورية كأكبر منصب جمهوري؛ إذ جاء فيه: «إنَّ أمر الحكومة الجمهورية فُوِّض إلى إمبراطور يَحمل لقب إمبراطور الفرنسيِّين.» وجاء في دستور ٤ يناير سنة ١٨٥٢: «إنَّ أمر حكومة الجمهورية الفرنسية يفوَّض إلى لويس نابليون بونابرت الذي هو رئيس الجمهورية الحالي لمدة عشر سنوات»، و«إنَّ رئيس الجمهورية مسئول أمام الشعب الفرنسي، وأنه يحقُّ له أن يستفتيه في كل وقت.» ثمَّ لما سُنَّ دستور ٢١ مايو سنة ١٨٧٠ نصَّ على «أنَّ الإمبراطور مسئول أمام الشعب، وإنه يحقُّ له أن يَستفتيه في كل وقت.» وإنه في حال موت الإمبراطور من غير أن يكون بين أقربائه مَنْ هو جدير بأن يَخلفه «يَنتخب الشعب إمبراطوره حسب طريقة الاستفتاء العام.» ولكن الإمبراطورية إذا اتخذت السيادة القومية شعارًا لها على هذه الصورة فإنها لم تحترمها إلا احترامًا شكليًّا؛ إذ إنَّ تلك الدساتير كانت ترمي إلى تأييد سلطة الإمبراطور الشخصية فقط، وكانت تحتوي أحيانًا على تعبيرات مُناقضة للمبدأ المذكور؛ كالتعبير القائل: «بأنه يُقْضَى بالعدل باسم الإمبراطور.»

ونعلم أن الإنكليز نظموا حكومة الأمة بواسطة الأمة مع محافظتهم على الشكل الملكيِّ، وهم — مع علمهم أنَّ الإرادة القومية هي العليا وأن الملكية لا تدوم إلا بها — لم يقولوا بمبدأ السيادة القومية ولم يُعلنوه بين حقوقهم العامة، وقد اعتبروا — بعد النظر إلى الحقوق التاريخية والوضعية — أنَّ البرلمان موئل السيادة مِن غير أن يذهبوا إلى ما فوق ذلك.

ويظهر أنَّ بين التوفيقات المختلفة التي أتى بها بين مبدأ السيادة القومية والشكل الملكي على الوجه المذكور ما هو صحيح من الوجهة المنطقية، ولا سيما ما جاء في دستور سنة ١٧٩١، إلا أنني أرى أنه يَنطوي تحتها عيبٌ حقيقي، ولا أبحث هنا في هل تلائم الحرية السياسية الشكل الملكي أم لا، وذلك بعد أن دلَّ التاريخ الحديث على تماثُل الجمهورية والملكية من هذه الجهة، وعلى أن الحرية لم تكن في إنكلترة أقل منها في الولايات المتَّحدة، وإنما المسألة التي أبحث فيها هي: أَوَلَا يكون في التصريح في الدستور الواحد بمبدأ السيادة القومية ومبدأ الحكومة الملكية إدخال مبادئ مُتناقضة فيه؟ وليس في هذا شيء من المُماحكات اللفظية، فسيادة الأمة غير محصورة في صدور السلطات كلها عنها، وعدم منحها شيئًا سوى ممارستها، بل تتضمَّن أيضًا أنَّ جميع الذين يُمارسون هذه السلطات مسئولون عن طرُزِ ممارستهم إياها، وهذا مُوافق للمبدأ القائل: إنَّ كل شخص مسئول عن مُباشرته حقوق الآخر الذي يكل إليه أمر النظر فيها، ويجب أن يُعطيه حسابًا عنها.

بَيْدَ أننا سنرى أن مسئولية وكلاء الشعب في شئون السيادة مسئولية جزائية، مما يصعب تطبيقه ولا يخلو من ضرر في الغالب، وبذا لا يُسأل هؤلاء سوى مسئولية واحدة؛ وهي التي تنشأ عن تحديد مدة وكالتهم؛ فهذه المسئولية التي نراها مؤثِّرة — وإن لم تكن مباشرة — تقضي بأن لا يُسيء الوكلاء — الذين تحدَّد مدة وكالتهم — استعمال السلطة التي أُودعوا شئونها؛ وذلك خشية عدم تجديد انتخابهم عند انتهاء وكالتهم، ومِن ثمَّ تكون النيابة المؤقَّتة من النتائج الطبيعية الضرورية للسيادة القومية، ولكي تكون هذه القاعدة البسيطة الأساسية شافيةً يجب أن تكون مدة الوكالة المذكورة معينة بأقل من العمر، وفي هذا مِن مُباينة للملكية ما لا يخفى.

وما بيَّنَّاه آنفًا يُثبِت ما بين السيادة القومية والأريستوقراطية من عدم مُوافقة أيضًا؛ فهنا قد سُعِيَ أيضًا في التوفيق بين الطرفَين؛ وذلك بجعل الأشخاص الذين قال بعض الدساتير باشتراكهم في ممارسة السلطة العامة وراثةً أو مدى حياتهم كمُمثِّلي الأمة، وهذا ما قيل عن مجلس اللوردات في إنكلترة، ومجلس الشيوخ في الإمبراطورية الفرنسية الأولى والثانية، وفي دور إعادة الملكية (الريستوراسيون) وفي ملكية يوليه الفرنسية، وعن طبقةٍ من أعضاء مجلس الشيوخ الذي أُلِّفَ بحسب دستور سنة ١٨٧٥، وتَعَدَّل تركيبه في سنة ١٨٨٤ تعديلًا ملائمًا لمبدأ السيادة القومية.

ومن الممكن تصوُّر توفيق آخر بين السيادة القومية من جهة والملكية الأريستوقراطية من جهة أخرى؛ فهو يتوقَّف على تجزئة السيادة وترك بعض خصائصها للأمة، وجعل الملك يتملَّك الخصائص الأخرى، ولكنه يُعارض ذلك المبدأ القائل بأن السيادة لا تُباع، ومبدأ روسو القائل بأنَّ السيادة لا تتجزَّأ، ومبدأ روسو المذكور هو تطبيق لما قاله بودان عن سيادة الملك على سيادة الأمة، وقد قال به دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي. غير أنه قيل في البلدان التي اعتنقت مبدأ السيادة القومية في الأزمنة الحديثة بقابلية هذا المبدأ للتجزُّؤ في بعض الأحيان، وهذا التجزُّؤ يقع في الدول الاتحادية؛ حيث لا تُباع سيادة الأمة بالحقيقة، وحيث يشترك في سيادة دول الاتحاد الأشخاص الذين يشتركون في سيادة الدول التي تتألَّف من مجموعها، ثم إنَّ دول الاتحاد قائمة على عقد اجتماعي حقيقي تاريخي محدِّد لشروط المجتمع الجديد، فإذا استطاعت دول خاصة أن تفنى في غضون التاريخ في دولة مركزية لا يكون فيها سوى سيادة واحدة، أفلا تَستطيع دول مثلها أن تحدد بعض خصائص هذه السيادة الجديدة وأن تحافظ على البعض الآخر؟

(٢-٢) السيادة القومية وحق التصويت السياسي

لما كانت الأمة — التي هي موئل السيادة — شخصًا غير حقيقي — أي كناية عن جملة من الأفراد — لا تستطيع أن تكون صاحبة إرادةٍ بنفسها، ولا يمكن أن يكون قِرَاب هذه الإرادة الضرورية لممارسة السيادة إلا في أناس من الأمة، فتصويت هؤلاء يُعدُّ معبِّرًا عن الإرادة القومية، وحق اشتراكهم في التصويت يُسمى حق التصويت السياسي، ويتألَّف منهم — وهم الذين في أيديهم حق التصويت ويسمَّون الناخبين السياسيين — الأمة الشرعية.

تكون ممارسة التصويت السياسي — الذي ليس سوى ممارسة السيادة نفسها — على وجهَين؛ وهما: إما أن يُقرِّر الناخبون السياسيون بأنفسهم عمل السيادة؛ وذلك بأن يَقترعوا لإحدى اللوائح القانونية رأسًا، وهنالك الحكومة المباشرة، وإما أن ينتخبوا ممثِّلين يُمارسون خصائص السيادة باسم الأمة، وهنالك الحكومة التمثيلية، وقد يحدث أنَّ الناخبين السياسيِّين لا يُدْعَون إلى انتخاب ممثلي الأمة رأسًا، بل إلى انتخاب عدد محدود يَنتخِب ممثِّلي الأمة، على أن ينتخب الممثلون الذين انتخبهم الشعب والذين من وظائفهم أن يُمارسوا بعض خصائص السيادة أناسًا ليُمارسوا خصائص أخرى للسيادة، ولكن تأثير الناخبين السياسيِّين هو الأساس الذي تقوم عليه هذه الدرجات.

وفي كل مرة يُرْجَع فيها إلى التصويت السياسي لتقرير عمل من أعمال السيادة، ويُقْصَد من ذلك تجلِّي الإرادة القومية تُعَدُّ أكثرية الأصوات معبِّرة عن هذه الإرادة، ولم ينشأ ذلك عن أن الناس عندما أسسوا المجتمع المدني قالوا بالإجماع بأن يكون مبدأ الأكثرية هو الأساس الذي يقوم عليه المجتمع في المستقبل، بل نشأ خلافًا لما ذهب إليه أنصار نظرية العقد الاجتماعي عن كون مبدأ الأكثرية طبيعيًّا ضروريًّا، ولا يُرى للأمر غير حلَّين آخرين مُمكنَين في الميدان؛ أحدهما أن يتمَّ الأمر بإجماع المصوتين، والثاني أن يفوض إلى رأي أوفَرِ الأمة عقلًا وحكمة.، فأمَّا الإجماع فوهميٌّ في مجتمع كبير مختلف الفروع، وهو لم يُتَّخذ قاعدة في غير البيئات الصغيرة الفطرية، وهنا أيضًا لم يكن في غير الظاهر، يبدو ذلك عند النظر إلى أنه لا يَرتفِع في الجماعة صوت مخالف للرأي الذي يقول به أكثر رجالها نفوذًا. وأما مسألة عُقلاء الأمة فلا علائم حقيقية تدلُّ عليهم عندما يُبتعد من المجتمَعات الفطرية؛ حيث تُعتبر الشيخوخة شعار الحكمة، وبعد هذا البيان يكون مبدأ الأكثرية من المبادئ البسيطة التي لا يحول شيء دون الرضى بها؛ لاتصافها — على الخصوص — بأنه ليس فيها أحد يفضل الآخر مقدَّمًا، وبأنها تضع المصوِّتين جميعهم على حدٍّ سُوى.

يتطلَّب تنظيم التصويت السياسي تعيينَ أفراد الأمة الذين يحقُّ لهم أن يشتركوا فيه، وتقرير الكيفية التي تختلط أصواتهم بها لتكوين الأكثرية، ومع أنَّ مسألة تعيين الأفراد الذين يحق لهم أن يشتركوا في التصويت هي الأَولى من الوجهة المنطقية، فإنني — لما تثيره من الصعوبات النظرية العظيمة — أبحث في المسألة الثانية في أول الأمر وذلك لوضوح مبادئها.

•••

إن هيئة الناخبين هي التي بِيَدِها ممارسة السيادة، وإن تصويت أكثريتها لأحد المعاني يعبِّر عن الإرادة القومية، وتتجلَّى نتيجة هذا المبدأ الطبيعية بكل وضوح عندما يحافظ التصويت على وحدته ويشتمل على اقتراع الناخبين جميعهم في أمر واحد؛ وذلك عندما تُمارِس حكومة الشعب المباشرة بعرض القانون على هيئة الناخبين لتستصوبها، وعندما يَنتخِب الناخبون ممثِّلًا واحدًا كما وقع في انتخاب رئيس الجمهورية الفرنسية بحسب دستور سنة ١٨٤٨، وكما يقع في انتخاب رئيس الولايات المتَّحدة.

ولكنَّ التصويت لا يحافظ على وحدته المذكورة عند انتخاب المجالس التمثيلية، ولم يَقترح أحد بجدٍّ أن يتألَّف من الأمة دائرة انتخابية واحدة لانتخاب النواب جميعهم؛ وذلك لِما يعترض تطبيق مثل هذا الاقتراح من الصعوبات التي لا تُذلل، ومنها مشكلة إحصاء الأصوات، ومنها كون أكثر أبناء البلاد لا يَعرفون شخصيًّا عددًا كافيًا من المرشَّحين حتى يمكنهم أن ينتخبوهم، لهذه العلة تُقسَّم الهيئة الانتخابية إلى دوائر خاصة كثيرة تنتخب كل واحدة منها نائبًا أو أكثر بأغلبية الأصوات، ولكن كل دائرة انتخابية خاصَّة بقيامها بانتخاب منفصل عن انتخاب الدوائر الأخرى لا تكون قد أتت بعمل خاص من أعمال السيادة، ولا يُمكنها أن تزوِّد نوابها سلطاتهم النيابية، وهؤلاء لا ينالون هذه السلطات إلا من السيادة القومية؛ أي مِن الأمة جميعها.

لا تفعل كل دائرة انتخابية — بالحقيقة — سوى عرض النواب على الأمة التي توافق على اختيارهم مقدمًا، وتُقلِّدهم وظائفهم، وقد طُرِحَت هذه المسألة في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول، فاسمع ماذا قال فيه توره18 في الجلسة المُنعقِدة في ١١ أغسطس سنة ١٧٩١: «وهنالك مبدأ لا جدال فيه؛ وهو أن الأمة عندما لا تجتمع اجتماعًا واحدًا للانتخاب وتكون مُكرَهة على الانتخاب حسب قاعدة الدوائر الانتخابية لا تَنتخِب كل دائرة من هذه الدوائر لنفسها بل للأمة جميعها.» وقال بارناف:19 «أقترح أن يصرَّح بأن الأمة بتفويضها إلى مختلف المديريات أن تنتخب نوابًا على انفراد، تحافظ على سلطانها في تقرير قواعد الانتخاب.» وعن هذا المبدأ ينتج ما يأتي:
  • أولًا: يجب أن تكون الدوائر الانتخابية فروعًا للهيئة الانتخابية كلها، ومِن ثمَّ يجب أن تكون مؤلَّفة من ناخبين ذوي صفة واحدة، وبتجزئة الهيئة الانتخابية على هذا الوجه تتجزَّأ ممارسة السيادة القومية من غير أن تفسد، ولا تبقى الدوائر على ما هي عليه إلا بأن تُسْتَجْمَعَ لها صفات الهيئة الانتخابية كلها.

    إذًا يُنافي تمثيل المنافع مبدأ السيادة القومية في مسألة التصويت السياسي، وإنَّ نظام تمثيل المنافع مما يَستحسنه كثير من الناس في أيامنا، وهو كناية عن جمع أبناء الوطن الذين لهم منافع مادية أو أدبية واحدة لانتخاب ممثِّلين يفوض إليهم أمر الدفاع عن هذه المنافع قبل كل شيء، ويُمكن أن يقع ذلك على أوجه كثيرة:

    فأحيانًا تُحوَّل الزمر المنظمة قبلًا والتي لها كيان دائم إلى دوائر انتخابية، ومن هذا القبيل منح القانون في النمسا هذه الصفة لغرف التجارة والصناعة، وفكرة الحزب الاشتراكي القائلة بأن تُنتخَب أكثرية النواب من قِبَل نقابات العمال على الأقل، ولكن هذا يظهر أنه لا يلائم مبدأ السيادة القومية، فلو أصبح لكل واحدة من هذه الزُّمَر حق في التمثيل الخاص؛ لاقتضى أن يُعْتَرَف لها بأنها تملك قسمًا من السيادة من غير أن يُنظَر إلى عدد أعضائها بالنسبة إلى عدد أبناء البلاد جميعهم.

    على أنَّ بعضهم سعى في التوفيق بين ذلك بأن تمسَّك بالفكر الذي عرضناه آنفًا وهو: ألا يمكن عدُّ الأمة أنها تفوِّض حقَّ انتخاب عدد من النواب إلى زمر مهنيَّة أو غير مهنية كما أنها تفوِّض ذلك إلى الدوائر الانتخابية؟ إلى هذه الوجهة ذهب القانون الإسباني الذي سُنَّ في ٢٠ يونيه سنة ١٨٩٠، والذي — مع محافظته على مبدأ التصويت العام — منح الجامعات الأدبية وشركات مُحبِّي البلاد الاقتصادية وغرف التجارة والصناعة والزراعة الرسمية حقَّ انتخاب عددٍ من النواب كأنها دوائر انتخابية خاصة، وقد جاء في المادة ٢١ من القانون المذكور «أنَّ النواب الذين تَنتخبهم المديريات أو الدوائر الانتخابية الخاصة يمثِّل كل واحد منهم الأمة جميعها.» وهذا يعني سوء استعمال فرضٍ يكون شرعيًّا عندما يَكبُر شأن الحقيقة، ويُهمَل عندما يباين المبدأ الذي يخرج منه؛ أي مبدأ السيادة القومية.

    ويُمكن تصوير تمثيل المنافع على شكل آخر؛ وهو أنه بدلًا من أن تكون الدوائر الانتخابية كنايةً عن الزمر الدائمة المنظَّمة قبلًا، يُجْمع مؤقتًا أبناء البلاد الذين يُزاولون مهنة واحدة أو مِهَنًا متشابهة؛ ليشتركوا — وهم بهذه الصفة — في انتخاب عدد من النواب، وقد بشَّر سيايس20 بهذا النظام في خُطَبِه التي ألقاها في مجلس العهد الفرنسي؛ إذ جاء فيها: «إذا كان يُراد سلوك أقوم السبُل في هذا الموضوع، فعندي أنه يُقتضى اتخاذ نظام خاص تتألَّف الهيئة الاشتراعية به من أناس يُطابقون الصناعات الثلاث التي تقوم عليها حركة المُجتمع وحياته؛ وهي: الصناعة الزراعية، والصناعة الحضرية، وصناعة تثقيف الناس، ولسوف يأتي يوم يشعر الناس فيه بأهمية هذه المسائل.» ثم وُجِدَ مَنْ تناول هذه الفكرة في زماننا، ويظهر أنَّها لا تناقض مبدأ السيادة القومية؛ وذلك بشرط أن يكون عدد النواب الذي يُخصَّص لكل زمرة مهنية حسب نسبة أعضاء هذه الزمرة إلى مجموع السكان، ولكن هذا النظام لا يَخلو من اعتراض عليه؛ فسبب الحكومة التمثيلية هو أنه يفرض أن تصويت أبناء البلاد وممثِّليهم يَرمي إلى صوغ المنفعة العامة في قالب قانوني، وأمر مثل هذا لا يقع إلا إذا تجرَّد هؤلاء من منافعهم الخاصة جهدهم، واتخذوا العقل والعدل دليلين لهم، ولكي يتمَّ الوصول إلى هذه النتيجة ودَّ بعض المفكِّرين في القرن الثامن عشر — ومنهم روسو — أن يُقضى على الجمعيات وطوائف العمال التي تحدُث بين أعضائها مصلحة خاصة قوية مشتركة، وقد كان هؤلاء على ضلال؛ لذهابهم إلى التضحية بأثمن حقٍّ مِن الحقوق الفردية، ولا يقلُّ ضلالًا عن ذلك تنظيم التصويت العام على وجهٍ يُراعي به أبناء البلاد منافعَهم الشخصية دون المنفعة العامة، ويؤدِّي إلى تنازع المنافع والقوى التي قلَّما يردعها العقل.

    ولكنه إذا كان تمثيل المنافع والزمر في المجالس الاشتراعية لا يلائم — على تلك الصورة — مبدأ السيادة القومية، فإنَّ مما يُرْغَب فيه أن تقدر المنافع الاقتصادية الكبيرة والزمر المهنية على تبليغ الحكومة رغائبها بواسطة مَنْ يمثِّلها، وهذا ما يستلزم تأليف مجالس منتخبة حسب مبدأ تمثيل المنافع، على أن تكون استشارية غير مشتركة في ممارسة السيادة.

  • ثانيًا: مع أنه يُقْتَضَى في الظاهر أن يكون عدد النواب بحسب عدد الناخبين في مختلف الدوائر الانتخابية، لم تتَّخذ فرنسا هذه القاعدة، فهي قد ذهبت إلى اعتبار عدد السكان أساسًا للتمثيل؛ وذلك يعني أن لا يُنظر في الدائرة الانتخابية إلى عدد الناخبين وحدهم، بل إلى عدد ما في هذه الدائرة من سكان ومنهم النساء والأولاد، ويُلائم هذا مبدأ السيادة القائل بأنَّ موئل السيادة هو الأمة جميعها، لا الأشخاص الذين يتمتَّعون وحدهم بحقِّ الانتخاب.

    حقًّا يجب أن يقوم التمثيل على قاعدة السكان؛ فكل تمثيل يقوم على قواعد أخرى يكون مشوِّهًا لمبدأ السيادة القومية، ولم يراعِ المجلس التأسيسي الفرنسي الأول هذا الأمر؛ فقد قرر: «أنَّ عدد الممثِّلين سيوزَّع بين ثلاث وثمانين مديرية بحسب النِّسَب الثلاث الآتية؛ وهي: الأراضي، والسكان، والضرائب المقرَّرة.» ولكنه رُجِعَ إلى طريق الصواب في دستور سنة ١٧٩٣، ودستور السنة الثالثة، ثم في دستور سنة ١٨٤٨.

  • ثالثًا: لا يَنال المُمثِّلون سلطاتهم حقوقيًّا من الدائرة الانتخابية التي انتخبتْهم، بل مِن الأمة جميعها، فهم لما كانوا يشتركون في ممارسة السيادة، وكانت السيادة تخصُّ الأمة وحدها، لا يستطيع فرع من الشعب ولا شخص من الأمة أن يتَّخذها لنفسه ويفوِّض مُزاولتها إلى أحد، وقد عُبِّرَ عن هذه الحقيقة في دستور سنة ١٧٩١ بالعبارة الآتية التي اقتبَسها منه كثير من الدساتير؛ وهي: «أن الممثلين الذين يتمُّ انتخابهم في المديريات لا يمثِّلون مديرية خاصة، بل يمثلون الأمة كلها، ولا يمكن تزويدهم أية وكالة كانت.»
ينتج عن ذلك أنَّ النائب المنتخَب لا يُعتبر وكيل ناخبيه، وعكس هذا ما ذُهِبَ إليه — في الغالب — في القرن الثامن عشر وفي أيامنا، وهو قلما عُبِّرَ عنه بأوضح مما جاء في خطبة بيسيون21 في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول؛ وهو: «أن أعضاء الهيئة الاشتراعية وكلاء، وأن أبناء البلاد الذين انتخبوهم مُوكِّلون، وعليه يخضع أولئك الوكلاء لإرادة هؤلاء المُوكِّلين الذين وكلوهم، ولا نرى فرقًا بين الوكلاء المذكورين والوكلاء العاديِّين؛ فالفريقان كلاهما يحملان لقبًا واحدًا، وعليهما واجبات واحدة، ووظائف واحدة.» وقد استُعْمِلَت كلمة «وكالة» في لغتنا العامية والرسمية والعلمية لتدلَّ على سلطات النائب، ولكنها لا يمكن أن تتضمَّن ما يرمي إليه بيسيون، فإذا قامت هذه السلطات على وكالةٍ لا تصدر هذه الوكالة إلا عن السلطة التي تمنحُها؛ أي عن الأمة جميعها، وقد أوجب استعمال كلمة «وكالة» بلبلةً في الأفكار؛ ولذلك سبب تاريخي واضح وإليكه:

استُعْمِلَت كلمة «وكالة» في الأزمنة الأولى التي كان ملوك فرنسا يَجمعون فيها المجالس العامة، وكان ملوك إنكلترة يجمعون فيها البرلمان؛ فقد كان هؤلاء الملوك يُخاطبون هيئات معترفًا بها موجودةً قبلًا — كالمدن والمقاطعات والمحافل الكنسية — ويَطلبون إليها أن تتمثَّل بواسطة وكلاء مُنتخَبين لتعذُّر حضورها شخصيًّا؛ كالأساقفة والأمراء الإقطاعيين، وبذا كان يُصبح النواب المُنتخَبون وكلاء الناخبين للقيام بالأمور التي تمسُّ الهيئة التي انتخبتهم إزاء الملك، وللمفاوضة باسمها معه حسب وكالتهم، وعلى رغم تحوُّل المجالس العامة الفرنسية في العهد السابق إلى مجالس مُنتخَبة تمامًا ظلَّ حق إرسال وكلاء إليها كحقٍّ خاصٍّ لكل ولاية، وكذلك في إنكلترة كان — ولا يزال — من الوجهة الشرعية إرسال نواب إلى مجلس النواب من حقوق المقاطعات، والأمر غير ذلك في البلدان التي قالت — كفرنسا الحديثة — بأنَّ السيادة القومية ركن التصويت السياسي؛ فعن الأمة وحدها تَصدر فيها سلطات النواب كما تَصدر السلطات الأخرى.

وينتج عن كون النائب لا يَنال سلطاته من ناخبيه أنَّ هؤلاء الناخبين لا يستطيعون — حقوقيًّا — أن يَفرضوا عليه ما يُسمُّونه بالوكالة الجازمة المقيدة التي كانت قاعدةَ المَجالس العامة الفرنسية في العهد السابق، وقاعدة نواب البرلمان الإنكليزي في الماضي. قال سيايس في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول: «تَنتخب المقاطعة النائب باسم المقاطعات جميعها، والنائب وكيل الأمة كلها، وأبناءُ الوطن جميعهم موكِّلوه، ولما كنتم لا تريدون أن يُزَوَّد نائب مجلس المديرية رغائب عدد قليل من الناس لا تلائم رغائب أكثرية المجلس، يَقتضي أن لا تودوا أيضًا أن يَستمع نائب أبناء المملكة إلى رغائب سكان إحدى المديريات أو إحدى البلديات المُناقِضة لرغائب الأمة كلها، وهكذا لا يُمكن أن يقيَّد النائب بوكالة جازمة، ولا أن يستوليَ عليه غير الرغائب القومية، وأين تُعْرَف الرغائب القومية إذا لم يكن ذلك في المجلس القومي نفسه؟ ففي هذا المجلس يأتي النواب بأنواع الاقتراحات، وبعد أن تُسمع ويُبحث فيها تُعدَّل وتصبح مرآةً للإرادة العامة.»

ولا تُنافي الوكالة الجازمة المقيِّدة مبدأ الحكومة التمثيلية وحده، بل تُنافي مبدأ السيادة القومية أيضًا، وهي لعدم ملاءمتها هذا المبدأ أبطلها مجلس العهد الفرنسي، وقد حذَتِ الدساتير الحديثةُ حذوه.

ولا يُتخلَّص من الشروح التحليلية التي عرضتُها آنفًا إلا على وجهٍ واحد؛ وهو أن يُعدَّ كل ناخب حائزًا جزءًا من السيادة القومية، وممارسًا باشتراكه في الانتخابات لحقٍّ خاصٍّ شخصيٍّ، وحينئذٍ يصحُّ أن يُقال: إنَّ النائب يستمدُّ سلطاته من الناخبين الذين يستطيعون أن يقيِّدوا النائب بوكالة مقيِّدة جازمة، وينشأ عن ذلك أنه يكون لأقلية الناخبين كما لأكثريتهم حقٌّ قاطع في أن يمثِّلها نواب بنسبة عددها، وسأبيِّن عما قليل أنَّ تصوُّر السيادة القومية على هذا الشكل أمرٌ غير مسلَّم به.

ولكنه يُمكن أن يُدافع عن حقِّ الأقلية في التمثيل الانتخابي — أي عن التمثيل النسبي — ببراهين أخرى، وبما أن هذا التمثيل ينال حظوةً كبيرةً عند أكثر الكُتَّاب أرى أن أبحث فيه بما يستحقه من العناية.

•••

يَفرض التمثيل النسبي — قبل كل شيء — وجود بضعة مبادئ مسلَّم بها قبلًا؛ فهو لكي يمكن تصوره يقتضي أن يحق للدائرة الانتخابية الواحدة أن تنتخب عنها ممثِّلين كثيرين، فإذا لم يُعترف لها بغير انتخاب ممثِّل واحد كان هذا الممثل نائب الأكثرية بحكم الضرورة، وإن النظام القائل بأن تَنتخِبَ كلُّ دائرة انتخابية نائبًا واحدًا فقط ذو فوائد كثيرة سنبحث فيها، وهذا النظام هو الذي تطبِّقه إنكلترة، وهو الذي طبَّقته فرنسا في انتخاب النواب قبل سنة ١٨٨٥ ومنذ سنة ١٨٨٩ حتى سنة ١٩١٩، ولم تعدل عنه فرنسا إلا لاتخاذ نظامِ التمثيل النسبي.

يُطابق نوعَي الدوائر الانتخابية المذكورين — أي الدوائر التي يحقُّ لكل واحدة منها أن تَنتخِب نائبًا واحدًا فقط، والدوائر التي يحق لكل واحدة منها أن تَنتخِب نوابًا كثيرين — قائمتان: قائمة الفرد وقائمة الأسماء.

فأما نظام قائمة الأسماء فيقول بأن تُدْعَى كل دائرة انتخابية إلى انتخاب عدد مِن النواب بنسبة سكان هذه الدائرة، وبأنه يحقُّ لكلِّ ناخب أن يَنتخِب في قائمته الانتخابية عددًا من الأسماء بقَدرِ ما يحقُّ للدائرة المذكورة أن يكون لها من النواب، وأما نظام قائمة الفرد فيقول بأنه لا يحق للدائرة الانتخابية أن تَنتخب سوى نائب واحد، وبأن كل ناخب لا يحقُّ له أن ينتخب في قائمته سوى اسم واحد، ولكلٍّ من هذَين النظامَين فوائد ومحاذير.

والفوائد التي قيل باشتمال نظام قائمة الأسماء عليها هي ما يأتي:
  • أولًا: إنه يَزيد حق كل ناخب ويُكبره؛ وذلك بسماحه له بأن ينتخب نوابًا كثيرين لا نائبًا واحدًا فقط.
  • ثانيًا: إنه يمنح الانتخابات — بحكم الطبيعة — قيمةً سياسيةً أعظم من التي يمنحه إياها نظام قائمة الفرد؛ فالمرشَّحون — لكي ينالوا أصوات الأكثرية في الولاية أو المديرية — يضطرون إلى توسيع برامجهم وأعمالهم إلى ما هو أفسح من دائرة الأمور والمنافع المحلية، ولما كان أكثر المسائل التي تهمُّ المديرية جميعها مما يهمُّ منافع البلاد كلها تؤدي طريقة قائمة الأسماء إلى تجلي رأي الأمة العام أكثر من غيرها.
  • ثالثًا: إنه يضمن حرية التصويت، ويجعل الارتشاء أصعب مما في نظام قائمة الفرد؛ فالضغط الإداري يكون في دائرة انتخابية واسعة أعسر منه في دائرة ضيقة وكذلك رشو الناخبين.

بعض هذه الفوائد التي وُصِفَ نظام قائمة الأسماء بوجودها فيه أمرٌ ثابت وبعضها أمر مشتبه فيه، ولكن فيها محاذير لا ريب فيها وهي تبدو عند الانتقال من النظر إلى العمل، حقًّا إن نظام قائمة الأسماء دقيق مُحْكَم لا يناسب الأيدي الغليظة الخشنة التي تمارس التصويت العام، وهو ليس مما يُدركه عددٌ كبير من الناخبين، ولربما تجهل أكثرية هؤلاء مرشَّحي المديرية، ولا تعرف لهذا السبب أن تحسن الاختيار في ترتيب قوائمها الانتخابية، ولا أن تَفحص القوائم التي تعرضها لجان الأحزاب المختلفة، والأحزاب لكي يتمَّ الفوز لمرشَّحيها في الانتخابات يجعل كلٌّ منها على رأس قائمته أسماء أشخاص مشهورين في المديرية، وحينئذٍ يُصوِّت الناخبون لمرشحين لا يعرفونهم لمجرَّد ذكر أسمائهم مع هؤلاء، ثم إذا كان هذا النظام يمنح النائب الذي تمَّ انتخابه حرية سير كاملة، وسهولة في أن يغير في أثناء المناقشات الآراء التي كان عرَضها على الناخبين، أفلا يجب أن يَعرف الناخبون شخص المرشح الذي ينتخبونه وأخلاقه، وأن لا يكتفوا بالآراء المبهمة العامة التي يبديها في أيام الانتخابات؟

وإنَّ فائدة نظام قائمة الفرد الرئيسة هي سهولة استعماله على الجميع؛ فهو يمكِّن الناخبين من اختيار المرشح اختيارًا شخصيًّا، وهو مما لا يَعسر إدراكه على أحد؛ فالمرشحون في الدائرة الانتخابية يكونون بفضل تطبيق هذا النظام من المعروفين لدى الناخبين فيها على الأكثر، الأمر الذي يتمكَّن به كل ناخب من انتخاب المرشح الذي يثق به، لا جَرم أن نظام قائمة الفرد يضيِّق الدائرة الانتخابية، وأنَّ الاهتمام بالمنافع المحلية المحض يكون به سائدًا في الغالب، ولكن هذا مما لا يُحزن القائلين بتمثيل المنافع في المجالس الاشتراعية، ثم إنه يحافَظ بهذا النظام على رأي المدن الانتخابي أكثر مما بنظام قائمة الأسماء الذي يَغمره فيه تصويت الأرياف، والذي يُخشى من نظام قائمة الفرد هو سهولة الضغط والارتشاء فيه، غير أنَّ ما تتمتَّع به المجالس من القدرة على الطعن في النيابات مما يحول دون ذلك، ومثال إنكلترة يثبت صحة هذا القول.

ولا يكفي لإعطاء الأقليات تمثيلًا خاصًّا أن يُدْعَى الناخبون إلى انتخاب نوابٍ كثيرين، بل يجب أيضًا أن تُجْرَى الانتخابات بحسب مبدأ الأكثرية النسبية لا الأكثرية المُطلَقة، وفي نظام الأكثرية المُطلَقة يجب أن يَنال المرشح أكثر من نصف الأصوات التي أُبْدِيَتْ بصوت واحد حتى يُصبح نائبًا، وفي نظام الأكثرية النسبية إذا كان لا يحقُّ للدائرة الانتخابية أن تنتخب سوى نائب واحد يَكفي أن يَنال المرشح أصواتًا أكثر من أي مرشَّح فيها حتى يَصير نائبًا عنها، وإذا كان يحقُّ فيه للدائرة الانتخابية أن تَنتخِبَ أكثر من نائب يكفي أن لا يَنال مُرشَّح لم يتمَّ انتخابه أصواتًا أكثر منه، وأن يكون أحد الذين نالوا — أكثر من غيرهم — أصواتًا فأصبحوا بها من عدد النواب المقدَّر لتلك الدائرة، ولكن قبول أحد النظامين يتوقَّف على أن يُعلَم: هل يقتضي اعتبار الدائرة الانتخابية كمَكتب تصويت يودعه الناخبون أصواتهم وهم منفردون؟ أو يقتضي عده مجلسًا أعضاؤه الناخبون وفتواه الانتخاب؟ فعندما يشرع أحد المجالس في الجواب عن إحدى المسائل المطروحة بلا أو نعم يجب — لينفَّذ حكم هذا المجلس — أن يقوم على أكثرية المقترعين المُطلَقة — أي أكثرية نصفهم وزيادة صوت واحد عنه — وعندما يُدعى أبناء الوطن إلى الانتخاب — وهم مُنفردون — يجوز اتباع الطريقة القائلة بأن يصبح المرشَّح الذي ينال أصواتًا أكثر من غيره نائبًا بغضِّ النظر عن عدد الأصوات التي تتَّفق له.

ويظهر أنَّ المبدأ الذي كان الرومان يسيرون عليه في الانتخابات التي كانت تقع في الفصائل والقبائل هو مبدأ الأكثرية النسبية؛ فقد كانت كل واحدة منها تَنتخِب رجلًا واحدًا للقيام بالتصويت النهائي، وكان المرشَّح الذي ينال فيها أكثرية الأصوات النسبية ينوب عنها في التصويت النهائي الذي كان يقع في الندوات، وإنما مبدأ الأكثرية المطلقة هو الذي كان سائدًا لهذه الندوات التي كانت تُدْعَى لسنِّ القوانين ولتقرير التهمات الجنائية.

وعندما أخذت إنكلترة تنتخب أعضاء مجلس نوابها اتَّبعت مبدأ الأكثرية النسبية، وقد ظلَّ هذا المبدأ من قواعد الحقوق الإنكليزية على رغم اتخاذ نظام قائمة الفرد، وهو يبدو لفقهاء إنكلترة أمرًا طبيعيًّا لا يحتاج إلى ما يسوِّغه، وكذلك فرنسا كانت تقول بمبدأ الأكثرية النسبية في انتخابات مجالسها العامة في العهد السابق.

ولكنه بدا بجانب ذلك المبدأ مبدأٌ آخر بتأثير متخصِّصي الحقوق الرومانية والحقوق الكنسية؛ فهذا المبدأ يقول بأنَّ إرادة الدائرة الانتخابية لا تتجلَّى إلا باقتراع أكثر رجال هذه الدائرة لإحدى المناحي، والمبدأ المذكور الذي استُنْبِطَ من الحقوق الرومانية والحقوق الكنسية اتُّخِذَ أول مرة في انتخابات المجالس العامة الفرنسية التي اجتمعت في سنة ١٧٨٩، وقد ظلَّ سائدًا لحقوق فرنسا العامة منذ هذا التاريخ.

على أن الشرائع التي تقول بمبدأ الأكثرية المطلَقة تضطرُّ — في الغالب — إلى الاكتفاء بمبدأ الأكثرية النسبية. نعم، إنها تأمر أحيانًا بتكرار الانتخابات حتى يَنال أحد المرشَّحين الأكثرية المُطلَقة، ولكن هذا يستلزم دائرة انتخابية ضيقة مؤلَّفة من أناس عقلاء متعلمين، والمشترع لكي يعدِّل ذلك يستطيع أن يعلن مقدَّمًا أنه إذا لم يَنَلْ مرشَّح الأكثرية المطلقة في المرة الأولى يعاد الانتخاب، فيُعتبر انتخاب المرشح الذي ينال الأكثرية النسبية في هذه المرة، وهذه الطريقة هي التي اتخذتها القوانين الفرنسية بوجه عام.

وقد كان مبدأ الأكثرية النسبية ومبدأ الأكثرية المُطلقة سائدين للولايات المتَّحدة الأميركية معًا، وكانا سائدين للمُستعمَرات الأميركية قبل نشوب الثورة فيها؛ قال بيشوب22 في كتابه المسمى «الانتخابات في المُستعمَرات الأميركية» ما يأتي: «لقد أعلنت مُستعمَرة كونكتيكت23 في وسط القرن الثامن عشر أنه يجب على الموظَّفين أن ينالوا أكثرية الأصوات المُطلقة التي اقترعت لكي يتمَّ انتخابهم، ويظهَر أن المستعمَرات: ماساشوزيت24 ونيويورك ونيوجرزي25 وكارولين الجنوبية وجورجيا قالت بمبدأ الأكثرية المُطلَقة، وأما في المستعمرات الأخرى فقد كانت الأكثرية النسبية تكفي، وأذكر من هذه المستعمَرات: مستعمرة رود آيسلاند26 التي ذهبت إلى أنَّ المرشَّح الذي ينال أصواتًا أكثر من غيره يُصبح منتخبًا.» فمِن هذا القول يُسْتَدلُّ على أن المؤلِّف المشار إليه جزم — بعد اطلاعه على الوثائق والمستندات — في سير مُستعمَرة كونكتيكت سيرًا يُناقض سير مُستعمَرة رود آيسلاند الانتخابي، وأنه لم يجزم في ما كانت عليه المستعمَرات الأخرى.
والذي كُتِبَ له الفوز في الولايات المتحدة في نهاية الأمر هو مبدأ الأكثرية النسبية، فاسمع ماذا جاء في كتاب بوشنل هارت27 الذي سمَّاه «الحكومة الحاضرة»: «إن المبدأ الأصلي الذي تقوم عليه الانتخابات الأميركية هو نَيل المرشح أكثرية حقيقية حتى يتمَّ انتخابه، واليوم يُكْتَفى في أجزاء الولايات المتحدة بأن يَنال المرشح أكثرية الأصوات النسبية حتى يصير مُنتخَبًا، والحالات التي تُطلب فيها الأكثرية المطلقة هي التي تُنتخَب فيها المجالس الاشتراعية حكام بعض تلك الولايات عندما لا ينال أحد المرشحين أكثرية الأصوات في الدائرة الانتخابية، والتي يُنتخب فيها أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي.»

وإن سهولة تطبيق مبدأ الأكثرية النسبية هي التي جعلت الأنغلوسكسون في إنكلترة وفي أميركا يُقْبِلون عليه على ما يظهر، لا العوامل السياسية البعيدة الغور التي أراد بعضهم أن يعزو ذلك إليها.

•••

لم يُشكَّ حتى وسط القرن التاسع عشر في أنَّ لأكثرية الناخبين في الحكومة التمثيلية ملء الحق في تمثيل الأمة في مجموعها، ولا يعني هذا أنه كان يُجْهَل شأن المعارضة الضروري المُفيد في المجالس، فلكي يكون لها مقامها في البرلمان اقتضى تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية كثيرة؛ حتى يكون للأقلية نوَّاب عن الدوائر التي لها أكثرية فيها، الأمر الذي لا يؤدي إليه المبدأ القائل بجعل البلاد دائرةً انتخابية واحدة، والذي يتعذَّر تحقيقُه في البلدان الواسعة.

إلا أنه ظهرت بين سنة ١٨٤٠ وسنة ١٨٥٠ مبادئ مخالفة لذلك، وقد بَدَتْ هذه المبادئ في أول الأمر لابسةً شكلًا وضيعًا سلميًّا — أي قاصدة تمثيل الأقليات فقط — وهذا المقصد تجلَّى في السؤال الآتي؛ وهو: ألم يكن من الإنصاف والصلاح أن تعيِّن الأكثرية بقانون تضعُه مقدمًا عدد المقاعد الذي تستطيع الأقلية أن تناله في كل دائرة انتخابية؟ كان ذلك خطوةً أولى؛ إذ لم يمضِ وقت قصير حتى قيل بنظرية التمثيل النسبي؛ أي بالنظرية القائلة بضرورة تقسيم المَقاعد التي تخصُّ كل دائرة انتخابية بها بين مُختلف الأحزاب التي تشترك في الانتخابات، على أن يكون لكل حزب عدد من الأعضاء بنسبة عدد الناخبين الذين يُصوِّتون لذلك الحزب، وقد استوقفتْ هذه النظرية الأنظار ببيانها أنَّ مرشحي أحد الأحزاب يستطيعون في كل دائرة انتخابية تتمُّ فيها الانتخابات — حسب نظام قائمة الأسماء — أن يَفوزوا جميعهم لمجرَّد نَيلهم الأكثرية المطلقة، وأنه لا يتمُّ انتخابات أحد من مرشَّحي الحزب المعارض ولو نالوا أصواتًا لا تقلُّ عن نصف عدد الناخبين إلا بصوت أو بصوتين، والقائلون بالنظرية المذكورة يَستشهدون بعبارة ميرابو القائلة بأن المجلس التمثيلي يجب أن يكون بطبيعته مرآةً صادقة للناخبين، سواء من الأكثرية كانوا أم من الأقلية، وإن لم يقصد ميرابو ما قصدوه.

وقد استهوى ذلك المبدأ عددًا غير قليل من الناس حتى أصبح مَذهبًا سياسيًّا لهم، وقد تألَّفت في أهمِّ البلدان جمعيات لنصره، وتبرَّع أناس ماهرون لصوغه في قالب صحيح عمَليٍّ، ولم يكن هؤلاء جميعهم من الفقهاء أو مِن فلاسفة السياسة، بل هم — في الغالب — من الرياضيِّين الذين أخذوا على عاتقهم حلَّ تلك المسألة حلًّا رياضيًّا، وهذا وحده يَكفي لجعلي أرتاب من المبدأ المذكور، فأنا أرى أنَّ الروح الحقوقية غير الروح الرياضية، ولا سيما بعدما رأيتُ الحسابات والدقائق التي أتى بها الرياضيون لشرح المادة ٧٥٧ من القانون المدني الفرنسي شرحًا دار حول حال أولاد الزناء إزاء إخوتهم من أولاد الفراش وأقربائهم الشرعيِّين، ولكن لديَّ أسبابًا مهمة تحملني على انتقاد التمثيل النسبي.

يلوح لي أن مبدأ التمثيل النسبي مبدأ وهمي مختلٌّ؛ فالحكومة التمثيلية هي — بالحقيقة — حكومة الأكثرية، وهي تقوم — من حيث الجوهر — على المبدأ القائل بأنَّ حكومة البلاد تخصُّ — إلى وقت محدود (أي مدة الدورة الاشتراعية) — المُمثِّلين الذين اختارتهم أكثرية الناخبين كي يقوموا بشئون الحكومة، فلو تألَّف من البلاد كلها دائرة انتخابية واحدة لحقَّ للأكثرية أن تعيِّن النواب جميعهم، كما تعين صاحب السلطة التنفيذية في البلاد التي يتمُّ فيها نصب هذا الصاحب حسب مبدأ التصويت الشعبي العام، وليس في ذلك حَيْف على الأقلية بعد أن يَثبُت أنَّ الأكثرية لا تمارس غير حقها الثابت.

إذًا يجب أن لا يصرَّ على بيان ذلك الحيف المزعوم، ولا سيما بعد أن أوشك أنصار التمثيل النسبي أن يُقْلِعوا عن شكواهم، فإليك ما جاء في خطبة ألقاها في مجلس النواب البلجيكي وزير العدلية في بلجيكا المسيو فان دنهوفل28 الذي يُعَد من أنصار التمثيل النسبي: «لقد عرضَتِ الحكومة نظام التمثيل النسبي كعمل عادل، وهل قصدت بذلك العدل المُطلق أو الفلسفي أو الأدبي أو اللاهوتي؟ هي لم تقصد العدل المُطلق الذي يجب أن تبقى قواعده ثابتة لا تتغيَّر في كل زمان ومكان، وكيف يخطر على البال أن تقوم طريقة انتخاب أعضاء البرلمان على قواعد مُطلَقة لا تتبدَّل؟ فالصحيح هو أن التمثيل النسبي يظهر في الساعة الراهنة كنظام ملائم لمنازع الحكومة البرلمانية في بلجيكا أكثر من غيره؛ أي يَظهر عادلًا من الوجهة السياسية فقط.»

وهل يعني ذلك أنَّ المجلس التمثيلي الذي لا يَشتمل على غير ممثِّلي الأكثرية يكون مؤلَّفًا تأليفًا حسنًا؟ إنَّ تأليف المجلس التمثيلي على هذا الوجه غير مرغوب فيه؛ لأنَّ النظام التمثيلي نظام قائم على المناقشة الحرة، والمناقشة الحرة لا تكون في المجلس التمثيلي ولا توضع فيه مقرَّرات صائبة في الغالب إذا لم تكن فيه معارضة، ثم قد تكون الأكثرية — التي لا أقلية تقاومها — من أشد أشكال الحكومة خطرًا؛ فلذا يكون من المفيد — بل من الضروري — أن يقدر كل حزب شريف جدِّي على إسماع صوته واقتراح مذهبه على البرلمان، ولكنه لا يهم في ذلك عدد الممثِّلين، وليس في الميدان أقلية هي على شيء من الأهمية لا تكون أكثرية في بعض الدوائر الانتخابية كما عرضت آنفًا؛ ففي هذه الدوائر يمكن أن يفوز مرشحوها الذين تختارهم، فيجب عليها أن تحسن اختيار هؤلاء، وأن تُثابر على تكثير أنصارها حتى تصبح الأكثرية بجانبها في أحد الأيام.

لا يكون مبدأ التمثيل النسبي الذي يرمي إلى تمثيل الأقليات صوابًا إلا إذا كان حق التمثيل أمرًا شخصيًّا، ولكننا أدحضنا هذا الأمر بأن أثبتْنا أنَّ حق تعيين ممثِّلي الشعب عائد إلى هيئة المُنتخِبين جميعهم، وأنَّ تقسيم هذه الهيئة إلى دوائر انتخابية خاصة هو نتيجة ضرورة عملية، وأن هذا التقسيم لا يمنع الذين يُصوِّتون باسم الهيئة جميعها حقًّا خاصًّا.

ولا يخلو الرأي الثاني الذي يُصرُّ عليه أنصار التمثيل النسبي — والقائل بأنه يجب أن يكون المَجلس التمثيلي صورةً صادقة للهيئة الانتخابية — من اختلاط وتشويش. نعم، يكون هذا الرأي صائبًا لو كانت وظيفة المَجلس الاشتراعي تمثيلية فقط؛ أي لو كانت غايته الوحيدة أن يشترك في المناقَشات التي تدور فيه مُمثِّلو مُختلف المنافع والآراء التي تكون في الهيئة الانتخابية، ولكن المَجالس التمثيلية الاشتراعية لم تؤلَّف لأجل المناقشة في الأمور فقط، بل ترمي بتلك المناقشة إلى ممارسة خصائص السيادة والحكم في شئونها على الخصوص، تلك هي وظائف المجالس التمثيلية، ويَعترف أيضًا أنصار التمثيل النسبي أنفسهم بأنَّ أمر البتِّ والتقرير في شئونها يعود إلى الأكثرية، ولما كان مبدأ الأكثرية مدار البتِّ والتقرير وجب أن تؤلَّف المجالس الاشتراعية حسب مبدأ الأكثرية.

وإني أرى أنَّ العواطف التي تُمْلِي مبدأ التمثيل النسبي أدنى مما يبديه أنصاره؛ فهذا المبدأ قائم على الفكر القائل بأنَّ مقاعد البرلمان ذات مرتبات ونفوذ، وبأنه يجب — لهذا السبب — أن تُوزَّع باسم العدل والمساواة على مختلف الأحزاب بنسبة أهمية كل واحد منها.

ولكن لنخرج من دائرة المبادئ ونبحث في نتائج التمثيل النسبي السياسية والعملية، وفي مناحيه المقبلة:

إن أكثر ما يَستوقِف نظري في التمثيل النسبي أمران على الخصوص؛ وهما: زيادة قوة الأقلية بالنسبة إلى الأكثرية، وتنوُّع الآراء في المجلس الاشتراعي تنوُّعًا مؤدِّيًا إلى صعوبة سنِّ القوانين؛ فالتمثيل النسبي يوجِد عسرًا في الاقتراع للوائح القانونية، وهي قبل أن تتحوَّل إلى قوانين يتبدَّل كثير من جهاتها تبدُّلًا ملائمًا لمَنازع فروع الأقلية، مزيغًا لها عن القواعد التي اتَّبعها واضعُها، وعن انسجامها بهذه القواعد، وقد وُجِدَ مَنْ رأى هذه النتيجة من فوائد التمثيل النسبي الرئيسة؛ قال كلوتي:29 «إن أهمَّ مقاصد التمثيل القومي هو التوفيق في قانون واحد بين ميول أبناء الوطن الاشتراعية على وجه يَرضى به الكل أو أكثرية الكل المطلقة على الأقل؛ فالتوفيق بين مختلف الميول في الديموقراطيات هو الصراط المستقيم المؤدي إلى نشوء الحضارة.»

ومع بُعْدِ هذا الكلام من المبدأ الشريف القائل بأنَّ القانون يجب أن لا يكون من عمل السيادة فقط، بل أن يكون ملائمًا لقاعدة العدل أيضًا نرى فيه شيئًا من الحقيقة إلا أنها مُبالَغٌ فيها. نعم، يجب أن ينضج كل إصلاح حتى يكون نافعًا، وأن يفيد المبدأ الذي يَستنِد هذا الإصلاح إليه بأنواع القيود حتى تستمرئه النفوس، ولكنه هل يعني ذلك أن تُنظَّم السلطة الاشتراعية على وجهٍ يُصبح به سن القوانين صعبًا فاقد الانسجام؟ إنه لكي يُحال دون الإصلاحات الفجَّة والأنظمة التي تجاوز مزاج الأمة قيل بنظام المجلسَين، فالسعي في زيادة ما في نظام المجلسَين من صعوبة في سنِّ القوانين بالذهاب إلى نظام التمثيل النِّسبي سعيٌ في تحويل الدواء إلى سُمٍّ، وفي إثارة الفوضى وبَتْر السلطة الاشتراعية.

ولكن وظيفة المَجالس التمثيلية ليست محصورةً في أمر الاشتراع وحده، بل إنَّ لهذه المَجالس في البلدان التي قالت بنظام الحكومة البرلمانية حقًّا في تأليف الوزارات ومُساعدتها وإسقاطها، وليس بالأَمر المجهول الصعوبة التي يُلاقيها سير النظام المذكور في كثير من البلاد بسبب تنظيم أحزابها السياسي الناقص، وكثرة هذه الأحزاب، وإنه يَندُر أن يكون في البلدان المذكورة أكثرية ثابتة، ووزارة متجانسة، أفلا يوجب إدخال مبدأ التمثيل النسبي إلى هذه البلدان للقضاء على النظام البرلماني قضاءً مبرمًا؟ وألَا يعني ذلك ضمَّ عوامل اضطراب مصنوعة مقصودة إلى ما في الأمة من عناصر اضطراب ناشئة عن تاريخها وخُلُقها القومي؟

وليس ذلك كل ما في الأمر؛ فالتمثيل النسبي — وإن لم يُطْلَب في هذه الأيام تطبيقه على غير انتخاب المجالس الاشتراعية — يُرى من نتائجه المنطقية أن يطبَّق على انتخاب السلطة التنفيذية في البلاد التي تقول بأن تكون هذه السلطة مُنتخَبة، ومع ذلك يجحد أنصار التمثيل النسبي بالنتيجة المذكورة عادةً؛ فهم يذكرون الكلمة الجامعة التي كان أستاذنا المأسوف عليه المسيو فواترين30 يكررها كثيرًا؛ وهي: «إن التنفيذ من عمل الفرد، والمشاورة من عمل الجماعة.» وهل من مانع من تطبيق مبدأ التمثيل النسبي على انتخاب القضاة في البلدان التي يُنتخب القضاة فيها؟ ذلك ما فعله بعض دول الاتحاد الأميركي ومقاطعة31 زوغ ومقاطعة تيسن32 السويسريتان، ولكن مَنْ ذا الذي لا يرى في ذلك تجرُّد المحاكم من صفة الإنصاف وصفة الاستقلال الجوهريتين، ورجوعها إلى ما كانت عليه في الأزمنة الابتدائية؟

ومن غير مبالغة أرى التمثيل النسبي يُهدِّد السيادة السياسية من الوجهة المنطقية؛ فهو بإدخاله إلى النظام الديمقراطي (حيث تدار شئون الحكومة الشعبية بواسطة المجالس المنتخبة) يظهر أنه يُراد به أن لا تتجلَّى الإرادة العامة عن طريق الأكثرية، وأن لا يمكن القيام بأمور الاشتراع وإدارة دفَّة الحكومة إلا برضى الأحزاب جميعها، الأمر الذي يؤدي إلى تعذُّر تقرير كل أمر وانتشار الفوضى.

وصعوبات التمثيل النسبي تزيد عند الانتقال إلى كيفية استعماله، وإني لا أبحث في كل الطرق التي تصوَّرها الكُتَّاب للوصول إلى ذلك، فأمرها عائد إلى العلوم الرياضية التي لم أتخصَّص لها، وإنما أذكر منها الطرق الرئيسة التي طُبِّقت فعلًا.

إن أبسط تلك الطرق — وهي أقدمها — تُسمَّى «طريقة التصويت الناقص أو المَحدود»، فهذه الطريقة قائمة على مبدأ الأكثرية النسبية، وعلى أن يُقدَّر مقدمًا ما يمكن أن يكون من النواب للأقلية في الدوائر التي يحقُّ لها أن تنتخب نوابًا كثيرين، وعلى أن يحدَّد عدد المرشَّحين الذي يستطيع كل ناخب أن يصوِّت له، فإذا كان لإحدى الدوائر أن تنتخب ثلاثة نواب فإنه يُقدَّر أن يصوِّت كل ناخب لمرشحين فقط، وبذا يمكن الأقلية في الدائرة الانتخابية المذكورة أن يكون لها نائب واحد إذا كانت قابضةً على ثلث الناخبين، وقد اتُّخِذَت هذه الطريقة في السنوات التي عقبت سنة ١٨٦١ في إسبانية والبرتغال وجزيرة مالطة، ثم جرَّبتها إنكلترة في الثلاث عشرة دائرة التي كانت كل واحدة منها تنتخب ثلاثة نواب عنها، وذلك منذ سنة ١٨٦٧ حتى سنة ١٨٨٤ حين ألغى قانون تمثيل الشعب تلك الطريقة، وفي ٧ أبريل سنة ١٩١٢ سَنَّت جمهورية الأرجنتين قانونًا قائلًا بنظام التصويت المحدود؛ إذ قرَّر أنَّ كل ناخب لا يستطيع أن يصوِّت لغير عدد مساوٍ لثلثي المقاعد المقررة.

ومثل طريقة التصويت المحدود بساطةً طريقة التصويت الجمعي؛ فهذه الطريقة تَفرض نظام قائمة الأسماء، وتمنح كل ناخب عددًا من الأصوات مُساويًا لعدد النواب المقرَّر للدائرة الانتخابية، على أن يحقَّ للناخب أن يصوِّت لمرشَّحين كثيرين، أو أن يعطي أصواته كلها لمرشح واحد، أو يقسمها بين مرشحين أو أكثر، وقد قلتُ سابقًا: إنَّ نظام قائمة الأسماء يزيد حقوق الناخب بالنسبة إلى قائمة الفرد، وتزيد هذه الحقوق أكثر من ذلك بطريقة التصويت الجمعي التي تجعل الناخب حرًّا في التصرف في أصواته، وهذه الطريقة طُبِّقَت في سنة ١٨٥٣ في مُستعمرة الكاب الإنكليزية، ثم اتُّخِذَت بعد سنة ١٨٧٩ في انتخابات لجان المدارس الإنكليزية وفي بعض الانتخابات المحلية التي تقع في كثير من دول الاتحاد الأميركي.

ولكن طرق التمثيل النسبي التي تنال الحظوة هي طرُق التمثيل النسبي الخالصة، وأكثرها حظوةً هي القائمة على الرأي القائل بأنَّ الانتخابات يجب أن تكون بحسب نظام قائمة الأسماء ومبدأ الأكثرية النسبية معًا، وبأنه يَقتضي تقسيم عدد المصوِّتين على عدد النواب المقرَّر انتخابهم في الدائرة الانتخابية، وبأنه عندما ينال مرشَّحٌ خارج القسمة يُعَدُّ نائبًا.

وهنالك طرق كثيرة لإظهار خارج القسمة، وأكثرها اعتبارًا الطريقة التي يُسمِّيها كلوتي33 بطريقة خارج القسمة المعدَّل، والقائمة على تقسيم عدد المصوِّتين على عدد النواب المقرَّر للدائرة الانتخابية مع ضمِّ واحد إلى هذا العدد، وسبب ذلك أنَّ اتخاذ عدد النواب وحده مقسومًا عليه مما قد يؤدِّي إلى قلَّة عدد المرشحين الذين يكسبون أصواتًا تعدل خارج القسمة، وإلى تعقُّد مسألة المقاعد النيابية التي بقيت فارغةً، وتقرير الأصوات التي كان يجب على بعض المرشَّحين أن ينالوها حتى يملئوا هذه المقاعد، وأن زيادةَ واحد على المقسوم عليه مما يوجب نقصانَ خارجِ القسمة وكثرة عدد المرشحين الذين يكسبون أصواتًا تَعدل خارج القسمة، وسهولة حل تلك المسألة، ثم إنه لكيلا يُصبح مرشح نائبًا بما يناله من أصوات قليلة يقرَّر — في الغالب — حدٌّ أصغر للأصوات التي يجب أن يَكسبها المرشح حتى يصير نائبًا.
وبجانب تلك الطريقة نذكر طريقتين أُخريين للتمثيل النسبي: الأولى وتُسمَّى بطريقة هار،34 تَسمح للناخب بأن يصوِّت في قائمته لعدد من المرشَّحين مساوٍ لعدد النواب المقرر للدائرة الانتخابية، وبأنَّ يذكر أسماء المرشحين الذين يختارهم حسب الترتيب الذي يَروقه، وبعد أن يصوِّت الناخبون على هذا الوجه تقول طريقة هار بأن يقع الأمر كما يأتي؛ وهو: لنفرض أن للدائرة الانتخابية أن تنتخب خمسة نواب، وأنه صوَّت فيها خمسون ألف ناخب، فخارج القسمة الذي يكفي ليصير به المرشح نائبًا هو عشرة آلاف صوت، ولكن الأصوات تُفرز على أن يُشرع في اعتبار الأسماء التي جاءت في رأس كل ورقة انتخابية؛ فالمرشح الذي جاء اسمه في رأس عشرة آلاف ورقة انتخابية يُصبح نائبًا، ثم إذا ورد اسمه على رأس أوراق انتخابية أخرى لا يُنظر إلى ذلك، بل يُعتبر اسم المرشح الذي جاء بعد اسمه كأنه جاء في رأس هذه الأوراق وهلم جرًّا، وعلى ما تؤدي إليه طريقة هار من صعوبة في إفراز الأصوات اتخذتها الدينمارك في سنة ١٨٥٥ لانتخاب مجلس شيوخها، وعملت بها جمهورية كوستاريكا35 الأميركية في سنة ١٨٩٤ لانتخاب مجلس نوابها.

والطريقة الثانية التي نذكرها بعد طريقة هار هي: طريقة تزاحُم القائمات، وإن شئتَ فقل: طريقة تزاحم الأحزاب، وقد انتشرت هذه الطريقة في سويسرة من مُقاطعة إلى أخرى، واتخذتها بلجيكا، والمهمُّ فيها هو تنظيم قائمات المرشَّحين الرسمية. فهذه القوائم تُنظم فعلًا من قِبَل زعماء الحزب أو اللجان الانتخابية، وتُعْرض حقوقيًّا من قِبَل عدد من الناخبين محدَّد قانونيًّا، وكل زمرة من الناخبين تبلغ ذلك العدد يُمكنها أن تنظم قائمة خاصة من المرشَّحين، فإذا لم يزد عدد المرشحين عن عدد النواب المقرَّر للدائرة الانتخابية، فإنَّ هؤلاء المرشحين يُصبحون نوابًا من غير أن يصوَّت لهم.

وبعد أن تسجَّل القوائم هل يكون الناخب حرًّا في تنظيم قائمته من أسماءٍ وردت في مختلف القوائم؟ كلا؛ إذ هنالك قواعد وثيقة يتقيَّد بها وهي:
  • أولًا: لا يَستطيع مرشَّح أن يكون مذكورًا في أكثر من قائمة واحدة، فالمرشَّح لا يمكنه أن يَنتسِب إلى حزبين، كما أنه كان غير مُستطاع للإنسان أن ينتسب إلى أسرتين في الحقوق الرومانية.
  • ثانيًا: لا يَستطيع الناخب أن يرتِّب قائمةً من الأسماء التي وردت في مختلف القوائم، وإلا فقد ينال المرشح — من غير أن يُصبح نائبًا — أصواتًا من القوائم التي تُرتَّب على هذا الوجه أكثر من الأصوات التي يُصبِح بها أحد المرشَّحِين نائبًا.
  • ثالثًا: إنَّ الناخب بتصويته لمرشَّح واحد ورَدَ اسمه في القائمة لا يَستطيع أن يجعل صوته خاصًّا باسم هذا المرشح دون الأسماء الأخرى التي جاءت في القائمة المذكورة؛ أي إنه لا يمكن الناخب أن يختار اسمًا من القائمة من غير أن يختار القائمة نفسها.
  • رابعًا: لا يَقدر الناخب على تبديل ترتيب القائمة، ولا أن يحذف منها اسمًا أو أكثر، وغير ذلك المبدأ الذي جاء في القانون البلجيكي، والذي يسمح للناخب بأن يصوِّت لمرشح واحد فقط من المرشحين الذين جاءت أسماؤهم في القائمة.
ولنَقُلْ هنا: كيف تُوزع المقاعد النيابية بين الأحزاب؟ وكيف ينالها المرشحون حسب قانون ٣٠ ديسمبر سنة ١٨٩٩ البلجيكي؟ فأما الأمر الأول — أي كيفية توزيع المقاعد بين الأحزاب — فقد اتُّبِعَت فيه طريقة المسيو هونت،36 وإليك العبارة التي صيغ فيها: «تُقسِّم لجنة الانتخابات الأصوات التي تنالها كل قائمة بالتتابع إلى ١ و٢ و٣ و٤ و٥ … إلخ، وتُرتب خوارج القسمة بحسب أهميتها حتى يُنْتَهى إلى عدد منها يعدل عدد النواب المقرر انتخابه، ثم يُعتبر خارج القسمة الأخير كمقسوم عليه؛ فتوزيع المقاعد بين القوائم يتمُّ إذ ذاك بإعطاء كلٍّ منها عددًا من هذه المقاعد مناسبًا لِما تحتويه من أضعاف المقسوم عليه المذكور.»

تلك عبارة قانونية مبهَمة، وإني أشك في أن كل واحد من أبناء الوطن البلجيكي يُدرك مغزاها، وقد أوضحها كلوتي على الوجه الآتي: «لنَفرض أن دائرةً انتخابية مُنِحَتْ حق انتخاب خمسة نواب، وأنه عُرِضَ ثلاث قوائم، وأن القائمة الأولى نالت ١٥٠٠ صوت، والقائمة الثانية نالت ٨٠٠ صوت، والقائمة الثالثة نالت ٦٠٠ صوت، فلأيِّ القوائم الثلاث يكون المقعد الأول؟ لا ريب في أنه يكون للقائمة الأولى، ولأي القوائم الثلاث يكون المقعد الثاني؟ إذا أعطيناه للقائمة الأولى تكون هذه القائمة قد نالت مقعدًا لقاء ٧٥٠ صوتًا (أي نصف ١٥٠٠)، مع أن القائمة الثانية نالت ٨٠٠ صوت، فمن أجل ذلك يعطى المقعد الثاني للقائمة الثانية، ولا يُعطى المقعد الثالث للقائمة الثالثة؛ وذلك لأنَّ هذه القائمة بإعطائها المقعد الثالث تكون قد نالت مقعدًا لقاء ٦٠٠ صوت، مع أنَّ القائمة الأولى لم تَنَلْ بضعف ٧٥٠ صوتًا غير مقعد واحد؛ فلهذا يُعطى المقعد الثالث للقائمة الأولى، وإذا أعطينا المقعد الرابع للقائمة الأولى تكون قد نالت كل مَقعد لقاء ٥٠٠ صوت (٣ × ٥٠٠ = ١٥٠٠)، وإذا أعطيناه للقائمة الثانية تكون قد نالت كل مقعد لقاء ٤٠٠ صوت (٢ × ٤٠٠ = ٨٠٠)؛ ولذا يُعْطَى المقعد الرابع للقائمة الثالثة التي نالت ٦٠٠ صوت، وأما المقعد الخامس فيُعْطَى للقائمة الأولى؛ إذ بذلك تكون قد نالت كل مقعد لقاء ٥٠٠ صوت، مع أنَّ إعطاء المقعد الخامس للقائمة الثانية يؤدي إلى نيلها مقعدًا لقاء ٤٠٠، وإعطاءه للقائمة الثالثة يؤدي إلى نيلها مقعدًا لقاء ٣٠٠ صوت، وهكذا يتمُّ توزيع المقاعد فتنال القائمة الأولى ثلاثة مقاعد لقاء ١٥٠٠ صوت، وتنال القائمة الثانية مقعدًا واحدًا لقاء ٨٠٠ صوت، وتنال القائمة الثالثة مقعدًا واحدًا لقاء ٦٠٠ صوت. ولا غبار على طريقة هونت من الوجهة الرياضية؛ ففي المثال الذي أوردتُه آنفًا ذكرت — قبل كل شيء — عدد الأصوات الذي نالته كل قائمة، ثم وضعتُ إزاء أقوى هذه الأعداد — وهو ١٥٠٠ — رقم (١)، ثم قسمت هذا العدد إلى قسمين، فوضعت إزاء أقوى الأعداد الثلاثة — ٧٥٠ و٨٠٠ و٦٠٠ — رقم (٢)، ثم قسمت عدد ٨٠٠ إلى قسمين فقايست بين الأعداد الثلاثة: ٧٥٠ و٤٠٠ و٦٠٠ فوضعت إزاء أكبرها رقم (٣)، ثم قسمت عدد ١٥٠٠ إلى ثلاثة أقسام فوجدتني تجاه الأعداد: ٥٠٠ و٤٠٠ و٦٠٠، فوضعت إزاء عدد ٦٠٠ رقم (٤) وهكذا حتى تمَّ لي تقسيم المقاعد المقررة للدائرة الانتخابية.»

وأما الأمر الثاني — أي كيف ينال المرشحون المقاعد؟ — فإليك ما نصَّ عليه القانون البلجيكي: «إذا كان عدد المرشحين الأصليين الذين وردت أسماؤهم في إحدى القوائم مساويًا لعدد المقاعد الذي فازت به هذه القائمة يُعتبر هؤلاء المرشحون جميعهم نوابًا، وإذا كان عدد المرشحين الأصليين أكثرَ من عدد المقاعد الذي ظفرت به القائمة المذكورة تُعطى هذه المقاعد لمن نال من هؤلاء المرشحين أصواتًا أكثر من غيره، وإذا تساوت أصوات المرشحين الأصليِّين يُعتبر ترتيب الأسماء في القائمة، وإذا كان عدد المرشحين الأصليين في القائمة أقل من المقاعد التي تنالها هذه القائمة يُعد هؤلاء المرشحون نوابًا، وتُعْطَى الأصوات الباقية للمرشحين التابعين بحسب ترتيبهم.»

إن نظام التمثيل النسبي — مع عدم انتشاره حتى الآن — ترى المبدأ القائل به يتسرَّب في أوربة بقوة لا ريب فيها، وهو لبساطته في الظاهر يَخلب الألباب، وقد أتى بتطبيقات مهمة عليه.

فقد اتخذتْه بلجيكا في ٣٠ ديسمبر سنة ١٨٩٩ لانتخاباتها السياسية بعد مناقشات طويلة بعيدة الغور، وأول مرة طبَّقته بلجيكا فيها كانت في ٢٧ مايو سنة ١٩٠٠، فجاءت النتائج مؤيِّدةً لما تنبَّأ به معارضوه، ومن تلك النتائج نذكر أولًا: إنَّ صعوبة إفراز الأصوات وتعقُّده كانا كبيرين إلى الغاية. ثانيًا: إنَّ الأكثرية لم تَنتقل به من حزب إلى آخر، وإنما نقصت كثيرًا، وقد اطَّرد هذا النقصان في الانتخابات التي وقعت بعد ذلك، فأصبحت الأكثرية التي يُمكن الحكومة أن تستند إليها ضعيفةً جدًّا، ولما وقعت الانتخابات في بلجيكا في ١٦ نوفمبر سنة ١٩١٩ لم ينل حزبٌ أكثريةً؛ إذ نال فيها الحزب الكاثوليكي ٧٣ مقعدًا، ونال حزب الأحرار ٣٤ مقعدًا، ونال الحزب الاشتراكي ٧٠ مقعدًا، ونالت بقية الأحزاب ٩ مقاعد.

ولربما كانت سويسرة أول البلاد التي ظهر فيها مبدأ التمثيل النسبي؛ فلقد انتشر هذا المبدأ في مقاطعاتها بالتعاقب، وطُبِّقَ تقريبًا على المقاطعات: جنيف وتيسن37 ولوزان وفريبرغ38 وزوغ39 وسولور40 وبرن وشوتيز41 وسنت غال،42 وقد استُفتيت البلاد في تطبيق مبدأ التمثيل النسبي على مجلس الاتحاد فأفتت ضده في سنة ١٩٠٠، وهي لم توافق على ذلك إلا في الاستفتاء العام الذي وقع في ١٣ أكتوبر سنة ١٩١٨.

وكذلك فرنسا اتخذت مبدأ التمثيل النسبي؛ وذلك بعد دعوة مستمرة قامت بها الصحُف؛ فقد اقتُرِح تطبيق هذا المبدأ في دورة ١٩١٠–١٩١٤ الاشتراعية، ولكنَّ الحرب العامة حالت دون الاستمرار على المناقشة فيه، وفي ١٢ يوليه سنة ١٩١٩ سُنَّ القانون القائل بتطبيق المبدأ المذكور على انتخاب مجلس النواب الفرنسي.

وهنالك أمم أخرى قالت بمبدأ التمثيل النِّسبي؛ منها أمة السويد التي اقترع مجلسها الاشتراعي له في سنة ١٩٠٩، ومنها إيطاليا التي قالت به في قانونها الذي سُنَّ في سنة ١٩١٩ ليُطبَّق على انتخابات مجلس نوابها، ومنها ألمانيا التي لم تقلْ في دستورها الذي سُنَّ في ١١ أغسطس سنة ١٩١٩ بتطبيق مبدأ التمثيل النسبي على انتخابات الريشتاغ وحده، بل قالت بتطبيقه أيضًا على الأقاليم التي تتألَّف منها الإمبراطورية الألمانية.

ولا تقلُّ عن ذلك الحظوة التي ينالها المبدأ المذكور في عالم النظر الإنكليزي دون عالم العمل؛ فقد رأى المستر كورتني43 أن تُجرَّب بتحويل دوائر كثيرة إلى دائرة واحدة، وجعل هذه الدائرة تَنتخِب نوابًا عديدين حسب طريقة هار،44 وقد امتدحه المستر سيدني لو45 مع انتقاده أمر تطبيقه.

يلوح لي أنَّ الملاحظات التي قيلت في مصلحة التمثيل النِّسبي ملائمة للذوق السياسي السليم، وإني إذا ناهضتُ مبدأ التمثيل النسبي؛ فلأنني أراه أداةَ تفرقة ومصدر ضعف في المجالس الاشتراعية، أقول هذا وأنا لا أرى مثل هذه المحاذير في تطبيقه على انتخابات المجالس المحلية الإدارية؛ حيث لا وظائف اشتراعية تقوم بها، ولا سياسة حكومية تُدير دَفَّتها.

•••

ولأي الأشخاص يجب أن يُعترف بحق التصويت السياسي؟ هنالك مبدآن مُتقابلان اقتسما آراء الناس منذ القرن الثامن عشر.

ففريق يقول بأنَّ حق التصويت السياسي يخصُّ — بحكم الضرورة — كل واحد من أبناء المجتمع البشري، ومِن ثَمَّ يكون هذا الحق شخصيًّا خاصًّا بالذي يُزاوله، ذلك هو المبدأ الذي أعرب عنه روسو من غير أن يُبرِّره؛ إذ قال في كتابه المسمى «العقد الاجتماعي»: «لديَّ ملاحظات كثيرة على حق التصويت في كل أمر من أمور السيادة، ذلك الحق الذي لا يستطيع أحد أن ينتزعه من أبناء الوطن، والذي يتطلَّب إثباتُه رسالةً خاصةً لأهميته.» ولكن أتباع روسو سعوا في إثباته فرأوا أنه نتيجة ضرورية لمبدأ السيادة القومية الناشئ عن العقد الاجتماعي؛ أي رأوا أنه لما كانت الأمة صاحبة السيادة كنايةً عن الأفراد الذين تتألَّف منهم وَجَبَ استفتاؤهم كلهم حتى تتجلَّى السيادة القومية، وأنَّ استثناء أحدٍ مِن هؤلاء الأفراد مما يُبطل هذا الاستفتاء، وأن القانون وهو عنوان الإرادة العامة يجب أن يشترك الكل في سَنِّه، وقد أوضح روبسبير46 هذه الآراء في المجلس التأسيسي في ٢٢ أكتوبر سنة ١٧٨٩ بقوله: «إنَّ لأبناء الوطن جميعهم ملء الحقِّ بأن يشتركوا في انتخاب الممثِّلين، ولا شيء مثل ذلك يلائم تصريح الحقوق الذي نشرتُموه وقلتم فيه بوجوب إبطال كل امتياز وتفاوت واستثناء، يُصرِّح الدستور بأنَّ الأمة موئل السيادة، وقد عنى بالأمة أبناءها كلهم؛ فلذا يكون لكل واحد منهم حظٌّ في وضع القوانين، وإلا لم يكونوا مُتساوين حقوقًا.»
وقال بيسيون47 في المجلس المذكور في ٤ سبتمبر سنة ١٧٨٩: «لكلِّ واحد من الأفراد الذين يتألَّف المجتمع منهم حقٌّ مقدَّسٌ في الاشتراك في سَنِّ القوانين، ومن مجموع عزائم هؤلاء الأفراد تتكوَّن الإرادة العامة، فلا يجوز حرمان أحد هذا الحق مهما كانت العلة وكان نوع الحكومة.»

ولكنه يظهر لي أنَّ مبدأ التصويت السياسي المذكور مُختلٌّ من حيث أساسه ونتائجه؛ فهو قائم على البيان القائل بأنَّ السيادة القومية مجزَّأة بين أفراد المجتمع كلهم تجزئة اختصاص، وبأنه إذا كانت الأمة مؤلَّفة من ثلاثين مليونًا من الناس مثلًا فإنَّ كل واحد من هؤلاء يملك ملك اختصاص جزأً واحدًا من أجزاء السيادة البالغ عددها ثلاثين مليون جزء، فوَجْه اختلاله هو أنه — مع صعوبة تسويغه — خضوع الأقلية الضروري للأكثرية خضوعًا سياسيًّا يجعل من المُمكنات المشروعة بيع السيادة القومية عند مُوافَقة أفراد المجتمع عليه بالإجماع، والواقع أنَّ هذا البيع مُستحيل شرعًا، ولو أجمع الكل عليه فعلًا؛ لأنَّ السيادة تخصُّ الأمة كسلسلة — من الأجيال المُتعاقبة — ممتازة من الأفراد، ولأن الأفراد الموجودين في أحد الأوقات لا يملكون سوى ممارسة السيادة.

وليست نتائج ذلك المبدأ المنطقية بأقل منه خطلًا؛ وإليك أهمها:
  • أولًا: تصويت المرأة؛ ويتجلَّى حق المرأة في التصويت في العبارة القائلة بأنه يجب أن يُعْتَرَفَ لكل راشد من أفراد المجتمع بحق التصويت السياسي، هذا ما يُصرِّح به الاشتراكيون على الخصوص، ولم يكن ذلك خاصًّا بهم وحدهم، بل إنه رأيٌ يَنتشر بالتدريج في العالم كله.

    وإنكلترة هي أكثر البلاد ملاءمةً للرأي المذكور، والسبب في ذلك أن المرأة تتمتَّع فيها بحرِّيةٍ ونفوذ أكثر مما تتمتَّع بهما في أي بلد كان، ومنذ سنة ١٨٨٦ أخذ يتكوَّن في مجلس النواب الإنكليزي عصبة قوية ملائمة لمبدأ تصويت المرأة، ولكن أمر هذا المبدأ صار يُعد «مسألة حرة»؛ أي إنَّ الأحزاب حرة في انقسام كل منها بعضه على بعض في شأنه، وأصبح يُرى في كل مرة يُوضع موضع التصويت أن الوزارة تفترق فيه على رغم المبدأ القائل بتجانسها، وكل ما نالته المرأة قبل الحرب العامة هو أنه صار يحقُّ لها أن تكون ناخبةً مُنتخَبةً في المجالس المحلية في إنكلترة والغال «ويلس» واسكتلندا منذ سنة ١٩٠٧ وفي أيرلندا منذ سنة ١٩١١.

    بَيْدَ أنَّ الحرب العامة أثَّرت في عواطف البلاد ووجدانات ساستها، فأوجبت انقلاب بعض زعماء الأحزاب — كالمستر أسكويث — إلى أنصار مبدأ تصويت المرأة، وقد نشَأ عن هذا التحول نصُّ قانون تمثيل الشعب الذي سُنَّ في ١٠ يناير سنة ١٩١٨ على أنَّ لكل امرأة بلغَت الثلاثين من عمرها، وكانت ممَّن يحق لهنَّ أن يشتركن في الانتخابات الإدارية المحلية حقًّا في التصويت السياسي، الأمر الذي أوجب ضمَّ ستة ملايين ناخبة إلى هيئة الناخبين.

    وبعد أن نالت المرأة الإنكليزية حقًّا في التصويت لم يبقَ سبب في حرمانها حق ترشيح نفسها لعضوية مجلس النواب؛ ولذا اقترح هربرت صموئيل منحها هذا الحق على مجلس النواب، فاقترع لاقتراحه بأكثرية ٢٧٤ صوتًا ضد ٢٥ صوتًا، وقد وافق عليه مجلس اللوردات في ٦ نوفمبر سنة ١٩١٨.

    ولقد قالت به بعض الدول التي تتألَّف الولايات المتَّحدة منها؛ قال المستر بوشنل هارت:48 «إنَّ حرمان المرأة حقَّ التصويت كان شاملًا لكل البلدان التي تتمتَّع بنظام الحكومة التمثيلية، ولكنه منذ أقل من ثلاثين سنة حاد بعض البلدان الأميركية عن الطريقة، فمنحت الدول الأربع: كولورادو49 ويومنغ50 وإيداهو51 وأوتاه52 حقَّ التصويت للمرأة، ومِن تلك البلدان نذكر كانزاس53 التي أعطت المرأة حق الاشتراك في التصويت البلدي، ونذكر إيوا54 ومونتانا55 اللتَين يَمنحانها حق الاقتراع في إصدار سندات الحكومة وغير ذلك من المسائل المالية، وبين الولايات التي تتألَّف منها دولة الولايات المتحدة خمس وعشرون ولاية تَعترف للمرأة ببعض الحقوق في الاشتراك في انتخاب الموظَّفين العامين وتقرير الأشغال العامة، وحق الانتخاب يتضمَّن قدرة المرأة على أن تكون مُنتخَبة عادةً.»
    وبعد التاريخ الذي كتب فيه المستر بوشنل هارت هذه الأسطر مُنِحَت المرأة الأميركية حق التصويت بدرجاته في ولاية واشنغتون في سنة ١٩١٠، وكاليفورنيا في سنة ١٩١١، وأوريغون56 وأريزونا57 وكانزاس58 وميشيغن59 في سنة ١٩١٢، ونيفادا60 ونيويورك في سنة ١٩١٣، وماساشوزيت61 في سنة ١٩١٤، ثم عُدِّلَ الدستور الاتحادي في ٢٦ آب سنة ١٩٢٠ فمُنِحَت المرأة حقَّ التصويت.

    وقد قالت أوستراليا بحق المرأة في التصويت في أكثر المُستعمَرات التي تتألَّف منها، فدستور أوستراليا الاتحادي مع سماحه للبرلمان بحقِّ وضْع القوانين الانتخابية الاتحادية نصَّ على أن حق التصويت يكون لكل راشد تعين شروطه في قوانين كل مُستعمَرة مِن مستعمرات الاتحاد الأوسترالي، وقد قالت المُستعمَرات — التي يتألَّف منها الاتحاد الأوسترالي — بحق المرأة في التصويت ما عدا مُستعمَرة فيكتوريا؛ حيث رفض مجلس شيوخها كل لائحة مِن شأنها منح المرأة حق التصويت.

    وفي ١٤ يونيه سنة ١٩٠٧ سنَّت حكومة نوروج قانونًا مُنِحَت المرأة فيه حقَّ التصويت السياسي، ولكن هذا الدستور لم يُساوِ بين المرأة والرجل الذي يتمتَّع بحق التصويت السياسي العام، فقد جاء فيه أنه يحقُّ لكل امرأة نوروجية بلغت الخامسة والعشرين من عمرها أن تصوِّت «بشرط أن تكون من اللواتي تدفع كل واحدة منهنَّ ضرائب دخل سنوي لا تقلُّ عن ٤٠٠ كورون في المدن أو ٣٠٠ كورون في الأرياف.»

    وقد منح الدستور الدينماركي في ٤ يونيه سنة ١٩١٥ المرأة حقًّا في أن تكون ناخبةً مُنتخبة كالرجل، وفي سنة ١٩١٩ منَحت حكومة السويد المرأة حقًّا في التصويت، ولما سُنَّ الدستور الألماني في ١١ آب سنة ١٩١٩ قال بمُساواة المرأة والرجل السياسية.

    ويظهر أنَّ الحركة النسائية لا تقف عند ذلك الحدِّ؛ ففي السنوات الأخيرة منَحت بلجيكا المرأة حقَّ التصويت في الانتخابات البلدية وهي تستعدُّ لمنحِها حقَّ التصويت السياسي، وأما فرنسا التي منَحت المرأة بعض الحقوق المدنية؛ كأن تكون شاهدةً على العقود التي يُنظِّمها كُتَّاب العدل، وأن تشترك في انتخابات المَحاكم وغرف التجارة، وأن تكون ناخبة مُنتخبة في مجالس العمل الاستشارية ومَجالس التحكيم للعمال، فإنها لم تَمنحهنَّ حق التصويت في انتخابات المَجلس الإدارية والمَجالس السياسية.

    ومع كل ما تقدَّم أرى أنَّ منح المرأة حقَّ التصويت غير ملائم للمبادئ وغير نافع للمُجتمع. نعم، ليس في المرأة انحطاط أساسي وعجز طبيعي يَمنعانها من التمتُّع بحق التصويت، فذكاؤها مساوٍ لذكاء الرجل وقد يَعلوه في طبقات العمال، ولكن هنالك أسبابًا تدفع الناس إلى عدم الاعتراف لها بالحق المذكور، ومن هذه الأسباب أذكر أن الأعمال توزَّعت بين الرجل والمرأة منذ قامت المجتمعات، وأن هذا التوزيع توطَّد بين الجنسين بقوة الاستمرار؛ فأما الرجل فقد فُوِّض إليه أمر القيام بشئون الحياة العامة وما يناسبها من الوظائف، وأما المرأة فقد تُرِكَ لها أمر النظر في تدبير المنزل وتربية الأطفال، وقد نشأ عما ناله الجنسان من تربية مختلفة ومن مؤثِّرات إرثية حدوث أميال مناسِبة لِما فُطرا عليه من الاستعداد الاجتماعي المُتباين، فتدخُّل المرأة في الحياة العامة من غير أن يُحْسَبَ لذلك الفرق المتأصِّل حسابًا، يعني اندماج عناصر اضطراب في نظام المجتمعات الحديثة السياسي المعقَّد من دون فائدة.

    وهكذا لم يقم حرمان المرأة حقَّ التدخُّل في الأمور السياسية على الهوى، بل اشتُقَّ من الناموس الطبيعيِّ القائل بتوزيع العمل بين الجنسين، والذي هو قديم قِدَم الحضارة إن لم يكن قديمًا قِدَم البشر، ثم إنه ليس مِن الصَّواب أن تُمْنَحَ المرأة حق التصويت السياسي، ومن مُتمِّمات هذا التصويت أن تكون تابعةً لنظام الخدمة العسكرية.

  • ثانيًا: لا تكون مسألة السنِّ بحسب المبدأ المذكور من شروط التصويت السياسي؛ فهذا المبدأ يؤدِّي إلى فتح باب التصويت لكلِّ فتًى مراهق.
  • ثالثًا: إنَّ النظم الانتخابية الحديثة جميعها متَّفقة على مطالبة الناخب بأن يكون ذا موطن معيَّن، على أن لا تقلَّ إقامته فيه عن مدة يعيِّنها القانون، وهذه المدة ستة أشهر بحسب القانون الفرنسي الحاضر، فهذا ليس سوى احتياطٍ قانونيٍّ يتَّخذه المجتمع ليكون واثقًا بأن الذي يمنحه حق الانتخاب يَنتسب إليه بالحقيقة، وتشمله دائرته، والمجتمع بذلك لا يَحرم حق التصويت غير جَوَّابي الآفاق والمشرَّدين، وأمرٌ مثل هذا لا يلائم المبدأ القائل بأنَّ حقَّ التصويت السياسي يخصُّ كل واحد من أبناء المجتمع البشري، وبأنه حقٌّ خاصٌّ لكل فرد من أفراد الأمة.
  • رابعًا: إنَّ كل الأنظمة الانتخابية تقول بأنه يجوز أن يَخسر أبناء الوطن — الحائزين الشروط الضرورية التي يُقتضى وجودها في المرء حتى يكون ناخبًا — حقَّ التصويت بسبب ما يُصيبهم من العقوبات الجنائية، ولا يَدور في خلد أحد أن تُقْصَدَ السجون لتُجمَع فيها أصوات المسجونين السياسية، الأمر الذي لا يلائم ذلك المبدأ القائل بأنَّ حق التصويت الملازم للصفة البشرية لا يُنْسَخ ولا يَنْدَثر.
  • خامسًا: يُمكن وقف ممارسة حقِّ التصويت السياسي مؤقتًا لأسباب تتعلَّق بحسن النظام والمصلحة العامة، ومن هذا القبيل نص القانون الفرنسي — الذي سُنَّ في ٣٠ نوفمبر سنة ١٨٧٥ — على أنه لا يحقُّ لجنود البرِّ والبحر أن يشتركوا في التصويت ما داموا في أثناء وظيفتِهم، وهذا ما لا يُناسب المبدأ المذكور.
  • سادسًا: هنالك رأيٌ قائل بأن يكون الناخب مجبورًا على التصويت، وقد نشَأ عن هذا الرأي اقتراحات كثيرة لم تُوافِق عليها فرنسا، وقد عملت بها بلدان أجنبية كثيرة؛ ومنها بلجيكا التي ذهبت إلى التصويت الإلزاميِّ في قانونها الذي وُضِعَ في سنة ١٨٩٣، وهذا لا يُلائم ذلك المبدأ أيضًا؛ فإذا كان حقُّ التصويت حقًّا شخصيًّا فإنه يقتضي أن يتصرَّف فيه كل شخص على الوجه الذي يروقه، كما يتصرَّف في حقوقه الخاصة الأخرى.

وبجانب ذلك المبدأ القائل بأنَّ حقَّ التصويت السياسي يخصُّ كل واحد من أبناء المجتمع البشري، مبدأ آخر قائل بأنَّ التصويت السياسي ليس حقًّا شخصيًّا مُطلقًا ملازمًا للبشرية خاصًّا بكل فرد من أفراد الأمة، وإنما هو مشتق — بحكم الطبيعة — من المبدأ السامي القائل بأن السيادة القومية لا تتجزَّأ بين أفراد الأمة، بل تبقى صفةً جوهرية في الأمة لا تتجزَّأ ولا تُباع ملازمةً لها على الدوام. فالناس بحسب هذا المبدأ يمارسون حقَّ التصويت السياسي باسم الأمة التي يمثِّلونها لا باسمِهم الشخصي، وهم بذلك يقومون بما لا يزيد عن وظيفة. نعم، يتضمَّن مبدأ السيادة القومية أن يُدْعَى أبناء الوطن كلهم إلى ممارسة هذه الوظيفة الأساسية، ولكن الممارسة المذكورة تقتضي وجود أهلية كافية في ابن الوطن؛ فعلى القانون أن يحدِّد شروط هذه الأهلية، فالقانون يستطيع أن يحظر تلك الممارسة على المرأة التي جعل نشوءُ البشرية التاريخي أهليتها السياسية أمرًا مُشتبَهًا فيه، وهيَّأها للقيام بالوظائف العائلية، ويستطيع أن يُحدِّد سن الرشد التي يجب أن يبلغها ابن الوطن ومدة إقامته في أحد المواطن ليُمارس التصويت السياسي، ويستطيع أن يحرِّمه على المحكومين والأراذل، وأن يَمنع الجنود منه باسم المصلحة الوطنية، وأن يجعله إلزاميًّا إذا رأى نفعًا في ذلك. كل هذه النتائج منطقية موافِقَة للصواب، وهي تُباين النتائج التي استنبطناها من المبدأ المخالف، وإنَّا لنضيف إليها النتيجة القائلة بأن القانون يستطيع أن يُقيم التصويت غير المباشر مقام التصويت المباشر إذا ثبَت لواضعه أن سير الانتخابات يكون بذلك أتمَّ وأكمل.

لهذا المبدأ الثاني أنصارٌ منذ المجلس التأسيسي الفرنسي الأول، وإذا استثنَينا دستور سنة ١٧٩٣ نرى الدساتير التي سُنَّت في أثناء الثورة الفرنسية قالت به، وهو لم يفُتْ مرسوم الحكومة المؤقتة في سنة ١٨٤٨، ولا دستور سنة ١٨٤٨؛ فقد جاء في المادة الخامسة من المرسوم المذكور «أنَّ التصويت عام مباشر»، وجاء في المادة السابعة منه: «يكون ناخبًا كل فرنسي بلغ السنة الحادية والعشرين من عمره، ولم تقلَّ إقامته عن ستة أشهر في الدائرة الانتخابية، ولم يكن محرومًا ممارسة الحقوق الوطنية.»

ومثل هذه الشروط ما جاء في دستور سنة ١٨٤٨، وقد اقتبسَت القوانين التي سُنَّت بعد هذا التاريخ ذلك المبدأ وعنها أخذته قوانين فرنسا الدستورية التي وُضِعَت في سنة ١٨٧٥.

وقد استُشْهِدَ في الغالب بالمبدأ المذكور لتبرير الرأي القائل بأن يكون الناخب من دافعي مقدار معلوم من الضرائب، فاسمع ماذا قاله بارناف62 في المجلس التأسيسي الفرنسي في سنة ١٧٩١: «إنَّ أبناء الوطن الذين يضطرُّون — بسبب فقرهم — إلى الشغل حتى يقضوا حاجاتهم لا يتمكَّنون من أن يكون عندهم بصيص معرفة لا بد مِن وجودها في المرء حتى يُحسِن الانتخاب، ولا يُبالون بالمحافظة على النظام الاجتماعي الراهن.» وقال بواسي دانغلاس63 في تقريره الذي عرضه في أثناء وضع دستور السنة الثالثة الفرنسي: «إنَّ المرء الذي لا مال عنده قلَّما يتحلَّى بالفضيلة التي تدفعه إلى المحافظة على نظامٍ اجتماعي لم يترك له شيئًا، وإلى اعتناق الآراء المتينة التي تجعله يرجِّح الخير الحقيقي على الخير الظاهر، والمنفعة المستقبلة على المنفعة الحاضرة، فإذا منحتم الرجال العاطلين من المال حقوقًا سياسية بلا قَيد ولا شرط وأصبح لهؤلاء مقاعد في المجالس الاشتراعية؛ فإنهم يُحْدِثون اضطرابات كثيرة من غير أن يخشوا عاقبتها، وإنهم يفرضون ضرائب مشئومة على التجارة والصناعة، فبلادٌ يحكمها أرباب الثروات لا تلبث أن ترجع إلى الحالة الفطرية عندما يَقبض على زمامها أناس لا يملكون نقيرًا.» بَيْدَ أنني أرى أن أقوالًا مثل هذه مختلَّة؛ فبناء التصويت السياسي على نظام الضرائب لا يُلائم مبدأ السيادة القومية من الوجهة المنطقية؛ لأنَّ التصويت السياسي إذا كان وظيفة وجبَت دعوة أبناء الأمة جميعهم إلى ممارستها كما ذكرت سابقًا، واقتضى أن تكون الشروط التي يتطلَّب القانون وجودها في الناخب سهلة المنال على الكل — كشروط السن والموطن والتعليم الابتدائي — لا صعبة — كأن يكون الناخبُ من أرباب الثروة ومِن دافعي الضرائب — ولا يُحتجُّ عليَّ هنا بمبدأ حرمان المرأة التصويت السياسي بعد أن بيَّنَّا أنَّ حرمانها إياه من مقتضيات نشوئها الطبيعي الاجتماعي.

•••

إنَّ نظام التصويت العام هو الذي طُبِّقَ بحكم الغريزة لما تألَّفت المجالس التمثيلية المُنتخَبة في الأزمنة الحديثة، وهذا هو الذي شوهد في أمر مجالس فرنسا العامة السابقة والبرلمان الإنكليزي على الأقل، فلما أصبح التمثيل في المجالس العامة قائمًا على الانتخاب في غضون القرن الخامس عشر كانت الطريقة التي اتُّخِذَت من أجله بسيطة إلى الغاية؛ فقد كان سكان المديرية يُدعون إلى مركزها حتى يباشروا انتخاب النواب، وكان الحضور مباحًا للجميع بلا فرق، وكان كل واحد يحضر يستطيع أن يشترك في الانتخاب، غير أنَّ هذه الطريقة لم تَدُمْ طويلًا؛ فقد تحوَّلت في انتخابات الطبقة الثالثة إلى تصويت غير مباشر تقوم به المدن وجمعيات الأرياف بانتخابها ناخبين ثانويِّين، وأما البرلمان الإنكليزي فإنَّ انتخاب أربعة نُبَلاء له من كل مقاطعة كان يتمُّ في البداءة من قِبَل سكان هذه المقاطعة على السواء حسب الطريقة الناقصة القائلة بأن يُرشِّح أصحاب النفوذ في المقاطعة المذكورة المرشحين، وبأن يُصبح هؤلاء المرشَّحون نوابًا إذا لم يَرفع أحد عقيرته في أثناء الاجتماع الانتخابي، وقد تبدَّلت هذه الطريقة في القرن الخامس عشر حين بطلتْ دعوة الجميع إلى الانتخاب، وصارت الأصوات تُعَدُّ، وأضحت النتيجة تقوم على إرادة الأكثرية، وعاد لا يشترك في انتخابات المقاطَعات سوى الرجل الذي له مزرعة تُعطيه دخل أربعين شلنًا في السنة، ولم يلبث الرأي القائل بأن يكون للناخب دخلٌ سنوي لا يقلُّ عن أربعين شلنًا أن تأصَّل في النظم والمبادئ الإنكليزية، وصار يظهر كشرط طبيعيٍّ لممارسة الحقوق السياسية، وأصبح يُعَدُّ كل شخص لا ينال مثل هذا الدخل أنه لا يُبالي بالشئون العامة حتى يحسن الانتخاب، وقد اقتبسَت المستعمرات الإنكليزية الأميركية هذه الشروط من إنكلترة، ولكن مع شيء من التوسُّع؛ إذ قالت بأنه ليس من الضروري أن يكون الناخبُ متصرِّفًا في عقار وإنما يكفي أن يكون مالكًا مالًا ذا دخل يَعدل ذلك الدخل ولو كان من المنقولات.

تبيَّن من الملاحظات السابقة التي تمسُّ إنكلترة ومستعمراتها الأميركية أن النظام الانتخابي القائم على الدخل والضريبة كان يُعَدُّ في القرن الثامن عشر شكلًا طبيعيًّا للتصويت السياسي؛ فقد كان التصويت العام يبدو كنظام ابتدائي فطري لا يلائم حضارةً راقية، ولكنه سرعان ما استولى مبدأ التصويت العام على العالم الغربي؛ فعن طريقه تتسرَّب المبادئ الديموقراطية بالتدريج في مختلف أشكال الدول، وإني على قصد البحث في هذا الانتشار التدريجي أرى أن أبيِّن أولًا تاريخ حقِّ التصويت السياسي في فرنسا منذ الثورة الفرنسية الكبرى، وأن أشير إلى ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية، ثم أن أوضِّح المقام الذي ناله التصويت السياسي في أوربة.

•••

لقد استنَد المجلس التأسيسي الفرنسي الأول إلى المبادئ المجرَّدة العامة عندما قرَّر حقَّ التصويت السياسي، على أنه يَظهر أن التعامل الذي ثبت أمره في العهد السابق أثَّر فيه من حيث لا يَشعر، فالطريقة التي اتخذها تقرِّب كثيرًا من الطريقة التي اتُّبِعَت منذ القرن السادس عشر في انتخاب نواب الطبقة الثالثة في المَجالس العامة الفرنسية.

ولما اعتبر ذلك المَجلس حقَّ التصويت كوظيفة سياسية لم يَذهب إلى التصويت العام ولا إلى التصويت المباشر، وقد قسَّم أبناء الوطن إلى فريقَين؛ أبناء الوطن العاملين وهم الذين يحقُّ لهم وحدهم أن يُمارسوا الحقوق السياسية، وأبناء الوطن غير العاملين ويتمتَّعون بالحقوق المدنية والحقوق الشخصية فقط، ولكي يُعَدَّ المرء من أبناء الوطن العاملين قال المجلس المذكور بلزوم احتوائه على الشروط الآتية؛ وهي:

أولًا: أن يكون فرنسيًّا. ثانيًا: أن يكون قد بلَغ السنة الخامسة والعشرين من عمره. ثالثًا: أن يكون مقيمًا في الدائرة الانتخابية المدة المعينة قانونًا. رابعًا: أن لا يكون في خدمة أحد. خامسًا: أن يَدفع ضريبة مقرَّرة سنوية تَعْدِل قيمة عمل ثلاثة أيام. سادسًا: أن يكون مقيَّدًا في منطقة بلديتِه في سجلات الكتائب الوطنية. سابعًا: أن يكون قد حلف اليمين الوطنية، وقد أسقط ذلك المَجلس من زمرة أبناء الوطن العاملين كل امرئ يكون متَّهمًا وكل امرئٍ أفلس ولم يأخذ من دائنيه وثيقةً ببراءة ذمته.

وأكثر ما يَستوقف النظر في الشروط المذكورة التي قرَّرها المجلس التأسيسي هو الشرط القائل بأن المرء حتى يكون ناخبًا يجب أن يكون من دافعي الضرائب المقرَّرة؛ فقد قيل: إنَّ ربط صفة الناخب بدفعه ضريبة إن هو إلا ليكون دليلًا على ارتباطه بالوطن، والحقيقة أن ذلك يُشتق من الأصول التي كانت متَّبعة في العهد السابق.

لم يكن أبناء الوطن العاملون سوى ناخبي الدرجة الأولى؛ فقد كانوا يَجتمعون زُمَرًا زُمَرًا في الدائرة الانتخابية لينتخب كل مائة منهم منتخبًا ثانويًّا، ومن العهد السابق اقتبس المجلس التأسيسي هذه الطريقة أيضًا، وإنما الذي فعله هذا المَجلس جعله انتخاب النائب قائمًا على درجتين بدلًا من ثلاث درجات كما في الماضي، والذي حدا بالمجلس المذكور إلى جَعْلِ الانتخاب على درجتين هو قصده بأن يُلقيَ وظائف المنتخَب الثانوي إلى أيدي الطبقة المتوسِّطة الموسرة؛ فقد قرَّر أن المرء لا يحق له أن يكون منتخبًا ثانويًّا إلا إذا كان مالكًا أو مُستأجِرًا مِلْكًا يبلغ دخله السنوي بحسب الأحوال عمل مائة يوم أو مائتي يوم، مع أنه يحقُّ له أن يصبح نائبًا بعد أن يكون من أبناء الوطن العاملين.

على تلك الشروط تمَّ انتخاب المَجلس الاشتراعي الأول، ولكنه جعل مجلس العهد الوطني لا يتردَّد في تعديل الشروط المذكورة حتى يتمَّ انتخابه عليها بعد تعديلها، ولا جَرَمَ أن المجلس الاشتراعي أبقى طريقة التصويت غير المباشر على درجتين، ولكنه ألغى التصويت المحدود وقرَّر تصويتًا شبيهًا بالتصويت العام؛ فقد قضى على تقسيم الفرنسيين إلى وطنيين عاملين وإلى وطنيِّين غير عاملين، وقال: إنَّ المرء حتى يكون ناخبًا يكفي أن يكون فرنسيًّا بلغ السنة الحادية والعشرين من عمره، وأن يكون متوطِّنًا في الدائرة الانتخابية منذ سنة، وأن يعيش من دخله أو من عمله، وأن لا يكون من فصيلة الخدم، وأنه حتى يحقَّ له أن يصير منتخبًا ثانويًّا أو نائبًا أن يحوز هذه الشروط على أن لا يقلَّ عمره عن خمس وعشرين سنة.

ظهر مجلس العهد — في الدور الذي سُنَّ فيه دستور ٢٤ يونيه سنة ١٧٩٣ — بمظهر النصير للتصويت السياسي العام المباشر، فلما عرَض كوندورسي64 في ٢٣ فبراير سنة ١٧٩٣ لائحةَ دستور تلك السنة ألقى خطبة شهيرة برَّر فيها هذا النظام تبريرًا عقليًّا، وبعد أن دارتْ حوله مناقشات مشوشة أعلن مجلس العهد أن نظام التصويت العام من المبادئ البديهية، وهكذا أُدْمِجَ مبدأ التصويت العام في دستور سنة ١٧٩٣ الذي منَحه لكل فرنسي يَبلغ السنة الحادية والعشرين من عمره، ولكلِّ أجنبي مقيم في فرنسا حائزٍ لبعض الشروط، والذي نصَّ على أن يكون الناخب مقيمًا في الدائرة الانتخابية منذ ستة أشهر، وأن ينتخب كل أربعين ألف ناخب نائبًا واحدًا رأسًا، غير أن دستور ٢٤ يونيه سنة ١٧٩٣ لم يُطبَّق قط؛ فقد أوجَبَ وقف تنفيذه مرسوم ١٩ فانديمير ومرسوم ١٤ فريمير من السنة الثانية، اللذان أسَّسا حكومة ثورية حتى يتمَّ الصلح، ثم استأنف مجلس العهد العمل في شهر ترميدور من السنة الثالثة، فقرَّر ترك دستور سنة ١٧٩٣ واضعًا في مكانه دستور ٤ فروكتيدور من السنة الثالثة.

لقد رجع دستور السنة الثالثة القهقرى في أمر التصويت العام كما في غيره عائدًا إلى المبادئ التي جاءت في دستور سنة ١٧٩١؛ إذ قال بأن يُنْتَخَبَ مجلس الخمس مائة ومجلس الشيوخ — اللذان نصَّ على تأليفهما حسب مبدأ التصويت المحدود غير المباشر — على درجتين؛ فقد جاء فيه «أنَّ أبناء الوطن العاملين هم الذين يُولدون في فرنسا، ويَبلُغون السنة الحادية والعشرين من أعمارهم، وتكون أسماؤهم مقيَّدةً في السجلات الوطنية، ويُقيمون في البلاد منذ سنة، ويَدفعون أيَّة ضريبة مقرَّرة عقارية كانت أم شخصية.» وجاء فيه «أنَّ الشبَّان الذين لا يُثبتون أنهم يقرءون ويَكتبون ويُمارسون مهنةً آليةً لا تسجَّل أسماؤهم في السجلات الوطنية؛ وذلك بشرط أن لا تطبَّق هذه المادة إلا بعد حلول السنة الثانية عشرة.» ونصَّ على أنه لا يحقُّ للأُجَراء أن يكونوا من الناخبين.

ولما سُنَّ دستور القنصلية في ٢٢ فريمير من السنة الثامنة جاء فيه أن أبناء الوطن العاملين هم الذين يُولدون في فرنسا ولا تقلُّ أعمارهم عن إحدى وعشرين سنة، وتكون أسماؤهم مدوَّنةً في السجلات المحلية ويُقيمون في البلاد منذ سنة، ولم يَقُلْ هذا الدستور بأن يكون الناخب من دافعي الضرائب، وإنما قال بأنه لا يحقُّ للأُجَرَاء أن يكونوا من الناخبين.

غير أنَّ توسيع حق التصويت على تلك الصورة لم يكن في غير الظاهر؛ إذ لم يبقَ أمر انتخاب النواب في قبضة الناخبين، فالذي بقيَ لهم هو أن يَعرضوا قوائم المرشحين على مجلس الشيوخ حتى يختار منها ما يروقُه منهم، جاء في الدستور المذكور: «أنَّ أبناء الوطن في كل دائرة بلدية ينتخبون من بينهم مَنْ يَعتقدون أنهم قادرون على إدارة الشئون العامة، على أن يكون عدد هؤلاء بنسبة واحد من كل عشرة مصوتين، فمِن هذه القائمة الأولى يُختار موظفو المديرية، ثم ينتخب أبناء الوطن الذين وردت أسماؤهم في القوائم البلدية واحدًا بنسبة كل عشرة منهم، ومن هؤلاء يُختار موظفو الولاية، ثم ينتخب أبناء الوطن الذين وردت أسماؤهم في هذه القوائم واحدًا بنسبة كل عشرة منهم، ومِن هؤلاء يُختار موظفو المصالح العامة.» وجاء في ذلك الدستور أنه بعد أن تُرتَّب القوائم في الولايات على الوجه المذكور تُعْرَض على مجلس الشيوخ، فيَنتخِب هذا المجلس منها أعضاء المجلس الاشتراعي ومجلس التريبونا والقناصل وقضاة محكمة النقض والإبرام ووكلاء المُحاسبة، وأنَّ الذين يُرتِّبون تلك القوائم جميعها يُعيدون النظر فيها كل ثلاث سنوات فيَملئون فراغها، ويَحذفون ما يرونه من الأسماء التي وردت فيها بالأكثرية المُطلَقة، هذا هو النظام الذي ساد الدور القنصليَّ والدور الإمبراطوري الأول من بعض الوجوه والأحوال التاريخية وقلَّة المبالاة بالحرية العامة هي التي أدَّت إلى حدوثه.

ولما أُعيدت الملكية وسُنَّ دستور سنة ١٨١٤ حدث أمران؛ فمِن جهة حُدِّد حق التصويت السياسي تحديدًا عظيمًا، ومِن جهة أخرى أصبح هذا التصويت حقيقيًّا في انتخاب النواب؛ أي إنه قضى على المهازئ الانتخابية التي استمرَّت منذ السنة الثامنة، فصار الناخبون ينتخبون النواب مباشرةً. ومما نصَّ عليه الدستور المذكور أنَّ الرجل لا يكسب صفة الناخب إلا إذا كان يدفع ضريبةً سنوية مقرَّرة قدرها ثلاث مائة فرنك، وكان عمره لا يقلُّ عن ثلاثين سنة، وأنَّ المرء لا يحقُّ له أن يُنتخَب نائبًا إلا إذا كان يدفع ضريبة مقرَّرة سنوية قدرها ألف فرنك، وكان عمره لا يقلُّ عن أربعين سنة. والغاية من ذلك أن يُصبح التصويت السياسي في قبضة الطبقات المُثرية، ولا سيما أرباب العقارات الكبيرة.

ولم تُلْغِ ثورة سنة ١٨٣٠ القاعدة القائلة بأنه يجب أن يكون الناخبون من دافعي الضرائب، وإنما أدَّت إلى تخفيف مقدار الضريبة الذي يقتضي أن يدفعه الرجل حتى يكون من زمرة الناخبين. ولم يحدد دستور سنة ١٨٣٠ مقدار الضريبة، بل اكتفى بالنص على أنه يقتضي أن لا تقلَّ سنُّ الناخب عن خمس وعشرين سنة، وأن لا تقلَّ سنُّ النائب عن ثلاثين سنة، وأن قانونًا آخر سيحدد شروط الناخب والنائب. وقد سُنَّ هذا القانون في ١٩ أبريل سنة ١٨٣١ فخفَّض الضريبة المقررة التي يقتضي أن يدفعها المرء — لكي يكون ناخبًا — إلى مائتي فرنك، وخفَّض الضريبة المقررة التي يجب أن يدفعها المرشح للنيابة إلى خمس مائة فرنك.

وقد بقي ذلك القانون بقاءَ ملكيَّة شهر يوليه، ولكنه لازمها كمرضٍ مُزمن لم يفارقها إلا بالقضاء عليها؛ فقد أخذت الاقتراحات القائلة بإصلاح النظام الانتخابي تتقاطَر على المجلسين، والحكومة هي التي كانت تقاوم هذه الاقتراحات على الدوام؛ ومن ذلك أن المسيو دوفرجيه دوهوران65 لما اقترح على مجلس النواب في سنة ١٨٤٧ إصلاح النظام الانتخابي؛ عارَضه رئيس الوزارة المسيو غيزو66 بقوله: «ليس للتصويت العام يومٌ؛ أي: ليس لأقاطيع المخلوقات البشرية يومٌ يُدْعون فيه لممارسة الحقوق السياسية.» ففي سبيل إصلاح النظام الانتخابي الذي لم تقلل الحكومة من مقاومتها له وقعت ثورة سنة ١٨٤٨.

أعلنت الحكومة المؤقَّتة التي تألَّفت في سنة ١٨٤٨ مبدأ التصويت العام لكي تتمَّ انتخابات المجلس التأسيسي بحسبه، وقد أُدْمِجَ هذا المبدأ في دستور سنة ١٨٤٨ وانتظمت شروطه في قانون ١٥ آذار سنة ١٨٤٩، ومنذ ذلك الحين لم يعدل عنه دستور فرنسي فيما بعد، على أنَّ المجلس الاشتراعي ضيَّق دائرته في القانون الذي سنَّه في ٣١ مايو سنة ١٨٥٠؛ فقد نصَّ هذا القانون على أنَّ المرء لكي يصير ناخبًا يقتضي أن يكون مقيمًا في الدائرة الانتخابية منذ ثلاث سنوات، مع أن قانون سنة ١٨٤٩ اكتفى بأن تكون مدة الإقامة ستة أشهر، وقد ظهر أن هذا القانون سُنَّ ضد ناخبي العمال في المدن، فأوجَب سخطًا في الرأي العام؛ من أجل ذلك ألغاه لويس نابليون في أحد مراسيمه التي نشرها أيام إسقاطه المجلس الاشتراعي في سنة ١٨٥١، ومِن ثَمَّ لم يطرأ على نظام التصويت العام أقلُّ تحديد في عالم الاشتراع الفرنسي.

•••

تبيَّن مما تقدَّم أن فرنسا جاوزت منذ سنة ١٧٨٩ أدوار تقلُّبٍ في مادة التصويت العام؛ أي إن أمرها لم يستقرَّ عليه إلا بعد أن دَنَتْ وابتعدت منه مرات كثيرة، وقد شوهد مثل هذا التحوُّل في أميركا الشمالية، ولكنه وقع من غير أن يَرجع القهقرى، فلما تأسَّست جمهورية الولايات المتحدة كان دستور كثير من الولايات — التي تتألَّف تلك الجمهورية منها — يقول بحصر حقِّ الانتخاب في دافعي الضرائب وحدهم، سواء في الانتخابات المحلية أم في انتخابات مجلس الممثِّلين الاتحادي، غير أنَّ ذلك التحديد قلَّ بالتدريج ولم يبقَ منه اليوم سوى بضع بقايا، فاسمع ما حقَّقه المستر بريس:67 «لقد قام نظام التصويت القائل بأن يكون كل راشد ناخبًا في الولايات التي تتركَّب الولايات المتحدة منها، ولم يُسْتَثْن منه غير المحكوم عليهم بجناية (ومنها الارتشاء وتعدُّد الزوجات)، والذين يأخذون إعانات نصَّ عليها قانون الفقراء، فهذا الاستثناء لا يزال باقيًا في الولايات المتحدة كلها، وقد كان يَقتضي في كثير من ولايات الاتحاد أن يكون الناخب من دافعي الضرائب، فكان حتى سنة ١٨٨٨ يُذْهَب في ولاية رود إيلاند68 إلى أنَّ فريق السكان الذين ليسوا من أبناء الولايات المتحدة لا يحقُّ لهم أن يكونوا ناخبين إلا إذا كان كل واحد منهم يملك عقارًا لا تقلُّ قيمته عن ١٣٤ دولارًا، أو يدفع ضريبة دولار واحد في كل سنة، وكانت خمس ولايات: «ديلوبر69 وبنسيلفانيه70 وماساشوزيت71 وتينسي72 ومسيسبي73» تقول بأن يدفع الناخب ضريبةً، وأن حزبه يُمكنه أن يدفع عنه هذه الضريبة، ثم إن ولاية ماساشوزيت تتطلَّب أن يكون الناخب قادرًا على قراءة الدستور بالإنكليزية، وعلى كتابة اسمه، وتتطلَّب ولاية كونكتيكات74 أن يستطيع الناخب أن يقرأ فصلًا من الدستور والقوانين، وأن يكون حسن الأخلاق. وتذهب ولاية المسيسبي إلى أنَّ كل شخص يودُّ أن يسجِّل اسمه في السجلات أن يقدر على قراءة فصل من الدستور وأن يَفهمه عند تلاوته أمامه ويفسِّره كما ينبغي.»
وإذا ولَّينا وجوهنا شطر الخارطة الأوربية (ما عدا فرنسا) يبدو لنا أمران مهمان في الحال:
  • أولًا: نرى أنَّ التصويت العام انتشر انتشارًا عظيمًا؛ فهذا النظام سائد لانتخابات الاتحاد السويسري، ولانتخابات المقاطعات التي يتألَّف الاتحاد المذكور منها، وقد اتخذته اليونان بدستورها الذي سنَّته في سنة ١٨٦٤، واتخذتْه إسبانية في قانون ٢٦ يونيو سنة ١٨٩٠، ونظام التصويت العام هو الذي قال به دستور الدينمارك في انتخابات مجلس النواب، ومما هو جدير بالملاحظة أن دستور الإمبراطورية الألمانية الذي سُنَّ في ١٦ أبريل سنة ١٨٧١ نصَّ على أن تقوم انتخابات الريشتاغ على مبدأ التصويت العام، وقد ظهَر هذا الدستور أنه أكثر حريةً من دساتير كثير من الولايات التي تتألَّف منها الإمبراطورية الألمانية، تلك الولايات التي إذا كانت تفسح — في الغالب — المجالَ للتصويت العام، فذلك على أن يقع هذا التصويت على وجه غير مباشر، وأن يحرَّف بمنْح أصحاب العقارات شيئًا من الامتيازات في انتخاب النواب، والسبب في نص دستور الإمبراطورية على التصويت العام هو أنه لما كان التصويت العام أكبرَ قوة سياسية في الأزمنة الحديثة اتخذه مؤسِّسو الإمبراطورية الألمانية؛ ليوازنوا به رُوح الانفراد المشبعة منها كل دولة اشتركت في تركيب هذه الإمبراطورية؛ فالتصويت العام بمنحه حياةً سياسيةً مشتركة لأبناء الإمبراطورية كلهم ظهَر أنه قادرٌ على إبقاء الوحدة الألمانية التي تمَّت حديثًا.

    ولما سنَّت ألمانية دستور ١١ أغسطس سنة ١٩١٩ قالت فيه بنظام انتخابي كثير الديموقراطية؛ فمن جهةٍ نصَّ هذا الدستور على أن يشترك في انتخابات الريشتاغ كل ألماني لا تقلُّ سنُّه عن إحدى وعشرين سنة من غير تفريق بين الرجال والإناث، ومِن جهة أخرى فرض على الأقاليم التي تتألَّف منها الإمبراطورية الألمانية مثل ذلك.

    ولما اعتنقت بلجيكا نظام التصويت العام في ٢٥ سبتمبر سنة ١٨٩٣ عدَّلته بأمرَين: الأول منحها حق الانتخابِ لكلِّ رجل لا تقلُّ سنُّه عن خمس وعشرين سنة. ثانيًا: ذهابها إلى نظام الانتخاب الضمِّي القائل بأن يكون للناخب — فضلًا عن الصوت المقرر لكل مَنْ لا تقل سنُّه عن خمس وعشرين سنة — صوت آخر إذا كان كانت سنُّه تزيد عن خمس وثلاثين سنة، وكان يدفع ضريبةً، وكان ربَّ عائلة أو كان مالكًا بعض عقارات، وبأن يكون له — فضلًا عن الصوت المقرَّر — صوتان إذا كان حاملًا شهادةَ مدرسة عالية، ولكن بلجيكا ألغت نظام التصويت الضمي في قانونها الانتخابي الذي سنَّته في ١٩١٩، وجعلت السن التي يمكن الرجل بها أن يكون ناخبًا إحدى وعشرين سنة.

    يناقض نظام التصويت الضمي نفسَه مناقضة منطقية، فإذا زيد به حق بعض أبناء الوطن الانتخابي فذلك لتعديل ما في الباقين من عدم أهلية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب منطقيًّا أن يُحرَم هؤلاء كلَّ حق انتخابي. إنَّ القانون يَعترف بمنحه إياهم قدرة على التصويت بأهلية كافية فيهم للتصويت، ومِن ثَمَّ لا مسوِّغ لمنح أناس سلطة انتخابية أعظم من السلطة الانتخابية التي يَمنح الآخرين إياها.

    وفي سنة ١٩٠٧ قالت السويد بمبدأ التصويت العام، وقالت به النمسا في قانونها الانتخابي الذي سنَّته في ٦ يناير سنة ١٩٠٧، وإليه ذهبت إيطاليا في سنة ١٩١٢.

  • ثانيًا: إنَّ نظام التصويت في البلدان — حيث لا يَزال ضيِّقًا فيها — يَميل فيها إلى التوسع بالتدريج، وإلى عدم إناطة الانتخاب بدافعي الضرائب، وإلى التقرب من التصويت العام، وإنَّ الطرق التي يسلكها مختلف البلدان للوصول إليه كثيرة إلى الغاية، ويمكن ردُّها إلى اثنين:
    • فالأول: يتجلَّى في عالم الاشتراع الإنكليزي قبل سنة ١٩١٨، وهو يقوم على الرأي القائل بأن يكون ناخبًا كلُّ شخص واضع يده على بيت تام أو ناحية مستقلة من بيت، وكل مُستأجِر بيتًا لا تقلُّ إجارته عن عشرة جنيهات في السنة. وقد كان ينشأ عن ذلك أن الرجل الواحد لمجرَّد حيازته عقارات واقعة في مقاطعات مختلفة يستطيع أن يُصوِّت بالتعاقب في كل واحدة منها، وهكذا كان يُنْتَهى إلى نظام التصويت الضمي، إلا أنه حُمِلَ على هذا النهج حملة شديدة، فرأت الحكومة في سنة ١٨٩٥ أن تحُول دون ذلك بأن تقع الانتخابات في يوم واحد بدلًا من أيام كثيرة يتمكَّن الناخب فيها من التنقُّل من مقاطعة إلى أخرى حتى يُصوِّت عدة مرات، وفي ٦ فبراير سنة ١٩١٨ سُنَّ قانون تمثيل الشعب الإنكليزي، فمنَح هذا القانون حق التصويت لأربع طبقات؛ الأولى هي طبقة الرجال الذين لا يقلُّ عمر كل واحد منهم عن إحدى وعشرين سنة. والثانية هي طبقة النساء اللواتي لا تقلُّ سن كل واحدة منهنَّ عن ثلاثين سنة. والثالثة هي طبقة ناخبي الجامعة. والرابعة هي طبقة جنود البرِّ والبحر الذين لا يكونون في أثناء الخدمة. ولم يقضِ هذا القانون على مبدأ التصويت الضمي، وإنما حدَّد نطاقه بنصِّه على أنه لا يحق لأحد أن يصوِّت في أكثر من دائرتين انتخابيتَين، وقد ألغى القانون المذكور أمر كون الناخب من الواضِعين يدهم على عقار سواء عن طريقة التملُّك أم عن طريقة الإجارة.
    • والثاني: يتجلَّى في أمر القابلية والتعليم الابتدائي، ويُمكن اتخاذ الاشتراع الإيطالي السابق الذي ألغاه قانون ٣٠ يونيه سنة ١٩١٢ مثالًا على ذلك؛ فقد كان بحسب قانون ٢٢ يناير سنة ١٨٨٢ يُعدُّ (بجانب الناخبين من دافعي الضرائب) ناخبًا كلُّ مَنْ لم يدفع ضرائب، وكان إما مؤديًا امتحانًا في الدروس الإلزامية التي نصَّ عليها القانون، وإما حاملًا شهادة مدرسية عالية.

(٢-٣) السيادة القومية والحكومة التمثيلية

لقد بوشرت السيادة القومية في الأزمنة الحديثة باتخاذ نظام الحكومة التمثيلية القائم على وجود مجلس اشتراعيٍّ منتخَب أعضاؤه؛ فمباشرة السيادة القومية باتخاذ النظام المذكور أمرٌ يتطلَّب بحثًا دقيقًا.

يجب أن نذكر — قبل كل شيء — ماذا يُعنى بالتمثيل في الحكومة التمثيلية؟ إنَّ الذي يتصف به ممثِّلو الأمة صاحبة السيادة هو أنهم يُدعون ليأتوا بكل حرية واستقلال بمقرَّرات ضمن دائرة خصائصهم؛ وذلك باسم الأمة التي يُفرض أنها تريد عن طريق إرادتهم وتتكلَّم بأفواههم، وعليه لا يكون ممثِّلًا حقيقيًّا وكيل صاحب السيادة الذي ليس متمتِّعًا بسلطة خاصة في البتِّ، والذي تُحدَّد أعماله مقدمًا بقواعد قانونية جازمة، والذي لا يستطيع أن يقرِّر شيئًا من غير موافقة ذلك الصاحب.

تبدو صفة الممثِّل في القضاة الذين يُمارسون السلطة القضائية وإن لم يُفوَّض إليهم سوى تطبيق القانون؛ فهم لا يَقتصرون على تطبيق النصوص العامة على الوقائع الخاصة بما اتَّصفوا به من حذق لا يقيِّد حريته سوى المبادئ القانونية، بل يُقرِّرون — بحسب ما توحيه إليهم ضمائرُهم وفطنتهم الشخصية — أمورًا في المسائل التي يسودُها نظام البينات الأدبية لا القانونية، وتظهر صفة الممثِّل بأوضح من ذلك في صاحب السلطة التنفيذية الذي يَمنحه الدستور شيئًا من الاستقلال؛ إذ هو بجانب الأحوال التي يتدخَّل فيها كمدير فُوِّض إليه أمر تنفيذ القانون يأتي بأعمال حكومية كثيرة مهمَّة ضمن دائرة استقلاله الدستوري، ولا تظهر صفة الممثِّل مثل ظهورها في المجالس الاشتراعية؛ فالشأن الذي اتَّفق لهذه المجالس هو أن تريد الأمور وتَبُتَّها وهي طليقة من كل قيد.

•••

إنَّ مسألة ملاءمة النظام التمثيلي لمبدأ السيادة القومية أو عدم ملاءمته دارتْ حول السلطة الاشتراعية على الخصوص، وقد أنكر جان جاك روسو هذه الملاءمة في كتابه الذي سمَّاه «العقد الاجتماعي»، وهذا لا يعني أنه رأى إلغاء المجالس الاشتراعية في الدول الكبيرة، بل رأى أنها ضرورية لاقتراح القوانين والمناقَشة فيها وصوغها في مواد، وإنما الذي رمى إليه هو وأتباعه هو أن لا تكون أعمال المَجالس المذكورة نهائية، وأنها ليست سوى لوائح لا تُصبح قوانين إلا بموافقة الشعب صاحب السيادة عليها رأسًا، وإليك ما جاء في كتابه المشار إليه: «لا يُمكِن تمثيل السيادة لمثْل السبب القائل بأنها لا تُباع، والإرادة العامة هي مظهَر السيادة، ولا يمكن تمثيل هذه الإرادة التي إما أن تكون وإما أن لا تكون ولا وسط بينهما، وعليه لا يكون نواب الشعب ممثِّلين للشعب، بل هم وكلاء لا يَستطيعون أن يبتُّوا الأمور على وجهٍ نهائي؛ فالقانون الذي لا يوافق الشعب عليه بنفسه لا يكون قانونًا. نعم، يظنُّ الشعب الإنكليزي أنه حرٌّ ولكنه واهمٌ في ظنه؛ فهو ليس حرًّا إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان، ولا يلبث أن يصبح عبدًا لا قيمة له بعد انتخاب هؤلاء الأعضاء، وإنَّ النظرية القائلة بالممثِّلين أمر حديث؛ فقد نشأت عن نظام الحكومة الإقطاعية الظالمة التي انحطَّ فيها الجنس البشريُّ ووُصِمَ بها اسم الإنسان، وعكس ذلك أمر الشعوب في الجمهوريات القديمة حتى الملكيات؛ حيث لم يكن لها ممثِّلون ولم تعرف هذه الكلمة.» وقال في فصل سابق: «لما كانت السيادة كنايةً عن ممارسة الإرادة العامة لا يُمكن بيعها، ولما كانت الجماعة صاحبة السيادة لا تكون ممثَّلةً إلا بنفسها، وإذا كان من الممكن أن تأتلف الإرادة الخاصة والإرادة العامة، فإنَّ من المتعذِّر أن يدوم هذا الائتلاف، وعلَّة ذلك أن الإرادة الخاصة تميل إلى التفاوت، وأنَّ الإرادة العامة تميل إلى المساواة.» إلى أن قال: «إنَّ صاحب السيادة يستطيع أن يقول: أريد الآن ما يُريده ذلك الرجل، ولكنه لا يقول: إنني أريد ما يريده غدًا؛ إذ ليس من المعقول أن يقيِّد إرادته في أمر مستقبل.»

وفي ملاحظات روسو المذكورة شيء من الصحة؛ فالقرون القديمة لا عهد لها بغير الحكومة المباشرة في مادة الاشتراع، وقد أثَّر هذا الأمر الواقع في نفس روسو كثيرًا، كما أنه أثَّر في مَنْ جاء قبله وبعده من الرجال الذين اقتبَسوا معارفهم السياسية من اليونان والرومان، ومما انتهى إليه هؤلاء هو أنَّ السلطة الاشتراعية وممارستها أمران لا يَستطيع صاحب السيادة أن ينقلهما إلى غيره، وأنه يجب على هذا الصاحب أن يَحفظ لنفسه حقَّ المُوافَقة على الأقل، ذلك ما كان يبشِّر به بودان75 على الخصوص، ولكنه هل يكفي مجرَّد عدم اطِّلاع القرون القديمة على نظام الحكومة التمثيلية لمقتِه، ولا سيما بعد أن ثبت — منذ القرن الثامن عشر — أنه يفضِّل نظام الحكومة المباشرة؟

وأول مَنْ أوضح أمر الحكومة التمثيلية هو مونتسكيو الذي — وإن كان يَستحسِن من بعض الوجوه تدخُّل الشعب صاحب السيادة تدخُّلًا مباشرًا — يأبى أن يُدير شئون السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية رأسًا، جاء في كتابِه المُسمى «روح القوانين» ما يأتي: «مما يوجب الدهشة حسن اختيار الشعب للرجال الذين يفوِّض إليهم جزأً من سلطته، وهو يجب أن لا يُترك له غير بتِّ الأمور المرئية التي لا يُمكنه أن يَجهلها؛ فهو يعلم جيدًا أن أحد الرجال قضى وقتًا كبيرًا من حياته في ساحة الحرب، وانتصر كثيرًا، وهو لهذا العلم يَقدِر على انتخاب قائدٍ. وهو يعلم أن أحد القضاة مُواظب، وأنَّ كثيرًا من الناس رضوا بأحكامه، وأنه لم يُتَّهم بالارتشاء، وهو لهذا العلم يستطيع أن يَنتخب حاكمًا. وهو يعلم أنَّ أحد الناس غني، وهو لهذا العلم يَقدر على انتخاب عمدة. هذه أمور يعرفها الشعب في المحالِّ العامة أحسن مما يعرفها الملك في قصره، ولكنه هل يستطيع أن يُدير عملًا، وأن يعرف الفرص والأحوال، وأن يستفيد منها؟ كلا.» ذلك ما قاله مونتسكيو في السلطة التنفيذية، فاسمع ما قاله في السلطة الاشتراعية: «يجب أن يُمارس الشعب في مجموعه السلطة الاشتراعية، ولكنه لما كان ذلك مُستحيلًا في الدول الكبيرة، وكان لا يخلو من محاذير كثيرة في الدول الصغيرة، اقتضى أن يفصل الشعب بواسطة ممثِّليه ما لا يستطيع أن يفعله بنفسه، وإن أكبر فائدة في الممثِّلين هو أنهم يقدرون على المناقشة في الأمور التي يقدر الشعب على التدقيق فيها.»

وقد فصَّل دولولم76 — الذي جاء بعد روسو — نظرية مونتسكيو أكثر من ذي قبل؛ فقد أثبت أن تصويت الشعب للقوانين تصويتًا مباشرًا لا يمنح الشعب سلطة نافعة، ومما قاله: «إنَّ سواد الناس — وقد شغلتْهم أمور العيش — ليسوا ذوي معرفة تكفي لبتِّ تلك الأمور، ثم إنَّ الطبيعة الضنينة بمنح المواهب لم تمنَح سوى قليل من الناس أدمغة قادرة على فهم دقائق الاشتراع، فكما أن المريض يَكِلُ أمره إلى طبيب، وكما أن المتقاضي يَكِلُ دعواه إلى محامٍ، كذلك يجب على أكثر أبناء الوطن أن يَكِلُوا تنفيذ الأمور إلى مَنْ يرونهم أقدر منهم عليه.»
ومثل ذلك ما أتى به سيايس77 — على رغم قلَّة إعجابه — بالدستور الإنكليزي، فقد بيَّن ضرورة الحكومة التمثيلية في أمر الاشتراع، وأسهب في مدح فوائدها بالنسبة إلى الحكومة المباشرة، فإليك ما جاء في خطبته التي ألقاها في سنة ١٧٨٩ في المَجلس التأسيسي الفرنسي: «قلَّما تشبه شعوب أوربة الحديثة شعوب القرون القديمة؛ ففي هذه الأيام لا يبالَى بغير التجارة والزراعة والصناعة، وإنَّ الشوق إلى الثروات يجعل دول أوربة كنايةً عن مصانع واسعة على ما يظهَر، وفي هذه المصانع الكبيرة يُفكَّر في الإنتاج والاستهلاك أكثر ممَّا في السعادة؛ ولذا ترانا مجبورين على أن لا نرى في سواد الناس سوى آلاتِ للعمل، ومع ذلك لا تَستطيعون أن تحرموا هذه الجموع غير المتعلِّمة المُنهمِكة في الشغل صفة الوطني والتمتُّع بالحقوق الوطنية، والعلَّة هي أنها لما كانت مُكرَهة على إطاعة القانون وجب أن تَشترك في سَنِّه، ويُمكن أن يقع هذا الاشتراك على وجهتين: إما أن يَعتمد أبناء البلاد من غير أن يبيعوا حقوقهم على أُناسٍ مُقتدرين منهم، وأن يوكلوهم بممارسة تلك الحقوق، وإما أن يمارسوا بأنفسهم حقوقهم في وضع القوانين، والفرق بين هذين النظامين السياسيين عظيم إلى الغاية، وإنَّا لا نتردَّد في اختيار أحدهما؛ فأولًا: لأن أكثرية الفرنسيِّين العظمى لم تكن من العلم على جانب يجعلها تُبالي رأسًا بالقوانين التي يجب أن تسود فرنسا. وثانيًا: لأنَّ ما تضعه هذه الأكثرية بنفسها من القوانين السارية على ستة وعشرين مليونًا من الناس لا يكون صائبًا أبدًا.»

وإني ألخِّص في بضع كلمات تلك الأدلة المنطقية التي قيلتْ ضد نظام حكومة الشعب المُباشرة في أمر الاشتراع، فأقول: إنَّ هذا النظام ذو محاذير كثيرة في الأساس وفي الشكل، هو فاسد من حيث الأساس؛ لأنَّ أكثرية أبناء الوطن القادرة على اختيار الممثلين وتعيين وجهة الاشتراع والحكومة عاجزة عن تقدير القوانين أو لوائح القوانين التي تُعْرَض عليها، وعلَّة هذا العجز هي كونها عاطلةً عن علم تتمكَّن به من فهم اللوائح القانونية ووقت كافٍ لدرسها، فلو عُرِضَ قانون في التجارة وقانون في البحرية على القرويِّين وسكان الجبال مثلًا لحدَث أحدُ الأمرين؛ إما أن تقترع أكثرية هؤلاء له بلا قيد ولا شرط من غير أن تفقه معناه. وإما أن تَرفضه مع احتمال إصابته بسبب بعض الاعتبارات الثانوية الناشئة عما في نفوس الشعب مِن أوهام وأضاليل.

وليس نظام الحكومة المُباشرة بأقل فسادًا من ذلك في الشكل؛ فهو يُقصي — قبل كل شيء — أيَّ مناقشة مؤثِّرة أمام الهيئة التي يقتضى أن تقترع للقانون اقتراعًا نهائيًّا. نعم، إنَّ مناقشة كهذه كانت ممكنة في الجمهوريات الصغيرة القديمة؛ حيث كان مجلس الشعب كله يقدر على الاجتماع في مكان عام، وحول منبر الخطابة الذي كان يصعده أشهر أبناء الوطن وأخطب خطباء الأمة، ولكنَّ مناقشة مثل هذه تتعذَّر في ألوف المجالس الابتدائية التي تنقسم إليها الأمة الكبيرة بحكم الطبيعة للقيام بأمر الاقتراع، ولا يُعتَرض على ذلك بأن يُقال: إنَّ للمُجتمعات الحديثة في الصحف اليومية وسيلة استخبار ومناقشة أشدَّ تأثيرًا من خُطَبِ الخطباء في القرون القديمة بألف مرة، فصوتُ الصحف غير كافٍ لتثقيف الشعب في أمر القوانين التي تُعْرَض للمناقشة فيها؛ لأن الرجل العاميَّ إذا طالع صحفًا فعلى وجه متقطِّع، ويقتصر على صحيفة واحدة، الأمر الذي لا يَقف به على اختلاف الآراء في القانون، ثم إنَّ التجربة تدلُّ على أن المناقشات التي تجيء في الصحف المُعدَّة لطبقات العامة سطحية مملوءة بالعواطف، وفضلًا عن ذلك نرى لنظام الحكومة المباشرة محذورًا آخر؛ وهو أن الذي يُعْرَض على الشعب هو القانون ككلٍّ لا يتجزَّأ، وذلك خوف الوقوع في ما تؤدي إليه المناقَشة الشعبية في القانون مادةً مادة من صعوبات لا تُقتحم، والاقتراع في مثل هذه الأحوال لا يقع بحرِّية؛ فالمُقترِع يرى نفسه إزاء أحد الأمرَين؛ إما أن يرفض القانون الذي يراه صائبًا في مجموعه بسبب مادة فيه يَعتقد أنها مما لا يُسلِّم به، وإما أن يَرضى بهذه المادة خشية رفض القانون كله.

على أنه يُمكن أن يُعترض على ذلك بأن يقال: إنَّ نظام الحكومة المُباشرة محتوٍ على فوائده الخاصة به، وعلى ما في الحكومة التمثيلية من ضمانات؛ أي: إنَّ الشعب لا يَقترع به مباشرةً إلا للقوانين التي تناقشت المجالس التمثيلية فيها مقدَّمًا، وإنَّ عرْضَها على الشعب هو من قبيل الاحتياط والتحفُّظ.

يَنطوي تحت هذا الأمر الصالح في الظاهر محاذيرُ حقيقية؛ فهو أولًا قد يؤدِّي إلى وقف الإصلاحات المعقولة وسير الاشتراع، فما أكثر القوانين الصالحة التي حبطت في سويسرة أمام نظام الاستفتاء العام المُسمَّى بالرفرندم،78 ثم إنه قد يؤدِّي إلى تقليل قيمة المجهودات المفيدة في المجالس التمثيلية، فهذه المجالس تميل — بحكم الطبع — إلى اختصار المناقشات الاشتراعية وتضييق دائرة الأعمال التمهيدية؛ لما يَعتوِرُها — إذ ذاك — من عدم الوثوق بنتيجة مساعيها؛ أي بأن القانون الذي يُحكم وضعه لا يحيط بفعل أحد الأوهام الشعبية، وقد ينشأ عنه أن تضع أكثرية المجلس بعض تدابير خَطِرة في المستقبل، على رغم ما تُدْخِله هذه التدابير من سرور مؤقَّت إلى نفوس الشعب، مُعتمدةً في ذلك على أن اقتراع الشعب لها يُخلصها من كل تبعة في سَنِّها.

ويمكن أن نتصوَّر تدخُّل الأمة المباشر في الاشتراع على شكل آخر وهو المُسمَّى في بعض الأحيان بالاستفتاء الاستشاري (الرفرندم الاستشاري)؛ فالمُشترع بحسب هذا الشكل يَعرض المبدأ الإصلاحي الذي اختلفَت الأحزاب فيه على الأمة رأسًا لتُبْدِي رأيها فيه، وما هي فائدة هذا الاستفتاء إن لم تكن فرار أكثرية المجالس من المسئولية الأدبية التي يجب أن تتحمَّلها في نظام الحكومة التمثيلية؟ يجب أن يُسْكَبَ المبدأ المذكور في قالب قانون؛ وذلك بعد أن تقترع له الأمة، وكيف يوثق بأن الشكل الذي يضعه فيه المشترع يكون ملائمًا تمامًا لرغائب الأكثرية التي اقترعت له؟ أوَلَا يكون تنزُّل المجالس الاشتراعية المذكورة بحجَّة حسم النزاع بين الأحزاب مصدرًا لتعقيد الأمور ومنشأً لمنازعات جديدة؟

ولقد قيل باستفتاء الأمة المباشر في القوانين الدستورية، وبأنَّ الحكومة التمثيلية التي رُؤي كفايتها في سَنِّ القوانين العادية لا تَكفي لوضع القوانين الدستورية، والسبب الرئيس الذي أُبْدِيَ في هذا الباب هو أنَّ الدستور لما كان أساس كل القوانين، وكان هو الذي تقول فيه الأمة بنظام الحكومة التمثيلية بدلًا من نظام الحكومة المُباشرة، وكان هو الذي تُوافق فيه على التفويض بسلطتها الاشتراعية وجب أن تجيزه، ولكن هذا الرأي الذي كان ذا تأثير كبير نشأ بالحقيقة من وهمٍ تطرَّق إلى كُتَّاب القرن الثامن عشر، فأكثر هؤلاء الكُتَّاب — مع استصوابهم نظام الحكومة التمثيلية في وضع القوانين العادية — رفضوا تطبيقه في سَنِّ الدساتير، وعلَّة الأمر هي اعتبارهم الدساتير كعقد اجتماعي حقيقي مؤسِّس للدولة نفسها، غير أن هذا المذهب فاسد، فغاية الدستور ليست تأسيس الدولة التي تنشأ عن ارتقاء الأمة بحكم الطبيعة، وإنما غايتُه تعيين شكل الدولة والحكومة، ولو نظرنا إلى الأساس لرأينا أنه لا فرق بين القوانين الدستورية والقوانين الأخرى، وأنَّ منْح الدساتير شيئًا من الثبات والقوة يجعلها في معزل عن سلطة المشترع العادي أمرٍ مصنوع، ولا نُنكر أنَّ الخطأ في وضع الدستور أشدُّ خطرًا منه في القانون العادي، وأنه يصعب تلافيه، وأنه لهذا السبب يجب أن يكون في حرزٍ من تعدِّي المشترع العادي، إلا أنه يوجد في الأحوال الخاصة التي يُسَنُّ الدستور فيها ضمانٌ كافٍ لصيانته.

تلك هي المسألة من حيث المبادئ المجرَّدة، وهنا يجب الرجوع إلى التاريخ أيضًا؛ فقد طُبِّقت الحكومة المباشرة في الأزمنة الحديثة في الدول الثلاث: فرنسا وأميركا وسويسرة، ولا يخلو البحث في ذلك من فائدة.

•••

طبَّقت فرنسا نظام الاستفتاء الشعبي عدة مرات في سَنِّ القوانين الدستورية، وأول مجلس قال باتخاذ هذا النظام في فرنسا هو مجلس العهد؛ وبيان ذلك أن المجلس التأسيسي الفرنسي الأول كان يميل إلى نظام الحكومة التمثيلية، فلم يفكر في عرض دستور سنة ١٧٩١ على الشعب، ولكن مجلس العهد منذ جلسته الأولى — أي في ٢١ سبتمبر سنة ١٧٩٢ — ذهب إلى أن الدستور عقد اجتماعي، فاقترع بالإجماع للاقتراح الآتي؛ وهو: «أنَّ مجلس العهد الوطني يُعلن أنه لا دستور بلا موافقة الأمة.» وقد استمرَّ تأثير هذا المبدأ كثيرًا؛ فقد طُبِّق على دستور ٢٤ يونيه سنة ١٧٩٣ ودستور ٥ فروكتيدور من السنة الثالثة، اللذَين صوَّت لهما مجلس العهد، وعلى دستور ٢٢ فريمير من السنة الثامنة.

وقد استُفتيَ الشعب في جعل القنصلية مدى الحياة، وفي إقامة الإمبراطورية فأفتى بهما بالتعاقب، ولكن دستور سنة ١٨١٤ قام على مبدأ آخَر؛ فهو — مع وضعه من قِبَل لجنة انتُخب أكثرها من أعضاء مجلس الشيوخ والهيئة الاشتراعية — ذهَب إلى أنه منحةٌ من الملك، ولكنه لما سُنَّ دستور الإمبراطورية الإضافي قال مرسوم ٢٢–٢٥ أبريل سنة ١٨١٥ بعرضِه على الأمة الفرنسية، وبعد ثورة سنة ١٨٣٠ أعيد النظر في دستور سنة ١٨١٤ حسب نظام الحكومة التمثيلية؛ أي من قِبَل مجلس النواب ومجلس الشيوخ؛ وذلك من غير أن يطلب أحدٌ اتِّباع شريعة الدور الثوري والدور الإمبراطوري القائلة باستفتاء الشعب في الدساتير، وفي سنة ١٨٤٨ لما وضَع المَجلس التأسيسيُّ الفرنسي دستورًا جديدًا لم يفكِّر في عرضه على الشعب ليُبدي رأيه فيه.

وفي ٢ ديسمبر سنة ١٨٥١ أُسْقِطَ المَجلس الاشتراعي فظهر نظام الحكومة المُباشرة؛ إذ طلب رئيس الجمهورية لويس نابليون إلى الأمة أن تُفوِّضَ إليه سلطة كافية لسنِّ دستور حسب القواعد التي ذكرها في منشوره، فوافقتْه الأمة على ذلك بأكثرية غالبة (٧٥٠٠٠٠٠ صوت)، وُضِعَ هذا الدستور، فجاء فيه أنَّ مجلس الشيوخ يستطيع في المستقبل أن يقترح تعديله، وأن هذا التعديل يصبح نافذًا بعد موافقة السلطة التنفيذية عليه؛ وذلك بشرط أن «تُسْتَفْتَى الأمة في كل تعديل يمس مبادئ الدستور الأساسية التي جاءت في منشور ٢ ديسمبر ووافقت عليها الأمة الفرنسية.» على هذه المبادئ استُفْتِيَ الشعب في شهر نوفمبر سنة ١٨٥٢ في مسألة إقامة النظام الإمبراطوري، واستُفْتِيَ في دستور الإمبراطورية الذي وُضِعَ في سنة ١٨٧٠.

ولكنه حينما اقترع المَجلس الوطني الفرنسي في سنة ١٨٧٥ لقوانين فرنسا الدستورية استند إلى السيادة التي ذهَب إلى وجودها فيه ولم يُفكِّر قطُّ في استفتاء الشعب فيها.

ولو أردنا أن نقدِّر نظام الحكومة المباشرة في فرنسا — وذلك بعد النظر إلى الحوادث المذكورة — لرأينا أنه لم يتفق له تأثير يتمكَّن به من منح الدساتير ما تتطلَّبه من الدوام والقوة؛ فمن هذه الدساتير نذكر دستور سنة ١٧٩٣ الذي لم يُنفَّذ قط، ودستور الإمبراطورية الإضافي الذي لم يطبَّق على وجه التقريب، ودستور سنة ١٨٧٠ الذي لم يَعِشْ سوى ثلاثة أشهر.

•••

وفي الولايات المُتَّحدة الأمريكية اتُّخِذَ التصويت الشعبي في الاقتراع للقوانين الدستورية أو العادية، وليس هذا الأمر حديث العهد فيها؛ فقد طبَّقته مُستعمَرات إنكلترة الأميركية الشمالية قبل إعلان استقلالها، ومنها نذكر المستعمَرات التي أسَّسها أنصار المذهب البيوريتاني، والتي كان يحقُّ لكل واحد من أبنائها أن يشترك في انتخاب القُضاة، وفي الاقتراع للقوانين رأسًا، ولكن مدة هذا الطور الحقوقي لم تستمرَّ كثيرًا؛ إذ لم يلبث أبناء البلاد أن صاروا ينتخبون نوابًا ذوي حقٍّ في الاشتراع مكانهم؛ وذلك من غير أن يتخلوا عن حقوقهم في انتخاب القُضاة، ولما أعلن الأميركيون استقلالهم كان نظام الحكومة التمثيلية سائدًا للمُستعمَرات الأميركية، ومِن الولايات الثلاث عشرة التي تألَّف منها الاتحاد الأميركي في البداءة لم تَعرض ولاية دستورها الأول على الشعب ليُبدي رأيه فيه سوى ماساشوزيت79 ونيوهامبشير،80 وفي سنة ١٨٢١ لما أرادت مقاطعة نيويورك أن تُعيد النظر في دستورها سلكت سبيلها ففتحت باب حركة لم تلبثْ أن تسرَّبت في المقاطعات الأخرى، واليوم يبرز مبدأ الاقتراع الشعبي في الولايات المتَّحدة كما يأتي:
  • أولًا: إنَّ المجلس التأسيسي هو الذي يقوم بإعادة النظر في مجموع الدستور، وقد تُرِكَ حق اقتراح إعادة النظر للمجلس الاشتراعي في المقاطَعة على أن يستفتي هذا المجلس الشعب في هل يجب أن يُجْمَعَ مجلس تأسيسي أم لا؟
  • ثانيًا: عندما يقولُ الشعب بجمع مجلس تأسيسي ويضع هذا المجلس دستورًا جديدًا يجب أن يُعْرَضَ هذا الدستور على الشعب ليَقترع له أو عليه.
  • ثالثًا: عندما يُرَى تعديل جزء من الدستور يقوم المجلس الاشتراعي باقتراح هذا التعديل وصوغه ثم يُسْتَفْتَى الشعب فيه رأسًا.

إنَّ لاستفتاء الشعب في أمر الدستور أهميةً كبيرةً في الولايات المتحدة؛ فدساتير هذه الولايات لا تحتوي على القواعد التي تتألَّف منها الحقوق الدستورية فقط، بل تشتمل أيضًا على قواعد تخص الحقوق المدنية والجزائية والإدارية، وهي بذلك تُضيِّق دائرة سير المشترع العادي، ويتألَّف منها قانون شامل لمبادئ الاشتراع الجوهرية كلها؛ والسبب في ذلك هو سوء الظن بالمشترع، والرغبة في استفتاء الشعب في كثير من الأمور.

ويوجد — عدا الأمور المذكورة — دساتير في الولايات المتَّحدة تقول باستفتاء الشعب في بعض القوانين استفتاءً إلزاميًّا؛ ومن ذلك نص دستور رود أيلاند81 على ضرورة استفتاء الشعب في كل قرض يُجاوز مبلغًا معيَّنًا، ومنه نصَّ بعضُ الدساتير على ضرورة استفتاء الشعب في إصدار الأوراق النقدية، وفي كل قانون يوسِّع حق التصويت … إلخ.

ومما هو جدير بالذكر أنَّ سير الولايات المتحدة نحو مبدأ الاستفتاء الشعبي المباشر يتعلَّق بالولايات الخاصة دون دولة الاتحاد، فكما أن القوانين التي يقترع لها المؤتمر لا يُسْتَفْتَى فيها الشعب، فهو لا يُسْتَفْتَى في أي تعديل يطرأ على الدستور أيضًا، والمؤتمر هو الذي يَقترع لهذه التعديلات ثم تُعْرَض على المجالس الاشتراعية في الولايات الخاصة لتُوافق عليها.

•••

وسويسرة في أيامنا هي الموطن الحقيقيُّ للاشتراع الشعبي المباشر؛ فهذا النظام سائدٌ لحكومات مقاطعاتها ولحكومتها الاتحادية، وهو لما اتُّخذ فيها كان السبيل ممهَّدًا؛ إذ كان قد أُتِيَ فيما مضى بتطبيقات عليه، وإن استندت هذه التطبيقات إلى مبادئ أخرى.

كان في القرون القديمة مجالس عامة مؤلَّفة من أبناء الوطن الراشدين تُمارس السيادة في المقاطَعات أوري82 وشويتز83 وأبوالدن84 ونيدوالدن85 وجيرسو86 وزوغ87 وغلاريس88 وأبانزيل رود،89 فهذه المجالس — التي كانت تجتمع في أدوار معيَّنة في الساحات العامة المكشوفة — كانت تزاول نظام الحكومة المباشرة، فتقترع للقوانين، وتبتُّ المسائل التي تمسُّ المصلحة العامة، وتنتخب ما يلائم هذا النظام الديمقراطي من القضاة، وفي الوقت الحاضر جرى البحث في تاريخ المقاطَعات المذكورة بشوق واحترام، لا من قِبَلِ السويسريين الذين يَرونها مبشِّرة بنظامهم الديمقراطي الحديث فقط، بل أيضًا من قِبَلِ الأنغلوسكسونيين الذين يعدُّونها أساس الحرية الجرمانية البعيد، ويَعتبرون أنفسهم وارثي تلك الحرية، وممثِّلين لها.
وهنالك مقاطعات أهم مِن تلك كانت في بعض الأحوال تُطبِّق نظام الحكومة المباشرة، ولكن على وجه آخر، ومن هذه المقاطعات نذكُر مقاطعة برن90 التي كانت حكومتها في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر تَستشير رعاياها في الأحوال الصعبة.
وقد كان لتحالُف المقاطعات السويسرية القديم مجلس ممثِّل لهذه المقاطعات، وكان يُسمى الديات؛91 فهذا المجلس كان يَشترك فيه نائبان عن كل مقاطعة، وكانت وكالة هؤلاء النواب مقيَّدة، فكانوا لا يستطيعون أن يَحيدوا عنها قيد شعرة من غير أن يستأذنوا مقاطعاتهم، وكانت مُقرَّرات مجلس الديات لا تُصبح إلزامية إلا بالإجماع.
كان الشعب السويسري يُمكنه أن يتعوَّد بتلك المجالس العامة نظام الحكومة المباشرة، ولكنَّ المجالس المذكورة كانت غير مرغوب فيها، وكانت المقاطعات المتَّخذة لها تتدرَّج إلى اقتفاء أثر المقاطعات الأخرى بدلًا من أن تكون قدوةً لها، والحقيقة أنَّ الثورة الفرنسية هي التي أثَّرت في المقاطعات السويسرية بما أذاعته من المبادئ والنظريات، فاسمع ما قاله كورتي92 في الدستور السويسري الذي سُنَّ في ٢٠ مايو سنة ١٨٠٢: «إنَّ هذا الدستور هو أول دستور اقترع له الشعب السويسري، وبه أُدْخِلَ إلى سويسرة مبدأ الرفرندم الدستوري أول مرة كما أُدْخِلَ إلى فرنسا قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات، فبعد أن نظم مجلس الأعيان الدستور المذكور استفتى فيه أبناء الوطن السويسري الذين لا تقلُّ أعمارهم عن عشرين سنة، وقد وقَع الاقتراع في شأنه في الكُوَر، وكان يمكن أبناء الوطن أن يصوِّتوا له أو عليه في سجل هذه الكور في مدة أربعة أيام.»

لا ريب في أن النفوذ الفرنسي هو الذي أملى تلك الطريقة، ولا فرقَ بينها وبين الأسلوب الذي سارت عليه فرنسا في استفتاء سنة ١٨٠٢ وسنة ١٨٠٤، وسرعان ما آتت الطريقة المذكورة أُكُلها؛ فقد ذهبت سويسرة بعدئذٍ إلى المبدأ القائل بضرورة استفتاء الشعب في شأن كل دستور، كما هو الواقع في الولايات التي يتألَّف منها الاتحاد الأميركي.

وأما تطبيق نظام الاشتراع الشعبي على القوانين العادية، فقد ظهر أول مرة سنة ١٨٣٠–١٨٣١ في مقاطعة سنت غال وفي المجلس الذي عُهِدَ إليه في تعديل دستور هذه المقاطعة؛ وذلك على أثر الثورة التي اشتعلت في فرنسا في السنة المذكورة، وقد وقع جدال حامي الوطيس بين أنصار النظام التمثيلي المحض وبين الديموقراطيين الذين كانوا يرون أن يُعرض كل قانون على الشعب ليوافق عليه، والنتيجة التي نشأت عن هذا الجدال هو أنه تقرَّر مبدأ الرفض الشعبي الذي نُصَّ عليه في الدستور الجديد بالعبارة الآتية وهي: «إنَّ للشعب حقًّا في إبداء استحسانه لأي قانون في مدة معينة، وفي إبداء رفضه لهذا القانون في المدة المذكورة.»

تلك بدعة جديدة، ومَنْ يودُّ أن يَعرف مصدرها فليبحث في غضون الآراء التي قيلت في أثناء الثورة الفرنسية، لا في غضون الأنظمة الديموقراطية السويسرية القديمة، ولا في غضون مجالس الشعب الرومانية، ولم تلبث هذه البدعة أن انتشرت؛ فقد قالت بها مقاطعة بال93 في سنة ١٨٣٢، وقالت بها مقاطعة فاليه94 في سنة ١٨٣٩، وقالت بها مقاطعة لوسرن95 في سنة ١٨٤١، غير أنه أصابها في سنة ١٨٤٢ شيء من الفشل والوقوف؛ إذ رفضتها مقاطعة زوريخ96 المهمة بعد مجادلات عنيفة، ثم استأنفت سيرها لابسةً شكلًا جديدًا؛ ففي سنة ١٨٤٥ اعتنقت مقاطعة فود97 مبدأ الرفرندم الشعبي الاختياري، على أن يكون أمر الرجوع إليه منوطًا بالمجلس الكبير، وإن شئت فقل: بالمجلس الاشتراعي، وما هو المؤثِّر في اتخاذ هذا المبدأ في هذه المرة؟ كان المؤثِّر هو الثورة الفرنسية أيضًا؛ وذلك بحسب شهادة شهود العيان.
وعلى ما تقدَّم تكون عناصر الاستفتاء الشعبي الأساسية قد تسرَّبت بالتدريج في المقاطعات السويسرية، ولما تحول التعاهُد السويسري في سنة ١٨٤٨ إلى دولة اتحادية اتخذ دستور سنة ١٨٤٨ نظام الحكومة التمثيلية، وقد نشأ عن ذلك بطءٌ في انتشار طريقة الاشتراع الشعبي المباشر في المقاطعات، وإنَّا إذا استثنَينا مقاطعة فريبورغ98 نرى اليوم أنَّ نظام الحكومة التمثيلية غاب عن كل مقاطعة سويسرية، وأنَّ الفوز كُتِبَ لنظام الحكومة المباشرة.
ولتدخُّل الشعب في مسألة الاشتراع في سويسرة طرق وأشكال مختلفة، وإليكها:
  • أولًا: طريقة الرفض الشعبي؛ فهذه الطريقة التي كان أول ظهورها في مقاطعة سنت غال99 تقول بأنه إذا أعلَنَ فريق معيَّن من أبناء الوطن في مدة محدودة دستوريًّا أنه يعارض قانونًا سنَّه المجلس الاشتراعي يُسْتَفْتَى الشعب في هذا القانون، وللشعب حينئذٍ أن يرفضه أو يستحسنه، والقانون — لكي يتمَّ رفضه بحسب هذه الطريقة — يجب أن يقترع عليه أكثرية الناخبين، وعند إفراز الأصوات تقول هذه الطريقة بأن يُعتبر المُمتنعون عن الاقتراع من فريق المقترعين للقانون.
  • ثانيًا: طريقة الرفرندم، فهذه الطريقة حيث قيل بها ضرورية لتمام القانون؛ فالقانون في المقاطعات التي اعتنقَت نظام الرفرندم لا يُصبح قانونًا بمجرد اقتراع المجلس الاشتراعي له، ثم إنه في نظام الرفرندم يُنْظَر عند إفراز الأصوات إلى عدد المقترعين للقانون وعليه، ولا يُنْظَر إلى الممتنعين عن الاقتراع، ولطريقة الرفرندم شكلان مختلفان؛ الأول شكل الرفرندم الإلزامي القائل بأن القانون لا يَصير قانونًا إلا بعد أن يوافق الشعب عليه، والشعب بموجب هذا الشكل يجتمع مرةً أو مرتين في السنة ليُفْتِيَ في القوانين التي وضع المجلس الاشتراعي لوائحها في أثناء المدة التي تمرُّ بين اجتماعين، وأما الشكل الثاني فهو شكل الرفرندم الاختياري القائل بأن يُنشر القانون الذي يضعه المجلس الاشتراعي، ويرى هذا المجلس أن يَستشير البلاد فيه، فإذا رأى فريق من أبناء الوطن في مدة محدَّدة دستوريًّا أن يستفتي الشعب في القانون المذكور يعرضه عليه، وإلا يُصبح القانون معمولًا به.
  • ثالثًا: طريقة الاقتراح الشعبي؛ فهذه الطريقة تمنح أي زمرة من أبناء الوطن — معيَّن عددها دستوريًّا — الحق في المطالبة باستفتاء الشعب في أيِّ إصلاح اشتراعي تقترحه، ولهذه الطريقة أشكال مختلفة؛ ففي الغالب تُكرِه الزمرة المذكورة المجلس الاشتراعي؛ إما على تنظيم قانون في الموضوع الذي تقترحه، وإما عند رفضه، على أن يُسأل الشعب هل يود أن يُشتَرع في الموضوع المذكور؟ والمجلس الاشتراعي في كلا الحالين هو الذي ينظِّم القانون، ولكن هنالك دساتير أخرى تسمح لأبناء الوطن — الذين يبلغ عددهم النصاب المقرر دستوريًّا — بأن ينظموا أي لائحة قانونية، وبأن يعرضوها على المجلس الاشتراعي الذي يجب عليه إذ ذاك أن يستفتي الشعب فيها، وللمجلس حينئذٍ أن يُرفق تلك اللائحة بلائحة مختلفة من عنده، على أن يُبْدِيَ أسباب معارضته فيها.

وهذه التحولات الأساسية التي حدثت في دساتير المستعمَرات أثَّرت في دستور دولة الاتحاد، فمع أنَّ دستور سنة ١٨٤٨ لم يقُل بتدخُّل الشعب في أمر الدستور تدخُّلًا مباشرًا ذهب إلى تدخُّله على شكلين؛ فمِن جهة قرَّر وجوب موافقة الشعب على كل دستور جديد أو كل تعديل ينال الدستور، ومن جهة أخرى قال بأن يكون للشعب شيء من حق الاقتراح؛ أي أن لا يكون الشعب حَكمًا عند اختلاف مجلسَي دولة الاتحاد في وجوب تعديل الدستور وعدم وجوبه فقط، بل أن يستطيع أيضًا كل خمسين ألفًا من أبناء الوطن أن يطلبوا سؤال الشعب في هل يقتضى تعديل الدستور أم لا؟ والمجلسان هما اللذان يكتبان نصوص الدستور الجديدة.

وقد رُؤي في سنة ١٨٧٢ تعديل الدستور، فبُذِلَ كثير من المساعي في سبيل إدخال المبادئ التي تسرَّبت في مختلف المقاطعات إلى عالم الاشتراع الاتحادي، واللائحة التي وافَق عليها المجلسان إذ ذاك تضمَّنت المبدأين الآتيَين؛ وهما: أولًا تطبيق نظام الرفرندم على قوانين الاتحاد إذا طلب ذلك خمسون ألفًا من أبناء الوطن أو خمس مقاطعات. ثانيًا الاعتراف للشعب بشيء من حق الاقتراح، غير أن الشعب لم يوافق على الدستور الذي عُدِّلَ على هذا الوجه، فاضطرَّ المَجلسان حينئذٍ إلى استئناف العمل، فنظَّما لائحةً جديدة، وقد أصبحت هذه اللائحة دستورًا في ٢٩ مايو سنة ١٨٧٤ بعد أن اقترع الشعب لها، وقد قال هذا الدستور بنظام الرفرندم الاختياري في أمر القوانين الاتحادية، ولم يذهب إلى مبدأ الاقتراح الشعبي في أمر تلك القوانين، وإنما حافظ على حقِّ الاقتراح الشعبي في أمر الدستور.

قلنا: إنَّ دستور سنة ١٨٤٨ نصَّ على أنَّ كلَّ خمسين ألف سويسري يَستطيع أن يُكْرِهَ المجلس الاتحادي على عرض مسألة تعديل الدستور على الشعب ليُبدي رأيه فيها، غير أنه سُئل هل يسمح هذا النص بأن يُقترح تعديل الدستور تعديلًا جزئيًّا؟ وقد اتُّخذ هذا السؤال علَّةً لتقرير المبدأ القائل بحقِّ الشعب في الاقتراح الجزئي الذي اتَّفق عليه مختلف الأحزاب على ما يظهر؛ ففي سنة ١٨٩١ اقترع المجلسان لتعديل المواد: ١١٨ و١١٩ و١٢١ من الدستور السويسري، وجاء في المادة ١٢١ المعدَّلة أنه يحق للشعب أن يقترح تعديل الدستور تعديلًا جزئيًّا، ولما عُرِضَ هذا التعديل على الشعب وافَقَ عليه في ٥ يوليه سنة ١٨٩١.

ويظهر أنَّ مبدأ الرفرندم الشعبي يتسرَّب في حكومات العنصر الإنكليزي الديموقراطية، وأقصد بهذه الحكومات مستعمَرات أوستراليا؛ ففي سنة ١٨٩٦ وضعت حكومة أوستراليا الجنوبية لوائح قانونية في الرفرندم، فاقترع لها مجلس النواب ورفَضها مجلس الشيوخ، ومثل هذا ما حدث في سنة ١٨٩٧ في فكتورية ونيوساوث ويلس، وفي سنة ١٨٩٨ اقترحت حكومة نيوساوث ويلس أن تعدَّل تلك اللوائح التي رُفِضَت تعديلًا قائلًا بأن يُسْتَفْتَى الشعب عند اختلاف مجلسي الاتحاد، ودستور حكومة أوستراليا الاتحادية الذي سُنَّ في سنة ١٩٠٢ هو الذي قال بنظام الرفرندم.

إذًا يبدو الرفرندم الاشتراعي كهدفٍ ترمي إليه النظم الديموقراطية في الوقت الحاضر، ومما يستوقف النظر ظهوره بمظهر الساحر للنفوس المحافظة أيضًا؛ فقد جاء في لائحة تعديل الدستور التي عرضتْها الوزارة البلجيكية باسم التاج في ١ فبراير سنة ١٨٩٢ أنه يحقُّ للملك أن يستفتي الشعب قبل أن يَرفض موافقته على لائحة اقترع لها المَجلسان، إلا أنه ثار حول هذا الامتياز الذي أريد منحه للتاج كثير من الاعتراضات؛ فترك الاقتراح الذي كان يرمي إليه تركًا نهائيًّا.

وعندما بُحِثَ سنة ١٩١١ في سلطات مجلس اللوردات الإنكليزي التي ذكرناها في فصل سابق وُجِدَ مَنْ قال بإدخال الرفرندم الاشتراعي إلى إنكلترة، وقد ذكره كثير من الخطباء في مجلس النواب بحماسة، وفي سنة ١٩١٧ عُقِدَ مؤتمر للبحث في مختلف اللوائح التي قُصِدَ بها حلُّ ما يقع بين مجلس النواب ومجلس اللوردات من الاختلاف، فذهبت لجنة إصلاح مجلس اللوردات إلى حلِّ ذلك الاختلاف حسب طريقة الرفرندم الشعبي، غير أنه جاء في تقرير اللورد بريس المؤرَّخ في ١٤ أبريل سنة ١٩١٨: «أنَّ أكثرية المؤتمر عارضت طريقة الرفرندم خشية عدم انحصارها في المستقبل في الدائرة التي اقتُرِحَت لأجلها، وخشيةَ أن يؤدي هذا التوسُّع إلى تقليل سلطة البرلمان واحترامه وتقديرًا لعدم ملاءمته لمملكة كبيرة كإنكلترة.»

ثم إن دستور ألمانيا الذي سُنَّ في سنة ١٩١٩ قال بنظام الرفرندم الاختياري وبمبدأ الاقتراح الشعبي؛ إذ نصَّ على أنَّ رئيس الإمبراطورية يستطيع في مدة شهر — بعد اقتراع الريشتاغ لأحد القوانين — أن يقرِّر استفتاء الشعب في هذا القانون، وعلى أنه يجب استفتاء الشعب في القانون عندما يَطلب ثلث أعضاء الريشتاغ تأجيل نشره، ويطلب نصف عُشْر الناخبين عرضه على الشعب ليُبدي رأيه فيه.

ثمَّ إنَّ الدستور المذكور نصَّ على أنه يحق لعُشْر الناخبين أن يَطلبوا إلى الحكومة أن تعرض على المجلس لائحةً قانونية، فإذا اقترع هذا المجلس اللائحة المذكورة من غير تعديل، فلا يَبقى محلُّ لاستفتاء الأمة فيها، وإذا عدَّلها أو رفضها وجب عرضها على الأمة لتقول كلمتها فيها، والميزانيات وقوانين الضرائب والرواتب العامَّة وحدها هي التي لا يُمكن استفتاء الشعب فيها إلا إذا رأى رئيس الإمبراطورية ذلك.

وكيف يُمكن تفسير هذه الحظوة التي يتمتَّع بها نظام الرفرندم لا بين الديموقراطيين وحدهم بل بين خصومهم أيضًا؟ يظهر أن سبب إقبال هؤلاء عليه ناشئ عن كون الشعب في البلدان التي تطبِّق نظام الحكومة المباشرة لم تُمارسه إلا برُوح محافظة؛ ذلك ما يُشاهَد في أميركا وفي سويسرة، بَيْدَ أننا نرى في هذا التفسير شيئًا من البساطة وعدم التدقيق؛ فلو نظرنا إلى الاشتراع السويسري الاتحادي منذ أصبح ديموقراطيًّا تمامًا لاتضح لنا أنه إذا كان تطبيق مبدأ الرفرندم عليه لم يؤدِّ من حيث المجموع إلا إلى مساوئ قليلة، فإنه حال دون إنجاز كثير من الأمور النافعة، وإنه — كما يَعترف به بعض أنصاره — مُتَّصف بالمساوئ التي يراها فيه أشياع نظام الحكومة التمثيلية.

نعم، ظهر الشعب على العموم بمظهر المحافظ الحامي لاستقلال المقاطعات، المقتصد في الأموال العامة، ومِن هذا القبيل رفضه في ٢٣ أكتوبر سنة ١٩٠٣ اقتراحًا برلمانيًّا قائلًا بعدم عدِّ السكان الأجانب عند تعيين عدد أعضاء المجلس الاتحادي بحسب عدد السكان، ومنه اقتراعه في سنة ١٩٠٧ بأكثرية ساحقة لقانون الخدمة العسكرية الذي يجعل عبء أبناء الوطن السويسري أثقل من ذي قبل، ومنه تصويته في سنة ١٩٠٨ بأكثرية ٢٣٢ و٢٣٥ صوتًا ضد ١٣٥٠٠٠ صوت للتدابير القائلة بتحريم صنْع الأبسنت في سويسرة وإدخاله إليها، ومنه تصويتُه في سنة ١٩٢٠ لدخول سويسرة في جمعية الأمم بأكثرية ٤١٥٠٠٠ صوت ضد ٣٢٨٠٠٠ صوت، إلا أنَّ الشعب في بعض الأحيان برَز في شكل مخالف، ومِن هذا الباب اقتراعه في سنة ١٨٩٨ بأكثرية لا مثيل لها لابتياع الدولة للسكك الحديدية السويسرية، ومنه رفضه في سنة ١٨٩٠ للقانون الاتحادي القائل بتقاعُد شيوخ الموظفين العاجِزين عن القيام بأمور وظائفهم ومنحهم رواتب تقاعُد، ومنه رفضه في سنة ١٨٩٥ لقانون يمنح المجلس الاتحادي أن يُحْدِثَ وظائف خارجية سياسية، وأن يُلغي غير المقيد منها، ومنه موافقته في سنة ١٩٠٢ على ضريبة جمركية جديدة ملائمة لمذهب القائلين بنظام الحماية الاقتصادي، ومنه رفضه في سنة ١٨٩٥ للائحة قانونية يُقْصَد بها تحسين حال الجيش السويسري، ومن جهة أخرى يُرَى أنَّ الشعب يوافق أحيانًا على مبادئ لا يَستحسنها؛ وذلك لمزجها بتدابير يرغب فيها، وأحيانًا يُرى أن رفض الشعب لقانون يرغب عنه يؤدي إلى رفض قانون آخر لا لسبب غير عرض القانونين عليه في وقت واحد، وأحيانًا يُرَى أن الشعب يرفض قانونًا لتفرُّعات ثانوية مُبالَغ في أهميتها.

وأما الاقتراح الشعبي فهو عامل اضطراب لا ريب فيه؛ فإذا كان من الصعب أن يسير أمر الاشتراع وأمر الاقتراح البرلماني سيرًا منسجمًا فكيف يحدث انسجام بين أمر الاشتراع وأمر الاقتراح الشعبي؟

ومما لا يُورث العجب أن يكون لنظام الرفرندم أتباع في فرنسا، وليس عدد هؤلاء الأتباع كثيرًا؛ وذلك لسقوط اعتبار النظام المذكور بفعل ما وقع في دور الإمبراطورية الأولى والثانية من استفتاءات مكرَّرة، نقول هذا ونحن نرى اقتراح بعض أعضاء البرلمان له غير مرة، وقد رُفِضَت هذه الاقتراحات في كل مرة؛ فقد أُعْرِضَ عنها في سنة ١٩٠٤ وسنة ١٩٠٥ حين طُرِحَت ميزانية المذاهب وفصل الكنيسة عن الدولة، وأُعْرِضَ عنها في سنة ١٩٠٨ حين قيل باستفتاء الشعب في مسألة تعويض النواب، وأُعْرِضَ عنها في سنة ١٩١٤ حين كلَّف المسيو بوغليزي كونتي100 المجلس بأن يُستشار الشعب في قبول مبدأ التمثيل النسبي.

(٢-٤) السيادة القومية ومسئولية الموظفين والممثلين

يظهر أن نتيجة السيادة القومية الضرورية هي مسئولية الذين يمارسون السلطة العامة، فهؤلاء جميعهم يَسيرون باسم الأمة التي هي موئل السيادة باسمِهم الخاص، وكما أنَّ هذا المبدأ يشمل الموظَّفين الذين يَنحصِر عملهم في تطبيق القواعد المقرَّرة مقدَّمًا في القانون يشمل أيضًا الممثِّلين الذين يريدون لأجل الأمة، ويظهر أنَّ المسئولية المذكورة تتضمَّن أمرَين؛ الأول: التأييد كلما جاوز الموظَّف أو الممثِّل سلطانه. والثاني: إمكان عزل الموظَّف أو الممثل من قِبَلِ السلطة التي منحتْه سلطانه أو وظيفته، وذلك كلما رأته هذه السلطة يُمارس سلطانه أو وظيفته على وجه خَطِر أو قليل الفائدة، ومِن الطبيعي أن يكون مثل هذه الحال حالُ الذين يُمارسون حق الآخرين طوعًا لإرادتهم.

ذهَب بعضهم إلى ذلك الدليل المنطقي، ولم يكن غير نصِّ دستور سنة ١٧٩٣ على «أنه لا ضمان اجتماعي إذا لم يحدِّد القانون بصراحة حدود وظائف الموظَّفين العامِّين، وإذا لم تقرَّر مسئولية كل موظَّف.» غير أنَّ أصول الحقوق عند الأمم الحرَّة ابتعدت من استخراج نتائج الدليل المذكور من حيث تعلُّقه بالممثِّلين؛ ولهذا سببان عمليان: الأول شدة صعوبة تنظيم هذه المسئولية عمليًّا. والثاني: عدم ملاءمتها في الغالب للمصلحة العامة ولمنفعة الممثلين الحقيقية؛ فهي تُبْطِل — بفعل الخوف — عمل الممثِّلين الذي يجب أن يتمَّ في أغلب الأحيان في جوٍّ حرٍّ حتى يكون مفيدًا، من أجل هذا نرى نظام الحكومة التمثيلية يَميل — بحكم الطبيعة — إلى تقرير عدم مسئولية الممثِّلين.

وهنالك مسئولية لا يفكِّر أحد في نفْيها؛ وهي التي تكون عندما يجاوز الممثِّل عن علم وسوء قصد سلطاته المعينة في الدستور أو القانون، فهنا (إذا استثنَينا الصعوبة في إنشاء الهيئة القضائية التي يفوض إليها أمر النطق بالتأييد الذي يكون في العادة كنايةً عن عقاب، ويُمكن أن يؤدي إلى حرمان الممثِّل وظيفته) يكون تطبيق مبدأ المسئولية أمرًا لازمًا لارتباطه بالمنفعة العامة، ولو كان المسئول صاحب السلطة التنفيذية أو المشترعين أو القضاة.

ولكن الأمر يختلف عند النظر إلى نتيجة المسئولية الأخرى — أي إلى إمكان العزل — فعدم إمكان عزل الممثلين — ما داموا سائرين ضمن دائرة سلطاتهم — من مقتضيات نظام الحكومة التمثيلية؛ إذ إنهم — لكونهم ممثِّلين — لا يجب عليهم أن يؤدوا حسابًا عن أعمالهم، والضمان الحقيقي الوحيد الذي يكون بيد الأمة إزاءهم هو أن تفوِّضَ إليهم سلطاتهم لأجَلٍ محدود، وقد انتُهِيَ في الغالب إلى تعيين القضاة مدى حياتهم، وابتُعِدَ من مبدأ العزل حيث يكون هذا العزل عنصر اضطراب وعلَّة ضعف، وبيان ذلك:
  • أولًا: ذهبت الدساتير الحديثة في البلدان التي فصَلت السلطة التنفيذية عن السلطة الاشتراعية فصلًا حقيقيًّا إلى عدم عزل صاحب السلطة التنفيذية، وقد قصدت بذلك منح هذا الصاحب شيئًا من الاستقلال في العمل، ولم تشذَّ النظُم الجمهورية عن ذلك؛ فهي لم تقُلْ على العموم بغير مسئولية صاحب السلطة التنفيذية مسئولية جزائية، ولكن الشرائع الحديثة نقلت مسئولية رئيس الدولة إلى وزرائه، ومنحت المجالس التمثيلية في البلدان التي قالت بنظام الحكومة البرلمانية وسيلة للوصول إلى عزل الوزراء أو استعفائهم من غير أن تمسَّ صاحب السلطة التنفيذية.
  • ثانيًا: إنَّ عدم مسئولية القضاة وعدم إمكان عزلهم من المبادئ التي ذُهِبَ إليها بوجه عام، ففرنسا لم تقُلْ بمسئوليتهم الجزائية إلا في حالة ارتكابهم خيانة في أثناء وظيفتهم، وهي لا تؤاخذهم بسبب خطأ أو إهمال يَنشأ عن قيامهم بوظائفهم، وإنما تؤاخذُهم مدنيًّا وماليًّا بسبب غشٍّ أو غُبْن كبير يأتون به، وهم لا يُعْزَلون إلا في أحوال استثنائية، ولا يُعزل القضاة في إنكلترة من قِبَل التاج إلا بناءً على عريضة يعرضها عليه المجلسان، وتفرض هذه العريضة اتهام القاضي من قِبَل مجلس النواب وموافقة مجلس اللوردات على هذا الاتهام.
  • ثالثًا: يتمتَّع أعضاء المَجالس التمثيلية بأوسع مدى لمبدأ عدم المسئولية؛ فهم معافون من أية مسئولية جزائية بسبب ما يُبدونه في أثناء قيامهم بوظائفهم من الآراء والاقتراعات، وهم أبعد الموظَّفين من العزل، ومَنْ يقدر على عزلهم وهم ينالون سلطاتهم من الناخبين؟ لا تستطيع السلطة التنفيذية عزلهم، وهم مستقلون عنها ويُراقبونها وينظِّمون شئونها باسم الأمة، ومثلها السلطة القضائية التي حُصِرَت وظيفتُها في فصل الخصومات الخاصة، وفي تطبيق قانون العقوبات. وعليه، لم يبقَ في الميدان سوى الناخبين الذين انتخبوا الأعضاء المَذكورين، غير أن عزْل هؤلاء الناخبين لأولئك الأعضاء — مع تعذُّره عمليًّا — مخالف للمبادئ المقرَّرة؛ فهو منافٍ لنظام الحكومة التمثيلية الذي يقتضي وجود حرية كاملة في المناقشة والبتِّ عند أعضاء المجالس الاشتراعية، وهو منافٍ لمبدأ السيادة القومية الذي يَعُدُّ كلَّ نائب ممثلًا للأمة جميعها، ثم إن قدرة الناخبين على عزل النواب من لوازم الوكالة المقيدة الجازمة التي أظهرنا ما توجبه من الاعتراضات عليها سابقًا، فلكي يقوم النائب بنيابته يجب أن يكون بعيدًا من تأثير الناخبين بعد أن يتمَّ انتخابه، والمسئولية الشافية التي يكون النائب عرضة لها تبدو عند انتهاء مدة نيابته وعرضه نفسه على الناخبين ليُعيدوا انتخابه، وقد أعلن المجلس التأسيسي الفرنسي الأول القواعد التي ذكرتها، فاستخرج منها النتيجة الآتية؛ وهي: «أنه لا يمكن عزل أعضاء مجالس المديريات ومجالس الولايات والمجلس الوطني إلا عند ثبوت خيانتهم بعد محاكمتهم.»
وعكس ذلك ما ذهب إليه مجلس العهد الوطني الفرنسي في سنة ١٧٩٣؛ فقد أبدى روبسبير101 في الجلسة التي عُقِدَت في ١٠ مايو من تلك السنة رأيًا قائلًا بمسئولية الموظفين جميعهم، ومنهم أعضاء الهيئة الاشتراعية؛ إذ قال: «إن الأمة التي لا يكون نوابُها مسئولين أمام أحد لا تكون صاحبة دستور، وكذلك كل أمة لا يؤدي موظَّفوها حسابًا إلا إلى نواب لا يُمكن عزلهم، فإذا كان هذا هو المقصود من نظام الحكومة التمثيلية فإني أصبُّ عليه مثل اللعنات التي صبَّها عليه جان جاك روسو.» وقد اقترح روبسبير — كنتيجة لمبدأ المسئولية المذكور — الأمرين الآتيين؛ وهما: أولًا: تقرير مبدأ عزل الموظَّف دون أن يشير إلى طريقة تنظيمه، وقد قال بهذه المناسبة: «إنني أريد أن يكون كل موظَّف معيَّن من قِبَل الأمة مُمكنًا عزله من قِبَل الأمة حسب الطرق التي تقرَّر فيما بعد؛ وذلك لا لسبب غير حقها في عزل وكلائها.» ثانيًا: إحداث محكمة شعبية «تكون وظيفتها الوحيدة النظر في الآثام التي يقترفها الموظَّفون العامون، على أن لا يكون من وظائف هذه المحكمة أن تحاكم أعضاء الهيئة الاشتراعية من أجل ما يُبدونه من الآراء في المجلس، وأن يكون من وظائفها أن تُحاكمهم لخيانة يرتكبونها أو رشوة يأخذونها فقط، وأن يكون أمر النظر فيما يَقترفونه من الأجرام العادية عائدًا إلى المحاكم العادية.»
ولم يكن هيروسيشيل102 أقلَّ حماسةً من روبسبير عندما عرض لائحة الدستور على مجلس العهد الفرنسي في سنة ١٧٩٣، وصرَّح بمبدأ مسئولية النواب؛ فقد قال: «أيكون الموظَّفون العامون مسئولين ويظل نواب الشعب غير مسئولين؟ ومما يَحمرُّ الوجه من أجله خجلًا أن يكون شأن هؤلاء من حيث عدم مسئوليتهم كشأن الإمبراطرة الأقدمين، وقد بحثْنا عن دواء لهذه العلة، فرأينا أن تؤلَّف محكمة كبيرة تَنتقم لأبناء الوطن من جور الهيئة الاشتراعية، على أن تؤلَّف هذه المحكمة من قِبل الشعب عند انتخابه لممثِّليه.»

وللوصول إلى عزل النواب أربع طرق؛ منها واحدة تقتضي أن تكون وكالة النائب مقيَّدة جازمة، والثلاث الأخرى لا تقتضي مثل ذلك.

وأبسط هذه الطرق هي التي كانت تُطبَّق في فرنسا في بعض الأحيان، وبموجبها تكون اللجنة الانتخابية (التي أيَّدت النائب أيام ترشيحه للنيابة وتبقى بعد انتخابه) رقيبةً عليه، ويكون بيدها أمر عزله، فلكي تتمكَّن اللجنة الانتخابية من ذلك يعطيها المرشح مقدمًا وثيقة استعفاء من وظيفته، فما على اللجنة وقتما يحدث طارئ إلا أن تملأ تلك الوثيقة وتعرضها على رئيس المجلس، وليس من الصعب إبطال مثل هذه الطريقة؛ فالاستعفاء لا يكون نافذًا إلا إذا وافق عليه المجلس، والمجلس بموافقته عليه يكون قد جعل النائب تحت رحمة لجنة خاصة غير قانونية.

ليست الطريقة الأولى المذكورة مما يُناضَل عنه بجدٍّ؛ فهي لم تكن مما يأباه أصحاب الرأي المعتدل وحدهم، بل هي مما لا يذهب إليه بعض أنصار الوكالة المقيدة الجازمة أيضًا. وقد اقترح كثير من هؤلاء في دورة اشتراعية سابقة على مجلس النواب الفرنسي اقتراحًا قاضيًا بأن تكون وكالة النائب مقيدة تقييدًا اختياريًّا من قِبَل المرشَّحين الذين يُمكنهم أن يقولوا بهذا التقييد أو يَرفضوه، وبأن تكون هذه الوكالة المقيدة مبثوثة في البرنامج الذي يَرسمه المرشح، وبأنه لكي يكون المرشح ملزَمًا بها يجب أن يرسل البرنامج المذكور إلى والي المديرية، وبأن يكون موقَّعًا من أعضاء لجنة انتخاب المرشح، على أن لا يقلَّ عدد هؤلاء عن خمسين رجلًا، وبأن يكون انتخاب المرشح بعدئذٍ نائبًا، والعهود التي يشتمل عليها ذلك البرنامج كناية عن عقد مدني بين النائب المنتخب والناخبين في دائرته، وبأن ينظر حاكم الصُّلح في الدائرة الانتخابية التي سجَّل النائب فيها وكالته المقيدة الجازمة في الأمور التي خالف فيها برنامجه؛ وذلك بناءً على طلب ناخب أو أكثر من ناخبي الدائرة الانتخابية، وبأن يكون حكمه في إلغاء انتخاب النائب نهائيًّا. والذي يستوقف النظر في هذا الاقتراح هو جعل السلطة القضائية حَكَمًا في قضايا سياسية محضة. أَجَلْ، إنَّ قاضي الصُّلح يحكم فيها حكمًا آليًّا، ولكنه كيف لا يتسرَّب في تقدير هذا القاضي لمدى برنامج النائب أمور تفسيرية؟

والطريقة الثالثة هي التي اقترحَها المسيو كورنودي103 على مجلس النواب الفرنسي في ١٦ نوفمبر سنة ١٨٩٦؛ فهي تقول بأنه حينما يعرض عددٌ من ناخبي دائرة النائب (أكثر من العدد الذي صوَّت له) عريضة يَطلب فيها إلى المجلس الذي يَنتسب إليه أن يَعزله؛ يجب على هذا المَجلس أن يَعزله من غير مناقَشة؛ وهي تقول بأنَّ النائب أو عضو مجلس الشيوخ الذي يُعْزَل على هذا الوجه لا يحقُّ له أن يُنتخب لأية وظيفة انتخابية مدة تسع سنوات، وبأن يُعيد إلى الدولة كل تعويض برلماني قبضه منها.

وأما الطريقة الرابعة؛ فهي طريقة دستورية سائدة لكثير من المقاطَعات السويسرية باسم «حق الحل الشعبي»، فحقُّ العزل — بحسب هذه الطريقة — يشمل المجلس المنتخب كله لا أعضاءه على انفراد، فإذا طلَب تجديدَ المجلس الاشتراعي جميعه عددٌ من أبناء الوطن السويسري مساوٍ للنصاب المقرر في نظام الرفرندم وجب عرض هذا الطلب على الشعب ليُبدي رأيه فيه، وفي حالة موافقة الأكثرية على الطلب المذكور تنتهي نيابة المجلس حالًا ويُشْرَع في إجراء الانتخابات العامة.

لقد تمَّ انتشار الطريقة الرابعة بالتدريج في كثير من المقاطعات السويسرية المهمة، وفي سنة ١٨٧٢ اقتُرِحَ إدخالها إلى الدستور الاتحادي، ولكنه لم يُكْتَب الفوز لهذا الاقتراح. وهذه الطريقة — وإن لم يُقَلْ إنها تُناقض مبدأ السيادة القومية ونظام الحكومة التمثيلية — هي آلة اضطراب ووسيلة لتقليل أهمية المَجالس الاشتراعية، ذلك ما نُشاهده في تطبيقها على المقاطعات السويسرية، فكيف لا تكون عامل انحلال كبير عند تطبيقها على دولة كبيرة؟

ويظهر أنَّ المبدأ القائل بعزل النواب قبل انتهاء مدة نيابتهم ينتشر في الوقت الحاضر في حكومات أميركا الشمالية الخاصة الديموقراطية، ويتذرَّع أنصارُه في سبيل دعمه بذهابهم إلى أن من العوامل المؤدية إلى سير الأمور سيرًا حسنًا أن يستطيع الآمر في كل وقت أن يَعزل المأمور الذي يبدو عجزه أو سوء تصرُّفه، ثم يُضيفون إلى ذلك قولهم: إن الناخب الذي عُدَّ من الحكمة والمعرفة والرويَّة بحيث يقدر على انتخاب رئيس جمهورية الولايات المتحدة الكبرى وجَب اعتباره حائزًا أهلية يتمكَّن بها من عزل موظَّفٍ في الحكومة، ومِن ثَمَّ يقولون: إنَّ الشعب الذي أوصَلَ ساسته إلى حظيرة السلطة يحقُّ له أن يعزلهم.

يزعُم الأميركيون أن التدبير المذكور خالٍ من المنازع الثورية، وأنه لا يورِّث سير أمور الحكومة شيئًا من التذبذب، وإنما هو كناية عن شكل آخر لما هو سائد لإنكلترة من حقٍّ في حل مجلس النواب ومراجعة الشعب في الشئون العامة، ومما يقولونه: إنَّ البرلمان الإنكليزي حُلَّ ثماني مرات في السنوات الثلاث والعشرين التي مرَّت بين مؤتمر برلين وحرب أفريقيا الجنوبية؛ وذلك ليبدي الشعب الإنكليزي رأيه في التدابير السياسية الخطرة كالحروب الخارجية ونظام الحكم الذاتي الأيرلندي، وقانون الرشوة، وإصلاح نظام الانتخابات، فإذا كان الشعب الإنكليزي يُسْتَفْتَى في مثل هذه التدابير على ما فيه من روح المحافظة، فلماذا يُحْرَم الشعب الأميركي الديموقراطي هذا الامتياز؟

وأول ما تحقَّق مبدأ العزل في قوانين لوس أنجليس104 البلدية في سنة ١٩٠٣، ثم أُدْخِلَ في سنة ١٩٠٦ إلى قانون سيتل،105 وأُدْخِلَ في سنة ١٩٠٨ إلى دستور حكومة أوريغون،106 وأُدْخِلَ في سنة ١٩١١ إلى دستور كاليفورنيا،107 ونظام مثل هذا قالت به حكومة ساوث داكوتا108 وتكساس109 وإيداهو110 ونيفادا،111 وهو ينتشر بالتدريج في الحكومات الغربية من الولايات المتحدة الأميركية.

ولا عزل في المقاطعات المذكورة بالمعنى الصحيح، بل هنالك فتْح جديد لباب الانتخابات قبل انتهاء مدة النائب، الذي يحقُّ له أن يرشِّح نفسه في هذه المرة أيضًا؛ ففي تلك المقاطعات يستطيع عدد من الناخبين — يتراوح بين ٢٠ أو ٢٥ في المائة من المسجَّلة أسماؤهم في سجلات الانتخابات — أن يطلب في عريضة يقدِّمها تجديد انتخاب بعض النواب في الحال، ومما يجب أن تحتوي عليه هذه العريضة اسم النائب وأسباب الطلب.

هوامش

(1) Gierke.
(2) Althusius.
(3) Grotius.
(4) Josephus Acosta.
(5) Cheriquanas.
(6) Blackstone.
(7) Saint Thomas d’Aquin.
(8) Marsile de Padoue.
(9) Philippe Pot.
(10) Nicolas Cusanus.
(11) Gerson.
(12) Hotman.
(13) Concilium.
(14) Bodin.
(15) Renan.
(16) Mirabeau.
(17) Toqueville.
(18) Thouret.
(19) Barnave.
(20) Sieyès.
(21) Petion.
(22) Bishop.
(23) Connecticut.
(24) Massachusetts.
(25) New–Jersey.
(26) Rhode–Island.
(27) Bushnell Hart.
(28) Van den Heuvel.
(29) Kloti.
(30) Vuatrin.
(31) Zug.
(32) Tessin.
(33) Klöti.
(34) Hare.
(35) Costa–Rica.
(36) Hondt.
(37) Tessin.
(38) Fribourg.
(39) Zug.
(40) Soleure.
(41) Schwytz.
(42) Saint–Gall.
(43) Courtney.
(44) Hare.
(45) Sidney Low.
(46) Robespierre.
(47) Petion.
(48) Bushnell Hart.
(49) Colorado.
(50) Wyoming.
(51) Idaho.
(52) Utah.
(53) Kansas.
(54) Towa.
(55) Montana.
(56) Orégon.
(57) Arizona.
(58) Michigan.
(59) Michigan.
(60) Nevada.
(61) Massachusetts.
(62) Barnave.
(63) Boissy d’Anglas.
(64) Condoreet.
(65) Duvergier de Hauranne.
(66) Guizot.
(67) Bryce.
(68) Rhode–Island.
(69) Delaware.
(70) Pensylvanie.
(71) Massachusetts.
(72) Tenessee.
(73) Mississipi.
(74) Connecticut.
(75) Bodin.
(76) De Lolme.
(77) Sieyès.
(78) Referendum.
(79) Massachusetts.
(80) New–Hampshire.
(81) Rhode–Island.
(82) Uri.
(83) Schwytz.
(84) Obwalden.
(85) Nidwalden.
(86) Gersau.
(87) Zug.
(88) Glaris.
(89) Appenzel–Rhodes.
(90) Berne.
(91) La diète.
(92) Curti.
(93) Bâle.
(94) Valais.
(95) Lucerne.
(96) Zurich.
(97) Vaud.
(98) Fribourg.
(99) Saint Gale.
(100) Pugliesi Conti.
(101) Robespierre.
(102) Herault–Sechelles.
(103) Cornudet.
(104) Los Angeles.
(105) Seattle.
(106) Orégon.
(107) Californie.
(108) South Dakota.
(109) Texas.
(110) Idaho.
(111) Nevada.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤