الفصل الثالث

فصل السلطات

(١) مصدر مبدأ فصل السلطات والمناقشة فيه – لوك – نظرية مونتسكيو – روسو – مابلي – النظريات السلبية في مبدأ فصل السلطات: ودرو ويلسن، كوندرسي – النتيجة. (٢) العلائق بين السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية – دستور الولايات المتحدة – دستور سنة ١٧٩١ ودستور السنة الثالثة الفرنسيان – تعيين الوزراء وشأنهم – السلطة التنفيذية ليست جزأً من السلطة الاشتراعية – الانحراف عن ذلك المبدأ: حق الرفض – فوائد ومحاذير – الحكومة البرلمانية وفصل السلطات – اختلاط السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية – اللوائح المعروضة في سنة ١٨٤٨ وسنة ١٨٧٥ – حكومة ١٨٧١–١٨٧٣ – الحكومة المديرية في سويسرة: نظامها وسيرها – إيضاح نجاحها. (٣) السلطة القضائية – هل تختلف السلطة القضائية عن السلطتين الأخريين؟ – نتائج نظرية السلطتين ونظرية السلطات الثلاث والتوفيق الجزئي بين النظريتين – مسألة انتخاب القضاة أو تعيينهم من قِبَلِ السلطة التنفيذية – انتخابهم في فرنسا منذ سنة ١٧٩٠ حتى السنة الثامنة – انتخابهم في الولايات المتحدة – انتخابهم في سويسرة – عدم إمكان عزلهم – نظام المحلَّفين – الحقوق الإنكليزية ومحاكمة موظَّفي التاج – فصل السلطة القضائية والإدارية في قوانين الثورة الفرنسية الكبرى – فصل السلطتين: القضائية والاشتراعية.

إنَّ مبدأ فصل السلطات هو من المبادئ التي تمسَّكت الثورة الفرنسية الكبرى بها كثيرًا؛ فقد اعتبره تصريحُ حقوق الوطني والإنسان الذي أعلنتْه أمرًا جوهريًّا، ولم تكن الثورة الأميركية أقل تعلُّقًا بذلك المبدأ من تلك الثورة، وهو يقتضي بحكم الضرورة نظام الحكومة التمثيلية، ويمكن أن يقال: إنه قائم على الكلمة القائلة بأنه لما كانت خصائص السيادة تَختلف بعضها عن بعض وجب تفويضها من قِبَل الأمة إلى أناس مُستقلِّين بعضهم عن بعض.

(١) مصدر مبدأ فصل السلطات والمناقشة فيه

نرى أوربة وأميركا مديونتَين بهذا المبدأ لعبقرية مونتسكيو،1 ولا نعني بذلك أنه لم يبحث قبله أحدٌ في مختلف خصائص السيادة، فقد حلَّل أئمة مذهب حقوق الطبيعة والناس تلك الخصائص، وإنما قالوا بأن الحكومة — لكي تكون قويةً منظَّمة — يجب أن تقبض يد واحدة على الخصائص المذكورة، حتى إن بودان2 وأشياعه قالوا بخمس أو ست خصائص للسيادة، ولكنهم لما ذهبوا إلى أن السيادة لا تتجزَّأ بحكم الطبيعة أدخلوا تلك الخصائص إلى دائرة السلطة الاشتراعية التي رأوا أنها شاملة لها.
لقد ظهر مبدأ فصل السلطات في إنكلترة في غضون الثورة البيوريتانية في القرن السابع عشر، غير أنَّ استنباطها إذ ذاك لم يتمَّ بفعل التأمُّل النظري، بل تمَّ بفعل المساوئ التي نجمتْ عن سلطان البرلمان المُطلَق، واطلع عليها الرجل العبقري كرومويل، فقد مال كرمويل3 لهذا السبب إلى فصل السلطات وجعلها ثلاثًا: التنفيذية والاشتراعية والقضائية، وقد أدخل ذلك إلى الدستور، ولكن عمل كرومويل لم يلبث أن نُسِيَ بعد إعادة النظام الملكي إلى إنكلترة؛ وذلك من غير أن يؤثر تأثيرًا دائمًا في إنكلترة ولا في البلدان الأخرى.
إن لوك4 هو أول فقيه صاحب نظرية في فصل السلطات؛ فقد قال في رسالته المسماة «الحكومة المدنية» بسلطات ثلاث: السلطة الاشتراعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة الاتحادية، وإن شئت فقل: السلطة التي بيدها تقرير أمر السلم والحرب وعقد المُعاهَدات، وذهب لوك إلى أن يكون القابض على زمام السلطة التنفيذية غير القابض على زمام السلطة الاشتراعية؛ وذلك للأسباب الآتية التي ذكرها في رسالته المذكورة، وإليكها: «إنَّ السلطة الاشتراعية هي السلطة التي يحق لها أن تعيِّن كيف تُمارَس سلطة الجمهورية في سبيل المحافظة على المجتمَع وأفراده، ولما كان من المُمكن سن القوانين التي يجب تنفيذها دائمًا في مدة وجيزة، فليس من الضروري أن تكون السلطة الاشتراعية في حالة عمل مُستمرَّة، وإنَّ التهافت على تسلُّم زمام السلطة ليعظم إذا كان الأشخاص الذين بيدهم وضع القوانين ذوي سلطة في تنفيذها؛ ذلك لأنَّهم يستطيعون حينئذٍ أن يستثنوا أنفسهم من إطاعة القوانين التي يسنُّونها، وأن يَجعلوا القوانين في مصلحتهم الشخصية، وأن يكون لهم منافع مُنافية لمنافع المجتمع وأغراضه؛ وعليه، فإن السلطة الاشتراعية في الجمهوريات المنظَّمة التي يُنْظَر فيها إلى الخير العام تُسلَّم إلى أناس يجتمعون ليضعوا القوانين على أن يطيعوها بعد أن ينتهوا من سَنِّها، ولكن لما كانت القوانين التي تُسَن تحتاج إلى تنفيذ مستمر، كان من الضروري أن يكون في الميدان سلطة دائمة فعَّالة تقوم بذلك التنفيذ؛ فعلى هذه الصورة تَنفصل السلطة الاشتراعية عن السلطة التنفيذية، وعلى رغم تصريح لوك بفصل السلطة التنفيذية عن السلطة الاتحادية يرى اتحادهما أمرًا طبيعيًّا، فاسمع ماذا يقول: «إن ممارسة السلطتين المذكورتين تستند إلى قوة المجتمع، وليس من الأمور العملية تفويض سلطة الجمهورية (أي السلطة التنفيذية والسلطة الاتحادية) إلى أناس مُختلفين غير تابعين بعضهم لبعض، وإلا فإن تنوُّع قيادة تلك السلطة يؤدِّي إلى الفوضى والخراب.» وأما السلطة القضائية فلم ينظر لوك إليها كسلطة منفصلة، وإنما عدَّها تابعةً للسلطة الاشتراعية أكثر مما للسلطة التنفيذية.

وكيف توصَّل لوك إلى صوغ هذه النظرية؟ هل توصَّل إليها بالتأمل المجرد؟ كلا؛ فهو وإن سعى في تبرير اقتراحاته تبريرًا عقليًّا اقتبس من الدستور الإنكليزي عناصره الجوهرية؛ فتعريفه السلطة الاشتراعية على الوجه المشروح آنفًا لم يكن غير تصوير للبرلمان الإنكليزي، وفي إنكلترة قد رأى السلطة التنفيذية منفصلةً عن السلطة الاشتراعية، وإن لم يكن ذلك على التمام. وفيها رأى أيضًا أنَّ السلطة الاتحادية والسلطة التنفيذية متَّحدتان في قبضة الملك، وكذلك في إنكلترة لاحظ أنَّ السلطة القضائية تابعة للسلطة الاشتراعية؛ أي للبرلمان الإنكليزي الذي يقوم في الغالب بأمور قضائية مهمة.

فمن عبارات لوك المذكورة اقتبس مونتسكيو نظرية فصْل السلطات التي فصَّلها في كتابه «روح القوانين»، غير أنَّ مونتسكيو حوَّل العناصر التي عرضها لوك تحويلًا أوجب بروزها بحُلَّة جديدة، وجعل من المضغة التي ابتدعها لوك وجودًا ذا أعضاء تامة.

•••

يَرُد مونتسكيو خصائص السيادة إلى ثلاث سُلطات مختلفة: السُّلطة الاشترعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية. ويدلُّ استعماله لهذه الكلمات الثلاث على ما بين مذهبه ومذهب لوك من الارتباط، جاء في كتابه «روح القوانين»: «في كل دولة ثلاث سُلطات: السُّلطة الاشتراعية، وسلطة تنفيذ الأمور التي تمسُّ حقوق الدول، وسُلطة تنفيذ الأمور التي تمسُّ الحقوق المدنية، فبالسُّلطة الأولى يسنُّ الأمير قوانين جديدة ويعدِّل أو يُلغي القوانين الموجودة، وبالسُّلطة الثانية يعلن الصلح ويشهر الحرب ويُبادل السفراء ويوطِّد سلامة الدولة، ويحتاط ليحول دون غزو الأجنبي للبلاد، وبالسُّلطة الثالثة يُعاقب مَنْ يقترف جرمًا، ويَفصل ما بين الناس من خصومات، وتُسمَّى هذه السلطة الأخيرة بسُلطة الحكم، وتُسمَّى السلطة التي قبلها بسلطة الدولة التنفيذية.» فمِن هذا نفهم أن سلطة تنفيذ الأمور التي تمسُّ حقوق الدول والتي تكلَّم فيها مونتسكيو ليست سوى السلطة الاتحادية التي أشار إليها لوك، وكذلك السلطة القضائية أو سلطة تنفيذ الحقوق المدنية التي ذكرها مونتسكيو تُذكِّرنا بما عرَضه لوك كأول وظيفة للسلطة التنفيذية؛ أي وظيفة تنفيذ قوانين المجتمع الداخلية، والفرق بين مونتسكيو ولوك في هذا الأمر هو أن مونتسكيو يَعُدُّ السلطة القضائية مستقلةً عن السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية.

وبعد أن استنبط مونتسكيو السلطات الثلاث على الوجه المذكور قال بتوزيعها بين أرباب مستقلين بعضهم عن بعض؛ وذلك للأسباب الآتية وهي:
  • أولًا: إن الحرية السياسية — كما جاء في كتاب روح القوانين — «لا تكون إلا في الحكومات المعتدلة، ولا يعني هذا أنها تكون في الحكومات المعتدلة على الدوام؛ فهي تكون فيها حين لا يُساء استعمال السلطة فيها، ومن التجارب الأزلية أن كل إنسان قابض على أعنَّة السلطة يميل إلى إساءة استعمالها حتى النهاية، فلكي لا يُسيء أحد استعمال السلطة يجب أن يؤدِّي نظام الأمور إلى أن يؤمن هذا المحذور.»

    ولا شيء أكثر تدقيقًا من تلك الملاحظة؛ فالحدود والقواعد التي ينص عليها القانون لممارسة خصائص السيادة القومية لا تلبث أن تُنْكَر في نظام الحكومة التمثيلية إذا لم يفوض أمرها إلى ممثِّلين مختلفين تدفعهم منفعتُهم الخاصة إلى المدافعة عن سلطاتهم وامتيازاتهم المتناقِضة.

  • ثانيًا: إنَّ فصل السلطات وحده هو الذي يؤدِّي إلى احترام القوانين وتطبيقها تطبيقًا حقيقيًّا في الأمور التي يُمكن القانون أن يتدخَّل فيها، وإليك ما ورَد في كتاب روح القوانين: «لا حرية حيث تكون السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية في قبضة رجل واحد أو هيئة واحدة؛ إذ يخشى أن يسنَّ ذلك الرجل أو تلك الهيئة قوانين جائرة ليجور في تنفيذها، وكذلك لا حرية حيث لا تكون سلطة الحكم منفصلةً عن السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية؛ فكون القاضي مشترعًا يجعل حياة أبناء الوطن وحريتهم تابعتين لهواه، وكونه صاحبًا للسلطة التنفيذية يجعله طاغيًا باغيًا، وعليه يضيع كل شيء إذا كان الشخص الواحد أو الهيئة الواحدة هو الذي يُمارس السلطات الثلاث: سلطة سنِّ القوانين، وسلطة تنفيذ المقرَّرات العامة، وسلطة الحكم في الجرائم والفصل في خصومات الأفراد.» ولا يخفى على الناظر ما في هذا القول من صحة وصواب، فإذا كانت السلطة الاشتراعية منفِّذة القانون أو قاضية في الخصومات لا يَبقى في الميدان قانون ثابت، وحينئذٍ لا يبالي القاضي أو منفِّذ القانون — الذي بيدِه تبديل القانون — بعدم تطبيقه على بعض القضايا، كما أنه لا يُبالي بتطبيق القانون الجديد على أمور حدثت قبل وضعه، وإذا كانت السلطة التنفيذية متحدةً بالسلطة القضائية فإنها لا تقوم في كل وقت بالضمانات الكافية لتطبيق القانون عندما تكون أحد المُتداعين، ويكون من مصلحتها أن يطبَّق القانون على إحدى المناحي دون الأخرى.
  • ثالثًا: اعتقد مونتسكيو أنه وجد في الدستور الإنكليزي مبدأ فصل السلطات كما أظهَره، ولا يخلو اعتقاده المذكور من مُبالغة، فلم تكن السلطة الاشتراعية في إنكلترة منفصلةً عن السلطة التنفيذية انفصالًا تامًّا، فالملك — وهو صاحب السلطة التنفيذية في إنكلترة — كان مشتركًا في السلطة الاشتراعية والسلطة القضائية، ولكن في تلك المُبالغة ما يشفع لها؛ فقد اعتنَقَ الأميركيون مبدأ فصل السلطات كما قال به مونتسكيو واقتبسه بلاكستون منه، ومما لا ريب فيه أن الذي أورث الفيلسوف الفرنسي الكبير مونتسكيو ذلك الاعتقاد هو اطلاعه على الأنظمة القضائية الإنكليزية، وعلى ما للقضاة في إنكلترة من مقام أدبي رفيع، وعلى نظام المحلَّفين فيها.

مبدأ فصل السلطات هو أحد المبادئ التي بشَّر بها فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر، ويظهر أن مذهب روسو ومذهب مونتسكيو متَّفقان عليه؛ ذلك ما أريد إثباته في الزمن الأخير؛ فقد أشيد بعبارات روسو التي صرَّح فيها بضرورة فصل السلطات، غير أنَّ ذلك لم يكن في غير الظاهر؛ ففصل السلطة الاشتراعية عن السلطة التنفيذية عند روسُّو أمر ناشئ بحكم الضرورة عن الصورة التي كان يتصوَّرهما بها؛ فالسلطة الاشتراعية في نظره هي كما نعلم أمر ملازم للسيادة لا يمكن ممارسته إلا بتصويت الشعب جميعه تصويتًا مباشرًا، والسلطة التنفيذية عنده لا تقوم إلا بأعمال فردية، ولكن روسو — مع عدِّه فصل السلطتين على هذا الوجه أمرًا طبيعيًّا — لم يقُلْ باستقلال السلطة التنفيذية، فهذه السلطة هي في نظره كناية عن وكيل خادم للشعب الذي يستطيع أن يراقبه ويعزله متى يريد، ولم يذهب روسو إلى أن يمارس الشعب المشترع أو السلطة التنفيذية السلطة القضائية، وإنما قال بإمكان شكوى هذه السلطة إلى الشعب صاحب السيادة، وذهب إلى حق الشعب صاحب السيادة في العفو.

وهكذا ترى أن روسو انتهى بمبادئه الخاصَّة به — والتي تختلف عن مبادئ مونتسكيو — إلى ضرورة فصل السلطات، غير أنه لم يقُلْ بغير سلطتين مختلفتين بطبيعتهما؛ السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية، وأما السلطة القضائية فهي عنده فرع من السلطة التنفيذية تابع لقواعد خاصة يقتضيها رُوح العدل والإنصاف.

ويرى روسو أن الحكومة — وإن شئت فقل: السلطة التنفيذية — ذات خصائص عظيمة واسعة وإن كانت تابعة للشعب صاحب السيادة. ولما كان يخشى أن تغتصب الحكومة السيادة لهذه العلة؛ اقترح تقسيم الحكومة إلى سلطات متنوعة، على أن يكون لكل واحدة منها وظائف مستقلة عن وظائف الأخرى، ومن هذا القبيل قوله بتقسيم وظائف السلطة التنفيذية ووظائف السلطة القضائية.

وبجانب روسو نذكر مابلي الذي قال بأن يكون القابض على السلطة التنفيذية غير القابض على السلطة الاشتراعية، على أن لا يكون مستقلًّا عنه، فعنده يجب أن يعيَّن صاحب السلطة التنفيذية من قِبَل السلطة الاشتراعية التي لا مراء في أفضليتها الطبيعية الضرورية، وعنده أنه يحقُّ لأبناء الوطن أن يُحاكموا السلطة التنفيذية أمام السلطة الاشتراعية، ويحقُّ لهذه السلطة الاشتراعية أن تُراقب القضاة وتؤدِّبَهم، ويرى مابلي كروسو لزوم تقسيم السلطة التنفيذية القضائية إلى فروع كثيرة مستقلَّة استِقلالًا مُتقابلًا.

•••

إنَّ لنظرية مونتسكيو — التي نالت إقبالًا كبيرًا — مُعارضين كثيرين في القرن الثامن عشر وفي أيامنا، فهي لم يُجادَل في جهتها التي تخصُّ السلطة القضائية فقط، بل جودل في مجموعها أيضًا، والانتقاد الذي دار حولها قائم على رأيَين؛ فمن جهة قيل بأنه لا يمكن أن تُباشِر خصائص السيادة المختلفة على انفراد؛ فهي كأعضاء جسم الإنسان منسجمة انسجامًا طبيعيًّا في سيرها، ويذهب أنصار هذا الرأي إلى أنَّ مختلف السلطات كأجزاء الآلة الواحدة، فكما أنَّ سير الآلة يَقتضي أن تكون ذات محرِّك واحد يجب أن تكون قيادة الحكومة واحدةً، الأمر الذي لا يكون حسب نظرية فصل السلطات.

ومن هذا القبيل ما جاء في كتابٍ وضعَه المستر ودرو ويلسن؛ فقد قال فيه: «إنَّ غاية دستور الولايات المتَّحدة أن تقسَّم السلطة إلى أجزاء على أن يتحمَّل كل جزء شيئًا من المسئولية، ويَستطيع هذا الجزء أن يفرَّ من مسئوليته عند العمل؛ وذلك بأن يُلقيها على عاتق الآخر، وكيف تعرف الأمة الجزء المسئول حتى تؤاخذه؟» إلى أن قال: «يؤدِّي فصل السلطة إلى شلل الحكومة الخَطِر في أيام الأزمة، فمِن مساوئ نظام الولايات المتحدة الاتحادي قوله بتجزئة السلطة وتحديده مسئولية كل جزء منها.»

ومن جهة أخرى قيل بأنَّ فصل السلطات مبدأ وهميٌّ غير طبيعي؛ فهو لم يستطع أن يَثبُت حيث أريد ثباته؛ إذ لا تلبث أن تُهيمِن إحدى السلطات على السلطات الأخرى، وأن تسيرها على رغم ما يقيمه الدستور بينها من حواجز، ذلك ما أشار إليه كوندورسي في تقريره الذي عرضه على مجلس العهد الفرنسي بمناسبة اللائحة الدستورية؛ فقد جاء فيه: «إنَّ الفقهاء انقسموا حتى الآن إلى فريقين؛ فريق يقول بأن تُدير سلطة بقية السلطات، على أن لا يَقِفَها في ذلك سوى القانون، وبأن في إرادة الشعب العامة ما يردع تلك السلطة إذا أرادت أن تَنتحلَ أمرًا لا يخصُّها أو هدَّدت حرية أبناء الوطن وحقوقهم، وفريق يودُّ أن تتوازن السلطات، وأن تكون كنايةً عن نواظم متقابلة، وأن يكون كل منها مدافعًا عن الحرية العامة إزاء الأخرى، معارضًا لما قد يصدر عنها من جور وظلم. وهنا نقول: إنَّ التجارب تثبت في مختلف البلدان أن بعض تلك الآلات المعقَّدة يتحطَّم بعضها على بعض، وأنه يقوم — بجانب النظام الذي ينص عليه القانون — نظامٌ قوامه الدسائس والارتشاء وعدم المبالاة؛ أي إنه يكون في الميدان دستوران؛ أحدهما شرعي عام لا يكون في سوى مواد القانون، والآخر سرِّي حقيقي ناشئ عن اتفاق مختلف السلطات اتفاقًا ضمنيًّا.»

والذي قصَده كوندورسي بذكره كلمة «الدسائس والارتشاء» هو إنكلترة؛ حيث كان مبدأ فصل السلطات غير تام من الوجهة الحقوقية، ومثل ذلك ما حقَّقه المستر ودرو ويلسن في الولايات المتحدة بعد تجارب استمرَّت قرنًا كاملًا؛ فقد أثبت أن الإدارة في الولايات المتَّحدة بيد لجان مجلسي المؤتمر الدائمة، وأن فصل السلطات الحقيقي فيها ليس في غير نصوص الدستور.

ولكن تلك الانتقادات لا تصيب إلا إذا كانت تقصد فصل السلطات فصلًا مُطلَقًا؛ إذ يلزم أن يكون بين مختلف السلطات علاقات ثابتة، وأن يكون سيرها مُنسجمًا، ومما لا مفرَّ منه أن تكون إحدى السلطات راجحة، ومن الطبيعي أن يكون هذا الرجحان بجانب السلطة الاشتراعية، وهذا ينشأ عن كون القوانين التي تسنُّها السلطة الاشتراعية يجعل هذه السلطة ناظمة السلطات الأخرى، وينشأ أيضًا عن كون السلطة الاشتراعية في البلدان الحرة هي التي تقترع للميزانية وتعينها وأنها لهذه العلَّة تقدر على وقف سير كل سلطة وكل وظيفة، وبعد بيان ما تقدَّم نسأل: هل يغيب مبدأ فصل السلطات أو يَفقد فائدته؟ كلا، وإنما يتحوَّل إلى الوجه القائل بأنه يجب أن يقبض على السلطات التي اعترف باختلافها أرباب مختلفون مستقلون بعضهم عن بعض استقلالًا لا يقدر أحدهم أن يعزل به الآخر متى يريد، وذلك على أن يُراقب بعضها بعضًا ضمن دائرة يحافظ بها على الحرية العامة.

إن الأميريكيِّين بعيدون على رغم تسلُّط المؤتمر الذي وصفه المستر ودرو ويلسن من ازدراء الضمانات الناشئة عن استقلال السلطة التنفيذية، وقال الأستاذ الأميركي ثورب:5 «إن تحديد السلطة التنفيذية هو هدف الإصلاحات التي تمَّت في إنكلترة منذ ألف سنة حتى الآن، وأما الولايات المتحدة فالرأي فيها العام يرى أنَّ من الصواب تحديد خصائص السلطة الاشتراعية وزيادة خصائص السلطة التنفيذية، فالإنكليز يَحذرون التاج فيَمنحون البرلمان سلطات لا نهاية لها، والأميركيون يَحذرون السلطة الاشتراعية فيمنحون رئيس الجمهورية والحكام سلطات واسعة.» وكذلك نرى في عدم إمكان عزل صاحب السلطة التنفيذية في البلدان التي يسودها نظام الحكومة البرلمانية، وفيما يتمتَّع به هذا الصاحب من حقٍّ في حلِّ مجلس النواب ضمانًا إزاء تعدِّي السلطة الاشتراعية المهيمنة على الوزارة.

تبيَّن مما تقدَّم أن من المُمكن اختلاف الرأي في مبدأ فصل السلطات، وإني على قصد تفصيل ذلك أرى أن أبحث في العلائق بين السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية، ثم أبحث في مسألة السلطة القضائية.

(٢) العلائق بين السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية

تُرَدُّ الأنظمة التي طُبِّقَت أو اقتُرِحَت في هذا المضمار إلى بضعة نماذج، وإني أعرضها مبتدئًا بالتي تطبِّق منها مبدأ فصل السلطات تطبيقًا وثيقًا والتي تبعد منه وهكذا.

•••

بعض الدساتير قالت بتطبيق مبدأ فصل السلطات بما يمكن من الضبط وذلك حسبما ذهب إليه مونتسكيو، ويمكننا أن نتخذ منها ثلاثة دساتير كنماذج وهي: دستور الولايات المتحدة، ودستور سنة ١٧٩١، ودستور السنة الثالثة الفرنسيان، وإليك أوصاف هذه الدساتير البارزة:
  • (أ)
    إن اختيار الوزراء وشأنهم يقتضيان بضع قواعد مُحْكَمة؛ وهي:
    • أولًا: إنَّ الوزراء — وهم وكلاء السلطة التنفيذية — لا يمكن أن يكونوا أعضاءً في الهيئة الاشتراعية في الوقت نفسه، ذلك ما قال به مونتسكيو، وإن نصَّ على أن يكون هؤلاء الوزراء أنفسهم أصحاب السلطة التنفيذية؛ وذلك ما أعلنه خطباء المجلس التأسيسي الفرنسي الأول، وما أَمْلَتْهُ الدساتير الثلاثة النموذجية.

      ففي دستور الولايات المتحدة جاء: «لا يُمكن أحد قابض على وظيفة عامة في الولايات المتحدة أن يكون عضوًا في أحد المجلسين، ما دام باقيًا في وظيفته.» وهذا النص يشمل الوزراء كما يشمل الموظَّفين الآخرين.

      ولقد أوجب اتخاذ مثل هذه القاعدة في دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي مجادلات طويلة؛ فبعضهم عدَّها خطأ، ومن هؤلاء ميرابو، غير أنَّ الأكثرية ذهبت إلى مثل ما ذهب إليه الدستور الأميركي، وفضلًا عن ذلك فقد قرَّرت في ٧ أبريل سنة ١٧٩١ — وذلك بناءً على اقتراح روبسبير — أنه لا يقدر عضو في الهيئة الاشتراعية أن يَصير وزيرًا ما دام قابضًا على عضويته، ولا يستطيع أن يكون وزيرًا إلا بعد انقطاعه عن العضوية المذكورة بسنتين، ومثل هذا التدبير ما نصَّ عليه دستور السنة الثالثة ولكن مع شيء من التعديل.

      وليس احترام مبدأ فصل السلطات وحده هو الذي أوجب اتخاذ القرارات المذكورة، ولا سيما القرار الأخير، بل أوجبه أيضًا خوف بعضهم أن يقع في فرنسا مثلما كان يقع في الحكومة الإنكليزية في القرن الثامن عشر؛ من إغواء السلطة التنفيذية لأقدر المدافعين في البرلمان عن الحرية بإسناد مناصب الوزارات إليهم.

    • ثانيًا: إنَّ من نتائج القاعدة السابقة أن لا يدخل صاحب السلطة التنفيذية ولا وزراؤه في الهيئة الاشتراعية، ولا يَخطبوا فيها، هذه هي قاعدة تقرَّرت في الولايات المتحدة وإن لم ينصَّ دستور هذه البلاد عليها، وفي ٢ سبتمبر سنة ١٧٨٩ سُنَّ نظامٌ قائل بأنه يحقُّ لوزير المالية في الولايات المتحدة أن يتَّصل بمجلسَي المؤتمر شخصيًّا أو كتابةً، غير أنَّ المؤتمر لم يلبث أن قرَّر بعدئذٍ أن يتصل وزير المالية بالمجلسَين المذكورين كتابةً لا شخصيًّا، وقد بقي الأمر منذ ذلك الحين سائرًا حسب هذا القرار.
      وقد سار دستورُ السنة الثالثة الفرنسي على ذلك النحو؛ فقد نصَّ على أنه لا يحق لمجلس الشيوخ ولا لمجلس الخَمس مائة أن يَدْعُوَا أعضاءَ الديركتوار6 إلا إذا كان هؤلاء موضوع اتِّهام، ونصَّ على أنهم لا يتصلون بالمجلسين المذكورَين إلا كتابةً، والوزراء لما كانوا وكلاء حكومة الديركتوار كانت علاقتهم بذَينِك المجلسين كعلاقة أعضاء الديركتوار بهما.

      وعكس ذلك ما ذهب إليه المجلس التأسيسي الفرنسي الأول؛ فهو — وإن لم يقل بأن يكون للوزراء فيه رأي استشاري — اعترف بأن يكون لهم هذا الحق أمام المجالس الاشتراعية المُقبلة، جاء في دستور سنة ١٧٩١: «يحقُّ لوزراء الملك أن يَدخلوا في المجلس الاشتراعي الوطني وأن يتكلموا في المواضيع التي لا تتعلَّق بإدارتهم متى سمح المجلس الوطني لهم بذلك.»

    • ثالثًا: لا يكون الوزراء حسب هذا النظام تابعين للمجلس الاشتراعي، ولا يستطيع هذا المجلس أن يؤنِّبهم، ولا أن يُسقطهم ما دام غير سالك طريق اتهامهم، وصاحب السلطة التنفيذية هو الذي يكون مهيمنًا على الوزراء من الوجهة السياسية؛ فهو الذي يختارهم ويُبقيهم قابضين على مناصبهم ويعزلهم متى يشاء؛ أي إن كل واحد منهم وكيل عنه في الدائرة التي يودعها له، وأنه لا يشركه في ما هو خارج عن هذه الدائرة إلا بمِقدار ما تقتضيه سياستُه العامة، على هذه الصورة يدير رئيس الولايات المتحدة شئون حكومة الاتحاد؛ قال غماليل برادفور:7 «يَنتخب الشعب رئيس الجمهورية، فيختار هذا الرئيس وزارته، ولا يتبع رئيس الجمهورية ولا وزارته المؤتمر، وإنَّ بقاء عضو الوزارة في الوزارة أو عزله منها أمر منوط بإرادة الرئيس المشار إليه.» ومِن ثمَّ ترى أن الوزراء لا يأتون بعمل مشترك في إدارة الحكومة، ولا يكونون مسئولين أمام المجالس الاشتراعية.
      ولم تكن الطريقة التي نص عليها دستور السنة الثالثة الفرنسي خلاف ذلك؛ فقد كان أعضاء الديركتوار الذين فُوِّضت إليهم ممارسة السلطة التنفيذية مستقلِّين عن المجلسين استقلالًا تامًّا، جاء في تقرير بواسي دنغلاس:8 «إنه لا يمكن الهيئة الاشتراعية أن تدعو أعضاء الديركتوار ولا أن تَعزلهم.» وقد كان لحكومة الديركتوار أن تعيِّن الوزراء بحرِّية تامة، ولم يتألَّف من الوزراء إذ ذاك مجلس وزاري.
      ويظهر أنَّ دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي وحده هو الذي سلك طريقًا آخر؛ فبعد أن تردَّد المجلس التأسيسي بين الطريقَين اتخذ سبيلًا وسطًا؛ إذ إنه سنَّ — بعد مجادلات عنيفة — قانونًا قائلًا: «إنَّ الهيئة الاشتراعية تستطيع أن تعرض على الملك ما تراه من التصريحات المناسبة في سير وزرائه، وأن تبين له أنَّ هؤلاء الوزراء أضاعوا ثقة الأمة.» على أنه يبدو لنا أن مضمون هذه العبارة القانونية — التي لم تُدْمَج في الدستور — لم يلاقِ أذنًا صاغية، قال توريت:9 «يلوح لنا أنَّ السبب في عدم استحقاق المادة المذكورة أن تُدْمَجَ في الدستور؛ هو أنَّ الملك يستطيع أن يُبقي وزراءه قابضين على أعنَّة الحكم على رغم بيان الهيئة الاشتراعية المخالف.»
  • (ب)

    لا تكون السلطة التنفيذية جزأً من الهيئة الاشتراعية، تلك نتيجة منطقية للمبدأ القائل بأنَّ أمر الاشتراع يخصُّ السلطة الاشتراعية دون غيرها، ومن هذا المبدأ نستنبط أولًا: عدم حق السلطة التنفيذية في اقتراح القوانين، وحصر هذا الحق في الهيئة الاشتراعية وحدها. ثانيًا: إنه لا يحقُّ للوزراء أن يكونوا أعضاء في الهيئة الاشتراعية، وكل ما تَستطيعُه الحكومة في هذا الباب أن نجد عضوًا في الهيئة الاشتراعية يَقترح — باسمه الخاص — ما تراه الحكومة من لوائح قانونية.

    كان رجال القرن الثامن عشر الذين سنُّوا الدساتير القائلة بتلك القواعد يودُّون أن يطبِّقوا مبدأ فصل السلطات الذي أعلنه مونتسكيو. نعم، لم يكونوا على صواب كبير في ذلك؛ لعدم اعتنائهم بالفكرة القائلة بأنَّ الذي يُفوَّض إليه تنفيذ القوانين أعرف من غيره لنقائص هذه القوانين وكيفية إصلاحها، ولكنهم سُحِروا بالرأي القائل بأن منح السلطة التنفيذية حقًّا في اقتراح القوانين، مما يَجعلها في الغالب تفرضها على الهيئة الاشتراعية فرضًا فعليًّا، وتقضي على حقوق هذه الهيئة في اقتراح القوانين في نهاية الأمر.

    ومهما يكن الأمر فإننا نرى الدساتير النموذجية الثلاثة متَّفقةً على ذلك. قال بريس: «لا يستطيع رئيس الولايات المتحدة أن يَعرض على المؤتمر لوائح قانونية بنفسه ولا بواسطة وزرائه.» ولا تشذُّ القوانين المالية فيها عن ذلك ما دامت طبيعة الأمر تسمَح به؛ قال العالِم المشار إليه: «يُرسل وزير المالية في الولايات المتحدة إلى المؤتمر في كل سنة تقريرًا مُحتويًا على الدخل والخرج، وعلى الديون العامة، وعلى نظام الضرائب ووجه إصلاحها، ويرسل إليه أيضًا كتابًا سنويًّا مشتملًا على المبالغ الضرورية لمصالح الدولة العامة في السنة المقبلة، ولكنه يرسل ذلك كتابةً بدلًا من أن يعرضه ويشرح محتوياته بنفسه.»

    ومثل ذلك ما ذهب إليه دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي؛ فقد جاء فيه: «إن سلطة اقتراح القوانين وسنَّها خاص بالهيئة الاشتراعية.»

    وكذلك دستور السنة الثالثة الفرنسي لم يمنح حكومة الديركتوار حق اقتراح القوانين، وقد حصر هذا الحق في مجلس الخمس مائة.

    ومع ما تقدَّم كان واضعو الدساتير الثلاثة المذكورة يُفكِّرون في إيجاد وسيلة للتوفيق بين ذلك المبدأ وسير الحكومة الحسن ومزاعم السُّلطة التنفيذية، فكانوا لا يعترفون لهذه السلطة بكتابة اللوائح القانونية، وإنما كانوا يَسمحون لها بأن تَستوقِف نظر الهيئة الاشتراعية في أي إصلاح مرغوب فيه، وفي أي تدبير اشتراعي تدعو الضرورة إلى اتخاذه. هذا ما يستطيع أن يفعله رئيس الولايات المتحدة في كُتبه التي يرسلها إلى المؤتمر، وقد جاء في دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي: «يُمكن الملك أن يدعو الهيئة الاشتراعية إلى وضع أحد الأمور موضع الاعتبار.» ومما نصَّ عليه دستور السنة الثالثة: «أنه يمكن حكومة الديركتوار أن تدعو في كل وقت مجلسَ الخمس مائة إلى وضع أحد الأمور موضع الاعتبار، وأن تَقترح عليها اتخاذ بعض تدابير.»

    وعلى رغم كفاية ذلك في الظاهر نرى أنه أمرٌ لا طائل تحته بالحقيقة؛ فقد أثبت تطبيق أكثر الدساتير الثلاثة المذكورة دوامًا (أي دستور الولايات المتحدة) مصداق هذا الرأي، قال الأستاذ بريس: «يحتوي الكتاب الذي يُخاطب به رئيس الولايات المتحدة المؤتمر على البحث في المسائل المهمة، ويشير إلى المساوئ التي تستلزم التدارك، ويوصي بالاشتراك المرغوب فيه، ولكنه لما كان الرئيس المشار إليه لا يستطيع أن يعرض على المؤتمر لائحةً قانونية، ولما كان لا يستطيع أحد وزرائه (وذلك على فرض قدرته على أن يعرض على المؤتمر لائحة قانونية) أن يدخل المؤتمر ليوضِّح هذه اللائحة ويناضل عنها، يكون كتابه كصرخة في وادٍ؛ إذ لا يبالي المؤتمر بمحتويات هذا الكتاب ويتبع أعضاؤه سبيلهم الخاص.»

  • (جـ)

    من مقتضيات المبدأ الذي لم يعترف للسلطة التنفيذية بحق اقتراح القوانين أن لا يكون لهذه السلطة تأثير في القوانين التي اقترعت لها الهيئة الاشتراعية؛ فكلُّ حقِّ رفضٍ تمنحُه السلطة التنفيذية يُناقض مبدأ فصل السلطات، ذلك ما أثبته سيايس في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول بما أُوتي من رُوح منطقية، على أنَّنا لو نظرنا إلى الدساتير الثلاثة النموذجية لم نرَ ما هو مُخلص لتلك النتيجة غير دستور السنة الثالثة الفرنسي؛ إذ كان على حكومة الديركتوار حسب هذا الدستور أن تَنشر القوانين التي اقترعت الهيئة الاشتراعية لها؛ وذلك في أثناء اليومين اللذين يجيئان بعد تسلُّمها هذه القوانين، وأما الدستوران الآخران فقد اعترفا للسلطة التنفيذية بحق رفض القوانين.

    ومَنْ يودُّ أن يعرف سبب ذلك الانحراف فليَبحث في التأثير العظيم الذي اتَّفق للدستور الإنكليزي، فمع عدِّ هذا الدستور مُطبِّقًا لمبدأ فصل السلطات منَح التاج حقًّا في رفض القوانين التي يقترع لها، حتى إن مونتسكيو بثَّ هذا الأمر في نظريته عندما فرَّق في أثناء بحثه في السلطة التنفيذية بين صفة البتِّ وصفة الوقف، جاء في كتابه المسمى «روح القوانين» ما يأتي: «تُصبح الهيئة الاشتراعية مستبدة إذا لم يحقَّ للسلطة التنفيذية أن تقف مشاريعها، وعلة الأمر أن الهيئة الاشتراعية بقدرتها على منح نفسها كل ما يتصوَّره العقل من سلطان تنتهي إلى إبطال السلطات الأخرى، من أجل هذا يجب على السلطة التنفيذية أن تشترك في أمر الاشتراع بأن تكون صاحبة حقٍّ في وقف القرارات الاشتراعية وإلا تَفقد امتيازاتها، وإن من مقتضيات تمتُّع السلطة التنفيذية بحق الوقف المذكور أن لا تشترك هذه السلطة في مناقشة تلك القرارات؛ لأنَّ قدرتها على وقف قرارات الهيئة الاشتراعية يكفي لردع هذه الهيئة عن اتخاذ قرارات لا تلائم استقلالها.»

    على أنَّ هنالك اختلافًا بين حق الرفض الذي قال به دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي وحق الرفض الذي نصَّ عليه دستور الولايات المتَّحدة، فأما دستور سنة ١٧٩١ الفرنسي فيقول بأنَّ حق الرفض الذي يتخذه الملك ضد أحد القوانين يزول بعد أن يُقْتَرَعَ لهذا القانون في ثلاث دورات اشتراعيات متواليات، وأما دستور الولايات المتَّحدة فيقول بأنه إذا تمنَّع رئيس الجمهورية عن نشر القانون الذي اقترع له المؤتمر يُعاد هذا القانون إلى مجلسَي المؤتمر، وإذ ذاك يقدر على المذاكرة فيه، فإذا اقتُرع له في كلٍّ من هذين المجلسَين بأكثرية ثلثي الأصوات يصبح رئيس الجمهورية مُكرَهًا على نشره، وإلا فيُقضى على القانون، وما أكثر المرات التي اتخذ فيها رئيس الولايات المتَّحدة حقَّ الرفض المذكور فحال دون خطأ المؤتمر ومساوئه!

    ولكن حق الرفض هو الأمر الوحيد الذي تتفوَّق به السلطة التنفيذية على السلطة الاشتراعية، وعليه لم يُفكَّر في منح تلك السلطة حقًّا في حلِّ هذه السلطة لمناقضة ذلك لمبدأ فصل السلطات، وكذلك مما يقتضيه الصواب والمنطق أن لا يكون للسلطة التنفيذية حق عقد الهيئة الاشتراعية أو حلها متى تريد، وأن تبقى هذه الهيئة في حالة اجتماع مُستمرَّة.

    ومن جهة أخرى تمنح الدساتير الثلاثة النموذجية المذكورة الهيئة الاشتراعية شيئًا من حقوق السلطة التنفيذية، وإني لا أفعل كما فعل المسيو دوغي10 فأعُدُّ من ذلك الاقتراع للضرائب وتوزيعها؛ لأنَّ الاقتراع للضرائب وإن ظلَّ زمنًا طويلًا يختلف عن سَنِّ القوانين الأخرى أصبح من فصيلتها في إنكلترة، ونُظِرَ إليه أنه من امتيازات المَجالس التمثيلية، ولا أعُدُّ أيضًا من ذلك الاقتراع للمُعاهَدات وطبيعة هذا الاقتراع أمر مُختلَف فيه، وإنما أرى في نص دستور ١٧٩١ على أنه يحقُّ للهيئة الاشتراعية أن تُبطل أمر الملك في كفِّ أيدي الموظفين الإداريين عن مَناصبهم تطاولًا على السلطة التنفيذية، وأرى مثل ذلك في نَصِّ دستور السنة الثالثة على اختيار وكلاء بيت المال الخمسة من قِبَل الهيئة الاشتراعية.

    انظر إلى دستور الولايات المتحدة ترَ أنه يفوض أكثر أعمال السلطة التنفيذية خطورة إلى مجلس الشيوخ، جاء في المادة الثانية من الفصل الثاني منه: «يحقُّ لرئيس الجمهورية — بعد مُوافَقة مجلس الشيوخ — أن يُنظِّم المعاهدات؛ وذلك بشرط أن يجيز ثلثا أعضاء المجلس المذكور تلك المعاهدات، وإنه يحق للرئيس المشار إليه أن يعيِّن — بعد موافقة ذلك المجلس — السفراء والقناصل وقُضاة المحكمة العليا، وموظَّفي الولايات المتَّحدة الآخرين.» فهذه العبارات العامة تُطبَّق على الوزراء أيضًا، ولكن مِن تقاليد مجلس الشيوخ أن يَستحسِن اختيار رئيس الجمهورية لهم من غير اعتراض.

    ذلك هو شكل الحكومة الذي يُنازع شكل الحكومة البرلمانية في إدارة الدول الحرة، وقد اعتنقه أكثر جمهوريات العالم الجديد بتأثير الولايات المتحدة، مع أنَّ أكثر بلدان أوربة الحرة مالت إلى نظام الحكومة البرلمانية، ولا يعني هذا أنه عادم الأنصار في أوربة؛ ففي سنة ١٨٩٤ اقتُرِحَ إدخاله إلى دستور فرنسا، وإنه لذو وجهات جاذبة؛ فهو يبدو أبسط وأوضح من نظام الحكومة البرلمانية المعقَّد، وهو يمنح السلطة التنفيذية ما لا يَمنحها إياه نظام الحكومة البرلمانية من الثبات، ولكن هذا لم يكن في غير الظاهر؛ إذ ينطوي تحت تطبيقه في أميركا ما ينطوي تحت نظام الحكومة البرلمانية من صعوبات واضطراب، ويكفي لإثبات ذلك أمران:
    • أولًا: لم يبقَ مبدأ فصلُ السلطات في الولايات المتَّحدة على الوجه الذي ذهب إليه دستورها، فقد أدَّى تطبيقه على العمل إلى وَصْلِ ما انقطع بين السلطتَين التنفيذية والاشتراعية، يتجلَّى هذا الوصل في لجان مجلس الشيوخ ومجلس الممثِّلين الدائمة؛ إذ أصبحت هذه اللجان التي نصَّ على تأليفها نظام ذينك المجلسَين (لا دستور البلاد) قطب رحى المؤتمر، والوزراء الذين يودُّون سَن قانون يُفاوضون في شأنه رئيس اللجنة التي ترسل إليها لائحة هذا القانون، وإنك إذا دققت في بعض هذه اللجان الدائمة — ولا سيما في لجنة الحربية ولجنة البحرية ولجنة الوسائل النقلية — ترى أنها تهتمُّ بالأمور الإدارية أكثر مما بالأمور الاشتراعية؛ فهي التي تراقب أعمال الوزراء، وهي التي تستطيع أن تدعوهم وتدعو الموظفين جميعهم لسؤالهم عن أساليبهم الإدارية، ولكن هذا السير المُناقض لمبدأ فصل السلطات ناقص من وجهين؛ وهما:
      • (١) لا تقع تلك المراقَبة علنًا؛ أي إنه لا يناقش في شأنها أمام المجلس كله، ولا تَدري الصحف ماذا يدور حولها فتنقل خبره، بل تقع سرًّا ضمن دائرة اللجان الضيِّقة الملائمة للدسائس.
      • (٢) عندما يَحدث تصادم بين أحد الوزراء واللجان لا تقدر هذه اللجان على عزلِه ما دام رئيس الجمهورية محافظًا عليه راضيًا عنه. نعم، تستطيع اللجان أن تعاقبه برفضها كل شيء يرغب فيه، ولكنه ينشأ عن ذلك اضطراب وخللٌ في سير الأمور كما لا يخفى.
    • ثانيًا: تَثبُت صعوبات ذلك النظام من الفشل الذي أصابه في خارج الولايات المتحدة، وليس في هذا الفشل ما يتعذَّر فهمه؛ فمَجالس النواب تميل في كل مكان إلى مراقبة أعمال السلطة التنفيذية، وإلى التدخُّل في إدارتها وقيادتها، فإذا كان مبدأ فصل السلطات فصلًا تامًّا هو السائد فلسان حال الدستور يقول للنواب: «يحرم عليكم أن تخرجوا من دائرة سن القوانين وتهيمنوا على أعمال السلطة التنفيذية.» وكيف يمكن العمل بمقتضى هذا التحريم؟ يؤدِّي هذا الأمر حتمًا إلى تصادم بين السلطة التنفيذية القوية بحقها القانوني ومجلس النواب العزيز بحقه الطبيعي، وإنك لو استثنَيتَ الأنغلوسكسونيين الأميركيين الذين دلُّوا بذلك الحل على بُعْد نظرهم في عالم السياسة، ثم نظرت إلى جمهوريات أميركا المتوسِّطة وأميركا الجنوبية التي اقتبست من الولايات المتحدة نظامها الدستوري؛ لعلمتَ أنَّ قبولها مبدأ فصل السلطات فصلًا تامًّا من الأسباب التي تعكِّر صفو حياتها السياسية وتؤدي إلى نشوب ثورات كثيرة فيها؛ فمزاج المَجالس التي يَنتخبُها الشعب الإسباني في أميركا يدفعها إلى عدم احترام المبدأ المذكور، وإلى إساءة استعماله بسهولة، وإدخال قواعد الحكومة البرلمانية إليها على وجه غير مباشر.

لا ريب في أنَّ نظام الحكومة البرلمانية — الذي بحثنا فيه في فصل سابق — يخفِّف شدة مبدأ فصل السلطات، ولكنه يرمي إليه على كل حال، فنظام الحكومة البرلمانية يقول بعدم عزل رئيس السلطة التنفيذية (سواء أملكًا كان أم رئيس جمهورية) ولو كانت الهيئة الاشتراعية هي التي نصَّبته، وهذا وحده يكفي لتمتُّعه بالاستقلال الذي يقتضيه مبدأ فصل السلطات، ولا بدَّ من توقيع الرئيس — المشار إليه — كلَّ عمل من أعمال السلطة التنفيذية، وهو بتوقيعه له أو بامتناعه عنه يؤثِّر في سير الأمور تأثيرًا كبيرًا، ويكون قطب رحى الحكومة في أثناء سقوط الوزارات ونصبها، وهو — وإن لم يكن له سياسة شخصية — يستطيع بما يُبديه من نصائح وبما له من نفوذ أدبي أن يصون تقاليد البلاد الجوهرية في الداخل والخارج، ولا نُنكر أنه يجب أن توافق الوزارة المسئولة على أعماله، وأن يترك لها إدارة شئون الحكومة، وأن أكثرية البرلمان هي التي تُمْلِي عليه أمر اختيارها، وأن سقوطها بيد هذه الأكثرية، غير أنه يَقتضي أن لا نسلك سبيل المبالغة فنذهب إلى أن نظام الحكومة البرلمانية كنايةٌ عن ممارسة السلطة التنفيذية من قِبَل لجنة يعيِّنها المجلس الشعبي ويَعزلها كما يريد؛ فلرئيس السلطة التنفيذية — حسب هذا النظام — حقٌّ قاطع في تعيين الوزراء وعزلهم، وفعلٌ كبير في تأليف الوزارة حينما تكون أكثرية البرلمان متقلِّبة غير منظَّمة، وفضلًا عن ذلك فإن الوزراء بعد أن يتمَّ تعيينهم يستمدُّون سلطانهم أمام البرلمان من كونهم يتكلَّمون باسم السلطة التنفيذية التي يحقُّ لصاحبها أن يَحلَّ مجلس النواب.

على أن ذلك لا يمنعنا من الاعتراف بأنَّ نظام الحكومة البرلمانية يَمنح السلطة الاشتراعية وسيلة تستطيع بها أن تُكْرِهَ صاحب السلطة التنفيذية على الاستِعفاء، ويكفي للوصول إلى هذا الغرض أن يكون البرلمان عازمًا أن يحُول دون تأليف أية وزارة، وإذ إنَّ صاحب السلطة التنفيذية لا يقدر على الحكم بلا وزارة فلا مناص له إذ ذاك من الاستعفاء، ومن هذا ما وقع في الأزمنة الأخيرة ضد رئيس إحدى الجمهوريات وضد أحد الملوك.

ففي أثناء رَآسة المسيو غريفي11 الثانية للجمهورية الفرنسية (أي في سنة ١٨٨٧) كان البرلمان والرأي العام ساخطَين على صهره النائب ويلسن الذي كان يسكن معه قصر الأليزيه12 ويُسيء استعمال نفوذ الرآسة، وما كان أحد ليرتاب من عفَّة رئيس الجمهورية وإخلاصه، ولكن الاستياء كان صادرًا عن حمايته لصهره، وقد أدَّى هذا الاستياء إلى إسقاط البرلمان لوزارة المسيو روفيه13 في ١٩ نوفمبر سنة ١٨٨٦، ولما حاول المسيو غريفي أن يعيِّن وزارة جديدة لم تمكِّنه أكثرية مجلس النواب الفرنسي من ذلك، وفي ٢ ديسمبر من تلك السنة اضطرَّ إلى الاستعفاء محتجًّا بشدة قائلًا: إن البرلمان شوَّه تطبيق الدستور.
وملك أسوج ونروج الأخير هو الملك الدستوري الذي اتُّخِذَ ضده مثل ذلك بُغيةَ الوصول إلى فصل نروج عن أسوج؛ فعندما اسْتَعْفَت وزارة نروج وحال البرلمان النروجي دون تأليف أية وزارة اضطرَّ الملك أوسكار14 إلى التنزُّل عن عرش نروج، والأمر مهما يكن فإن أعمالًا كهذه منافية لروح الدستور، وإن كان سير الحكومة البرلمانية يمنحها صبغة دستورية في الظاهر، ولا يعني ذلك أن النظام القائل بفصل السلطات فصلًا تامًّا أكثر أضمن مِن نظام الحكومة البرلمانية، فانظر إلى حكومة الديركتوار الفرنسية ترَ أن المجلسَين أَكرها في ٢٠ بريريال15 الركنَين في هذه الحكومة ميرلن16 ولاريفيرليبو17 على الاستعفاء.

•••

ونظام الحكومة البرلمانية وإن كان لا يخلط السلطتين إحداهما بالأخرى فهنالك نظام حكومي يرمي إلى هذا الخلط؛ وذلك بتجريد السلطة التنفيذية من كل استقلال وجَعْلها تابعةً للسلطة الاشتراعية؛ فالحكومة التمثيلية حسب هذا النظام لا يكون لها غير غاية واحدة؛ وهي استخراج مناحي الإرادة القومية وتنفيذ مُقتضياتها، والوصول إلى ذلك يستلزم أن تختار الأمة (وهي عاجزة عن ممارسة نظام الحكومة المُباشِرة) ممثِّلين لها كي تتألَّف منهم هيئة اشتراعية؛ فمُمثِّلو الأمة المذكورون هم الذين يَستطيعون وحدهم أن يتكلَّموا باسم الأمة ويبتُّوا الأمور بالوكالة عنها، وإذا كانت الهيئة الاشتراعية التي تتألَّف منهم لا تمارس السلطة التنفيذية بنفسها فذلك لكثرة عدد أعضائها، وإذا كانت تفوض أمر مُمارستها إلى شخص أو أكثر فيجب أن تختار هي هؤلاء الأشخاص، وأن تكون قادرةً على عزلهم متى تريد، وقد اقتُرِحَ هذا النظام مرتين في فرنسا؛ فهو الذي ذهب إليه المسيو غريفي في التعديل الشهير الذي عرضه في سنة ١٨٤٨ على المجلس التأسيسي، وجاء فيه: «إنَّ المجلس الوطني يفوِّض السلطة التنفيذية إلى أحد أبناء الوطن على أن يحمل هذا الابن لقب رئيس مجلس الوزراء، ويتمُّ اختيار رئيس مجلس الوزراء سرًّا بأكثرية أصوات المجلس المذكور المطلقة، ولا تُحدَّد وظيفة هذا الرئيس بمدة، ويُمكن عزله في كل وقت.» وهو الذي اقترحه المسيو ناكيه18 على المجلس الوطني الفرنسي في جلسته المنعقدة في ٢٨ يناير سنة ١٨٧٥؛ فقد جاء في اقتراحه: «إنَّ السلطة التنفيذية تُفوض إلى رئيس مسئول أمام المجلس منتخب من قِبَل هذا المجلس الذي يُمكنه أن يعزله متى يشاء على أن يحمل الرئيس المشار إليه لقب رئيس الجمهورية.»

ولا تظنَّ أن هذه الأفكار خاصة بفرنسا؛ فقد جاء في كتاب وضعه المستر ودرو ويلسن: «أنه لا ينكر أحدٌ المبدأ القائل بأن السلطة العليا هي في قبضة ممثِّلي الشعب، وأن الاشتراع مفتاح القوة لتعيينه ماذا يجب أن يعمل. ولو نظرتم إلى سلطة وضع القوانين لرأيتم أن سلطة إدارة الأمور هي في يدها. وقد سلَّمت بهذا المبدأ الشعوب الأنغلوسكسونية، وإذا كانت فيه صعوبة فهي في اختيار الوسائل الضرورية لتطبيقه، ويظهر أنَّ الوسيلة الطبيعية هي أنه يحقُّ للهيئة التمثيلية أن تراقب المستخدمين المفوَّض إليهم تنفيذ رغائبها، وأن تسألهم وتَعزلهم عندما لا يقومون بواجباتهم كما يجب، هذا هو امتياز طبيعي لكل سيد، فإذا لم يتمتَّع المؤتمر الأميركي به تتقيَّد سيادته.»

ولكنَّ قولًا كهذا عريق في الوهم، فلن يكون للعمل بمقتضاه نتيجة سوى وجود سلطة تنفيذية متقلِّبة ضعيفة، والواقع يدل على أن وجود سلطة تنفيذية قوية ثابتة مستقلة (وإن راقبتْها مجالس حرة) شرط جوهري للحكومات الصالحة، هذا أمر اتفق عليه ذوو النفوس الرزينة على اختلاف أحزابهم حتى كان له أنصار في دور مجلس العهد19 الذي كان يبشِّر بمبادئ مناقضة له، قال كوندورسي20 عندما عرض لائحة الدستور: «نعم، يجب أن يتبع المجلس التنفيذي السلطة الاشتراعية وإلا تُخرق حرمة مبدأ وحدة السير؛ أي يجب أن يكون المجلس التنفيذي اليد التي يسير بها المشترعون، والعين التي يراقبون بها تنفيذ أوامرهم ونتائج هذا التنفيذ، ولكنه إذا كان أعضاء المَجلس التنفيذي وكلاء الهيئة الاشتراعية فلا يَعني ذلك أنهم عبيد لها، وإنما يَقتضي أن يكون القانون قاضيًا بين الفريقين؛ كأن يكون أعضاء المجلس التنفيذي غير معيَّنين من قِبَل الهيئة الاشتراعية، وأن لا يحقَّ لهذه الهيئة أن تعزلهم حسب هواها.» ومثل هذا تصريح دانتون21 «بأنه يجب أن يَنتخِبَ الشعب السلطة التنفيذية، وأن يوازن بينها وبين السلطة الأخرى.»

وقد جُرِّب ذلك النظام في الأزمنة الحديثة دون أن يأتي بنتائج مُرْضية؛ فهو الذي اتُّخِذَ في فرنسا منذ سنة ١٨٧١ حتى سنة ١٨٧٣. ولا يهِمَنَّ القارئ باستشهاده بالأمثلة التاريخية الشهيرة التي تثبت لنا أن مجالس كبيرة حكمت بنفسها أو بواسطة لجان سارت كما تشتهي؛ فحكم البرلمان الإنكليزي الطويل ومجلس العهد الفرنسي للبلاد حسب النظام المذكور ناشئ عن الأزمات التي كانت سائدة في تلك الأوقات، وعن عدِّ كلٍّ منهما أمر حصر السلطات كلها في قبضة واحدة مسألة حياة وممات، وهل يَقتضي أن نذكر هنا أن البرلمان الإنكليزي الطويل أدى إلى نظام الحكم المطلق وأن مجلس العهد أوجب ظهور بونابرت من بعض الوجوه؟

ودَّ كوندورسي — بالعبارة المذكورة آنفًا — وجود سلطة تنفيذية تابعة للهيئة الاشتراعية من غير أن تكون أَمَةً لها خاضعةً لها من دون أن يُمكنها عزلها، ومع ما يظهر من التناقُض بين صدر هذه الكلمات وعجزها تحقَّق أمرها في سويسرة؛ فالسلطة التنفيذية في حكومة سويسرة الاتحادية وفي مُقاطعاتها تبدو على شكل مجالس تَنتخب الهيئة الاشتراعية أو الشعب أعضاءها، وتُنفِّذ المجالس المذكورة رغائب الهيئة الاشتراعية من غير أن تستطيع هذه الهيئة أن تعزلها، إلا أن هذا الانسجام الخاص هو وليد العادات والتقاليد السويسرية التي هي علَّة بقائه في تلك الديار.

•••

ونعُدُّ بجانب نظام الحكومة البرلمانية ونظام حكومة الولايات المتَّحدة النظام السائد لسويسرة، والمسمَّى أحيانًا نظام الحكومة المديرية.

فالوزراء بحسب هذا النظام (وذلك كما هو متخَذٌ في مختلف مقاطعات سويسرة القائلة بنظام الحكومة التمثيلية) قابضون على زمام السلطة التنفيذية، وهم مُنتخَبون من قِبَل المجلس الاشتراعي، وإن شئتَ فقل: المجلس الكبير في المقاطعة، ويقوم كلٌّ منهم بشئون إحدى المَصالح العامة، ويتمُّ انتخابهم لمدة معينة مُساوية لمدة الدورة الاشتراعية، ولا يُمكن عزلهم، وهم — وإن لم يحقَّ لهم أن يكونوا في وقت واحد وزراء وأعضاء في المجلس الكبير — يَدخلون فيه ليعرضوا عليه تقاريرهم، ويَقترحوا ما يرونه من التدابير مُشتركين في مناقشاته، وهم لا يَستعفون عندما يختلفون هم والمجلس الكبير، بل يبقون في مناصبهم مُنفِّذين أوامره.

غير أن يد التعديل أخذت تُصيب هذا النظام في السنوات الأخيرة؛ فقد صار الشعب — لا المجلس الكبير في المقاطعة — هو الذي ينتخب الوزراء في الغالب، قال ليليان توم22 في سنة ١٩١٢: «إن الشعب يختار الوزراء في تسع مقاطعات، ولم يبقَ للمجلس الكبير حقٌّ في انتخابهم في سوى ثماني مقاطعات، والشعب أصبح يحقُّ له أن يحلَّ الهيئة التنفيذية في ثلاث مقاطعاتُّ وذلك بأن يطلب أن يُستفتى في هذا الحل.» ومنذ التاريخ المذكور اقتبست مقاطعات أخرى هذه السُّنَّة؛ ففي سنة ١٩١٧ ذهبت مقاطعة فود23 إلى انتخاب رجال السلطة التنفيذية من قِبَل الشعب، ولم يبقَ مقاطعة قائلة بأن يَنتخب المجلس الكبير رجال السلطة التنفيذية سوى مقاطعة فريبورغ24 ومقاطعة فاليه.25

وأما في حكومة سويسرة الاتحادية فمجلسا الاتحاد هما اللذان ينتخبان أركان السلطة التنفيذية لمدة ثلاث سنوات. نعم، ينتخب هذان المجلسان في كل سنة رئيسًا ونائب رئيس، إلا أنه ليس لهذين الركنين — وهما بهذه الصفة — سوى امتيازات شرفية، وإنما لكل منهما دائرة وزارية خاصة يقوم بها، ولا يحقُّ لأركان سلطة الاتحاد التنفيذية أن يكونوا أعضاء في هيئة الاتحاد الاشتراعية، وهم لا يَقترعون في هذه الهيئة وإن استطاعوا أن يَشتركوا في مناقشاتها وكان لهم حق الاقتراح في مادة الاشتراع، ولا يستعفون حينما تقترع الهيئة الاشتراعية ضدهم، وليس لهم أن يرفضوا القوانين التي تسنها ولا أن يحلُّوها ويحولوا دون تمديدها مدة دورتها.

وكيف يُدرَك سير النظام المذكور الذي يظهر أنه يجمع بين النقيضين؛ أي بين ثبات السلطة التنفيذية وخضوع هذه السلطة للسلطة الاشتراعية؟

ليس في النظام المذكور صاحب حقيقي للسلطة التنفيذية مُنفصِل عن الوزراء، ولا يستطيع هؤلاء الوزراء أن يدَّعوا أنهم وزراء السلطة التنفيذية وهم وزراء الهيئة الاشتراعية التي انتخبتْهم؛ فالمسيو ليليان توم يعزو نجاح هذا النظام إلى أخلاق الشعب السويسري الهادئة المتساهلة، فلهذه الأخلاق يرى أنَّ الوزراء يحتملون رفض الهيئة الاشتراعية للوائح المهمَّة التي عرضوها عليها من غير أن يستعفوا.

ولكنَّ خُلُق التساهل لا يكفي لإيضاح ذلك؛ فهنالك سبب بعيد الغَوْر نفسِّر به الأمر الواقع: وهو أنَّ عدم تأثير السلطة التنفيذية في سويسرة ناشئ عن عدم الاحتياج إليها؛ فالذين يقومون بالسلطة التنفيذية فيها يُمكنهم أن يقتصروا على وضع اللوائح القانونية وتنفيذ القوانين، بخلاف البلدان الكبيرة التي ليست مُحايدة؛ فعمل السلطة التنفيذية في هذه البلدان يتجلَّى — في الغالب — في الأمور التي لا يقدر القانون على اكتشافها وتحديدها، ومن هذه الأمور إدارة دَفَّة السياسة الخارجية على وجهٍ يَضمَن للبلاد ما تحتاج إليه من قوة وسلامة، ومنها السهر في الداخل لا على حرية الناس فقط، بل على حماية المنافع الاقتصادية الكبرى ومَرافق البلاد العامة أيضًا؛ فالقيام بذلك كله يتطلَّب أناسًا ذوي أفكار خاصة يُنفِّذونها بعزم وحزم وانسجام، الأمر الذي لا تقتضيه حال سويسرة التي ليس لمُقاطعاتها سياسة خارجية، وليس لها سياسة داخلية غير ما تستلزمه إدارة إحدى المديريات، والتي لو نظرت إلى حكومتها الاتحادية لرأيتَ أنها ذات سياسة خارجية بسيطة إلى الغاية، وسياسة داخلية ذات خصائص قليلة ناشئة عن استقلال مقاطعاتها استقلالًا داخليًّا.

ذلك هو السبب في كون مَجلس سويسرة الاتحادي التنفيذي عاطلًا من عزم ووحدة، وفي خضوعه لوجهة نظر الهيئة الاشتراعية المتقلِّبة، وفي استطاعته أن يُنفِّذ ما لا يَستحسِنُه من قوانين، وفي بقائه قابضًا على السلطة ولو لم يَنَلْ ما يراه ضروريًّا.

(٣) السلطة القضائية

يرى مونتسكيو أنَّ إقامة العدل مظهر سيادة يختلف عن السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية، وعنده أنه يجب أن تقوم بهذا المظهر سلطة مستقلَّة عن السلطتَين الأخريين، ولكن هذا أمر مُختلف فيه؛ فهنالك رأيٌ آخر قائل بأنَّ السلطة القضائية فرع من فروع السلطة التنفيذية، ويقول أصحاب هذا الرأي: إنَّ الإنسان لا يتصوَّر للقانون غير طورين؛ طور التكوين وطور التنفيذ؛ أي وضع القانون وعمل تنفيذه، ومن ثَمَّ ينتهي هؤلاء إلى القول بأنَّ الإنسان لا يتصوَّر غير سلطتين مختلفتين: السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية، فما ينصُّ القانون على حلِّه من خصومات ليس سوى عوارض تنفيذية داخلة ضمن دائرة السلطة التنفيذية، ومن مقتضيات المصلحة وحدها تفويض حل هذه الخصومات إلى موظَّفين مخصوصين، ولم يكن هذا الرأي حديثًا؛ فقد قال روسو ومابلي بسلطتين فقط، وهذا الرأي بحث فيه المَجلس التأسيسي الفرنسي الأول سنة ١٧٩٠، قال غزاليس:26 «في كل مجتمع سياسي سلطتان؛ السلطة التي تسنُّ القوانين، والسلطة التي تنفِّذها، وأما السلطة القضائية التي نصَّ عليها بعض الفقهاء فليست سوى وظيفة من وظائف السلطة التنفيذية.» وقد دحض غزاليس حجة مونتسكيو في أثناء جوابه عن بارناف27 بقوله: «لقد بينتُ أنه ليس في كل مجتمَع سوى سلطتين سياسيتَين مختلفتَين: السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية، وإنَّ المسيو بارناف يستشهد بمونتسكيو، فأرى أن الحقيقة والعقل يوحيان بأن مَنْ يقول بأكثر من سلطتَين ليس على صواب، وإني أسأل المسيو بارناف: ماذا يَبقى على صاحب السيادة أن يفعله بعد أن يضع القانون ويتَّخذ الوسائل الضرورية لتنفيذه؟» وبمثل هذا صرَّح ميرابو28 ومونيه29 ودوبور30 وموري31 وغارا،32 ولكنهم لم يَقدروا على جذب المجلس التأسيسي المذكور إلى رأيهم.

ومع ما أبداه هؤلاء من الحجج أرى أن إقامة العدل مظهر مستقل من مظاهر السيادة؛ فانظر إلى التاريخ ترَ أن إقامة العدل أول ما احتاجت إليه المجتمعات البشرية، وأنَّ السلطة القضائية أقدم السلطات، وأنها ظهرت قبل حدوث كل سلطة، وأنَّ أول ظهورها كان لتطبيق العادات الفطرية التي كانت سائدةً أيام كان القانون أمرًا مجهولًا وكان رؤساء القبائل عاطلين من كل قيادة في أوقات السلام، وأنه لما تقدَّم نظام مختلف الدول قامت بتوزيع العدل هيئات خاصة يتألَّف من مجموعها سُلطة مستقلة عن الأخرى.

ولو التزمنا جانب العقل لثبَت لنا عدم صحة القول: إنَّ النفس الإنسانية لا تفرِّق سوى سلطتين؛ السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية. وإنه ليس من الصواب أن يقال: إن تدخُّل القضاة في فصل الخصومات التي تقتضي تطبيق القوانين مظهر من مظاهر التنفيذ؛ فالحكم يسبق التنفيذ من الوجهة الحقوقية، ولكي يتمَّ الحكم يقتضي أن يُعْلَمَ هل يجب تطبيق القانون أم لا؟ وهل يلزم تدخُّل السلطة التنفيذية أم لا؟ ولا يصعب علينا أن نتصوَّر أنه لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تفصل الخصومات التي تكون فيها أحد المتخاصمين.

ولو كانت النظرية التي تعُدُّ السلطة القضائية من السلطة التنفيذية صحيحة؛ لأدَّت منطقيًّا إلى نتيجة يَرفضها كل رجل في الوقت الحاضر؛ وهي أنَّ القضاة وكلاء السلطة التنفيذية، ويقيمون العدل باسمها، وأن صاحب السلطة التنفيذية — مع ضرورة استشارته القضاة — عندما يلوح به أن في القوانين أمورًا مُشتبَهًا فيها يستطيع أن لا يتبع رأيهم، وأن يحكم بنفسه وينقض أحكامهم.

وعليه، فإني أرى أن نظرية مونتسكيو صحيحة، وأنه لم يكن من الخطأ اتخاذ دستور الولايات المتحدة ودستور سنة ١٧٩١ الفرنسي لها، ولكنَّه يجب أن نُكرِّر هنا ملاحظة أتينا بها سابقًا؛ وهي أن مبدأ فصل السلطات إذا كان صحيحًا فهو غير مُطلَق؛ فكما أن السلطة الاشتراعية تُراقب السلطة التنفيذية، تراقب السلطةُ التنفيذية السلطةَ القضائية؛ وهذه المراقبة تتفق للسلطة التنفيذية بسبب نص أكثر الدساتير على حقها في تعيين القضاة، وبسبب تحريك هؤلاء القضاة من قِبَل النيابة العامة في الدعاوى التي تهمُّ النظام العام.

•••

بعض الفقهاء يُعلِّق أهمية كبيرة على المسألة المشروحة آنفًا، وبعضُهم يَعُدها مسألة نظرية مدرسية، ومهما يكن الأمر فإنه قد يُمكن الوصول إلى نتائج اشتراعية واحدة في النظريتين؛ نظرية السلطتين ونظرية السلطات الثلاث.

فأما النظرية القائلة باستقلال السلطة القضائية فقد قيل بها لتقرير مبدأين: انتخاب القضاة وعدم إمكان عزلهم. والمبدأ الأول — أي انتخاب القضاة — هو المبدأ الرئيسي الذي ذُكِرَ في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول سنة ١٧٩٠، فقد قيل فيه: إنَّ السلطات كلها لما كانت مظاهر للسيادة القومية وجب منحُها من قِبَل الأمة نفسها، ولما كانت السلطة القضائية إحدى هذه السلطات وجَب انتخاب القضاة الذين يقومون بها من قِبَل الأمة، ولكنَّ استنتاجًا كهذا مختلٌّ، وقد نقضته في فصل سابق؛ إذ لا مانع من أن يكون صاحب إحدى السلطات مُنتخبًا من قِبَل صاحب سلطة أخرى، ولو لم يستمدَّ هذا الصاحب سلطانه من التصويت العام الشعبي رأسًا، وإنما الذي يتطلَّبه مبدأ فصل السلطات هو أن تكون السلطات مُستقلَّةً بعضها عن بعض، وأن لا يُنْظَرَ إلى كون القضاة مُنتخَبين من طرف الأمة أو معيَّنين من طرف السلطة التنفيذية.

والمبدأ الثاني — أي مبدأ عدم إمكان عزل القضاة من قِبل السلطة التنفيذية والسلطة الاشتراعية — نتيجة ضرورية لنظرية السلطات الثلاث وشرط جوهري لاستقلالها، ولكنَّ أنصار نظرية السلطتين يقولون بعدم إمكان عزل القضاة أيضًا؛ فعندهم أنَّ هذا المبدأ أقدم من نظرية فصل السلطات، وقد أُدْخِلَ إلى فرنسا في القرن السادس عشر كنتيجة لبيع وظائف القضاء، واتُّخِذَ في إنكلترة لأسباب عملية من غير أن يُرْبَطَ فيها بمبدأ فصْل السلطات، وأن منفعة المُتقاضين القائمة على استقلال القضاة هي التي تُسوِّغه عند المتأخِّرين.

وأما النظرية القائلة بأن السلطة القضائية من توابع السلطة التنفيذية فتبدو ذات نتائج كثيرة؛ وإليك أهمها:
  • أولًا: إنَّ الحقوق الفرنسية فصلت — منذ الثورة الكبرى — السلطة الإدارية عن السلطة القضائية، فخسرت السلطة القضائية بذلك أمر النظر في القضايا الإدارية التي أضحى فصلُها من وظائف المحاكم الإدارية، وليس في هذا ما يعسر فهمه عند عدِّ السلطة القضائية فرعًا من السلطة التنفيذية؛ لأنَّ السلطة التنفيذية تكون بذلك قادرةً على تفويض فصل الخصومات إلى مَنْ تراه من موظَّفيها، الأمر الذي يكون متعذِّرًا عندما تكون السلطة القضائية مستقلَّة محتومًا عليها أن تفصل كل خصومة.
  • ثانيًا: إنَّ فصل القضاء الإداري عن القضاء العدلي يؤدِّي إلى حدوث تصادُم بينهما، ولاجتناب هذا التصادم ذهبت فرنسا منذ زمن طويل إلى تفويض السلطة التنفيذية بفصله في مجلسها الشوريِّ، وهذا ما يلائم نظرية السلطتين كما قيل. غير أنَّ مناقضة المبدأ المذكور لنظرية السلطات الثلاث مناقضة صريحة جعَل دستور سنة ١٨٤٨ يعدل عنه؛ إذ إنه نص على «أن التصادم بين السلطة الإدارية والسلطة القضائية من أجل الوظيفة يجب حلُّه بواسطة محكمة خاصة مؤلَّفة من أعضاء مُنتسِبين إلى محكمة النقض والإبرام، وأعضاء مُنتسِبين إلى مجلس الشورى؛ وذلك بشرط أن يكون عدد أعضاء كل فريق مساويًا لأعضاء الفريق الثاني، وأن يُجدَّد تعيين هؤلاء الأعضاء في كل ثلاث سنوات من قِبَل الفريق الذي ينتمون إليه، وأن يرأس وزير العدلية المَحكمة المذكورة.» ولكن هذه المحكمة أُلْغِيَت في سنة ١٨٥٢ وأُعِيدَت الطريقة السابقة، ثم عُدِلَ عنها في سنة ١٨٧٢ فأعيد تأليف المحكمة المذكورة.
  • ثالثًا: لقد عُدَّ حقُّ العفو الذي اعتُرِفَ به لرئيس الدولة كنتيجة لاتحاد السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية، فعفو صاحب السلطة التنفيذية عن مُقترِف الجرم أو تخفيفه هذا الجرم عنه لا يلائم المبدأ القائل باستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وقد أُبديَ هذا الرأي في المَجلس التأسيسي الفرنسي الأول، فألغى هذا المجلس حق العفو دون أن يذكر هذا الإلغاء في دستور ١٧٩١، وكذلك قال واضعو دستور الولايات المتحدة بحق رئيس الجمهورية في العفو، وقد نصُّوا على هذا الحق في الدستور الذي سنُّوه كما نصت دساتير الولايات الخاصة التي تتألَّف منها دولة الولايات المتحدة على حق حكامها في العفو.

وبعد بيان ما تقدَّم نقول: إنَّ بعض الدساتير التي اتُّخِذَت في فرنسا قال بنظرية السلطات الثلاث، وبعضها قال بنظرية السلطتين؛ فدستور سنة ١٧٩١ ودستور السنة الثالثة المُخلِّصان لنظرية مونتسكيو خصَّصا فصلًا مستقلًّا للسلطة القضائية التي عُدَّت فيها منفصلة عن السلطتين الأخريَين، وكذلك دستور سنة ١٨٤٨ ذهب إلى نظرية السلطات الثلاث، فخصَّص فصلًا للسلطة القضائية، ولكنه حصر حقَّ تعيين القضاة في رئيس الجمهورية خلافًا لذَينك الدستورين اللذَين قالا بانتخاب القضاة.

وأما الدساتير الفرنسية الأخرى فقد مالت — ولو ميلًا ضمنيًّا — إلى عدِّ السلطة القضائية تابعةً للسلطة التنفيذية؛ خذ دستور سنة ١٨١٤ مثلًا ترَ أنه نصَّ على «أن الملك مصدر العدل، فباسمه يقوم القضاة — الذين يعينهم — بتوزيع العدل.» ومثل ذلك ما ذهب إليه دستور سنة ١٨٥٢ ودستور سنة ١٨٧٠، ومع التزام قوانين فرنسا الدستورية — التي وُضِعَت في سنة ١٨٧٥ — جانب الصمت يصعب القول أنَّ هذا الدستور عدَّ السلطة القضائية مستقلةً.

•••

يجب عند البحث في مسائل التنظيم القضائي أن يُنْظَرَ إلى هذا التنظيم وحده دون النظر إلى وجود سلطتَين أو ثلاث سلطات في الحكومة التمثيلية، وهنالك بضع قواعد مهمَّة للتنظيم القضائي يُقتضى أن يُبْحَثَ فيها مِن حيث علاقتها بالحكومة جميعها، ومن تلك القواعد: طريقة اختيار القضاة وعدم إمكان عزلهم.

ولقد دار حول انتخاب القضاة — منذ الثورة الفرنسية الكبرى — طريقتان؛ طريقة الانتخاب، وطريقة التعيين من قِبَل السلطة التنفيذية.

يمكن تصوُّر طريقة انتخاب القضاة على وجوه مُختلفة؛ فقد اقتُرِحَ انتخابهم من قِبَل المجامع الخاصة المؤلَّفة من المحامين ومن أبناء الوطن الحاملين شهادة الحقوق العالية، وقد اقتُرِحَ انتخاب أكابر القضاة على الأقل من قِبَل الهيئة الاشتراعية، واقتُرِحَ أن تنتخب الهيئة القضائية أعضاءها؛ وذلك لسدِّ الفراغ الذي يحدث عندما يخلو منصب أحدهم، ولكن الطريقة المنطقية الديموقراطية وحدها هي القائلة بانتخاب القضاة مِن قِبَل أبناء الوطن الحائزين حق التصويت السياسي.

ومهما يكن الوجه الذي يُنْتَخب به القضاة فهو ذو فائدة حقيقية ومحاذير لا ريب فيها؛ ففائدته هي أنه يجعل القاضي مستقلًّا أمام السلطة التنفيذية، ويُمكن رد محاذيره إلى محذورَين أساسيين؛ وهما: أولًا: إذا كان القاضي المنتخَب يُصبح مستقلًّا عن السلطة التنفيذية فإنه يصير أسيرًا في قبضة الهيئة الانتخابية التي يضطرُّ إلى الرجوع إليها عند انتهاء مدته حتى تجدد انتخابه، ولا يُعدَّل ذلك بأن يُنْتَخب القاضي ليبقى قاضيًا مدى حياته؛ لأنَّ هذا يؤدي إلى عِظَم شأنه وقدرته على تهديد السلطات الأخرى، ولا بأن ينصَّ القانون على أنَّ القاضي الذي تنتهي مدته لا يحق له أن يجدد انتخابه؛ لأن هذا يؤدي إلى صعوبة في اختيار أناس ماهرين يرضون بأن يرشحوا أنفسهم للقضاء حتى يقوموا بشئونه لبضع سنوات فقط. ثانيًا: إنَّ الهيئة الانتخابية عاجزةٌ عن اختيار القضاة اختيارًا حسنًا. نعم، يستطيع القانون أن يَحتاط للأمر فينصُّ مثلًا على أنَّ أبناء البلاد الذين يحقُّ لهم أن يُنْتَخبوا للقضاء يجب أن يكونوا من حاملي شهادات الحقوق العالية، ومن الذين مارسوا مهنة المُحاماة، ولكنه يوجد — بجانب المحامين المقتدرين — محامون عاجزون قد ينالون حظوة لدى الهيئات الانتخابية فيتمُّ انتخابهم للقيام بالقضاء.

إنَّ وظيفة القاضي تستلزم تحلِّي القاضي بصفات مهنيَّة وأهليته لها أي — أن يتحلى بمعرفة حقوقية نظرية لا تتَّفق له إلا بتلقِّي دروس خاصة — وقد قيل إزاء تلك المَحاذير بأن يُفوَّض إلى السلطة التنفيذية حق تعيين القضاة، كما تعيِّن أرباب المِهَن من الموظفين كالمهندسين وأساتذة المدارس مثلًا، ثم انتُهِيَ إلى جَعْلِ مدة الوظائف القضائية مدى الحياة أو حتى يبلغ القاضي سنًّا يدخل بها في دور التقاعد.

وتعيين القضاة من قِبَل السلطة التنفيذية على أن يبقوا في وظائفهم مدى الحياة مبدأ سائد للأمم الحرة في الأزمنة الحديثة، ولم يطبَّق مبدأ انتخاب القضاة إلا على وجه محدود استثنائي؛ ففي فرنسا قال المجلس التأسيسي الأول بمبدأ انتخاب القضاة، ونظَّم أمر هذا الانتخاب في قانون ١٦ أغسطس سنة ١٧٩٠، وقد نصَّ هذا القانون على أن المرء لكي يحقَّ له أن يُنْتَخَبَ قاضيًا يجب أن لا يقلَّ عمره عن ثلاثين سنة، وأن يكون قد مارس القضاء أو المحاماة مدة خمس سنوات، ثم نصَّ القانون المذكور على أن يتمَّ انتخاب القضاة حسب قاعدة الانتخاب على درجتين. ولم يَدُم السَّير على هذا القانون طويلًا؛ ففي ١٤ أكتوبر سنة ١٧٩٢ أَمَرَ مجلس العهد الفرنسي بتجديد محاكم فرنسا المدنية والجزائية والتجارية ما عدا محكمة النقض والإبرام، وقد تمَّ انتخاب القضاة الجدد في هذه المرة كما في المرة السابقة حسب قاعدة الانتخاب على درجتين، ولكنه لم يُشْرَط فيها أن يكون المرشَّحون من الذين مارسوا القضاء أو المحاماة، بل ذُهِبَ إلى أنه يحق لكل وطني بلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يرشِّح نفسه للقضاء، غير أن مجلس العهد الذي جمَع في قبضته الحديدية مختلف السلطات لم يحتمل عمليًّا وجود قضاة منتخبين فكسر كل مقاومة لاحظها فيهم، أي إنه اعتمد على سيادته فلم يتردَّد في نقض الأحكام التي أُبْرِمَت ولا في فصل الخصومات بنفسه ولا في عزل القضاة وتعيين أناس في مكانهم رأسًا، ولما سُنَّ دستور السنة الثالثة قال بأن يتمَّ نَصْبُ القضاة حسب قاعدة الانتخاب على درجتين، بشرط أن لا تقلَّ سن الواحد منهم عن ثلاثين سنة، ومع هذا فقد سلكت حكومة الديركتوار مسلكًا معادلًا لمسلك مجلس العهد المذكور على وجه التقريب، ولم يُقْضَ على هذه المهزأة إلا في دستور السنة الثامنة حيث جاء فيه: «أن القنصل الأول يعين قضاة المحاكم الجزئية والمحاكم المدنية من غير أن يقدر على عزلهم.»

وقد انتشر مبدأ انتخاب القضاة في الولايات المتحدة انتشارًا عظيمًا، ونقصد بهذا الانتشار تطبيقه على محاكم الولايات الخاصة التي تتألَّف منها دولة الولايات المتحدة لا المحاكم الاتحادية التي يعين رئيس الجمهورية أعضاءها، فعندما تألَّفت دولة الولايات المتحدة كان حكام الولايات الخاصة هم الذين يعينون القضاة مدى الحياة بوجه عام، ولكنه تسرَّب بالتدريج (بين سنة ١٨١٢ وسنة ١٨٦٠) مبدأ انتخاب القضاة لمدد محدودة في مختلف الولايات، ولم يأتِ انتشار هذا المبدأ بمعظم المساوئ التي كانت تُنْتَظر، وعند المستر بريس أن سبب ذلك يرجع إلى احترام الأنغلوسكسونيين الغريزي للقانون والمحاكم.

وكذلك سويسرة الحديثة، اتَّخذت نظام القضاة لمُدَد محدودة، فمجلسها الاتحادي هو الذي يَنتخب محكمتها الاتحادية، وفي الغالب يَنتخب أعضاء محاكم المقاطعات السويسرية لمدد محدودة حسب طرق كثيرة الاختلاف، ومع أن الطريقة السائدة لهذه المقاطَعات هي أن تنتخب الهيئات الاشتراعية (وإن شئت فقل: المجالس الكبرى) أولئك الأعضاء، فإنَّ هنالك مقاطعات ذهبت إلى أن يُنْتَخَبَ أعضاء محاكمها من قِبَلِ الشعب، ولا تظن أن اتخاذ سويسرة لمبدأ انتخاب القضاة خالٍ من كل شائبة؛ فقد انتقده أكثر فقهائها اطلاعًا بشدة.

أشرنا — فيما تقدَّم — إلى أن مبدأ عدم إمكان عزل القضاة ناشئ عن نظرية فصل السلطات الثلاث، وأنه قال به أنصار نظرية السلطتين أيضًا، وإن كان ذلك لأسباب أخرى، وهذا المبدأ يلائم قاعدة انتخابهم من قِبَل الشعب، ولكنه لما كان من مقتضيات قاعدة انتخاب القضاة من قِبَل الشعب أن تكون مدة قيامهم بوظائفهم محدودة وجَب أن يقتصر عدم إمكان عزلهم على تلك المدة؛ وهذا ما عناه دستور سنة ١٧٩١، ودستور السنة الثالثة الفرنسيان حينما أعلنا مبدأ عدم إمكان عزل القضاة، وقد كان هذا المبدأ الذي نصَّ عليه ذانك الدستوران يؤدي إلى نتيجتين: حماية القضاة أمام السلطة التنفيذية، التي كانت لا تستطيع أن تعزلهم، وحمايتهم إزاء الناخبين الذين كانوا لا يقدرون على نزع سلطانهم من أيديهم، ولما سُنَّ دستور السنة الثامنة أيَّد هذا المبدأ، فإنه — مع منحه القنصل الأول حق تعيين القضاة — قال بعدم إمكان عزلهم مدى حياتهم، ومثل ذلك ما رمى إليه دستور سنة ١٨١٤ ودستور سنة ١٨٤٨، وإن قوانين سنة ١٨٧٥ الدستورية وإن لم تنص على هذا المبدأ فإنه بقي سائدًا لعالم الحقوق العامة الفرنسية، نقول هذا ونحن نرى أن مبدأ عدم إمكان عزل القضاة لم يشمَل القضاة كلهم في فرنسا لأسباب لا محل لذكرها هنا؛ فهو لم يَعُمَّ فيها القضاة الذين يقومون بوظائف النيابة العامة، ولا قضاة الصُّلح، ولا قضاة الجزائر والمستعمرات، ولا قضاة محاكم العمال.

ولا تَقلْ: إنَّ هذا المبدأ مُطلَق، فكل جناية يَرتكبها القاضي في أثناء وظيفتِه تؤدِّي إلى سقوطه، وليس مما يُغْضَى عنه أن يتمرَّد القاضي على دستور بلاده وحكومتها السياسية؛ فقد منَح الإنكليز سلطتهم الاشتراعية حق طلب عزل القاضي الذي يأتي بمثل ذلك، وأما في فرنسا فقد منَح القانون السلطة التنفيذية حق تعقيب القضاة الذين يفعلون ذلك؛ فهو قد وضعهم تحت نظارة وزير العدلية الذي يُمكنه أن يُعزِّرهم ويسألهم عما فعلوه، ولكنَّ القانون الفرنسي لم يَسمح بنزْع يد القاضي من وظيفته وإسقاطه لنقائص مهنية يَرتكبها في أثناء وظيفته إلا بحكم مِن محكمة النقض والإبرام.

ترى كيف يَنشأ عن اختيار القضاة ومدَّة قيامهم بوظائفهم وعدم إمكان عزلهم مصاعب نظرية وعملية جمَّة، ولكن هذه المصاعب تخفُّ بنظام المحلفين، فإذا كان من الضروري تعيين قضاة — ليرأسوا المحلَّفين ويُطبِّقوا القانون حسبما تقتضيه أجوبتهم — فإن نظام المحلفين يؤدي إلى اختفاء سلطتهم الخاصة وإلى قلة عددهم وسهولة اختيارهم؛ ذلك ما رآه مونتسكيو وجعله يقول: إن نظام المحلفين يجعل السلطة القضائية لا طائل تحتها على وجه التقريب.

ليس نظام المحلَّفين (كما زعم بعضهم) كناية عن اتخاذ نظام الحكومة المباشرة في أمر القضاء، وهذا النظام يتطلَّب عرض الخصومة على أبناء الوطن جميعهم ليفصلوها، وليس من الصواب أن يقال: إنَّ الأمة اتخذت نظام المحلَّفين ففوَّضت إلى عدد من أبنائها أن يمثِّلوها بالقُرعة في القيام بسلطاتها، فالمحلِّفون هم كالقضاة، يَنالون وظيفتهم من القانون، والقانون يَمنحهم وظيفة البتِّ في مسألة واحدة، ولا تلبث هذه الوظيفة أن تنتهي بعد أن يبتُّوا المسألة المذكورة.

وإن كيفية تعيين المحلَّفين لَأمر يستوقف النظر؛ فالقانون يفوِّض إلى بعض الموظَّفين أن ينظموا قوائم الأشخاص المتَّصفين بالصفات التي يتطلَّبها، ومن هذه القوائم يُنصب المحلِّفون الذين يُعْهَد إليهم في فصل القضية؛ إما بالقرعة، وإما باختيار الأحزاب. والشيء الطيب في نظام المحلَّفين هو أنهم قضاة لا يتصوَّر الإنسان قضاةً أكثر استقلالًا منهم؛ فهم لما كانوا قضاة يوم أو ساعة، وكانوا لا يقومون بغير قضية واحدة لا يوجد ما يخشونه ولا ما يطمعون في نَيله من السلطة التنفيذية أو الشعب.

ولقد تقدَّم نظام المحلَّفين وانتشر في بيئات مختلفة؛ فقد ساد روما في القرون القديمة في أمر القضايا المدنية والقضايا الجنائية، ثم نما في إنكلترة لحلِّ القضايا المدنية والقضايا الجزائية، ومن إنكلترة اقتبسه العالم المتمدِّن لإقامة العدل الجزائي، ومع ما في نظام المحلَّفين من فوائد لا يخلو من أوجه ضعيفة؛ فالمحلِّفون القادرون على حلِّ المسائل العملية حسبما يوحيه العقل يَعجزون — بحكم الطبيعة — عن حل المسائل الحقوقية التي تتطلَّب معرفة فنية وتربية خاصة، من أجل ذلك حُصِرَ أمر تدخُّل المحلَّفين في القضايا الجزائية التي قالت الأنظمة الحديثة بفصلها حسب اقتناع ضمير القاضي وطمأنينته إلى البينات الأدبية.

اتخذ المجلس التأسيسي الفرنسي الأول نظام المحلَّفين على أن يطبَّق على القضايا الجنائية فقط، وقد بقيتْ وجهة نظره سائدة لفرنسا منذ ذلك الحين، والأمم التي قالت بنظام المحلَّفين اقتبسته من فرنسا قائلة مثلها بتطبيقه على القضايا الجنائية فقط، ولم يَنجح نظام المحلَّفين في تطبيقه على القضايا المدنية إلا في بيئات خاصة وأحوال استثنائية، فسيَّره الطيب في إنكلترة في حلِّ القضايا المدنية قرونًا كثيرة ناشئ عن تأثير قضاة الإنكليز الأدبي العظيم فيما يُديرونه من المحلَّفين، ومصدر هذا التأثير هو قيمة القضاة العالية في إنكلترة، وميل الروح الإنكليزية إلى احترام القانون، بهذا التأثير يُمْلِي هؤلاء القضاة على المحلَّفين القواعد الحقوقية التي يقتضي أن يطبقوها، ومع ذلك يميل ذلك النظام إلى الأُفول عن إنكلترة؛ فاتخاذه في المسائل المدنية أمام محكمة لندن العليا وأمام محاكم المقاطعات أمر اختياري، ولا تحكم هذه المحاكم بمساعدة المحلفين إلا إذا طلب أحد المتقاضيين ذلك، وتقوم محكمة الاستئناف هنالك من غير أن تستعين بالمحلفين.

•••

فصل كل خصومة تنشأ في إنكلترة عن تطبيق القانون والمبادئ الحقوقية من وظائف القضاة. أجل، في إنكلترة محاكم استثنائية للفصل في قضايا محدودة، ولكنه في كل مرة يؤدِّي القانون أو المبدأ الحقوقي فيها إلى خصومة تُفْصَل بواسطة المحاكم القضائية، ولا فرق في هذا الأمر بين الخصومة التي تدور حول تقدير عمل أحدِ الموظَّفين والخصومة التي تنشأ عن علائق حقوقية بين أفراد الناس، ويُمكن ردُّ النظام الحقوقي الإنكليزي المعقَّد إلى أمرين:
  • أولًا: لا تقام الدعوى مبدئيًّا ضدَّ الدولة؛ لاختلاط الدولة بالتاج من الوجهة الحقوقية، ولأنه لا يُمكن مقاضاة الملك إلى أية محكمة، على أنه إذا أخذ التاج مُلْكَ فرد من الناس غصبًا ومن غير مُسوِّغ شرعي أو خرق حرمة عهد قطعه، أو لم يقم بشروط عقد وضعه يستطيع المتضرِّر أن يقدِّم بين يدي الملك عريضة حقوقية، وحينئذٍ يأمر الملك بإحقاق الحق فتسير القضية سيرها العادي كما لو كانت بين شخصين من الرعية، ولكنه لا يُمكن اتخاذ هذه الطريقة بسبب جنحةٍ اقترفها الملك أو اقترفها أحد خدَمِه لحسابه؛ إذ يُسار آنئذٍ إلى المثل القائل بأن الملك لا يَستطيع أن يفعل الشر.
  • ثانيًا: إنَّ موظَّفي التاج وخَدَمَه غير مسئولين عن أعمالهم القانونية؛ كأن يعقدوا عقدًا نظاميًّا باسم الدولة، غير أنهم مسئولون شخصيًّا عن أعمالهم غير القانونية، ويُمكن مقاضاتهم (جزائيًّا أو مدنيًّا) لهذه الأعمال إلى المحاكم القضائية، ثم إن القضاء الإنكليزي يذهب إلى أنه يُمكن أحد الناس أن يقاضي موظَّفًا من أجل امتناعه عن القيام بأمر من أمور وظيفته.
ونظامٌ مثل هذا قد كان له بعض أنصار في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول، وقد انتقد بورك33 في كتابه المسمى: «تأملات في الثورة الفرنسية» ذلك المجلس لعدم قبوله النظام المذكور وإعلانه نظام فصل السلطة الإدارية عن السلطة القضائية.

إن الذي أوحى إلى المجلس التأسيسي الفرنسي الأول بنظام فصْل السلطة الإدارية عن السلطة القضائية هو ما كان سائدًا للبيئة والزمان من اعتبارات؛ فقد كان حديث العهد بالبرلمانات السابقة التي كانت تتدخَّل في شئون السلطة والإدارة فتُزعج إدارة الملك بمطاردتها لموظفيه، وقد كان يَشعُر بأنَّ الإدارة لا تُتِمُّ عملها الصعب الذي ألقته الثورة الكبرى على عاتقها إذا قُيِّدت بالقضايا التي يرفعها عليها أنصار المبادئ القديمة أمام المحاكم القضائية، وكان يعلم صعوبة سير الإدارة في بلاد يتصف أهلوها بالخفَّة إذا فُتِحَ باب المحاكم على مصراعيه للحكم في المسائل الإدارية، أضف إلى ذلك اعتقاده انسجام النظام المذكور مع نظرية فصل السلطات، وذهابه بهذا الاعتقاد إلى أن السلطة القضائية محصورةٌ في تطبيق الحقوق الجزائية والحقوق المدنية، وإلى أن الأمور الإدارية من خصائص السلطة التنفيذية.

لذلك السبب فوَّض المجلس التأسيسي الفرنسي الأول حلَّ المصاعب الإدارية إلى الهيئات الإدارية في المديريات، ثم عدَّل دستور السنة الثامنة هذا النظام بنصِّه على تأليف «مجلس شورى الدولة»؛ لحلِّ المصاعب التي تنشأ عن الأمور الإدارية، وفي تلك السنة سُنَّ قانون مُتِمٌّ لدستور قائل بتأليف مجالس إدارية في كل مديرية لفضِّ المَصاعب الإدارية التي تَحدُث فيها، وقد استمر مجلس شورى الدولة على حلِّ المشاكل، تارةً كمحكمة لحل المشاكل الإدارية بدايةً واستئنافًا، وتارةً كمحكمة استئناف إدارية فقط، وتارةً كمحكمة نقض وإبرام إدارية، ولكن مقرراته كانت لا تكسب قوةً وقيمةً إلا بإدماجها في مرسوم تُصدره السلطة التنفيذية، وفي ٢٤ مايو سنة ١٨٧٢ سُنَّ قانون جاء فيه «أن لمجلس شورى الدولة سيادةً تامة في حلِّ المشاكل الإدارية بدايةً واستئنافًا، وفي إبطال الأعمال الإدارية الناشئة عن مجاوزة الوظيفة.»

•••

ويجب أيضًا أن يُنْظَرَ إلى مبدأ فصل السلطات من حيث العلائق بين السلطة القضائية والسلطة الاشتراعية، فهنا نرى للمبدأ المذكور ثلاث نتائج رئيسة؛ وهي:
  • أولًا: يقتضي أن تحترم السلطة الاشتراعية أحكام السلطة القضائية، فكما أنه لا يجوز للسلطة الاشتراعية أن تَنقض الأحكام القضائية أو تُعدِّلها لا يجوز لها أيضًا أن تنتقد هذه الأحكام وتجادل فيها. هذا مبدأٌ اعتُرِفَ به في مناسبات كثيرة من قِبَل البرلمان الفرنسي، ولكنه يَفرض فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وإلا فمِن مقتضيات نظام الحكومة البرلمانية أن ينتقد البرلمان أعمال السلطة التنفيذية ويجادل فيها.
  • ثانيًا: يقول مرسوم ١٦ أغسطس سنة ١٧٩٠ الفرنسي: «إنه لا يجوز للمحاكم أن تضع تعليمات، ولكنه يمكنها أن تطلب إلى الهيئة الاشتراعية وضع قانون جديد، أو تفسير قانون قديم عندما تدفعها الضرورة إلى ذلك.» وقد جاء في المادة الخامسة من القانون المدني الفرنسي «أن القضاة ممنوعون من وضع تعليمات عامة وتطبيقها على القضايا التي تُعرض عليهم.» يقولون، في الغالب: إنَّ هذه المادة نتيجة لمبدأ فصل السلطات الذي يرى في وضع السلطة القضائية للتعليمات تعدِّيًا على السلطة الاشتراعية، ولكن الحقيقة هي أنَّ سلطة وضع التعليمات ليست من خصائص السلطة الاشتراعية بحكم الضرورة، وليست التعليمات قانونًا؛ فالتعليمات كناية عن أمر غايته ضمان تنفيذ القانون بتفصيله من غير أن تُبدَّل عباراته ويغيَّر روحه، ويفوَّض أمرُ وضعها — بحكم الطبيعة — إلى السلطة التنفيذية التي بيدها تنفيذ القانون؛ فقد منَحت الحقوق العامة الفرنسية أمرَ وضع التعليمات رئيسَ الجمهورية والمديرية ورؤساء البلديات على نِسَبٍ مختلفة.
  • ثالثًا: لما كانت السلطة القضائية منفصلةً عن السلطة الاشتراعية لا تستطيع تلك أن تَنقض القوانين التي تضعها هذه، ولكن أفلا يجب أن يُذْهَبَ إلى ما هو أبعد من ذلك فيقال: إنَّ السلطة القضائية لا تقوى على تقدير صحة القوانين؛ أي ملاءمتها للدستور أو عدم ملاءمتها؟ لقد أنكر هذه النتيجة القضاء الأميركي ومذهب الأنغلوسكسونيين في الأمور التي حدَّد الدستور خصائص سلطتهم الاشتراعية فيها، وعكس ذلك ما ذهبت إليه فرنسا ومختلف بلدان أوربة — ما عدا إنكلترة — فقد جاء في مرسوم ١٦ أغسطس سنة ١٧٩٠ الفرنسي: «أنه لا يجوز للمحاكم أن تشترك رأسًا أو بالواسطة في ممارسة السلطة الاشتراعية، ولا أن تقف أو تحول دون تنفيذ مراسيم الهيئة الاشتراعية التي يوافق عليها الملك.»

هوامش

(1) Montesquieu.
(2) Bodin.
(3) Cromwell.
(4) Loke.
(5) Thorpe.
(6) Le Directoire.
(7) Gamaliel Bradfort.
(8) Boissy d’Anglas.
(9) Thouret.
(10) Duguit.
(11) Grévy.
(12) L’Elysée.
(13) Rouveir.
(14) Oscar.
(15) Prairial.
(16) Merlin.
(17) La Reveillère Lepeaux.
(18) Naquet.
(19) La Convention.
(20) Condorcet.
(21) Danton.
(22) Lilian Tomn.
(23) Vaud.
(24) Fribourg.
(25) Valais.
(26) Gazalès.
(27) Barnave.
(28) Mirabeau.
(29) Mounier.
(30) Duport.
(31) Maury.
(32) Garat.
(33) Burke.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤