الفصل الرابع

الحقوق الفردية

الفردية في القرون القديمة والقرون الوسطى وفي ملكية العهد السابق – نظرية الحقوق الفردية والحقوق الطبيعية – نظرية العقد الاجتماعي – أنواع الحقوق الفردية – المساواة المدنية – الحرية الفردية وتطبيقاتها المختلفة – وصف الحقوق الفردية المشترك – الحقوق الفردية والحقوق السياسية – حق تقديم العرائض – تصريحات الحقوق وضماناتها في الدساتير الأميركية والدساتير الفرنسية – عدم النص عليها في قوانين فرنسا الدستورية التي سُنَّت في سنة ١٨٧٥.

ذهب العالم في القرون القديمة (على ما وصَل إليه من درجة رفيعة في الحضارة) إلى أنَّ للدولة سلطة قاهرة لا حدَّ لها، وإلى أنه ليس للفرد حقٌّ خاص يتمكَّن به من الوقوف حيال الدولة، ولم يكن في تلك الأزمنة فرق بين النظام الجمهوري والنظام الإمبراطوري من هذه الجهة. غير أنَّ ظلَّ هذا المبدأ تقلَّص في القرون الوسطى بتأثير ما جاء به البرابرة من مبادئ، ولا سيما المبدأ الذي نما في دور الملكية الإقطاعية، فمِن جهة زال مبدأ الدولة والمنفعة العامة بالتدريج في النظام الإقطاعي الذي هو شكل جديد للسلطة العامة، ومن جهة أخرى انتشر مبدأ شخصي في مصلحة الأشراف ذوي الأخاذات،١ وكان المبدأ المذكور يتجلَّى في عدم إقرار هؤلاء الأشراف بسلطة صاحبة سيادة على وجه الأرض، وفي عدم اعترافهم بواجب عام غير ما يجيء في العقد الذي يعقدونه باختيارهم من إطاعة لأحد الأمراء الإقطاعيين، وكان يتجلَّى أيضًا في دفعهم ضرائب قهرًا وفي محاكمتهم من قِبَل قضاة من الشرفاء الأكْفاء لهم، ولكنه لمَّا اضمحل النظام الإقطاعي السياسي زال ذلك المبدأ (الذي هو مظهر كبير من مظاهر الحقوق الفردية) من بين أمم الغرب المتمدنة ما عدا الأنغلوسكسونيين الذين حافظوا عليه مع التوفيق بينه وبين مُقتضيات الزمن، والذي ساد إذ ذاك الملكيات الكبرى في أوربة — ولا سيما فرنسا — هو نظام الدولة المُطلَق القائم على فكرة حقوق الملك الإلهية.

على أنه لم يقُلْ فقهاءُ ذلك الزمن بنظرية سلطة الملك المطلقة قولًا عامًّا؛ فقد أضاف هؤلاء الفقهاء في القرن السادس عشر إلى القيود الدينية التي قُيِّدت بها سلطة الملك المطلقة قيودًا مُستنبَطةً من مبدأ الحقوق الطبيعية التي هي من صُنع الله، ومن لوازم هذه القيود أن يَحترم الملك عقود الأفراد والملك الشخصي.

ومما هو جدير بالذكر أنه لم يتألَّف من أكثر تلك القيود حق شخصي خاص في مصلحة الأفراد؛ فهي مُستنِدة إلى نظرية الحقوق الإلهية، وإلى الإرادة الإلهية التي عُدَّت الحقوق الطبيعية من مقتضياتها، والتي فُرِضَ احترامها على الملوك لهذا السبب.

•••

وجب أن تصدر الحقوق الفردية عن الحقوق الطبيعية، ولكن بشرط أن تُفْصَلَ الحقوق الطبيعية عن الحقوق السماوية، وتُرْبَطَ بنظرية الحالة الطبيعية والعقد الاجتماعي؛ وبيان ذلك أن ما عدل عنه الإنسان من حريته الفردية المطلقة التي كان يتمتَّع بها في الأزمنة التي تقدمت المجتمعات ليس إلا جزءًا ضروريًّا لتكوين الدولة، وأنَّ الذي حافظ عليه الإنسان من الحقوق الفردية أعلى من حقوق الدولة؛ لكونه أقدم منها؛ فالفرد مصدر كل حق، والأفراد الذين تتألَّف المجتمعات السياسية منهم مسئولون عن أعمالهم، ويمكنهم أن يأتوا بهذه الأعمال ما داموا يحترمون حقوق غيرهم، ولما كان المقصود من المجتمعات السياسية هو حفظ منفعة الأفراد وجب على هذه المجتمعات أن تَحترم تلك الأعمال، وإلا تعدَّت واجبها الذي تألَّفت من أجل القيام به.

أصبح للحقوق الفردية في النُّظم الديموقراطية الحاضرة أهمية خاصة، وبعد أن ثبَت بها مبدأ السيادة القومية، صارت السلطة في قبضة الأكثرية التي يمكن أن تكون مستبدَّةً في المجالس التمثيلية، فما هو الضامن للأقلية إزاء سلطان هذه الأكثرية؟ لقد بُحِثَ عن هذا الضامن في اتخاذ نظام الرفرندم الذي يُمكن أن يبدِّدَ أوهام الأكثرية المصنوعة التي تكون في المجالس التمثيلية دون الشعب، وقد بُحِثَ عنه أيضًا في نظام تمثيل الأقليات الذي يمكن أن يؤدي إلى نفوذ هذه الأقليات بنسبة عددها في المجالس التمثيلية، غير أنَّ وسائل كهذه تبدو لي أنها قليلة التأثير كثيرة المحاذير؛ ولذا أرى أن الضامن الحقيقي للأقليات يكون في مبدأ الحقوق الفردية؛ ففي هذه الحقوق — ومنها أنواع الحرية الحامية للشخص وأمواله ومُعتقداته وأفكاره — ضامن لأبناء الوطن الذين هم أقلية، ولحريتهم في العمل المؤثر في الرأي العام حتى يُصبحوا أكثرية.

•••

ويمكن ردُّ الحقوق الفردية إلى اثنين: المساواة المدنية والحرية الفردية.

فأما المساواة المدنية فمصدرُها العقد الاجتماعي الذي ينصُّ على المساواة بين الجميع، غير أنَّ فقهاء القرن الثامن عشر ذهبوا إلى استخراجها من مبادئ الحقوق الطبيعية، فهم يَفرضون وجودها في الحالة الطبيعية التي تقدَّمت حدوث المُجتمَعات المدنية، والأمر الذي يَستنبطونها منه هو أن كل إنسان كان مجبورًا على الاعتراف بوجود طبيعة كطبيعته عند بقية الناس، وأنه كان مضطرًّا إلى احترام مقتضيات السُّنة الطبيعية في الآخرين عند إرادته أن يَحترمها هؤلاء فيه، ولما وُجِدَت مساواة الناس الطبيعية على هذه الصورة لم يرَ المجتمع المدني مناصًا من احترامها، ولم تعنِ هذه المساواةُ المساواةَ في الأمور المادية التي يُمكن اكتسابها في المجتمع، وإنما عنت المساواة الحقوقية، وهذا ما قصدتْه المادة الأولى من تصريح حقوق الإنسان والوطني الذي نُشِرَ في سنة ١٧٨٩ إذ جاء فيها: «إنَّ الناس يُولدون أحرارًا ويَبقون أحرارًا متساوين من الوجهة الحقوقية، ولا يقوم التفاوت الاجتماعي إلا على المصلحة العامة.»

ومن غير أن نرجع إلى الحالة الطبيعية ونَستشهِد بالعقد الاجتماعي والحقوق الطبيعية، يُمكنُنا أن نسوِّغ مبدأ المساواة بمبدأ حق الإنسان في ترقية نفسه بكل حرية، وهذا ما يَفرض في كل شخص مساواة حقوقية ومساواة في تحمُّل الأعباء العامة، ويُمكن ردُّ المساواة المدنية — التي هي عنوان هاتين المساواتين — إلى أربعة أنواع تطبيقية؛ أولًا: المساواة أمام القانون القائلة بأنه لا يتألَّف من أبناء الوطن سوى طبقة واحدة يطبَّق القانون على أفرادها على نمط واحد من غير تفريق بينهم. ثانيًا: المساواة أمام القضاء، القائلة بعدم تفاوت المحاكم بحسب الأشخاص الذين يتقاضون لديها. ثالثًا: مساواة أبناء الوطن الذين يتصفون بالصفات التي نصَّ عليها القانون في تقلُّد الوظائف العامة. رابعًا: المساواة في الضرائب القائلة بأن يشترك كل واحد في دفع قسط منها بحسب قدرته.

وقد عُرِّفت الحرية الفردية في تصريح حقوق الإنسان والوطني الذي نُشِرَ في سنة ١٧٨٩ بالعبارات الآتية، وهي: «أن الحرية كناية عن أن يفعل الفرد كل شيء لا يضر الآخر؛ فممارسة الإنسان لحقوقه الطبيعية لا حدَّ لها غير الحد الذي يستطيع به أعضاء المجتمع الآخرون أن يتمتَّعوا بمثل ما يتمتع به، والقانون هو الذي يُعيِّن هذه الحدود.» ولكنه جُعِلَ للحرية الفردية تطبيقات خاصة هي وليدة الحضارة، وتُقسَّم إلى قسمين:

الأول يخصُّ المنافع الشخصية المادية، وهو؛ أولًا: الحرية الفردية بمعناها المحدود المتجلِّي في حق الذهاب والإياب، وحق البقاء في البلاد والخروج منها، وعدم السجن والعقاب من غير مسوِّغ قانوني. ثانيًا: صون الملكية الشخصية من تعدِّي الدولة. ثالثًا: عدم التعدِّي على المسكن إلا في الأحوال التي ينصُّ عليها القانون. رابعًا: حرية التجارة والعمل والصناعة.

والقسم الثاني يتعلَّق بمنافع الفرد الأدبية، وهو؛ أولًا: حرية الضمير والحرية الدينية؛ فحرية الضمير هي أن لا يُكْرَهَ إنسان على اعتناق ديانة لا يعتقدها، وأن لا يُكْرَهَ على الاشتراك في مظاهرها الخارجية. والحرية الدينية هي أن يحقَّ للإنسان أن يباشر الطقوس التي هي عنوان الديانة. ثانيًا: حرية الاجتماع وحرية الصحافة المُستنِدتان إلى حق الناس في مبادلة أفكارهم في سبيل المنفعة العامة. ثالثًا: حرية تأليف الجمعيات، وحرية التعليم ضمن الدائرة المرسومة قانونًا.

وللحقوق الفردية صفة مشتركة؛ وهي تحديد حقوق الدولة دون أن يُفْرَضَ عليها أن تقوم بخدمة تقتضيها فائدة الفرد. فيُمكن الدولة أن تمتنع مثلًا من التدخُّل في بعض الأمور؛ ليبقى المجال واسعًا للحرية الفردية. كما أنه ليس للفرد أن يطلب — كحق له — إلى الدولة أن تفعل شيئًا في هذا المضمار. من أجل هذا لا نعُدُّ من الحقوق الفردية ما قد يطلبه كل فرد إلى الدولة من المساعدة والتعليم وإيجاد العمل، وإنَّ الدولة إذا أتت بمثل هذه الأمور فذلك من قبيل الواجب عليها، لا من قبيل قيامها بما تقتضيه حقوق الفرد.

وتختلف الحقوق الفردية — وإن شئت فقل: الحقوق المدنية كما سمَّاها خطباء مجالس الثورة الفرنسية الكبرى — عن الحقوق السياسية؛ بكون الحقوق السياسية تتضمَّن اشتراك أبناء البلاد في إدارة شئون الحكومة، على أن يُسْتَثْنى منهم مَنْ لم يبلغ العمر القانوني، أو مَنْ لم يكن من جنس الرجال أو من أصحاب الأهلية المُعيَّنة قانونًا، وبكون الحقوق الفردية خاصة بكل الأفراد الذين تتألَّف الأمة منهم؛ وذلك من غير أن يُنْظَرَ إلى أعمارهم وجنسهم وعدم أهليتهم، ولا ريب في صحة هذا الفرق عند النظر إلى بعض الحقوق الفردية؛ أي: حرية الضمير والحرية الدينية. وأما الحقوق الفردية الأخرى، فمع صحة الفرق المذكور في شأنها مبدئيًّا يمكن تقييدها للسببين الآتيين؛ وهما: أولًا: أن تتضمَّن ممارستها تدخُّلًا غير مباشر في شئون السلطة العامة؛ كحرية الصحافة، وحرية تأليف الجمعيات، وحرية الاجتماع، حتى حرية التعليم التي يتخرَّج عليها رجال المستقبل. ثانيًا: أن يُحْجَرَ على الشخص القاصر لتلافي الضرر الذي قد ينجم عن إساءته استعمال حقه الشخصي؛ ومن هذا القبيل تقييد حرية الصبيان والنساء في مزاوَلة بعض الأشغال مثلًا.

الفرق بين الحقوق الفردية والحقوق السياسية واضح، ولكن هنالك حقًّا يُحار في عدِّه من الحقوق الفردية أو الحقوق السياسية؛ وهو حق تقديم العرائض؛ أي حق الأشخاص في الاشتكاء أو الاستدعاء أو إبداء الملاحظات، سواء للسلطة التنفيذية أو المجالس الاشتراعية. ويُطبَّق حق تقديم العرائض على أمرين مختلفين؛ فتارةً يتخذه الفرد لرفع ظلم عنه، وتارةً يتخذه في سبيل المصلحة العامة ليؤدي إلى سنِّ قانون جديد أو تعديل قانون قديم، هذا هو التفريق الذي اقتُرِحَ أول مرة عندما طُرِحَت مسألة تقديم العرائض في المَجلس التأسيسي الفرنسي الأول سنة ١٧٩١، وقد دارت حوله مُناقشات عنيفة في المجلس المذكور، غير أنَّ هذا المجلس قال في نهاية الأمر بحق تقديم العرائض كحقٍّ شخصيٍّ مدني يُمكن كل فرد أن يزاوله.

ويمكن إيضاح هذا القرار الذي اتخذه المجلس التأسيسي الفرنسي الأول بأمرين؛ الأمر الأول هو أن حق تقديم العرائض كان شائعًا في القرن الثامن عشر، والأمر الثاني هو أن أعضاء المَجلس التأسيسي ذهبوا إليه كحقٍّ فردي لا سياسي مُعترَف به لكل فرد من أفراد الأمة؛ حتى يلطِّفوا به وطأة التصويت السياسي المُعترَف به قانونًا لجماعة معينة من الأمة.

ومنذ ذلك الحين عُدَّ حق تقديم العرائض في فرنسا كحق فردي، وقد قلتُ في فصل سابق: إنَّ حق تقديم العرائض في مادة الاقتراح لَبِسَ ثوبًا جديدًا في سويسرة، فأصبح محصورًا في مبدأ الاقتراح الشعبي الذي لا يحقُّ لأحد أن يُمارسه هنالك سوى الناخبين السياسيين، وبذا صار حق تقديم العرائض في سويسرة حقًّا سياسيًّا محضًا.

•••

لقد عُرِفت الحقوق الفردية في الدساتير الحديثة على صورتين: أولًا في تصريحات الحقوق. ثانيًا في ضمانات الحقوق.

فأما تصريحات حقوق الإنسان والوطني فهي بنت فلسفة القرن الثامن عشر والحركة النفسية التي نشأت عن هذه الفلسفة، فلم يعلن واضعو الدساتير الحديثة غير المبادئ الرئيسة التي استنبطها الفلاسفة والفقهاء كقواعد نظام سياسي عادل معقول، ومن هؤلاء الواضعين نذكر أعضاء المجلس التأسيسي الفرنسي الأول الذين لم يَفعلوا غير تكرار الحقائق التي قالت بها المذاهب الفلسفية المُشبَعين منها.

وعلة ذلك ما كان سائدًا للرجال المذكورين من إيمانٍ قوي بسلطان الحقيقة؛ فهم لما اعتقدوا صحة المذاهب السياسية الفلسفية رأوا أنَّ إعلانها في رأس الدساتير الحديثة يكفي لتكون محترمةً احترامًا مؤثِّرًا أبديًّا.

وأول ظهور لتصريحات الحقوق كان في الدساتير التي وضعتها المستعمرات الإنكليزية في أميركا عقب تحرُّرها، ولما شرع المجلس التأسيسي الفرنسي سنة ١٧٨٩ في وضع دستور فرنسا كان تصريح الحقوق من الأمور التي رأى أن يبحث فيها قبل كل شيء، وعلى رغم معارضة فريق منه لإعلان هذه الحقوق (نظرًا لِما قد ينجم عنه من المساوئ؛ كقوله بإطلاق بعض الحقوق التي قد يُقيِّدها الدستور نفسه أو بعض القوانين الأخرى) اقترعت أكثريته لها، وقد سلك واضعو دستور سنة ١٧٩٣ ودستور السنة الثالثة الفرنسيان مسلك المجلس التأسيسي، فأعلنوا حقوق الإنسان فيهما.

ولكنه لما سُنَّ دستور السنة الثامنة كان الإيمان بسلطان الحقائق المجرَّدة العامة ضعيفًا؛ ولذلك لم يحتوِ هذا الدستور على أي تصريح للحقوق، كما أن الدساتير الفرنسية التي وُضِعَت بعده — ما عدا دستور سنة ١٨٤٨ — لم تشتمل عليه أيضًا، أضف إلى هذا ما ساد فرنسا منذ ذلك التاريخ من الرُّوح العملية القائلة بعدم فائدة إعلان المبادئ المجرَّدة المنفصلة عن كيفية تطبيقها، وكذلك أضف إليه ما اتَّفق للمبادئ التي أعلنها تَصريح حقوق الإنسان والوطني في سنة ١٧٨٩ من تسرُّبها في الروح الفرنسية تسرُّبًا أصبح إعلانها معه غير ضروري.

والذي جعلني أُشير هنا إلى تصريحات حقوق الإنسان هو اشتمالها على الحقوق الفردية المشروحة آنفًا، وهي مع ذلك تحتوي على مبادئ تخصُّ الحقوق السياسية؛ كمبدأ السيادة القومية ونتائجه في سنِّ القوانين، وكمبدأ فصل السلطات ومسئولية الموظفين.

وأما ضمانات الحقوق فليست من فصيلة تصريحات الحقوق؛ فهي كناية عن قوانين وضعية إلزامية (وإن شئت فقل: كناية عن مواد دستورية) تضمَن لأبناء البلاد أن يتمتَّعوا بهذا أو بذلك الحق الفردي المعيَّن، والغاية التي تُرْجَى من ضمان هذا أو ذلك الحق الفردي المعين في مواد دستورية هي أن يَنال ما للنصوص الدستورية من قوة مقيِّدة للمشترع مانعة له من خرقها.

والتاريخ الذي ظهرت فيه ضمانات الحقوق هو تاريخ ظهور تصريحات الحقوق؛ أي إنَّ أول ظهورها وقع في المستعمَرات الأميركية التي تحرَّرت من ربقة إنكلترة، ولما دخلت فرنسا في عهد دستوري نصَّت دساتيرها التي سُنَّت منذ سنة ١٧٩١ على ضمانات الحقوق.

ومما يجدر ذكرُه سكوت قوانين فرنسا الدستورية التي سُنَّت في سنة ١٨٧٥ عن النص على ذلك، فكيف نفسر هذا السكوت؟ يمكن تفسيره بأن يقال: إن دستور سنة ١٨٧٥ ليس دستورًا نظريًّا ككثير من الدساتير التي سُنَّت قبله، وإنما هو دستور عملي خليٌّ من المبادئ المجرَّدة أَمْلَتْهُ رُوح التساهل والاعتدال، ولم يُذكر فيه غير ما هو ضروري لتسيير دفة الحكومة، ولا يَعني هذا أن واضعيه رفضوا المبادئ التي أُعْلِنَت في سنة ١٧٨٩، ولكنهم رأوا أن تصريحهم بتلك المبادئ في الدستور الجديد مما لا طائل تحته؛ نظرًا لكونها أصبحت — مع الزمن — جزءًا من شعور فرنسا القومي.

١  أي الأراضي المقطوعة لهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤